أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - حسقيل قوجمان - دفاع عن الماركسية في محنتها















المزيد.....



دفاع عن الماركسية في محنتها


حسقيل قوجمان

الحوار المتمدن-العدد: 645 - 2003 / 11 / 7 - 01:31
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


نقاش مع زكي خيري
تفضل زكي خيري مشكورا باهدائي نسخة من كراس كتبه اخيرا واعتقد ان من حقي ان اعتبر هذا الاهداء دعوة لي منه الى ان ابدي رأيي فيما احتواه. وقد استرشدت في كل ما كتبته بنصيحته القيمة حيث قال "كل ماركسي ملتزم مدعو اليوم للنضال دفاعا عن الماركسية ضد محاولات تصفيتها كنظرية مرشدة للعمل"(ص ١٩) وقوله "فالتمحيص والنقد يجب ان يتناول كل شيء بعد كل كارثة تأريخية ويجب الا يرحم احدا" (ص ٣٩)
كتب زكي خيري هذا الكراس بعنوان "وحدة المنهج والنظرية" ونشر في جريدة حزبية تصدر في السويد باسم "خبر". ويبدو ان زكي خيري استعجل نشر الكراس ولم ينتظر نشره في "الثقافة الجديدة" نظرا لقرب انعقاد المؤتمر الخامس للحزب الشيوعي واهمية الكراس بالنسبة لاحداث المؤتمر فضحى بالنوعية توخيا للسرعة فكانت طباعة الكراس رديئة الى درجة تصعب احيانا قراءتها. وبناء على طلبي ارسلت لي نسخة اكثر وضوحا معدة للنشر في الثقافة الجديدة.
ناقش هذا الكراس مقالة بعنوان "نظرية ماركسية ام منهج جدلي تأريخي؟" بقلم عطية مسوح نشرت في العدد المزدوج ٢٥١-٢٥٢ من الثقافة الجديدة الصادر في تشرين الثاني كانون الاول سنة ١٩٩٢. ويبدو ان مسوح قد توصل في مقاله الى عدم وجود نظرية ماركسية وان اعتقاد الشيوعيين بوجودها والتمسك بنصوصها كان سببا من اسباب ازمة الحركة الشيوعية العالمية.
ناقش زكي خيري في الحلفة الاولى من كراسه اراء مسوح فتتبع سير ارائه وفندها بنقاش فلسفي ونظري دافع فيه عن وجود النظرية الماركسية وضرورة وحدة النظرية والمنهج او ما كان يسمى وحدة النظرية والتطبيق. اي ما عبر عنه لينين في عبارته الشهيرة "لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية" ولنا عودة الى هذه المقولة.
وفي معرض الدفاع عن النظرية وحيويتها وضرورة وجودها اقتبس زكي خيري عبارة انجلز حول "ان نظريتنا ليست عقيدة جامدة بل توضيح لعملية التطور التي تنطوي على جملة من الاطوار المتلاحقة" (لا ذكر للمصدر) (ص ١١). واذا اسعفتني الذاكرة فان العبارة هي "ان نظريتنا ليست عقيدة جامدة بل دليل للعمل".
وليس هذا موضوع خلاف لان القولين صحيحان. ان مجرد اقتباس انجلز اصبح في ايامنا هذه صعبا يتطلب جرأة وشجاعة نظرا الى ان المقتبس قد يتعرض الى الاتهامات المعروفة مثل التمسك بالنصوص والجمود العقائدي والتخلف عن فهم التطورات الحديثة الخ.. ولكن مجرد اقتباس العبارة امر سهل لا يتطلب سوى تكرارها وينتهي الامر عند هذا الحد. ان تكرار عبارة انجلز شيء وفهمها شيء اخر.
فما معنى ان النظرية دليل للعمل او ان النظرية توضيح لعملية التطور؟
ان النظرية الماركسية، وهي النظرية التي يتحدث عنها انجلز، نظرية علمية دقيقة تستند الى المادية الديالكتيكية، اي قانون الحركة في المادة والمجتمع. ومفعول قانون الحركة في المجتمع هو المادية التأريخية.
وعلم الماركسية كغيره من العلوم يجب تعلمه قبل المقدرة على استخدامه وتطبيقه. قد يبدو هذا واضحا حين نتحدث عن العلوم الطبيعية مثل الطب والفيزياء والكيمياء وسائر العلوم. فكل انسان في عصرنا يعترف بان الطبيب قبل ان يكون طبيبا عليه ان يدرس الطب، وهو يقضي العديد من سني عمره منكبا على الدراسة النظرية والعملية الى ان يبرهن على انه اصبح مؤهلا لممارسة مهنته. فاذا ادعى شخص انه طبيب ومارس المهنة بدون ان يدرس العلوم الطبية اعتبرناه مشعوذا لا طبيبا.
ولكن الامر ليس واضحا لهذه الدرجة بالنسبة للماركسية. وقد تحدثت في كتابي "ثورة ١٤ تموز" عن مثل هذا الوضع لدى الكوادر الحزبية التي كانت في السجون. فقد تقاعس العديد من هذه الكوادر عن دراسة الماركسية باعتبارها علما لا يتقنه المرء بدون دراسة عميقة ولجأوا الى مفهوم السليقة الثورية للتستر على تقاعسهم هذا.
والواقع ان دراسة علم مثل الطب هو اسهل من دراسة علم الماركسية. وسبب ذلك يرجع الى ان  مختبر السياسة، وممارسة النظرية الماركسية هو اعلى انواع السياسة، يتألف من البشر، ويؤدي الخطأ فيه الى هلاك العديد من البشر عدا الاضرار المادية الاخرى. وتختلف الماركسية عن سائر العلوم كذلك بان طالب العلوم الاخرى عدا الماركسية يعكف على دراستها في الجامعات قبل ان يبدأ في ممارستها عمليا اما طلاب الماركسية فهم يمارسون العمل فيها قبل واثناء دراستهم لها اذ انهم يمارسونها تحت قيادة الحزب الذي ينتمون اليه ويدرسونها اثناء نضالهم. لذا فعلى طالب الماركسية ان يكون على علم بهذه الحقيقة وان يدرس الماركسية بعمق اكثر لتجنب الاخطاء الكبيرة التي تودي بحياة الناس.
