صلاح عودة الله
الحوار المتمدن-العدد: 2096 - 2007 / 11 / 11 - 11:28
المحور:
القضية الفلسطينية
مهما كتبنا عن ابي عمار فلن نوفيه حقه..ولكن هل هذا الوضع الذي نعيشه اليوم من حالة من التشرذم والانقسام والتفكك وتضييع للقضية ما كان يريده ابو عمار؟اترك الاجابة على سؤالي هذا الى قطبي الرئاسة ولسان حالي يقول ما قاله امامنا الشافعي"رحمه الله":
يعيب الناس كلهم الزمانا**وما لزماننا عيب سوانا/ نعيب زماننا والعيب فينا**ولو نطق الزمان بنا هجانا/ وليس الذئب يأكل لحم ذئب**ويأكل بعضنا بعضا عيانا..!
سيدي "ابا عمار": لقد ناضلت طوال حياتك من اجل تحرير الوطن المغتصب واقامة دولتنا الفلسطينية..وها انا ازف لك خبرا لم تحلم به فقد استطاع ابناء شعبك اقامة "دولتين" واحدة في الضفة الغربية والثانية في قطاع غزة..امر لم تستطع انت انجازه..اما هم فقد انجزوه خلال فترة قصيرة لا تتعدى ثلاثة اعوام..واما حق العودة فعليه السلام, والقدس ستبقى عاصمة "اسرائيل" الابدية..فنم قرير العين يا سيدي..!
في الحادي عشر من شهر تشرين الثاني لعام 2007 يكون قد مرت ثلاثة اعوام على رحيل القائد الرمز ياسر عرفات "أبو عمار"، لقد سقط أبو عمار شهيدا والشعب الفلسطيني في ذروة تصديه لآلة الحرب الإسرائيلية التي لم تدخر جهدا في استخدام كل أنواع الأسلحة وأشدها فتكا ودمارا لتطال ذخائرها البشر والشجر والحجر ، ومستهدفة كل مظاهر الحياة الفلسطينية.وهنا استذكر ما قاله شاعرنا الفلسطيني الراحل راشد حسين: سنفهم الصخر ان لم يفهم البشر**ان الشعوب اذا هبت ستنتصر/ ومهما صنعتم من النيران نخمدها**الم تروا اننا من لفحها سمر/ وان قضيتم على الثوار كلهم**تمرد الشيخ والعكاز والحجر..! ما أجملَ الأمس وما أحلي الماضي بكل أحلامه السعيدة , وما أجمل زمانك يا قائدنا , رمز ثورتنا كنت نوراً أضاء لنا طريق الحرية , ومنحتنا الحب والثقة فأصبح العالم يعرفنا من خلالك ومن خلال كوفيتك الناصعة بالحب وبقدسية المناضل الشريف ..انها شمعة أنارت لنا طريق النضال للوصول إلي الحرية كنت شامخاً شموخ الجبال.. يا مُفجر أعظم ثورة عرفها التاريخ الحديث . لقد كنت مناضلاً منذ أن كنت طالباً في كلية الهندسة بجامعة القاهرة حيث تمكنت من أن تبرز الشخصية الفلسطينية وتعلوا بصوت القضية الفلسطينية عالياً خفاقاً في أروقة الأمم المتحدة والمحافل الدولية ,وبدأت رحلة الكفاح حاملاً على كتفيك هموم شعبك ووطنك مدافعاً عن قضيتك بشتى الوسائل , حيث بدأت نشاطك الحركي والتنظيمي وقمت بإسناد المهام لإخوانك من أبطال الفتح الميامين ,وانطلقت ثورتنا العملاقة وكنت أنت سيدي المفجر لهذه الثورة ومطلق شرارتها في الفاتح من يناير عام 1965م , وقد كان وما زال هذا اليوم يوما مشهوداً في تاريخ القضية الفلسطينية إنه يوم انطلاق المارد الفتحاوي وانطلاق الثورة الفلسطينية المجيدة , ومن هنا بدأ العمل السياسي والعسكري لثوار الفتح في داخل الوطن المحتل