مع تصاعد الأعمال الإرهابية في العراق وتزايد عدد ضحايا قوات التحالف، برزت مخاوف مشروعة لدى الكثيرين من العراقيين وأصدقائهم من المثقفين العرب والأجانب، الحريصين على مصلحة العراق من الإنسحاب المبكر لقوات التحالف قبل تحقيق الأهداف المرجوة من إسقاط نظام الفاشية. وهذه المخاوف مشروعة لأن في حالة الانسحاب سيحصل الفراغ الأمني والسياسي مما يفسح المجال لحصول أربعة سيناريوهات رهيبة وهي:
1- عودة صدام حسين ونظامه الفاشي، فحزب البعث وجميع مليشياته ومؤسساته العسكرية والإستخباراتية مازالت محافظة على وجودها وهيكليتها، إضافة إلى عشرات المليارات من الدولارات الأمريكية التي نهبوها من الشعب الذي تركوه في فقر مدقع.
2- حروب أهلية بين مختلف المليشيات العرقية والدينية والطائفية والعشائرية، فالعراق الآن غابة من الأسلحة المنهوبة من الجيش العراقي المنحل.
3- إحتلال تركيا لشمال العراق بما فيه محافظة الموصل وكركوك بحجة حماية التركمان والسيطرة على منابع النفط وتسويقه والحفاظ على أمنها من إعلان دولة كردية مستقلة في كردستان العراق، لا سيما وهناك حديث عن مباحثات غير مؤكدة وراء الكواليس حول دمج كردستان العراق بكردستان تركيا وإعلان دولة فيدرالية كردية ملحقة بتركيا.
4- التدخل الإيراني واحتلال المناطق الشيعية في العراق بحجة حماية الشيعة والعتبات المقدسة.
هذه هي الصورة القاتمة فيما لو انسحبت قوات التحالف مبكراً، فأما عودة النظام الفاشي الذي هو أغلب الاحتمال ليقيم حكماً ضعيفاً لا يقوى على مواجهة الغزو الخارجي ولكنه قوي جداً لاضطهاد الشعب العراقي ومواصل عمله في توسيع المقابر الجماعية. وهذا يؤكد ما يردده البعض أن الشعب العراقي مازال غير صالح للديمقراطية ولا يفيده سوى حكم الإستبداد والقبضة الحديدية. أو حصول السيناريوهات الثلاثة الأخيرة مجتمعة وفي نفس الوقت. وبذلك يختفي العراق كدولة وسيتحول إلى أكبر حقل في العالم لتفريخ الإرهاب ومزرعة واسعة متخصصة لزرع وتسويق المخدرات. فهناك ارتباط عضوي بين الإرهاب ومافيا المخدرات في العالم. (راجع بحث السيدة حنان أتلاي، دوامة الارهاب، دولارات النفط، تجارة المخدرات ومستقبل العراق –مواقع الإنترنت).
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل ستسمح أمريكا، بحصول ذلك؟
نعم، لقد اصطدم الجميع بهول الانهيار الفكري والخراب الإقتصادي وتدمير النسيج الإجتماعي الذي خلقه النظام البعثي في العراق. فلم نتصور أن المجتمع قد انهار إلى هذا الحد وأن هناك نسبة عالية في المجتمع العراقي تعيش حالة البلبلة الفكرية المأساوية بحيث لا تقدر درجة المخاطر التي تهدد كيان الوطن ووجوده ويتخذون موقفاً معادياً من الذين عملوا لخلاصه من جور النظام البعثي. وهذا التخلف الفكري هو نتاج 40 عاماً من حكم القوميين والبعثيين وفرض أيديولوجية التجهيل ونشر الدجل والخرافة والشعوذة والقهر والاضطهاد والاستلاب. ومن الكوارث المؤلمة أنه حتى ضحايا صدام من الشيعة خاصة (تيار مقتدى الصدر نموذجاً) صاروا الآن عقبة كأداء أمام الاستقرار الأمني ونقل السلطة للعراقيين.