بعد دراسة النظرية الماركسية وفهمها يتميز الطلاب عن بعضهم بمقدار ابداعهم في تطبيقها على الحياة. وكما يختلف الاطباء احدهم عن الاخر في الابداع في ممارسة العلم الذي درسوه معا، كذلك يختلف طلاب الماركسية احدهم عن الاخر رغم دراستهم لنفس النظرية الواحدة. ولكن شيئا واحدا واضح لا شك فيه هو ان المرء لا يمكن ان يكون ماركسيا من دون دراسة النظرية الماركسية. وكما ان من يدعي الطب ليس الا مشعوذا كذلك ان من يدعي الماركسية بدون دراستها ليس الا مشعوذا في الماركسية.
ولكن يبدو ان ذلك ليس معروفا او ليس واضحا لدى الكثير ممن يدعون ايمانا بالماركسية. فزكي خيري مثلا يسمي الاستاذ مسوح  ماركسيا او من داخل الماركسية اللينينية رغم انه يدحض وجود النظرية الماركسية ويشكك في وجود مصطلح اللينينية وكذلك يسمي اتولاسيس، الاقتصادي الذي كتب مؤلفه سنة ١٩٨٨، حين كانت الماركسية واللينينية والشيوعية والاشتراكية تلفظ انفاسها الاخيرة في الاتحاد السوفييتي، ملتزما بالماركسية اللينينية رغم ان الماركسية التي يلتزم بها اتولاسيس هي نفس الماركسية اللينينية التي التزم بها الخروشوفيون من خروشوف حتى غورباشوف، الماركسية اللينينية التي لم يكن لها سوى هدف القضاء على الاشتراكية والحركة الشيوعية والاتحاد السوفييتي والماركسية اللينينية الحقيقية. والانكى من ذلك كله ترى الثقافة الجديدة وهي مجلة حزبية من المفروض ان تكتب لقرائها وجهة نظر الحزب الشيوعي ولا تنشر سوى المقالات التي تعتبرها صحيحة جدا من وجهة نظر الحزب، واذا نشرت مقالا غير ماركسي او يخالف وجهة نظر الحزب فلا تنشره الا للرد عليه وتفنيده امام قرائها للزيادة من وعيهم، نراها تنشر مقال مسوح سنة ١٩٩٢ وتنشر مقال زكي خيري للرد عليه وتفنيده سنة ١٩٩٤ بدون ان تنور القارئ المسكين بالاراء التي تعتبرها صحيحة من وجهة نظر الحزب فتترك قراءها في حيرة من امرهم لا يعلمون ما يصدقون وما لا يصدقون. يبدو ان التطورات التي طرأت على العالم قد حتمت اعتبار كل من يتحدث عن الماركسية او يدعيها ماركسيا او داخل الماركسية او ملتزما بالماركسية اللينينية. ولكن المثل الشعبي العراقي يقول "مو كل من سخم وجهه صار حداد".
فما معنى ان الماركسية دليل للعمل؟
ان الماركسي الذي اتقن الماركسية كعلم يقوم عن طريق دراسة التناقضات السائدة في اللحظة التي يجد فيها نفسه في معمعان حركة المجتمع ويشخص اتجاهات الحركة في تلك اللحظة ويميز النقيض المتطور فيها عن النقيض السائر الى الزوال ويقوم بتوجيه النقيض المتطور الى الانتصار على نقيضه والتعجيل في زواله. وهذا ما قصده زكي خيري في اقتباس عبارة "العمل على تغيير العالم وليس الاكتفاء بفهمه وشرحه"(ص ٤)
بعد ثورة ١٤ تموز تحرر السجناء الشيوعيون من السجون والتحقت الكوادر القيادية منهم بقيادة الحزب الشيوعي. ولكن جهل اغلبيتهم للماركسية ادى الى خفض مستوى المقدرة القيادية للحزب بدلا من رفعها. وقد ظهر ذلك جليا في سياسة الحزب بعد الثورة.
لم تكن الماركسية اللينينية مثلا دليل عمل الحزب الذي اشترك زكي خيري في قيادته حين رفع شعاره الرئيسي، شعار صيانة الجمهورية، كشعاره الاستراتيجي الاساسي الذي يوجه كافة شعاراته التكتيكية، وحين اله عبد الكريم قاسم، وحين اجتر شعارات ما قبل ١٤ تموز للجبهة الوطنية وكأن الثورة لم تحدث اي تغيير في التركيب الطبقي للمجتمع العراقي مما يحتم اعادة النظر في هذه الشعارات الخ.. الخ..
ولم تكن الماركسية اللينينية دليل عمل الحزب الشيوعي الذي اشترك زكي خيري في قيادته حين قرر عقد جبهة مع السلطة الحاكمة حتى على حساب التخلي عن واجباته الاساسية كالعمل في نقابات العمال والجمعيات الفلاحية والقوات المسلحة واتحاد الطلبة و"تجميد" المنظمات التي انتخبته لقيادتها باعتباره اكثر الاحزاب حرصا على مصالحها واتهام صدام حسين ظلما باختيار الطريق اللاراسمالي صوب الاشتراكية وتبني الاشتراكية العلمية لتبرير عقد الجبهة معه رغم الاعتراف بكرهه للديمقراطية واضطهاده للشيوعيين واعدامهم بمختلف الحجج. ولم تكن الماركسية دليل عمل الحزب في تشخيص اتجاه الحركة وتوقع مصير مثل هذه الجبهة.
ترى هل تشكل الماركسية دليل عمل الحزب في الجبهة التي عقدها مع مقبلي وجنتي صدام حسين وفي اشتراكه في الحكم معهم حاليا في كردستان؟! وهل  تشكل الماركسية دليل عمل الحزب في توقعاته لمصير هذه الجبهة؟
وعلى النطاق العالمي لم تكن النظرية الماركسية دليل عمل الحزب الشيوعي الذي اشترك زكي خيري في قيادته في تشخيص حركة الاتحاد السوفييتي بعد وفاة ستالين فايد الخطوط السياسية لكافة القيادات التي توالت على رأس الحزب والدولة رغم ان اتجاهها كان واضحا هو اعادة الراسمالية الى الاتحاد السوفييتي. وقد تمادى في تأييدها ووصفها بالاشتراكية ذات الوجه الانساني واتهمها بالماركسية الخلاقة وتطوير الماركسية اللينينية والقضاء على الجمود العقائدي واصلاح اخطاء ستالين والقضاء على عبادة الشخصية وغير ذلك واستمر هذا التأييد حتى الدقيقة الاخيرة حين قام غورباشوف بطل البريسترويكا والغلاسنوست بالاستقالة من الحزب وحله ومصادرة املاكه واعتباره حزبا غير شرعي. وانذاك فقط ادرك الحزب الشيوعي العراقي ان الحركة الشيوعية العالمية تعاني من ازمة.