وخارجهُ , حيث لقن أبطال المقاومة الفلسطينية العدو الصهيوني درساً قاسياً في الثبات والصمود والتضحية, وألحقوا به الهزيمة في معركة الكرامة التي أعاد بها الثوار الكرامة للأمة العربية بعدما أصابتها الهزيمة في عام النكسة 1967 م , وأثبت الفلسطينيون أنهم قادرون علي قهرالعدو الصهيوني الذي أُشيع أنه جيشٌ لا يقهر فقد كان الجنود الصهاينة يُربطون في دباباتهم حتى لا يفروا من أرض المعركة ومع ذلك هُزِموا شر هزيمة, إنه حقاً ليوم عزةٍ وفخر ما أحوجنا هذه الأيام لمثل يوم الكرامة . ثم كانت الرحلة إلي بيروت والتي شهدت الكثير من المعارك مع العدو الصهيوني, واستطاعت المقاومة الفلسطينية أن تقف أمام غطرسة هذا العدو سداً منيعاً لتوقف أطماعه التوسعية , إلا أن الظروف حالت دون بقاء القيادة في بيروت فكانت الوجهة إلي تونس التي احتضنت القيادة الفلسطينية لسنوات وسنوات . لقد استطاع القائد أبا عمار عام 1974م أن يجعل قضيتنا من أهم القضايا في المحافل الدولية حين وقف مخاطباً قادة العالم في الأمم المتحدة وقال كلماته الشهيرة " لقد جئتكم حاملاً غصن الزيتون وبندقية المقاتل ..لا تدعوا غصن الزيتون يسقط من يدي".. لقد أثبت للعالم أن قضيتنا قضية عادلة, وأننا شعب يستحق الحياة بكرامة ,وأن ينعم بالحرية كباقي شعوب العالم , فبني جسور الثقة بين فلسطين والغرب , وظهر أثر ذلك حين أعلن القائد الرمز قيام الدولة الفلسطينية فاعترفت بها أكثر من مئة وعشرون دولة من دول العالم . وسار في طريق السلام وعاد القائد إلي أرض الوطن شامخاً مرفوع الهامة, فبني المؤسسات ووضع أسس قيام الدولة الفلسطينية علي الأرض الفلسطينية . فكان الأب الحنون لكل فلسطيني , ولم ينسى أبناءه في العالم , كان دائم الاضطلاع على أوضاعهم وأحوالهم , كان اليد الحنونة التي تمسح دموعهم ,وتداوي جراحهم , وتوحد كلمتهم, وكان عوناً لكل محتاج ,مواسياً لكل جريح , يزور الجرحى في المستشفيات يقبل أيديهم ورؤوسهم, ويواسى أهالي الشهداء . لقد كان حلم حياته أن يرى القدس محررة وأن يصلي ويُدفن بها , ولكن المنية وافته قبل أن يحقق هذا الحلم , حيث مرض الرئيس وغادر الوطن للعلاج وهو يرسل القبلات لشعبهُ, وبعد أيام فُجع الشعب الفلسطيني بخبر استشهاد الأب الحنون ..اهُ رحل القائد ..رحل الزعيم..إلي أين يا حبيب الملايين؟ .. لمن تركتنا يا أبا عمار ؟ .. الدموع تنهمر ..الكل يبكي .. ليس غريباً عند رحيل هذا القائد العملاق أن تكرمه الدول وأن يحضر قادتها لوداعه, فقد حظي بتكريم لم يحظي به أي زعيم من قبل , حيث أقيمت له ثلاث جنازات وفي ثلاث قارات, أولاها كانت في فرنسا المكان الذي لفظ أنفاسه الأخيرة فيها , والثانية في مصر العروبة وأرض الكنانة , والثالثة في وطنه في رام الله حيث شيعه الملايين بحسرة وحزن يبكونه ويدعون له بالرحمة ..رحل أبو عمار ولكننا لازلنا نبكيه حتى اليوم ولن ننساه أبداً ..لك منا كل الحب ولروحك الطاهرة كل الوفاء..!
