في رمضان منذ سنوات بعيدة رأيت "فتيحه" لأول مرة... يرقد تحت كوبري حافي القدمين ويرتدي ثوباً مغطي بالطين فحملته إلى منزلي وأقنعت السكان بمنحة غرفة الغسيل فوق السطوح... ومددت يدي وأعطيته ورقة بعشرة جنيهات... عاش "فتيحه" على كرم الجيران حتى أصبح شاباً فأستولي على السطوح ومنعنا من الصعود إليه وأفتتح فيه ورشة نجارة ليعمل فيها معه زملاءه من أبناء الشوارع, وما يكاد الخبط والدق والهبد فوق رؤوسنا ينتهي ليلاً حتى يبدءون في تعاطي المكيفات في هواء السطوح الطلق ثم يتصايحون:
- "لو فيه راجل في العمارة يطلع لنا". حاولنا أن نشكوه في القسم لكن الصول خميس أخبرنا أن "فتيحه" رجل كريم وبيعمل للقسم مكاتيب ودواليب... ربي "فتيحه" في المنزل سبعة كلاب... ستة منهم متوحشين وواحد سعران... أما القطط فكان يحرقها ويطلقنا على شققنا... وعندما جاء رمضان هذا العام أقام "فتيحه" مائدة رحمن علوية فوق السطوح, كان يصعد إليها المئات مهددين العمارة بالسقوط... ثم حدث أمس أمر خطير إذ بدا "فتيحه" ورجاله يهدمون السطوح ويخلعون السلالم وهم يغنون:
- "نحلف بسماها وبترابها.. "فتيحه" هو اللي خربها". وسمعت صوته وهو يشجعهم ويقول:
- "طربقها يا جدع على دماغ ولاد الأوباش دول". وفهمنا أن "فتيحه" أشتري العمارة ويريد أن يهدمها حتى يبني مكانها برجاً فلم يعد أمامي سوي الصعود إليه... فاستجمعت شجاعتي وصعدت إلى السطوح وطرقت الباب برفق فخرج "فتيحه" غاضباً ونظر إلى وقال:
- "إنت مين يالا". رديت بأدب:
- "أنا جلال يا أفندم... وجاي لحضرتك عشان موضوع العمارة وإحنا في رمضان وطبعاً حضرتك عارف يا أفندم إن..." لم يدعني أكمل إذ قال:
- "فهمت... فهمت". ثم مد يده في جيبه وأعطاني عشرة جنيهات.