الدفاع عن اللينينية
يبدو ان مسوح بعد ان الغى النظرية الماركسية تحول الى اللينينية فشكك في وجود اللينينية واعتبر ثورة اكتوبر حدثا داخليا يصلح لان يكون تراثا للاطلاع ونسب كلمة اللينينية الى ستالين.
يتصدى زكي خيري لمسوح ويدافع عن اللينينية دفاعا شديدا بتبيان ما اضافه لينين الى الماركسية في النظرية والتطبيق. ومن جملة البراهين التي اوردها لاثبات وجود اللينينية جاء زكي خيري بالعبارة التالية:
"ان جميع الشيوعيين بمن فيهم الشيوعيون الاوروبيون كانوا يمجدون المعلمين الثلاثة: ماركس انجلز لينين على السواء وحسب التسلسل التأريخي وفي الصور الرمزية للمعلمين الثلاثة بريشة الرسامين الروس لم يتميز الا ماركس بسيمائه الاسدية واعظم تمجيد ناله لينين هو (ماركس زمانه)". (ص ٢٢)
لا اعتقد ان هذه العبارة تضيف كثيرا الى ما اورده زكي خيري للبرهنة على صحة مصطلح اللينينية. وكان بامكان زكي خيري ان يتحاشى ايراد هذه الفقرة. كما اعتقد انه ورط نفسه فيها. فزكي خيري يعلم حق العلم ان تمجيد معلمي البروليتاريا مر في مرحلتين. مرحلة ما قبل المؤتمر العشرين ومرحلة ما بعد المؤتمر العشرين. وان شيوعيي العالم اجمع بمن فيهم الشيوعيون العراقيون ومنهم زكي خيري نفسه كانوا في مرحلة ما قبل المؤتمر العشرين يمجدون المعلمين الاربعة ماركس – انجلز لينين سالين وان الصورة الرمزية التي رسمها الرسامون الروس كانت للمعلمين الاربعة ولم يحذف اسم ستالين وصورته الا بعد المؤتمر العشرين.
قد يعتبر زكي خيري ان موقفه وموقف شيوعيي العالم اجمع من ستالين قبل المؤتمر العشرين كان خاطئا. وهذا حق من حقوقه لا يجادله فيه احد كما انه هو وحده الذي يتحمل مسؤؤلية رأيه هذا. ولكن هل من حقه ان يزيف التاريخ لقرائه الشباب تملصا من خظئه؟ هل يجوز له ان يعلم الجيل الجديد ان تمجيد الشيوعيين للمعلمين كان دائما للثلاثة وان الصورة الرمزية كانت قد رسمت منذ البداية لثلاثة؟ لا اعتقد ان من حق زكي خيري ان يفعل هذا.
والموقف من ستالين نفسه مدعاة للنقاش. فمن المعروف ان زكي خيري بالذات كان حتى المؤتمر العشرين من مؤلهي ستالين. لم يكن يعتبر ستالين بشرا كسائر البشر وشيوعيا كسائر الشيوعيين معرضا للخطأ ولهذا تسري عليه قاعدة الانتقاد والانتقاد الذاتي، بل كان يعتبره معصوما لا يجوز لاحد ان ينتقده وكان يكيل التهم جزافا لمن يقول ان ستالين غير مستثنى من الانتقاد وان من حق كل انسان يرى في سلوك ستالين او ارائه خطأ ان ينتقده بصرف النظر عما اذا كان انتقاده صحيحا ام خاطئا لان الانتقاد في الحركة الشيوعية هو وسيلة للبناء ورفع مستوى المنتقد والمنتقد ومستوى الحزب كله على حد سواء.
هنا ايضا يكون من واجبنا نحن الذين عايشنا ستالين ان نثقف الجيل الجديد بالحقيقة لا ان نخفيها عن انظارهم. علينا ان نترك لهم حق التفكير وتقرير موقفهم بانفسهم كما تركوا لنا حق تقرير مواقفنا بانفسنا. ولكن من الجور ان نقدم لهم انفسنا وكأننا كنا دائما بنفس موقفنا الحالي من ستالين. فهل يليق بشيوعي مخضرم مثل زكي خيري ان يخفي هذه الحقيقة عن قرائه؟ لا اعتقد ذلك.
لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية
منذ تاسيس الحزب الشيوعي البلشفي كانت حياة الحزب بقيادة لينين وستالين برهانا ساطعا متواصلا لمقولة لينين "لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية". فقد نما الحزب خلال صراع عنيف داخل الحزب وخارجه ضد اي اتجاه انتهازي او تحريفي للنظرية الثورية، الماركسية، بالتطويرات التي اضافها لينين حسب ظروف النضال وظروف الحركة والتي استحقت اصطلاح اللينينية. وقد برز هذا بأجلى صوره في فترة الاعداد لثورة اكتوبر التي بدأت منذ ان كان لينين في سويسرا فكتبها في رسائل من بعيد وحتى لحظة الثورة. برهنت هذه المقولة نفسها في اللحظات الثورية وفي الانتكاسات وخصوصا في فترة الردة الستوليبينية التي يشرحها زكي خيري خير شرح خلال دفاعه عن مصطلح اللينينية. والصراع ضد كافة الاتجاهات الغريبة عن الماركسية والانتهازية وحتى الخيانية داخل الحزب وخارجه معروفة لكل مطلع على شيء من هذا التأريخ العريق.
وبرهنت المقولة نفسها في أمجد ثورة عرفها تأريخ البشرية حتى اليوم، ثورة اكتوبر ١٩١٧. وبرهنت نفسها في حرب التدخل وفترة سياسة النيب وفترة بناء الاشتراكية وفي الدفاع عن وطن الاشتراكية ضد جحافل النازية وفترة اعادة البناء بعد الحرب.
انجزت شعوب الاتحاد السوفييتي في هذه الفترة القصيرة من التأريخ معجزات اذهلت العالم الامبريالي وادخلت الرعب في قلوب اقطابه وبعثت الامل في نفوس البروليتاريا العالمية وشعوب المستعمرات والبلدان التابعة فاصبح الاتحاد السوفييتي منارها الهادي وطريق مستقبلها المنير.
