سوف المس هنا ماهو كامن في الحركة المعارضة في سوريا تحديدا, والذي ينتج تصورا يعتبر بأن الديموقراطية هي " كل " الأهداف, لأنها أول: وأنا لا ارفض أولوية الديموقراطية, على العكس اعتبر أنها المدخل الضروري لصيرورة مجتمعية, لكني ارفض تحويلها إلى " كل " , لأنها في هذه اللحظة تنتفي هي ذاتها , حيث ليس من الممكن أن تنشأ الديموقراطية إلا إطلاقا من النسبي , فالمطلق ينفيها حتما , وحين تتحول إلى " كل " تتحول إلا مطلق .
هذا الأمر يفرض لمس المشكلات الواقعية و بالتالي بلورة رؤية متكاملة, تتناول مختلف المشكلات القائمة, فمثلا أزمة الاقتصاد مشكلة ومشكلة عميقة, والوضع المعيشي للطبقات الشعبية بات مشكلة مستعصية, والبطالة في اتساع و التعليم يدمر, والزراعة في مأزق, والقطاع العام "يُمات ( ويترك لكي يموت بهدوء ), هذا إضافة لاستبداد وتحكم السلطة الأمنية في كل مفاصل المجتمع , وبالتالي إلحاق النقابات بالسلطة بالهيمنة عليها , وتدمير الأحزاب أو تدحينها , وصولا إلى نزع السياسة , وهو الأمر الذي حول المواطنين إلى رعايا , تعسش حياتها البيولوجية (في ظرف غدا عصيا ) . ولاشك في انه يمكن التوسع في الإشارة لعشرات المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية كذلك.
فما هي الرؤية حول هذه المسائل كلها ؟
الخطاب الذي انتشر منذ سنة 2000 في محور واحد , هو الشمولية والاستبداد , ومن ثم الديموقراطية كمقابل . وبدا أن هذا المحور هو الذي يحظى بكل الاهتمام, ولقد جرى اعتباره ذو أولوية, لهذا أصبح مدار " التدوال اليومي " مما حوله إلى " كل " , حيث غاب الاهتمام بكل المشكلات الأخرى , التي هي هامة وخطرة , وتمس قطاعات واسعة من الشعب (مسألة الأجور مثلا , مسألة البطالة ... ) ولم يحظ الوضع الاقتصادي ومصير " القطاع العام " بأي بحث سوى الاستنتاج " السريع " بضرورة الخصخصة و الانتقال إلى اقتصاد السوق , لأن الشمولية تتغذى من تملكها القطاع العام , لكن ما علاقة خصخصة " القطاع العام " بتزايد أعداد العاطلين عن العمل ؟ وما علاقة اقتصاد السوق بتزايد حالة الإفقار ؟ ومن يمتلك السوق حينما يصبح هو السائد ؟ وبالتالي هل يقود ذلك إلى تحسين الأوضاع المعيشية للطبقات الفقيرة ؟ أو سيدمر من الطبقات المتوسطة , وسيزيد من القطاعات التي ترمى تحت " خط الفقر " حدث في كل البلدان التي خصخصت والتزمت لاقتصاد السوق ؟ ثم كان يتوضح منذ انهيار المنظومة الاشتراكية بأن الرأسمالية بدأت هجوما شاملا من اجل صياغة العالم في الإطار الذي " يحقق مصالحها " , ويخرج الاقتصاد الأمريكي خصوصا من أزماته , ولقد هدف الهجوم إلى خصخصة العالم وفرض اقتصاد سوق " منفلش " , أي مفتوح إلى أقصى مدى من جهة , والى الحرب والاحتلال من جهة أخرى , وسوريا تقع ضمن " الفجوات " التي " تلطخ العولمة , وبالتالي فهي من الدول " المارقة ", الأمر الذي يعني أنها مهددة بالحرب و " التغيير الأمريكي " , فكيف يمكن أن نربط هذا بالديموقراطية والأزمة المجتمعية ؟
إن أولوية الديموقراطية لا تفرض تجاهل كل المشكلات الأخرى , على العكس فهي الأولى في سلسلة مسائل , منها مصالح الطبقات الفقيرة , ومسألة التطور المجتمعي , وضمان الاستقلال والإسهام في المشروع القومي , وإذا كانت تلمس شكل النظام السياسي , وتسمح للتعبيرات الاجتماعية أن تمارس أدوارها في الدفاع أو لتحقيق مصالح وأهداف معينة , وتسمح للكل الاجتماعي أن يمارس دوره في مواجهة المشروع الإمبريالي الصهيوني فأن هذه الأهداف و المصالح يجب أن تكون حاضرة . أي أن تحدد بوضوح في إطار مشروع ديموقراطي شامل يمكن وحده أن ينظم طبقات اجتماعية وأحزاب وهيئات مجتمع مدني ونقابات . وبالتالي أن يؤسس لقوة اجتماعية وازنة وبالتالي فأن مسالة الديموقراطية ترتبط باختيار اقتصادي وكذلك بأساس وطني . وأي فصل بين هذه المسائل سوف يقود إلى سياسات خاطئة , ويوقع في مطبات جدية .
