بوريس غابروك
الحوار المتمدن-العدد: 2096 - 2007 / 11 / 11 - 11:56
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
ناشد الزعيم البروليتاري فلاديمير لينين بعد قيام ثورة أكتوبر الشبيبة أن تتعلم الثقافة الإنسانية تعلماً حقيقياً، أي أن تتعلم الشيوعية. ولكن من غير الممكن تعلم الشيوعية وتكوين نظرة شيوعية إلى العالم، بل فهم الواقع عموما ولو بالنزر اليسير، ناهيك بفهم ماركس (قال لينين للرفاق في الحزب ذات مرة: "ليس بين الشيوعيين من فهم ماركس بعد مضي 50 سنة")، من دون فهم "علم المنطق" لهيغل Hegel، ما يعني فهم كل الفلسفة السابقة.
وهنا لا بد من تذكر أن البرهنة المنطقية للفائدة من الفكرة الشيوعية (لـ"معقولية" هذه الفكرة) على قاعدة منطق هيغل هي أمر طبيعي بقدر ما هي أمر طبيعي أيضاً على هذه القاعدة نفسها برهنة الفائدة من الفكرة الليبرالية. وقد برهن أحد أتباع هيغل الفيلسوف موسى غيس في حينه، استناداً إلى قواعد المنطق الديالكتيكي الهيغلي، الفائدة ("الحكمة، المعقولية" rationality) من الفكرة الشيوعية باعتبارها النفي الديالكتيكي لمبدإ التملك الفردي private property. وكان برهانه هذا منطقيا بقدر ما كانت منطقيةً برهنة فلاسفة آخرين الحكمةَ ("المعقولية") من التملك الفردي.
فمشكلة التملك الفردي التي يطرحها الشيوعيون كأكثر مشكلات عصرنا حدة تجد لها في إطار ديالكتيك هيغل برهنتين منطقيتين بالقدر نفسه، ولكن الواحدة منهما تستبعد الأخرى كلياً: برهنتين تتفقان كل الاتفاق سواء مع الشيوعية، أو مع ضدّها.
وإذا ما وجدنا أنفسنا أمام برهانين يستبعد أحدهما الآخر منطقياً، فإن تفسير الظاهرة باستخدام ديالكتيك هيغل أمر أكثر من متعذر. وقد كانت نتيجةُ تجاوز هيغل هي فهمَ أن العلاقات في المجتمع ليست نتاج تاريخ تطور الروح العالمية World Spirit، بل هي نتاج تطور "المجتمع المدني" والإنتاج المادي اللذين تشتق منهما القياسات المنطقيةsyllogismes. أما الطوباويات الشيوعية فانعكاس للصدام الفعلي الذي آن أوان نضجه بعد أن استثارته ظروف الإنتاج الآلي الصناعي.
فقط مقولة بروتاغوروس "الإنسان مقياس كل الأشياء" التي باتت أساس فلسفة فيورباخ مكنت ماركس من إدراك وبرهنة أن الإنسان هو بالذات موضوع التاريخ الأوحد؛ أن عمل الإنسان، أي نشاطه المحسوس الذي يغير الطبيعة تبعاً لحاجاته، هو بالذات المادة الوحيدة لكل أشكال الثقافة الإنسانية الخاصة. والموضوعة الفلسفية حول "جوهر الإنسان"، تلك التي تبرز غالباً لدى الفرد الواحد مثابة مثل أعلى لا مجال لبلوغه، مثابة مقياس للكمال أو للقبح، للتعاطف أو لعدم الاكتراث، لا تشكل في الواقع سوى نتاج تاريخي للنشاط العملي الذي تَشاطَره العديد من الأجيال، أو ما سماه ماركس "جملة كل العلاقات الاجتماعية".
وليس الأمر البتة في انقسام المجتمع إلى برجوازية وبروليتاريا. إن هذا إلا المظهر الخارجي للتناقض، ظهور الجوهر. ومهما قيل في الرسالة التاريخية للبروليتاريا، فإن البروليتاريا في نطاق التطور العفوي تبرز فقط كقوة رجعية، تحفر قبرها بيدها والحق يقال.