بديهيا القول ان للرئيس الشهيد ياسر عرفات,آثرا كبيرا في فعل التأسيس الوجودي المعاصر للمشهد النضالي الفلسطيني الراهن,فهو فعلنا المستمر في الذات التاريخية الفلسطينية, زمانيا وهو المهندس الاول لهذا الصرح ولهذا الحضور وهو الذي اعاد بناء الذات الفلسطينية المفكفكة وأزال عنها ولوجزئيا فعل صيرورة التفكيك.,,من خلال استخدامه لادوات ارجاعية وتركيبيه , ساهدت وساهمت بنجاح اعادة الشعب الفلسطيني للعودة الى التاريخ بعد ان اخرج منه وكاد ان يكون كشعوب الهميلايا ..! مواطنون دون وطـن..؟ نعم لقد نجح ياسر عرفات ايضا من خلال ادراكة وسيطرتة على روح اللحظة واستخامه استخداما جيدا لادواته المعرفيه في اخراج شعبة من دوائر الجهل والفقر وحافة العدمية الى دوائر الحضور والعلم والمعرفة والنور ..لدرجة ان الشعب الفلسطيني استطاع وبنجاح ان يتساوى ويوازي في حضوره المعرفي والثقافي اليهود وتحول الى شعب متعلم وشعب مثقف ويرجع الفضلال الكلي الى عقل ياسر عرفات , من خلال امتلاكه لوعي ثقافي ووعي معرفي ووعي اجتماعي ووعي سياسي ,,فهو القائد الاستثنائي في الزمن الفلسطيني الصعب, القائد الذي قادنا واعادنا من محافل الظلام والتيه والتشتت واللاكينونة الى احضان الوطن والوجود والمعنى,, نعم هو الذي نجح وبجداره اعادة الهوية الفلسطينية لذاتها وهو الذي زود حضورها بخصائص ذاتها واضحت الذات تسير وهي حاملة فوق موضوعها خصائصها الثابتة والتي لا تستطيع اية قوة استلابها او اغتصلبها .. لانها اضحت ثوابت وجواهر حضورها يكون بذاتها لذاتها وهنا تكمن عبقرية ياسر عرفات والمكر العرفاتي في التاريخ لذا نقول باريحة فكرية ووجدانية عالية لياسر عرفات وليس للتاريخ. يوم 11 تشرين ثاني من عام 2004 ، فقد الشعب الفلسطيني والامة العربية وقوى التحرر العالمية والاقليمية ، رمزا من رموز الكفاح الوطني الفلسطيني والعربي ورجلا من الرجال العظماء والمشاهير الثوريين في العالم اجمع . في هذا اليوم ، نُكس العلم الفلسطيني وعدد كبير من أعلام الدول العربية والغربية الصديقة ، حدادا وحزنا على ترجل الرمز الفلسطيني الأول - صاحب الكوفية السوداء المرقطة.. الفدائي الاسمر- ياسر عرفات " أبو عمار " ، الزعيم التاريخي الذي قاد شعبه بشجاعة وإقدام في مسيرة عظيمة من النضالات والتضحيات والحصارات والحنكة والدبلوماسية الفذة ممزوجة باصرار وطموح كبيرين في العودة إلى بيت المقدس وإحتضان تراب الوطن المفدى والوصول إلى نهاية نفق مظلم طالما عاش وناضل وجاهد لرؤية نوره المتمثل في حرية شعبه ووطنه.