انجزت شعوب الاتحاد السوفييتي تحت قيادة الحزب الشيوعي وعلى رأسه ستالين، اللينيني العبقري، معجزة الانسانية الكبرى، اول مجتمع اشتراكي في تأريخ البشرية، في اقل من عشرين عاما، بكل ما يتطلبه ذلك من القضاء على جميع انواع الاستغلال الطبقي والقضاء على الانتاج الراسمالي اقتصاديا وجتمعة الانتاج والبرمجة المركزية والقضاء على الزراعة الفردية والكولاكية وتحقيق الانتاج التعاوني في الزراعة وتحويل الاتحاد السوفييتي من دولة زراعية بأوطأ اشكال الانتاج الزراعي الى دولة صناعية كبرى. اي انها حققت ما حققته المجتمعات الراسمالية الكبرى من تقدم صناعي وزراعي في قرون وتجاوزته في فترة عقدين من الزمن.
وحققت شعوب الاتحاد السوفييتي لاول مرة في تأريخ البشرية تآخي شعوبها والقضاء على شوفينية القومية العظمى واضطهاد القوميات والاقليات القومية. وقضت على شوفينية القوميات الصغرى والاقليات القومية التي كانت رد فعل لاضطهاد القومية العظمى بتطبيق مبدأ حرية تقرير المصير وتحرير القوميات ورفع مستوى القوميات التي كانت تعيش في ظروف غاية في التاخر ابتداءا من وضع لغاتها المكتوبة لاول مرة.
وقد كان من نبيجة تقدم الاتحاد السوفييتي الصناعي وبناء المجتمع الاشتراكي وتحرير القوميات المعجزة التي حققتها هذه الشعوب في صد اعظم ماكنة حربية في تأريخ البشرية حتى ذلك الحين، جحافل النازية التي استولت على اوروبا كلها عدا انجلترا ودفعت بها في الهجوم على الاتحاد السوفييتي. أتذكر حتى اليوم الخطاب الذي القاه تشرتشل اثر الهجوم النازي على الاتحاد السوفييتي الذي قال فيه "اذا صمد الاتحاد السوفييتي في وجه النازيين ثلاثة اسابيع فان هذا سيمنحنا فترة للتنفيس" (الاقتباس من الذاكرة). ولكن الاتحاد السوفييتي تحت قيادة ستالين لم يصمد في وجه الجحافل الهتلرية وحسب بل دمرها وانقذ العالم كله من العبودية النازية.
وحققت شعوب الاتحاد السوفييتي بعد الحرب اعادة بناء ما دمرته الحرب بسرعة منقطعة النظير بدون ان تحتاج الى الاستعانة بالولايات المتحدة التي استعبدت اوروبا بحجة مساعدتها على اعادة البناء.
كان حماس شعوب الاتحاد السوفييتي المتآخية مثلا رائعا لما يمكن ان تحققه الشعوب في ظل الاشتراكية وبقيادة حزب يهتدي بالنظرية الثورية، الماركسية اللينينية، كالحزب البلشفي. لم يستطع حتى الد اعداء الشيوعية والاشتراكية واللينينية مثل غورباشوف انكار ذلك اذ طلب من شعوب الاتحاد السوفييتي ان تبدي نفس الحماس الذي ابدته في الثلاثينات وفي الحرب ضد النازية وفي فترة اعادة البناء بعد الحرب تجاه بريسترويكاه التي كانت المسمار الاخير في نعش الاشتراكية واللينينية والحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي ذاته.
ولا ينكر زكي خيري في كراسه كل هذه الامور، اذ يشير الى ان من ميزات الاشتراكية انها قضت على الاستغلال ويمجد موقف شعوب الاتحاد السوفييتي في الحرب ضد النازية ويشير الى التخطيط المركزي كميزة من ميزات الاشتراكية. ولكنه يعرض هذه التطورات اما عن لسانه هو او بالاقتباس من كاتب سوفييتي (اتولاسيس) يقدمه زكي خيري لقرائه بانه يلتزم بالماركسية اللينينية، بصورة مضحكة.
يعتقد زكي خيري ان اهم مبدأ لينيني يميز الاشتراكية عن الراسمالية هو ادراك العامل انه يعمل لنفسه وان هذا الادراك يجب ان يلمسه العامل لمس اليد اي ان تكون للعامل مصلحة في نجاح المشروع الذي يعمل فيه وان لينين صاغ هذا المبدأ في السياسة الاقتصادية الجديدة (النيب) سنة ١٩٢٢ بما اسماه زكي خيري بالحساب الاقتصادي واعتبر ان هذا المبدأ كان قد اهمل حين تحول الحزب بقيادة ستالين من سياسة النيب الى سياسة القضاء على الرجوازية كطبقة واقتبس من الكاتب السوفييتي زعمه بان التخلي عن سياسة السنديكات كان يعني العودة الى الوراء الى عام ١٩١٩ وحتى عام ١٩١٧. واستنتج زكي خيري او صاحبه السوفييتي ان الحماس الثوري الذي ابدته شعوب الاتحاد السوفييتي في البرامج الخمسية وفي الدفاع عن الوطن الاشتراكي ضد جحافل النازية وفي فترة اعادة البناء كان استمرارا للحماس الثوري الذي نشأ عن ثورة اكتوبر "وبعد ان انجز ذلك اخذ معين الحماسة الثورية الجماهيرية بالنضوب". ومن قبيل الصدف فقط جاء هذا النضوب متزامنا مع وفاة ستالين وبلوغ زمرة خروشوف الى الحكم.
سيجري بحث هذا الموضوع بالتفصيل مع الاقتباسات المناسبة في المكان المناسب. نقتصر هنا البحث على مقولة لينين المذكورة اعلاه.
