لعلها مصادفة، وقد لا تكون كذلك، أن الرئيس الأميركي ألقى خطابه "الخلاصي" العالمي عن الديمقراطية (6/11/2003) بعد حوالي ثلاثة أيام من إعلان المفوضية الأوروبية نتائج استطلاعها للرأي العام الأوروبي. وبينما قالت نتائج الاستطلاع النوعي التاريخي أن أكثر من 70% يعتبرون الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأميركية الأشدّ خطراً على السلم والاستقرار العالمي، قال الرئيس الأميركي أن إدارته (وضمنها الكيان الصهيوني) هي النموذج للحرية والديمقراطية، وأنها سوف ترغم العالم أجمع على الإقتداء بها كنموذج!
مرحلة عصيبة قوامها اللامنطق !
إن الاستطلاع الأوروبي النوعي، والخطاب الأميركي النوعي، يشيران بوضوح إلى أن البشرية تجتاز اليوم مرحلة عصيبة قوامها اللامنطق، إذ لا يعقل أبداً أن يصبح الأبيض أسوداً والأسود أبيضاً، والقاتل المجرم بطلاً منقذاً والضحية مجرماً! إن أولئك الذين ابيضّت الأرض بعظام ضحاياهم يتنطعون اليوم لمهمة حماية الأمن والاستقرار في العالم، ولإشاعة الحرية والعلاقات الديمقراطية بين البشر! إن الرذيلة تنهض لحماية الفضيلة، واللصوص يهبّون للدفاع عن القانون، والذئاب تتواثب لرعاية الحملان! إن القتلة الأشقياء يزعمون رسمياً أنهم وحدهم على حق، ويعلنون جهاراً نهاراً أن العالم عالمهم، يتصرفون به كما يشاؤون، وأنهم لن يسمحوا لأحد ولن يمكّنوا أحداً حتى من مجرّد التعليق والنقد! فهل ثمة شك، ونحن نرى هذا اللامعقول، في أن العالم يجتاز مرحلة انتقالية لا يمكن أن تكون إلا مؤقتة؟
لقد صار العالم اليوم مطبوعاً بصورة كالحة واحدة هي صورة الشرّ، ومصدوماً بصوت منكر واحد هو عواء الذئب، ولذلك فإنه لمن المؤكد أن ما يحدث لن يكون إلا مؤقتاً وعابراً، فصخب الأشقياء وضجيجهم لن ينجح في النيل من ذاكرة البشرية ومن توازنها، ومسار الحياة الطبيعية سرعان ما سيسترد مجراه الصحيح المنطقي، متغلباً على ما يتعثر به من شوائب وفضلات ونفايات. إن نهر الحياة الخالد سوف يندفع قريباً، مزيلاً من طريقه خلال لحظات تاريخية جميع المعوّقات الكريهة رائحة ومنظراً!
قولهم بالديمقراطية يعني: الديكتاتورية !
لقد جاء خطاب الرئيس الأميركي خلواً من أية إشارة إلى الاستطلاع الأوروبي، وهذا يعني أنه أعدّ قبله. أما الذين أعدّوا الخطاب فهم تلك العصابة الصهيونية ذاتها التي أعدّت خطابات الحرب ضدّ العراق وضدّ العرب والمسلمين. إنها تلك العصابة من المرابين مصاصي الدماء، التي لا يعني حديثها عن الديمقراطية على الطريقة الأميركية سوى إطلاق يد ديكتاتوريتها حرّة في جميع أنحاء العالم، تقتل من تشاء وتنهب ما تشاء، وإنه لتكرار لا لزوم له على الإطلاق أن نستعرض ما لا يحصى من الأمثلة عن رعاية الإدارة الأميركية ودعمها لأعتى الديكتاتوريات التي عرفها الإنسان على مدى قرن ونصف من الزمان! ثم إن الإدارة الأميركية نفسها ليست سوى ديكتاتورية، سواء في إدارتها للولايات المتحدة بالذات، حيث الحاكم هو حزب واحد يحمل اسمين يتناوبان السلطة إلى الأبد، أو في إدارتها للعالم بعد أن أصبحت ديكتاتورية عالمية!
لم يشر الخطاب الديمقراطي للرئيس الأميركي ولو مجرّد إشارة إلى هيئة الأمم المتحدة ودورها، ولا إلى شركاء أميركا في حلف شمال الأطلنطي ودورهم، ولا إلى رغبة ولو غامضة في الاستعداد للتشاور مع ممثلي الأمم الأخرى حول طبيعة هذه "الديمقراطية" التي يريدون فرضها على العالم أجمع! والأفظع من ذلك أن الرئيس الأميركي أشار إلى أن الولايات المتحدة حققت ديمقراطيتها بعد قرن ونصف من الصراعات والأهوال الداخلية ( أي بعد استكمال إبادة أصحاب البلاد الأصليين بالضبط) وهكذا فإنه يعد العالم بعقود طويلة قادمة من الحروب، حيث لن تصبح الأمم في مستوى اعتماد النظام الديمقراطي على الطريقة الأميركية إلا بعد فنائها! إن مصطلح "الديمقراطية" سوف يستخدم لممارسة أقسى أشكال الديكتاتورية، وأفظع عمليات الإبادة، من دون أن يكون هناك أي أمل في ارتقاء الأمم إلى مستوى الولايات المتحدة، اللهم إلا إذا كان الهنود الحمر قد ارتقوا إلى هذا المستوى!