وفي الذكرى السنوية الثالثة لرحيله ، يحين وقت رثاء القادة العظام وتتوقف قلوب محبيهم عن الخفقان تماما كما يتوقف مداد أقلامهم ساكنا في مجراه وتذرف العيون دموعها الغزيرة ، كيف لا ، والمرثي أعظم من أن تصفه كلمات الادباء وأكبر من أن تنصفه قصائد الشعراء ... المرثي اليوم هو الثائر والمؤسّس والقائد والمعلّم والمشّرد والعائد ... هو المفاوض العنيد والمقاوم الشرس والفتحاوي الوحدوي والرئيس المتواضع المتقشف ... المرثي اليوم هو الزعيم الاسير والطريد الشهيد صاحب البزة العسكرية المتواضعة ورجل الكوفية الفلسطينية الشامخة ... أنه الشهيد الرمز الخالد حامي الحلم الفلسطيني ياسر عرفات الختيار الصلب ورجل السلام الشجاع والوالد الحنون لنا جميعا..! اليوم ، ونحن نخلّد ذكرى رحيله المفاجيء ، تدق ساعة المراجعة الحقيقية للثورة ومسيرتها وللدولة وماهيتها ، وتتجه عقارب الزمن نحو ضرورة النهوض الوطني العام وتقييم الاداء والسلوك ودراسة الأحوال التي وصلنا إليها ، وذلك أفضل من أن يأتي علينا يوم نحيي فيه ذكرى زعيمنا وأسطورة كفاحنا الوطني ورمز قضيتنا وثورتنا بمزيد من لطم الصدور أو شق الجيوب أو ضرب الانفس ونصرخ أين أنت يا أبا عمار..؟
سيدي الرئيس الخالد:
أنرثيك ، أم نرثي أنفسنا أيها الغائب الحاضر ؟ أنبكيك ، أم نبكي أحوالنا بعد أن تركتنا حائرين تائهين متناحرين ؟ أنسامحك ، أم نسامح عقولنا على إستهتارها بحضورك الهائل وقيادتك الثورية المخلصة وديناميكيتك الخارقة ؟!!! هل تريد منا أن نندم على كل لحظة خلاف إختلفناها معك ، أم أنك قلق ومزعوج من خلافاتنا وتشرذمنا ؟ تمادينا عليك يا سيدي لكننا اليوم نتمادى ونتطاول على بعضنا البعض..!إختلفنا معك ولم نختلف عليك ، وها نحن اليوم وللاسف يختلف الواحد منا مع الاخر ونختلف مع أنفسنا بقسوة وبغض وتعّصب...! إنتقدنا إدارتك وأسلوب قيادتك وفي كثير من الاحيان تجاوزنا الحد في الانتقاد ، لكننا اليوم نتفنن في كيل الانتقادات والاتهامات وتبرير العجز في عدم تحمل المسؤوليات ، وينتقدنا الشعب بغالبيته على تراجعنا وقصورنا..! إتهمناك بالتفرد والتسلط ، لكننا بعد رحيلك سرعان ما تفرّدنا وإستفردنا ببعضنا وشرعنا بتسليط سيوفنا وفوهات بنادقنا صوب جسد وصدر وحدتنا وتلاحمنا..!