يعتبر زكي خيري وصاحبه الاقتصادي السوفييتي ان اهمال سياسة النيب كان تخليا عن المبدأ اللينيني الاساسي لبناء الاشتراكية وان ذلك كان رجعة الى سنة ١٩١٧. ومعنى هذا ان الحزب بقيادة ستالين قد تخلى عن الماركسية اللينينية كدليل لعمله التالي منذ ١٩٢٨ وحتى وفاة ستالين وجل ما حدث ان الجماهير كانت متحمسة لا لما يجري في المجتمع السوفييتي بل نتيجة القصور الذاتي والاستمرارية في الحماس الثوري الذي ابدته الجماهير في ثورة اكتوبر. الكل واضح وجميل. اليس كذلك؟ ولكن هذا يعني ان الجماهير كانت تعاني من الحماس الثوري وتنجز المعجزات سواء في انجاز البرامج الخمسية المتتالية وفي الحرب واعادة البناء في الوقت الذي تخلت قبادتها (الحزب الشيوعي بقيادة ستالين) عن النظرية الثورية. وبعبارة اخرى كانت هناك حركة ثورية بدون نظرية ثورية. كيف حدث ذلك يا ترى؟ هل كانت تلك الانجازات الهائلة حركة غير ثورية؟ ان زكي خيري يذكر خلاف ذلك اذ يسمي حماس الجماهير حماسة ثورية ولكنها ناتجة عن استمرار عفوي لحماسة ثورة اكتوبر. هل كانت النظرية الهادية للحزب الشيوعي بقيادة ستالين نظرية ثورية؟ ان زكي خيري يصرح ويستعين بتصريحات صاحبه السوفييتي بان الحزب قد تخلى عن المبدأ الاساسي الذي وضعه لينين لبناء الاشتراكية. فلم يبق امامنا الا استنتاج واحد هو ان مقولة لينين ليست صحيحة او غير قابلة للتطبيق وان بالامكان وجود حركة ثورية بدون نظرية ثورية.
رأينا اعلاه ان وجود النظرية الثورية والتمسك بها وعدم الانحراف عنها كان ضمانا لنمو الحركة الثورية وازدهارها سواء في الهجوم، في الانتصارات، ام في التراجع، في الانتكاسات. ولكن هذا لا يشكل الا نصف البرهان على صحة مقولة لينين. ان وجود النظرية قد برهن على انه ضمان لهذه النتائج. ولكن البرهان على صحة مقولة لينين يجب ان يثبت العكس ايضا. علينا ان نثبت ان عدم وجود النظرية الثورية يحتم تفكك وتدهور الحركة الثورية. اننا الان موجودون في ظروف عالمية زاخرة بالامثلة على مثل هذه الاثباتات سواء في اوروبا ام في اسيا ام في جميع ارجاء العالم بما فيه العراق. ولكننا نأخذ اسطع مثل على ذلك فقط، مثل الاتحاد السوفييتي، المثل الذي غير صورة العالم كله.
في يوم وفاة ستالين وجثمانه ما يزال مسجى والشعوب السوفييتية برمتها تبكي فقد قائدها العظيم الذي قادها في احسن واحلك الايام اجتمعت اللجنة المركزية لا لكي تتدارس الخسارة الكبرى التي احاقت بالاتحاد السوفييتي والعالم كله من جراء وفاة هذا المعلم الكبير، بل لاجراء تغييرات هائلة في تركيب الحكومة السوفييتية نشرت في البرافدا في اليوم التالي وكانت الخطوة الاولى في الطريق الذي اختطته القيادة الجديدة، طريق سلوك الطريق اللااشتراكي صوب الراسمالية، طريق اعادة الراسمالية الى الدولة الاشتراكية السائرة نحو الشيوعية وبيع شعوب الاتحاد السوفييتي لقمة سائغة للامبرياليين لقاء فتاة موائدهم. ظهر ذلك واضحا في المؤتمر العشرين والهجوم على ستالين وما تلاه من مؤتمرات وكان المصير الذي آل اليه الاتحاد السوفييتي نتيجة لهذه السياسة برهانا على ان انعدام النظرية الثورية يؤدي حتما الى انهيار الحركة الثورية.
سياسة الخروشوفيين
استلمت زمرة خروشوف بريجنيف دولة اشتراكية سائرة قدما نحو الشيوعية. انهم لم ينكروا ذلك بل تبجحوا به ووعدوا في احد مؤتمراتهم بانهم سيحققون المجتمع الشيوعي الكامل سنة ١٩٨٠، على ما في ذلك من سخف وجهل لمتطلبات الانتقال الى المجتمع الشيوعي. كان من الطبيعي جدا ان يتخذ هؤلاء القادة التحريفيون الخطوات التكتيكية اللازمة لتحقيق هدفهم الاستراتيجي، اعادة الراسمالية الى الاتحاد السوفييتي. بدأوا بتفكيك العلاقات الجماعية في المزارع التعاونية وبيع المكائن الزراعية لها مما حول هذه المكائن الى سلع وملكية خاصة للمزارع التعاونية وبذلك وسعوا نطاق عمل قانون القيمة ، وهو ما حذر منه ستالين في كل كتاباته وخصوصا في اخر كراس كتبه حول مسائل الاشتراكية الاقتصادية. وفي المدينة بدأوا بتحويل الصناعة تحت شتى الحجج الى مشاريع برجوازية مقنعة بشعارات طنانة مثل الادارة الذاتية وخلق المنافسة في الانتاج وتحسين النوعية وخلق الحوافز لدى العمال ومنحهم الشعور بانهم المالكون الحقيقيون لهذه المشاريع والحساب التجاري واقتصاد السوق وهو مرادف من مرادفات الاقتصاد الراسمالي وغير ذلك مما لا يمكن حصره في مثل هذا المقال الضيق.
ظهرت سياسة التحريفيين الخروشوفيين الى العالم لاول مرة بصورتها العلنية الواضحة في المؤتمر العشرين سنة ١٩٥٦. ففي هذا المؤتمر انكرت هذه الزمرة كثيرا من اسس النظرية الماركسية اللينينية المعروفة حتى ذلك الحين. فاعادوا رفع شعار الاممية الثانية بالتحول السلمي الى الاشتراكية واعلنوا ان الثورات لم تعد ضرورية لتحقيق النظام الاشتراكي وجاؤوا بمفاهيم المنافسة السلمية بين الانظمة المختلفة والتعايش السلمي الذي صوروه وكأنه اكتشافهم ولم يكن في الواقع سوى قلب سياسة التعايش السلمي الستالينية رأسا على عقب. وجاء خطاب خروشوف السري (العلني على نطاق العالم) ضد ستالين الذي جمع كل الاتهامات التي اختلقتها الامبريالية ضد ستالين منذ توليه قيادة الحزب البلشفي بعد لينين وحتى الحرب العالمية الثانية واضافوا اليها مختلقات اخرى من عندهم فجعلوا من ستالين انسانا جاهلا جبانا خائنا للماركسية اللينينية وسفاكا مصاصا للدماء وانكروا عليه حتى قيادة شعوب الاتحاد السوفييتي في الحرب ضد النازية وهو ما لم يستطع انكاره عليه حتى شيوخ الامبريالية مثل تشرتشل.