وإذا كان اربط بين الديموقراطية واقتصاد السوق يبدو كربط " ميكانيكي " , رغم كل التجارب التي أوضحت بأن اقتصاد السوق يفرض الاستبداد لأنه يزيد من إفقار البشر وبالتالي يفرض ضبط احتجاجاتهم , ورغم أن الخطاب العولمي الذي يؤكد على اقتصاد السوق يمارس اشد أنواع الاستبداد عبر الحرب والاحتلال . فهل أن اقتصاد السوق سوف يحقق مصالح الأغلبية الشعبية ؟
إذا كانت مشكلة الاقتصاد هي ضعف الإنتاجية فأن الانفتاح والاندماج بالعولمة , لا يفعل سوى تدمير الإنتاجية نتيجة اللا تكافؤ المريع الذي بات يحكم العالم . وان التخلي عن دور الدولة الاستثماري والتخطيطي, لا يقود حتما إلى وجود مستثمرين خاصين لأن طابع الاستثمار الخاص في الإطراف يتمثل في التوظيف في القطاعات الهامشية وأيضا التسرب إلى المراكز و السبب واضح الآن أكثر من أي وقت مضى , و اقصد هيمنة الاحتكارات الإمبريالية متعدية القومية , التي باتت توظف في كل قطاعات الاقتصاد , وباتت قادرة على إلحاق الهزيمة بكل الاقتصاديات الناشئة , والراكدة , وهذه النظرة ليست نظرة إيديولوجية لأنها تكررت في كل التجارب التي سبقتنا الخصخصة و اقتصاد السوق ولا اعتقد بأن لنا ميزات تجعلنا نختلف عن الآخرين ,ولأنها أيضا تستند إلى فهم لأبسط قوانين الاقتصاد الرأسمالي حيث المنافسة (عبر اقتاد السوق ) تقود إلى الاحتكار, فكيف إذا كان الاحتكار الذي تضخم أكثر مما يجب هو الذي يفرض على الأمم فتح أسواقها , ويهمش الدولة فيها, وبالتالي يجتاح اقتصادياتها . إذا ستكون قطاعات اقتصادية هامة معرضة للدمار, وبالتالي ستكون قطاعات اجتماعية عديدة معرضة للبطالة . كما إن الانفتاح وتدفق السلع و تحكم نهب الرأسمال الخاص سوف يزيد من إفقار قطاعات واسعة وتهميشها , وهذه مسائل توضحت في أكثر من مكان وقادت إلى أزمات عميقة .
لهذا سيكون السؤال الضروري هو : كبف نعالج وضع " القطاع العام " ونصوب دور الدوله الاقتصادي ؟ وليس كيف نتخلى عن كل ذلك . هنا يتوضح معنى أولوية الديموقراطية , حيث أنها المدخل للرقابة الشعبية على دور الدولة الاقتصادي وبالتالي كشف كل أشكال النهب التي يتعرض لها " القطاع العام " , وتأكيد المحاسبة الحقيقية وأيضا تصويب السياسات الاقتصادية بما يجعلها توسع من دور الإنتاج وكذلك تكون المدخل للدفاع عن حق التعليم والضمان الاجتماعي والأجر العادل وحق العمل , والإنتاج ذي الجودة العالية . إن الديموقراطية هي الأساس لكي تدافع الطبقات الشعبية عن مصالحها و عن الحاجة عن التطور المجتمعي .و لهذا من الضروري إن تتحدد أسس هذا التطور وتلك المصالح والأهداف . وإذا كان دور الدولة الاقتصادي قد نشأ نتيجة عجز اقتاد السوق عن تحقيق التطور المجتمعي (خصوصا في الأمم المخلفة ) , فأن العولمة الراهنة تجعله أكثر ضرورة , رغم ميزان القوة العالمي المختل .
لهذا يجب انتقاد وضع " القطاع العام " ودور الدولة الاقتصادي من اليسار وليس من اليمين, أي انتقاد ه لمصلحة الطبقات الشعبية وليس لمصلحة الرأسمالية القديمة (التي هي رأسمالية تجاري – مصرفية وتابعة ) . انتقاده لكي يسهم اكثر في تحقيق مصالح الطبقات الشعبية , وتحقيق التطور المجتمعي وليس لسلب هذه الطبقات كل " ايجابيات " المرحلة الماضية (التي على كل حال بدأت بها الفئة المسيطرة ) , وافقارها وتهميشها , وليس لتدمير التطور (الجزئي و المحدود) الذي تحقق .
أقول إذا أن التطور المجتمعي هو الذي يفترض الديموقراطية, وليس شمولية السلطة فقط. وتجاوز الشمولية ضروري لأنها باتت ليس عائقا فقط, بل تدمر التكوين المجتمعي وتشطب أحلام ومحاولات التطور بسبب النهب وسوء التخطيط والاستبداد. أي أنها باتت عائقا في صيرورة الارتقاء المجتمعي الذي لا يتحقق انطلاقا من اقتصاد السوق, بل يفترض ضرورة دور الدولة الاقتصادي في مواجهة عملقة الشركات الاحتكارية الإمبريالية التي باتت ترسم سياسة واقتصاد العالم.
إن مواجهة الميل للخصخصة واقتاد السوق الذي تحاوله فئات مسيطرة للتكيف في إطار العولمة, مرتبط كذلك بمواجهة حروب العولمة, خصوصا أن شارون بات يمارس ما يريده بوش ويرتبط بتحول داخلي ضروري كذلك, وهو المدخل لنجاح كل المواجهات الأخرى.