القدر المتجلّي والجغرافيا الحيوية !
في الحقيقة، إنها لمضيعة للوقت والجهد أن ننكبّ على دراسة الخطاب الديمقراطي للرئيس الأميركي الذي هو مجرّد ذرّ للرماد في العيون. إن الانجلوسكسون الذين يحكمون الولايات المتحدة وبريطانيا، والذين يعتبرون أنفسهم يهوداً بالروح، يعتقدون أو يزعمون أن هذا العالم كله يتكون من مجاهل، وأن قدرهم الذي لا ينازعهم فيه أحد، باعتبارهم العنصر المتفوق الذي اختاره الله، هو تملّك ما يشاؤون من أرض وثروات، فذلك حقهم الطبيعي الذي كفله لهم إله الطبيعة والأمم! ومن أبرز مبّررات هذه العقيدة الوحشية ما يسمونه "نظرية الجغرافيا الحيوية" التي تقول بأن المكان الجغرافي للدولة المتفوقة كائن حيّ ينمو باستمرار، تماماً مثلما زعم النازيون الألمان! إن نظرية "القضاء والقدر الجغرافي" الأنجلوسكسونية تزعم أن يد القضاء هي التي ترسم الحدود الجغرافية للأمم، ولذلك فإن الولايات المتحدة، مثل "إسرائيل"، لا تعترف بحدود جغرافية لها، وليس في دستورها أية إشارة إلى ذلك، ومن هنا نفهم سبب عدم الإشارة إلى الكيان الصهيوني من قريب أو بعيد في خطاب الرئيس الأميركي، وتركيزه على أن الولايات المتحدة مصممة على "تملّك" المنطقة العربية انطلاقاً من العراق! إن تأكيده أن الولايات المتحدة سوف تمضي إلى النهاية بإشاعة "الديمقراطية" في المنطقة العربية يعني، بالضبط، أنها مصممة على المضيّ في عملية "تملّك" المنطقة العربية، وليس أي فعل آخر!
بتاريخ 27/10/1995، وقف الرئيس الأميركي كلينتون أمام أعضاء الكنيست الإسرائيلي، وخاطبهم قائلاً أنه كان قبل 13 عاماً في بعثة دينية اصطحبه كاهنه خلالها إلى الأراضي المقدسة (فلسطين) حيث عايش فيها تاريخ اليهود كما يرويه "الكتاب المقدس"! قال كلينتون أن كاهنه الذي رعى تربيته الروحية أوصاه يومئذ قائلاً:" إذا تخليت عن إسرائيل فإن الله سيغضب عليك"! وأن الكاهن كشف له الحجاب عن "إرادة الله" التي تقضي "بأن تكون إسرائيل لشعب إسرائيل إلى الأبد"! أضاف كلينتون أنه قطع لكاهنه عهداً وميثاقاً بقوله:"إن إرادة الله يجب أن تكون إرادتنا"!
إفلاس الحلم الأميركي وهوانه !
في خطاب ما قادم، سوف يتحدث الرئيس الأميركي الحالي، أو أحد خلفائه، من دون مواربة عن القدر المتجلي والتوسع الجغرافي اللانهائي برعاية إله الانجلوسكسون! فقد بدأ منذ عهد ريغان التحرر من التعبيرات السياسية المضللة، حيث لم يعد ممكناً استخدام تعبير "التحالف الاستراتيجي" كبديل عن "التحالف المقدس" بين الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، أو تعبير "القيم المشتركة" بدلاً عن "الإيمان المشترك"! وقريباً سوف يصبح من غير الممكن أيضاً استخدام تعبير "إشاعة العلاقات الديمقراطية" في العالم بديلاً عن "استباحة العالم"! لقد بدأ الرؤساء الأميركيون الكشف عن حقيقة بنية وعيهم التاريخي الذي شكلته الكنيسة البيوريتانية وأفكار العهد القديم، والكشف عن المعنى المكابي الاسرائيلي /الأميركي للسلام في فلسطين والعراق والعالم عموماً. وكما كتب الأستاذ منير العكش فإن أصدقاء الأميركيين وحلفاءهم من العرب أفلسوا وهانوا ولم يعد لديهم شيء يجعل الرؤساء الأميركيين مضطرين للنفاق، غير أن "الثورة الأميركية" العلمانية أفلست بدورها وهانت، ولم يعد لديها ما تقوله بصدد هذا الوحل الأصولي، الخرافي، الوحشي، الذي تغرق فيه دولتها الأميركية يوماً بعد يوم كلما أوغلت في شط العرب!