أهكذا تغادرنا أيها الزعيم المعلم ونحن بأمس الحاجة إليك..! لم تكن يوما لنفسك ولم تكن يوما لذاتك ولم تعش حياتك كما ينبغي أن تكون ، كنت دائما لأمتك وشعبك ولفلسطين التي أسكنتها عقلك وقلبك..! لله درك كيف تغادر؟ وما سر هذا الرحيل المفاجيء يا رجل المفاجآت؟ نحن في حيرة وتيه أيها القائد العظيم ... نعيش بتشاؤم وقلق مرير ... فعن ماذا تريد منا أن نحدثك ؟عن جوانب شخصيتك ورؤيتك الثاقبة أيها السياسي المحنك ؟ عن فكرك وإصرارك وعنادك ؟ عن حبك ووفاءك يا صاحب الابتسامة الدائمة والتفاؤل المتواصل ؟ عن الكريزما التي أبهرت كل من عرفك وعاشرك ؟ عن تواضعك وتقشفك وتفانيك بالعمل ؟ عن إهتمامك المتواصل في كل صغيرة وكبيرة من قضايا شعبك يا رجل الشعب والقضية والثورة ؟ عن حنانك وأبوتك وتفقدك لأخوانك ورعايتك لذي الحاجة الملهوف ونصرتك لأبنائك الاسرى والجرحى والمرضى ؟ عن ماذا تريد أن نحدثك ؟ عن حال المنظمة التي كنت رأس حربتها ؟ عن فتح التنظيم وما حل بها ؟ عن السلطة ومؤسساتها وهيئاتها وأين وصلت ؟ عن الحصار الظالم المشّدد والقتل اليومي المتعّمد ؟ عن التراجع السياسي وحلمنا الذي تبّدد ؟ عن إنقسامنا وصداماتنا ورفضنا بأن نتفق ونتوّحد ؟ عن جرائم الاحتلال الذي فاوضك ثم حاصرك ثم طاردك لكنك فضلت أن تستشهد ؟ آه كم نفتقدك يا سيادة الرئيس..آه كم نحن بحاجة إليك في هذه الايام العصيبة ... آه كم تحتاجك فلسطين حاليا بعد أن أنهكت صمودها وثباتها خلافاتنا وصراعاتنا الهشة نبكي أيامكم يا سيدي ونردد قول الشاعر:
سيذكرني قومي إذا جد جدهم** وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
عفوا سيادة الرئيس..لن نرثيك ، ليس لأننا قد تخلينا عنك..بل لكوننا نخجل من أن نسمعك كلامنا المتذبذب وشعاراتنا الزائفة ونستحي كثيرا أن نقرأ عليك تفاصيل حياتنا المزرية وسياساتنا المحّيرة ، أو نقلق منامك بمشاهد معاناتنا وقهرنا الدامي...!
لن نرثيك أيها القائد الرمز ، لأننا إنتظرناك طويلا كي تفيق وتنهض علّ مماتك يحيي ممات ضمائرنا التائهة ... إنتظرنا نهوضك لتنقذنا من جموحنا القاتل وتراجعنا الهائل ... نستحلفك سيادة الرئيس أن تنهض..! ألا يكفيك ثلاثة اعوام من النوم الهاديء على أزيز رصاصنا الهائج وتصريحاتنا الطائشة ..؟! ألا يكفيك ثلاثة اعوام من الرقود تحت ساحات قلعتك التي لم يعد يقلقها الحصار ولا يزعجها هدير عجلات الجنزير ولا صوت القنابل المتفجرة في الممرات وخلف الاسوار..! إنهض أيها الياسر فيكفيك ثلاثة اعوام من غض البصر عن سوء أوضاعنا وتردي أحوالنا المعيشية والاقتصادية والامنية والسياسية والتي إذا ما إستمرت ستؤدي إلى تدمير قيمنا الوطنية والنضالية وإنهيار مشروعنا الوطني الذي قضيت من أجله.
إنهض لتّسمعنا وتجفف مآقينا ولربما تعيد البسمة إلى أطفالنا الذين شردتهم حملات الاعتقال والاغتيال لذويهم ، وحرمتهم سياسة الحصار وإنقطاع الرواتب من أبسط حقوقهم في التعليم كباقي الاجيال..! إنهض أيها ألاب القائد فبرحيلك تصبح كل الكلمات عديمة الجدوى ويصبح الالم هو رفيق دربنا الوحيد في رحيل أقسم أن يسقي الارض المقدسة من دموعنا لتنبت تفاؤلا وإصرارا وعزيمة ... برحيلك تختنق كلماتنا ولا يتبقى لنا إلا الغصة والحسرة وبعضا من المباديء والقيم التي أسقيتنا أياها في لحظات تعطشنا للوطن والاستقلال.