فما يسمى ب(المثلث السني) أعلن "المقاومة" ضد الوضع الجديد لأسباب معروفة وهي أن أغلب الذين اعتمد عليهم صدام حسين كانوا من هذه المنطقة، فقد حاز هؤلاء على معظم المناصب العالية في الدولة والمواقع الرفيعة في الحزب والمؤسسات القمعية ونهبوا ثروات البلاد والعباد، وهم الذين أقاموا المقابر الجماعية والسجون والمسالخ البشرية في الشمال والجنوب وساموا الشعب سوء العذاب. و قد خسر هؤلاء بالوضع الجديد مواقعهم وامتيازاتهم ويخافون أن ينالهم الجزاء العادل على ما ارتكبوه بحق الشعب من جرائم فضيعة. أما ضحايا صدام من الشيعة فانشغلوا في صراعات دموية في منافسات عقيمة على الزعامة لإقامة حكم ولاية الفقيه وجيش المهدي والمطالبة بتطبيق حكم الشريعة..الخ غير مبالين بما يتهدد مصيرهم ووجود العراق من دمار شامل.
كذلك دول الجوار التي كانت متضررة من حروب صدام وجرائمه، كان المتوقع أن ترحب بسقوطه، وتساعد على استتباب الأمن والإستقرار في العراق الجديد، إلا إنها بدلاً من ذلك، راحت هذه الدول تبعث فرق الموت لنشر الإرهاب في ربوع وطننا وقتل المدنيين وقادتنا الدينيين والسياسيين وتدمير مؤسساتنا الإقتصادية ومدارسنا ومعاهدنا التعليمية ولم يسلم من التخريب حتى عتباتنا المقدسة. فبعد كل هذا الدمار الذي لحق بالشعب العراقي وشعوب المنطقة من جراء حكم صدام، تراهم الآن يعرقلون مسيرة العراق لتحقيق الأمن والإستقرار والديمقراطية.
إن سلوك بعض العراقيين ضد مصالحهم وعدم إدراكهم للمخاطر المحيقة بهم ولمتطلبات الوضع الحاضر يدفع بالكثيرين من المخلصين إلى التشاؤم بمستقبل العراق وغسل أيديهم منه ويرون عدم الجدوى في المساهمة بأي نشاط فكري وسياسي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. ولهذا السبب، عمد كثيرون من المثقفين العراقيين إلى الانزواء والانكفاء على أنفسهم، بسبب هذا اليأس وما يتعرضون له من نهش وهجوم من قبل المتطرفين البلطجية. هذا الوضع يدفع بعزل المعتدلين الحريصين على مصلحة العراق ومستقبله وإخلاء الساحة للمتطرفين والمخربين وحدهم.
إن ما يثير المخاوف من انسحاب قوات التحالف هو تصاعد موجة الإرهاب في العراق على أيدي فلول النظام الساقط وأنصارهم من الإرهابيين من القاعدة والعرب الذين ثبت أن نصفهم من سوريا وحدها أو دخلوا العراق بجوازات سورية، إضافة إلى الدور الإيراني في دعم الإرهاب. وبتصاعد الإرهاب تصاعدت خسائر الحلفاء، ومن نافلة القول أن الشعب الأمريكي يولي اهتماماً بالغاً لحياة أبنائها من الجنود فكل حياة ثمينة لها قيمتها المطلقة في المجتمعات الديمقراطية بعكس ما كان يجري أيام حكم البعث الصدامي حيث كان صدام على استعداد أن يضحي بعشرة آلاف جندي عراقي من أجل قتل جندي أمريكي واحد. وهذه هي النسبة بين ضحايا الجيش العراقي إلى الجيش الأمريكي في حرب الخليج الثانية، وربما هي نفسها في الحرب الأخيرة.
ولهذه الأسباب يعتقد البعض أنه يمكن أن تتصاعد الضغوط على الرئيس جورج بوش، خاصة وهو يواجه الإنتخابات الرئاسية القادمة بعد عام من الآن، أن ينسحب من العراق قبل تحقيق الأهداف المرجوة من إسقاط النظام الفاشي وليكون من بعده الطوفان.