وفي النواحي السياسية والنظرية انكرت هذه الزمرة التحريفية نظرية لينين وستالين حول استمرار الصراع الطبقي ضد بقايا البرجوازية طوال فترة الانتقال من الاشتراكية الى الشيوعية فزعموا انه لم يعد في الاتحاد السوفييتي الذي بلغ ما اسموه بالاشتراكية العليا من يعادي الاشتراكية وانه لم تعد ثمة ضرورة للصراع الطبقي بل تمادوا في ذلك فزعموا ان هذا الوضع كان قد تحقق منذ اعلان الدستور الاشتراكي سنة ١٩٣٦ وان ستالين كان مخطئا ومغاليا في استمرار الصراع الطبقي. وعلى هذا الاساس اعلن المؤمر الثاني والعشرون الغاء دكتاتورية البروليتاريا والغاء حزب الطبقة العاملة واعلن عن الدولة السوفييتية بانها دولة كل الشعب والحزب الشيوعي حزب الشعب كله. ولطخ اسم دكتاتورية البروليتاريا باعتبارها دكتاتورية فقط (لا ديمقراطية فيها) رغم ان لينين وصف دكتاتورية البروليتاريا بانها اكثر ديمقراطية مليون مرة من اعرق الدول الراسمالية ديمقراطية. ورفعوا شعار الديمقراطية المجرد الذي لا يعني في محتواه سوى الديمقراطية البرجوازية. فكان من نتائج كل ذلك تحول الدولة السوفييتية من دولة اشتراكية الى دولة برجوازية امبريالية مقنعة بشعارات ثورية في الظاهر وتحريفية في الواقع لخدع شعوب الاتحاد السوفييتي وشعوب العالم ولتغطية اجراءات اعادة الراسمالية الى الاتحاد السوفييتي.
اختلفت مهمة اعادة الراسمالية في الاتحاد السوفييتي عن مهمة نشوء البرجوازية في ثوراتها. فقد استولت البرجوازيات المختلفة على الحكم عن طريق الثورات البرجوازية ضد الحكم الاقطاعي فكانت ثوراتها ثورية وتقدمية لانها حررت اغلبية شعوبها من القنانة والاقطاع وكانت، حسب التعبير الماركسي، قد حققت الانسجام بين قوى الانتاج وعلاقات الانتاج مما ادى الى تقدم هذه المجتمعات في ظل البرجوازية تقدما سريعا.
اما اعادة الراسمالية في الاتحاد السوفييتي الاشتراكي فقد اختلفتت عن ذلك كل الاختلاف. انها ثورة ردة تهدف الى ارجاع التأريخ الى عهد سابق كانت شعوب الاتحاد السوفييتي قد قضت عليه في ثورة اكتوبر وما تلاها من بناء المجتمع الاشتراكي. كان على هؤلاء السياسيين لا ان يخلقوا علاقات انتاج راسمالية بدلا من علاقات الانتاج الاشتراكية وحسب بل كان عليهم كذلك ان يعيدوا قوى الانتاج الى ما كانت عليه قبل ثورة اكتوبر الاشتراكية. فالبرجوازية تعيش على استغلال الطبقات الكادحة ولم يكن بامكانها ان تفعل ذلك في الاتحاد السوفييتي سنة ١٩٥٣. كان العمال وسائر ابناء شعوب الاتحاد السوفييتي يملكون كل شيء. فلهم السلطة ولهم حقوق لم يعرف مثيلا لها اي شعب من شعوب العالم فكانت مهمة الخروشوفيين ان يستلبوا هذه الحقوق كلها لغرض حرمان هذه الشعوب من الحقوق التي كانت تتمتع بها وخلق طبقة عاملة وكادحين لا يملكون سوى قوة عملهم. وقد استغرق سلب الحقوق هذا، الحقوق التي اكتسبتها شعوب الاتحاد السوفييتي في اقل من عقدين، اربعين عاما من التدمير المستمر لكل منجزات الاشتراكية. فكان تجويع هذه الشعوب وخلق الفتنة فيما بينها واعادة كيان الحركات الدينية الرجعية المتطرفة وخلق الحركات القومية وسياسة الترويس والاستعانة برؤوس الاموال الاجنبية الامبريالية والتعاون مع اكثر الامبرياليين عداء للشيوعية والاشتراكية من مستلزمات سياسة اعادة الراسمالية الى الاتحاد السوفييتي.
جرى كل ذلك تحت شعارات ثورية مزيفة ومظاهر اشتراكية كاذبة وخداع للشعوب بالنظريات الزائفة بحجة التطوير الخلاق للماركسية والقضاء على عبادة الشخصية والجمود العقائدي وتحويل الاقتصاد غير المربح الى اقتصاد مربح والتحول الى اقتصاد السوق وما اقتصاد السوق سوى مرادف من مرادفات السوق الراسمالي واعتماد الحساب التجاري وخلق  المنافسة بين المشاريع واستقلال المشاريع واعطاء الحافز للعامل لجعله يلمس الربح لمس اليد ليشعر بذلك انه يعمل لنفسه وهو ما اعتبره زكي خيري الاساس اللينيني الذي وضعه لينين لبناء الاشتراكية.
كان من الطبيعي ان تؤدي الاجراءات التي اتخذها الخروشوفيون باتجاه اعادة الراسمالية الى نشوء ظواهر سلبية داخل المجتمع الاشتراكي السائر في طريق العودة الى الراسمالية. بينما كان المجتمع السوفييتي يتوقع من السلطة السوفييتية ما كان يشعر به في سنوات ما بعد الحرب اثناء اعادة البناء من ارتفاع اجور العاملين وهبوط اسعار السلع الاستهلاكية وانتفاء البطالة وعدم وجود الازمات وزيادة حقوق الانسان السوفييتي في المعالجة الطبية ورعاية الامومة واسعاد حياة الطفولة وتوسيع فرص الثقافة وتطوير سبل الصيانة، ظهرت ظواهر اخرى معاكسة مثل السوق السوداء وتضخم الاسعار وازدياد البطالة والدعارة والتضخم النقدي وشوفينية الدولة القومية الكبرى وسياسة الترويس ونشوء شوفينيات القوميات الصغرى وغيرها.