لن نرثيك ، فأنت الغد تكبر فينا ولا تفارق ... أنت الصمت الذي تكّلم ... وأنت الصمت الذي علّم وعلّم ... أنت التاريخ بحده وبعده وأنت الباقي فينا ولن تفارق . وا أسفاه يا أبا عمار لأننا لم نعرف قيمتك إلا بعد رحيلك ولم ننصفك إلا بعدما إستشعرنا حجم الفراغ الذي تركته ، فيا رحمة الله عليك ما أعظمك..؟! طبت وطاب جهادك وطابت الارض التي دفنت فيها يا أبا عمار. هذه هي حقيقة المشهد الفلسطيني في السنة الثالثة لاستشهاد أبو عمار ، جمود سياسي يهدد بتحويل القضية الفلسطينية من قضية سياسية إلى مجرد قضية إنسانية ، فلتان امني قاد ابناء الشعب الواحد الى اقتتال دموي شرس ادى الى فصل الضفة عن غزة وبقوة السلاح..هذا السلاح الذي لم يرفع على الأعداء يوما بهذه الطريقة..لقد اقتتل الاخوة الأعداء وما زالوا يرفضون العودة الى طاولة الحوار, لكن بعضهم يهرول وراء بوش ووزيرته الشمطاء نحو ما يسمى مؤتمر الخريف او مؤتمر السلام..انه مؤتمر الشؤم الذي يجيء لتصفية ما تبقى من القضية الفلسطينية.يعيش ابناء شعبنا حالة من انهيار اقتصادي ينذر بفوضى عارمة في المجتمع الفلسطيني، ومن هنا ندرك تماما حجم الخسارة التي مني بها شعبنا بفقد أبو عمار الذي كان دائما صماما للامان وربانا ماهرا للسفينة الفلسطينية وسط العواصف والأمواج الهائجة لينجو بها لتحقيق الهدف. ثلاث سنوات على رحيلك المؤلم تنقضي لتتركنا في دوامة سوء الاحوال وقساوة الظروف ... ثلاث سنوات تمر على مشاهد الخراب السياسي والانهيار الأمني والانقسام الداخلي ، وكأنها لا تريد النظر إلينا وتصر على الهروب من مسار الطريق الذي حرفناه عن الهدف الذي قضيت من أجله يا سيد الرجال وقائد ثورة الاحرار والابطال..! اليوم ... في ذكراك الثالثة يرتجف القلم أكثر مما مضى ويتساقط منه حبر الألم بغزارة فائقة ... فاليوم لو نزفت دفاتر التاريخ حروفها دما لما إستطاعت أن تكتب لرجل في إنسانيتك وحنكتك ورمزيتك ... لشخص ذو مكانة بين الأمم ... لرمز وضع منهاج الثورة وأسكت كل قزم ... لقائد هو التاريخ بعينه وهو الموقف الحاسم والاسطورة الساطعة ... لياسر هو السارية وهو العلم..!
قالوا في"ابو عمار":
قال عنه الزعيم الاسود نلسون مانديلا:
ان الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات يعد تراثا تاريخيا نضاليا عالميا وشكل رمزا نضاليا ضد الظلم والقهر ومسيرته تشبه اسطورة بكل ما فيها من ابعاد وخيال وافاق ورومانسية فهو البطل الذي يتحدى الطغيان والقوة والبطش باصراره وايمانه بحقه وحق شعبه وهو القادر على الافلات دائما من براثن الموت ويحول الهزيمة الى نصر.
وقال عنه الشاعر محمود درويش:
نهض فينا ابطال الميثولوجيا القديمة في علاقتهم بغضب الالهة ورضاهم ، لم يعد على ياسر عرفات الفلسطيني الاغريقي الدلالة ان يقود سفينة فقط فعليه ان يقود الموج بحفنة من الرجال ، عليه ان يكون وحيدا وعليه ان يكون محاصرا وعليه ان يرد على اسئلة البحر ، نعذّبه كثيرا لاننا وجدناه ولم نجد سواه ، هو شرط الخطوة التالية وهو شرط ذكرياتنا ، لابد من الوفاء لياسر عرفات لانه سيّد الوفاء.