فعمال ألمانيا في إطار العفوية اغترّوا بالنزعة الوطنية ذات حين ليوصلوا إلى أعالي السلطة الفاشيين. وكذا في إطار العفوية ذاتها انجذبت الأرستقراطية العمالية التي تمثلت في عمال المناجم في الاتحاد السوفياتي أيام البيريسترويكا إلى أفكار الليبرالية والعدالة الاجتماعية لتدمّر الاشتراكية وتأتي بالبرجوازية إلى السلطة. وفي إطار العفوية تم تدمير الاتحاد السوفياتي ليصبح بعض عمال المناجم هؤلاء برجوازيين أمثال المتمولين والسياسيين البارزين حالياً أخميتوف ويانوكوفيتش وغيرهما في أوكرانيا مثلاً، وليصبح بعضهم الآخر مثابة قطيع من البشر، يد عاملة بسيطة، يسهل ويسلس قيادها.
إن كشف ماركس لم يكمن في قسمة المجتمع تجريداً إلى طبقات وفي وجود صراع طبقي. فهذا كان معلوماً ومكتشفاً قبل ماركس. كشف ماركس كمن في أن أسلوب إنتاج محدداً هو ما يوافقه نمط معين من الشخصية الإنسانية التي سمتها الأساسية "البلاهة المهنية".
يقول الفيلسوف السوفياتي إيفالد إيليينكوف: "إن أسلوب تقسيم العمل الرأسمالي لا يعرف ولا يقبل الاستثناءات. والبلاهة المهنية لا تتحول هنا وحسب إلى واقعة، بل أيضاً إلى فضيلة، إلى قاعدة، وحتى إلى نوع من مثل أعلى، إلى مبدإ في تكوين الشخصية يجهد كل أحد ليتطابق معه كيلا ينحدر إلى حضيض المجتمع، كيلا يضحي يداً عاملة بسيطة غير موصوفة". فالكل، من صاحب المصرف إلى عامل المنجم، يجهد ليتناسب مع هذه الفضيلة. ولكن إذا كان لصاحب المصرف البرجوازي شيء يخسره، فإن البروليتاريا ليس لها ما تخسره سوى قيودها.
من هنا استنتاج ماركس أن البرليتاريا إياها بحكم وضعها الذي هي فيه ضمن منظومة تقسيم العمل تبرز كقوة رئيسية ذات مصلحة في الانقلاب الاجتماعي. هذا الأمر عرضه ماركس بشكل رائع في "المخطوطات الاقتصادية الفلسفية" أعوام 1944 1857-1859، وكذلك إيليينكوف في مؤلفه "عن الأصنام والمثل".
يقول إيليينكوف: "البلاهة المهنية هي تملك فردي private property لمؤهلات محددة. وينبغي أن تموت كشكل من أشكال التملك الفردي لثروة إنسانية اجتماعية، وهي تموت معه". [b]وإن التغلب على البلاهة المهنية إياها، أي إزالة التقسيم الاجتماعي للعمل، ليشكل مضمون الانقلاب الشيوعي[/b]. هذا هو فهم لينين للشيوعية.
ويقول إنجلس: "إن الإدارة الاجتماعية للإنتاج لا يمكن أن يقوم بها أناس كالذين نراهم الآن، أناس كل واحد منهم خاضع لهذا الفرع أو ذاك من فروع الإنتاج، ملتصق به، مستغَلّ من قبَله، ويطور جانباً فقط من مؤهلاته على حساب الجوانب الأخرى ولا يعرف إلا فرعاً واحداً أو جزءا من فرع ما من فروع الإنتاج جميعاً. فالصناعة الحالية نفسها أخذت تعجز أكثر فأكثر عن استخدام أمثال هؤلاء الناس".
وبخلاف معظم الشيوعيين كان لينين يلح على أن[b] "الشيوعية هي إلغاء للتقسيم الاجتماعي للعمل"[/b]. وهو بالذات الأمر الذي قال فيه لينين إن أحداً من الشيوعيين لم يفهمه بعد مضي 50 عاماً على ماركس. وهنا لا بد من قراءة لينين في "الدولة والثورة" وهيغل في "علم المنطق" وفيورباخ في "جوهر المسيحية" وماركس في "غروند غريسّه" وإيليينكوف في "عن الأصنام والمثل".
لذا يبقى المطلوب من الشيوعيين على حاله ألا وهو دراسة نظرية ماركس. ومن لا يريد أن يفعل هذا ليس له أن يضلل الآخرين بأفكار العدالة الاجتماعية و"الاشتراكية السويدية" و"الاشتراكية الديموقراطية" و"اتحاد الشعوب الشقيقة" وما شابه ذلك من الكلام الفارغ المناهض للماركسية والشيوعية.
#بوريس_غابروك (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