وكان من الطبيعي ان تبدي شعوب الاتحاد السوفييتي مقاومة لهذه الظواهر التي لم تألفها رغم قرب خروجها من دمار الحرب العالمية والهجوم الهتلري. فكان منهم من قاوم مقاومة ايجابية فابدى رايه في نظام الحكم الجديد فكان مصيرهم الفصل من الحزب بصورة جماعية ، اذ فصلت منظمات حزبية بكاملها لمجرد مطالبتها بانتقاد ستالين انتقادا علميا وفتحت ابواب السجون وشاعت الابادات الجسدية وارسل المفكرون الى مستشفيات المجانين. وكان منفذو هذه الاعمال البشعة يحمون انفسهم بالادعاء بان هذه الاعمال كانت من جرائم ستالين. وفي مقابل ذلك اعيد اعتبار كل المجرمين الذبن حاكمتهم محاكم الدولة وادانتهم واصدرت احكامها بحقهم على الخيانة العظمى والقتل والتخريب ومحاولة اعادة الراسمالية الى الاتحاد السوفييتي وهو ما اعترف به كل هؤلاء الخونة باعتبارهم من ضحايا ستالين بدون اعادة النظر في محاكماتهم وفحص ما اذا كانوا مجرمين حقا ام لا وقبلوا من بقي منهم على قيد الحياة في صفوف الحزب لمضاعفة العناصر الحاقدة على الشيوعية والماركسية اللينينية والاشتراكية داخل الحزب.
وكان منهم من ابدى مقاومة سلبية، وهو ما سماه زكي خيري بنضوب الحماسة الثورية فظهرت اللاابالية والتقاعس ومعاقرة الخمور والجرائم والتفسخ الخلقي والدعارة وغير ذلك بعد الحماس الذي ابدته جميع شعوب الاتحاد السوفييتي ابان بناء الاشتراكية والدفاع عنها ضد الهجوم النازي واثناء اعادة بناء ما دمرته الحرب.
وطبيعي ايضا ان قيادة الحزب كانت تلقي تبعة هذه المظاهر السلبية في المجتمع السوفييتي على عاتق ستالين وتزعم ان اجراءاتها الجديدة هي الكفيلة باصلاح ما دمره ستالين. ولكن الوضع، كما يعلم الان كل انسان، ازداد تدهورا يوما بعد يوم خلال ما اسماه قادة الاتحاد السوفييتي وقادة الاحزاب الشيوعية وقادة الامبريالية العالمية بالاصلاح الاقتصادي والعودة الى اقتصاد السوق الى ان وصل ذروته بزوال الاتحاد السوفييتي وتحوله الى دويلات راسمالية معادية للشيوعية والماركسية واللينينية وماركس وانجلز ولينين وستالين وهو ما كانت هذه القيادات المتتالية تنكره الى يوم استقالة غورباشوف من قيادة الحزب وتحريم الحزب ومصادرة املاكه رغم انه في الواقع كان حزبا بعيدا عن الشيوعية والماركسية اللينينية بعد الاشتراكية عن الامبريالية.
الحركة الشيوعية العالمية بعد المؤتمر العشرين
كثيرا ما يجري الحديث عن وحدة الحركة الشيوعية. فما هي هذه الوحدة وكيف تتحقق وما هو اساسها؟ هذه اسئلة لا تجد لها اجوبة في ادبيات الاحزاب الشيوعية في العقود الاخيرة.
ماذا تعني وحدة الحركة الشيوعية؟ ان وحدة الحركة الشيوعية هي كوحدة الحزب الشيوعي اللينيني وحدة تبنى، ولا يمكن ان تبنى الا، على تبني الماركسية اللنينينة كنظرية هادية ودليل للعمل. ذكر زكي خيري في كراسه ان الماركسية ليست نظرية لتفسير العالم وحسب بل نظرية تغييره ايضا. وليس توقع المستقبل نوع من التنجيم بل هو دراسة لتناقضات الوضع الحاضر والصراع بينها والتوصل الى اتجاه سير المجتمع نتيجة لهذا الصراع. وبما ان لكل وضع معين، في لحظة معينة، اتجاه واحد صحيح فان الماركسيين الحقيقيين يتوصلون جميعا الى تحديد نفس هذا الاتجاه في تلك اللحظة المعينة. ومن هذا فقط تنشأ وحدتهم. وحين نقول ان ماركسيا ارتكب خطأ فمعنى هذا ان الماركسي اخطأ في تحديد الاتجاه الصحيح في تلك اللحظة المعينة وان تصحيح الخطأ يستند الى الاعتراف به فور الشعور به بصراحة وبدون لف ودوران وتبيان الاسباب التي ادت الى الخطأ وكيفية تصحيحه.
تحققت وحدة الحركة الشيوعية العالمية لدى تشكيل الاممية الثالثة بقيادة لينين ثم ستالين وديمتروف. وكانت الاممية الثالثة عبارة عن اداة موجهة ومثقفة للاحزاب الشيوعية الفتية المنتمية اليها. وكانت هذه الاحزاب قد تشكلت بعد خيانة وافلاس الاممية الثانية للماركسية وانحياز كل حزب اشتراكي ديمقراطي الى دولته البرجوازية في الحرب العالمية الاولى.
دعت الضرورة الى وجود منظمة توجيهية لاحزاب الاممية الثالثة لحداثة عهد هذه الاحزاب. فقد كانت هذه الاحزاب في اول تكونها قليلة الخبرة في النضال الثوري وكان على القيادات المتمرسة ان تساعد هذه الاحزاب الفتية النامية على اتقان النظرية وتطبيقها في النضال الثوري حسب الظروف التي تمر بها بلدانها.
فوحدة الحركة الشيوعية تكونت اذن، ليس تحت سيف ستالين المسلط على رقابها، بل على اساس وحدة النظرية الماركسية وايمان هذه الاحزاب بها. ان الارهاب والتعسف والتهديد لا يمكن ان تحقق وحدة الراي ووحدة الحزب او حتى وحدة منظمة تضم عددا قليلا من الافراد. فوحدة الراي لا تتحقق حتى في منظمات المافيا المعروفة بتسلط قادتها الدموي على اعضائها. فكيف كان بامكان لينين او ستالين ان يحقق وحدة الحركة الشيوعية العالمية التي تضم الملايين لا في بلادهم وحسب بل في العالم اجمع عن طريق الارهاب والتعسف؟ ان وحدة الحركة الشيوعية التي عشناها نحن في الاربعينات وبداية الخمسينات لم تفرض علينا من اعلى بل شعرنا بها ووعيناها وامنا بها عن قناعة واخلاص ولذا كنا على استعداد لتقديم اغلى التضحيات في سبيلها.