وقال عنه فاروق القدومي:
هو الذي سار في موكب الحق منذ نعومة اظفاره، غادرنا وروحه الحائمة في سماء فلسطين تشكو ظلم الظالمين ، هو القائد المفجّر لاطول ثورات التحرر في العصر الحديث.
وقالت عنه الصحف العبرية:
لا يمكن معه ولا يمكن من دونه.
وقال عنه داعية السلام الاسرائيلي" اوري افنيري":
انه اكثر الاشخاص المكروهين في اسرائيل ، اليمينيون واليساريون في اسرائيل يتبارون في التعبير عن كراهيتهم له ، ولكنه اكثر زعيم محبب الى قلوب شعبه والى قلوب الجماهير في العالمين العربي والاسلامي واكثر ما يميزه شجاعته النادرة.
لقد تورط الفلسطينيون في مقتل قائدهم الرمز ياسر عرفات "ابو عمار".. القائد الذي وبغض النظر عن اخطائه الا انه استطاع ايصال اسم فلسطين الى كافة بقاع الأرض.. الرجل الذي ضحى بحياته لصالح القضية.. لصالح ابناء شعبه.. لقد كان ساحرا وبسحره سحر العالم اجمع وكذلك شعبه، ولكن وللأسف انقلب السحر على الساحر.. فقتله ابناء شعبه..!
ورغم الاختلاف الشديد مع سياسات كثيرة مارسها الراحل، ولعل أبرزها: توقيع اتفاقيات أوسلو وما تلاها من تداعيات خطرة، إلا أنه يشهد لهذا الزعيم في مباحثات "كامب ديفيد" مع رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك ايهود باراك، وبمشاركة الرئيس الأمريكي آنذاك بيل كلينتون (في نهاية ولايته الثانية) وكان ذلك في عام 1999 أنه لم يستجب للضغوط الكبيرة التي مورست عليه من أجل قبول الحل "الإسرا- أمريكي" للتسوية، وظل متمسكاً بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وبخاصة مدينة القدس.
ياسر عرفات أدرك متأخراً أن إسرائيل لن تعطي الفلسطينيين أياً من حقوقهم الوطنية الأساسية من خلال المفاوضات السياسية، ولذلك حاول الوقوف في وجه الابتزازات الإسرائيلية من خلال التأكيد على وحدة المساحة الفلسطينية بكافة ألوان طيفها الفصائلي، واستيعاب تعارضاتها، والنأي بها بعيداً عن أي اقتتال داخلي. أدرك عرفات أيضاً أنه وبرغم كل ما قدمه وقيادته من تنازلات، فإن الخطوط الحمر الإسرائيلية بالنسبة للتسوية بقيت كما هي عليه لذا أخذ يزداد تمسكاً بالحقوق الفلسطينية.
لذلك كله، فرضت إسرائيل الحصار على عرفات في المقاطعة لثلاث سنوات، وجرت محاصرته سياسياً (أيضاً) من خلال الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، وتم منعه من السفر خارج الأراضي الفلسطينية، التي تم اجتياحها من جديد، على أيدي قوات الاحتلال الصهيوني، ومن ثم بدأ التفكير والتخطيط من الكيان الصهيوني لاغتيال عرفات، ولكن بطريقة لا تثير أية ضجة إعلامية. ولقد نصح الرئيس الامريكي "بوش" رئيس الوزراء الاسرائيلي "شارون" آنذاك بعدم تصفية عرفات مدعيا ان الطبيعة الربانية ستفعل ذلك، الا ان شارون اجابه قائلا: "ان الرب بحاجة الى مساعدة احيانا".