إلا إننا لو تأملنا جيداً ما يجري في العالم ككل، وحللنا الأوضاع الدولية، لرأينا إن ما يجري في العراق وأفغانستان ما هو إلا جزء من ستراتيجية واسعة وطويلة الأمد ومن متطلبات العولمة والسياسة الدولية للقضاء على الإرهاب في كل مكان أو حتى حصرها إلى الحد الأدنى بحيث يقضوا على مخاطره على السلام العالمي ومتطلبات العولمة. هذه السياسة ليست سياسة جورج بوش وحده بل هي نتيجة دراسات وخبرات جمهرة واسعة من المفكرين والمختصين الأمريكيين وغيرهم من أصحاب الشأن وما يسمى ب think tank لذلك فالسياسة الأمريكية وخاصة الخارجية لا تتغير بتغير الرئيس أو الحزب الحاكم كما يحصل في دول العالم الثالث وكما يتصور بعض الكتاب العرب والذين يحلمون بتحويل العراق إلى فيتنام. فالعراق ليس فيتنام كما يردد هؤلاء، فالظروف الدولية والقدرات العسكرية الأمريكية ليست كما كان في السبعينات. وكذلك الغاية مما يجري في العراق هي ليست نفسها من الحرب الفيتنامية وإمدادات بعض الدول المجاورة للإرهاب في العراق لا تضاهي الدعم الصيني والسوفيتي للحرب في فيتنام وكذلك الدعم المعنوي في العالم.
كما ويعتقد المحللون المقربون من دوائر صنع القرار في الغرب ومنهم كيسنغر، أن الإنسحاب الأمريكي من العراق يعتبر هزيمة ليس لأمريكا وحدها بل للغرب كله وللحضارة والسلام العالمي. وبالمناسبة، ليس هناك صراع بين الحضارات أو بين الصليبية والإسلام كما يروج الإرهابيون والمتخلفون العرب والمتطرفون الإسلاميون، بل الصراع هو بين الحضارة والهمجية، بين التقدم والتخلف، بين الإنسانية والبربرية. ولذلك فأن انسحاب أمريكا من العراق سيعد هزيمة لها وانتصاراً للإرهاب ونقل المعركة إلى الدول الغربية وخاصة في أمريكا نفسها كما حصل في 11 سبتمبر. وهذا ما لم تسمح أمريكا له أن يحصل مطلقاً.
لهذه الأسباب وغيرها كثير، لا يمكن لأمريكا أن تنسحب قبل تحقيق الأهداف المردوة من إسقاط نظام صدام حسين. نعم بالنسبة للعراقيين تكون العملية مؤلمة وربما يأخذ وقتاً أطول وعلى المدى القصير تسقط ضحايا وخسائر ولكن على المدى المتوسط والبعيد ستتحقق الآمال والأهداف المرجوة وستلحق الهزيمة بالإرهابيين وأعداء شعبنا وحلفائنا. وهذا هو قانون حركة التاريخ.
مرة أخرى أذكر، أننا خسرنا ثورتنا التموزية لنفس الأسباب التي نواجهها الآن، عدم نضج المجتمع العراقي والمراهقة السياسية التي تعاني منها القوى السياسية وعدم إدراكها للمخاطر والإستفادة من الظروف الدولية وتكالب دول الجوار والدول العربية على العراق. لكن هناك فرق واحد كبير بين المرحلتين من شأنه أن يغير جميع الموازين، ألا وهو أن أمريكا وبريطانيا كانت مصالحها ضد مصلحة الشعب العراقي آنذاك وتلتقي مع مصالح أعداء شعبنا، لذلك التقت قوى الشر في تحالف غير مقدس ضد شعبنا حتى انتصرت في انقلابها الأسود في 8 شباط 1963. أما الآن وبعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط المعسكر الإشتراكي وزوال الخطر الشيوعي ليحل محله خطر الإرهاب العربي والإسلامي، فمصالح أمريكا وبريطانيا التقت مع مصلحة شعبنا ولهذا السبب الأساسي، فأمريكا ستواصل دعمها للعراق إلى أن تتحقق الأهداف النبيلة. وهذا ما أكد عليه الرئيس بوش مراراً وتكراراً عندما قال: «ان الولايات المتحدة ستكمل عملها في العراق، وان ترك العراق قبل الأوان، سيشجع الارهابيين، وسيزيد الخطر على اميركا، واننا عازمون على البقاء، لنقاتل ولنفوز».