استشهد أبو عمار بعد نحو ثلاث سنوات من الحصار الجائر الذي فرضته قوات الاحتلال عليه في مقر المقاطعة في رام الله مورست عليه فيها كافة أشكال الضغط المعنوي والمادي حيث تعرض مقر المقاطعة للقصف من مدفعية دبابات الاحتلال فدمرت أجزاء كبيرة منه، ووجهت لابو عمار التهديد تلو التهديد بالتصفية الجسدية إذا لم يستسلم ومرافقوه فصموده الأسطوري وإرادته الصلبه التي لم تلين وإيمانه العميق بعدالة قضيته ظل صامدا شامخا كالطود العظيم أمام الآلة العسكرية الإسرائيلية إلى أن التحق بالرفيق الأعلى تاركا الشعب الفلسطيني لمواصلة الدرب.
لقد استشهد أبو عمار نتيجة إصابته بمرض غامض في ظروف غامضة وان كانت الدلائل الأولية تشير إلى تعرضه إلى عملية اغتيال جبانة سيكشف الزمن عاجلا أم عاجلا عن ملابساتها وعن فاعليها ولا نريد الإطالة هنا لان القضية ما زالت بأيدي الخبراء والمحققين من اجل معرفة الحقيقة.
استشهد أبو عمار تاركا وراءه إرثا نضاليا يعتبر منهلا للأجيال القادمة لمواصلة النضال والثورة من اجل التحرير والعودة وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف. ووسط أصوات مؤيدة للرئيس الراحل، ومثمنه لمسيرته وصواب سياسته كقائد ثوري، مناضل سياسي إلى أصوات معارضة بدافع حزبي مثل حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، أو أصوات نقدية بدافع سياسي أكاديمي فكري مثل ما قام به المفكر الفلسطيني الراحل إدوار سعيد، وكذلك الاستاذ الدكتور عبد الستار قاسم وغيرهما. ومروراً بأصوات تتراوح بين التأييد والاختلاف، بين الشعبوية والنخبوية، بين العاطفة والعقل، بين التصفيق والصمت. وبعيداً عن التنظير المؤيد والمعارض تبقى التساؤلات قائمة هل كانت قيادة الرئيس أبي عمار قيادة أبوية أم قيادة مؤسساتية؟ هل شكل أبو عمار صمام أمان للوحدة الوطنية الفلسطينية؟ هل حافظ الرئيس أبو عمار على الثوابت الوطنية الفلسطينية أم تراجع عنها حيناً وعاد إليها أحياناً أخرى؟ هل يتحمل الرئيس وحدة جوانب الصواب والخطأ في مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة أم تتحمل القيادات العربية والإسلامية جوانب عدة منها؟ هل أصاب الرئيس ياسر عرفات في اختيار حاشيته في زمن النضال، وأخطأ في ذلك في زمن السلطة؟ كلها تساؤلات تحتاج إلى دراسة واعية جادة من أجل تقييم وتقويم مسيرة نصف قرن تربع على عرشها الرئيس الراحل ياسر عرفات "رحمه الله" وأسكنه فسيح جناته..!
سيبقى الراحل الكبير...الزعيم...القائد...الوالد... الختيار مُفترى عليه حتى يُنصف في غيابه بالكشف عن سر عشائه الأخير، ويلقى الذين ارتكبوا جريمتهم بحقه أشد العقاب. دمه في أعناق الذين أحبوه قبل الذين كرهوه، حتى يتم الكشف عن اللغز الذي أحاط برحيله. نعيد ونكرر: ترى من قتل الزعيم الفلسطيني؟ وهل سيبقى الجاني متوارياً مدة أطول؟ ألف رحمة عليك يا من كنت أباً للجميع ... لأبناء "فتح" ولأبناء جميع فصائل المقاومة الفلسطينية الأخرى.ان حركة فتح بحاجة اليك بعد ان عصفت وما زالت تعصف بها رياح التشرذم والانقسام والتفكك, ولم تعد فتح الحركة التي عهدناها..! ألف رحمة عليك أيها الغائب الحاضر، الغائب عنا بجسدك والحاضر بيننا بروحك ويا من ستبقى حاضراً في قلوب أبناء شعبك الأوفياء إلى الأبد.
**تم الرجوع الى بعض المصادر في اعداد هذا المقال.
#صلاح_عودة_الله (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