كان المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي سنة ١٩٥٦ الضربة العلنية الكبرى لوحدة الحركة الشيوعية العالمية. وكان اساس هذه الضربة الحقيقي هو تخلي هذا الحزب بقيادة الخروشوفيين عن الماركسية اللينينية باعتبارها المبدأ الموجه لكافة الشيوعيين في العالم. كانت الشعارات الانتهازية التحريفية التي اثارها خروشوف في هذا المؤتمر، شعارات الاممية الثانية التي نبشها من القبور، مثل شعار التحول السلمي الى الاشتراكية ونزع السلاح على نطاق عالمي بوجود الامبريالية وغير ذلك من الشعارات التي رافقت هذا الشعار، الاعلان الصريح عن التخلي عن الماركسية اللينينية رغم كل التبحات عن تطويرها والتخلص من الجمود العقائدي. وكان خطاب خروشوف السري الذي انتشر بعد يوم واحد في جميع ارجاء العالم، الضربة الثانية الكبرى لوحدة الحركة الشيوعية. ومنذ ذلك اليوم لم تبق في العالم وحدة حقيقية للحركة الشيوعية العالمية.
بعد المؤتمر العشرين حدثت البلبلة الكبرى في داخل االحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي وسائر الاحزاب الشيوعية العالمية. وانق سمت احزاب العالم الى فئتين، فئة عارضت سياسة خروشوشف وفضحت تخليه عن الماركسية اللنينية وفئة سارت في اتجاه خروشوف واعتبرت المؤتمر العشرين منارا هاديا في السياسة الشيوعية المتحررة من قيود الحركة الشيوعية السابقة.
جرى الحديث بعد المؤتمر العشرين كثيرا عن تحقيق وحدة الحركة الشيوعية ولكنه كان ثرثرة لا اساس لها لان الاساس، النظرية الماركسية، التي كانت الاداة الوحيدة لتحقيق الوحدة، لم تعد النظرية الموجهة الهادية لجميع الاحزاب الشيوعية في العالم وفي مقدمتها الحزب الكبير الحائز على السلطة، الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي.
ولكن خروشوف ومن تبعه حاولوا تحقيق نوع من الوحدة الظاهرية للحركة الشيوعية فاستخدموا العديد من الوسائل لتحقيق ذلك. واستطاعوا ان يجروا وراءهم اغلب الاحزاب الشيوعية والعمالية في العالم عن طريق التهديد والوعيد والرشوة والمؤامرات وابعاد القادة المتعنتين المعارضين وحتى اغتيالهم وعن طريق اعطاء الامتيازات والتضليل وغير ذلك من السبل التي لا تمت الى السبل الشيوعية بصلة. فجعلوا الاحزاب الشيوعية ابواقا لسياساتهم التخريبية وادوات لتحطيم الحركة الشيوعية واخماد نضالات الطبقة العاملة والكادحين الثورية في مختلف بلدان العالم. لم يكن بين هذه الاحزاب من يجرأ على مخالفة سياسات الاتحاد السوفييتي او فضحها او معارضتها لان اية اشارة تدل على ذلك تؤدي حتما الى ازاحة القائد الجريء او الى ايقاف الامتيازات وقطع الموارد المالية السخية التي يقدمها الى الاحزاب الموالية الخنوعة.
كان الحزب الشيوعي العراقي الذي اشترك زكي خيري اشتراكا فعالا في قيادته منذ يوم خروجه من السجن بعد ثورة ١٤ تموز وحتى المؤتمر الخامس المنعقد اخيرا، احد هذه الاحزاب التي سارت في ركاب السياسة الخروشوفية الهادفة الى اعادة الراسمالية والقضاء على الاشتراكية وتحطيم الحركة الشيوعية واخماد كافة الحركات الثورية في العالم. واصل الحزب الشيوعي العراقي تعظيمه وتفخيمه للاتحاد السوفييتي باعتباره قلعة الاشتراكية وحصن السلام وصديق الشعوب وغير ذلك من الصفات التي حاز عليها الاتحاد السوفييتي عن جدارة واستحقاق حين كان يسلك طريق التطور الاشتراكي والسير بخطوات ثابتة وطيدة نحو تحقيق المجتمع الشيوعي. لم يستطع الحزب الشيوعي العراقي ان يبدي ولو اشارة خفيفة الى تبدل سياسة الاتحاد السوفييتي بل تمادى في سياسته الى درجة انه ايد تحالف الاتحاد السوفييتي مع عراق صدام والمساعدات والاسلحة التي جهزه بها على اعتبار ان صداقة الخروشوفيين مع صدام هي صداقة بين الشعبين.
وطبيعي كان زكي خيري، باعتباره من ابرز قادة الحزب الشيوعي طيلة هذه الفترة، احد هؤلاء القادة الذين ثقفوا، جهلا او بشكل مقصود، والنتيجة واحدة، بعظمة الاتحاد السوفييتي وبصداقته للشعوب وصيانته للسلام وغير ذلك. اذكر مثالا واحدا على ذلك. في كراس كتبه زكي خيري في اواخر حرب قادسية صدام الاولى، الحرب العراقية الايرانية، وكرسه لموضوع الدفاع عن الوطن، اراد زكي خيري ان يثبت ان الحرب قد تحولت من حرب عدوانية من جانب صدام، الى حرب وطنية للدفاع عن الوطن. وقد صور الجيش العراقي في ذلك الحين بانه جيش وطني، يغلي في داخله الحماس المعادي لصدام والتعطش للثورة عليه ولا يمنعه عن ذلك سوى مهمة الدفاع عن الوطن. فاورد زكي خيري من بين البراهين التي تثبت نظريته ان الاتحاد السوفييتي، بعد ان انقطع فترة عن تزويد صدام باسلحة تبيد الشعبين الايراني والعراقي في الحرب التي دامت سنوات عديدة، عاد فقرر تزويد صدام بالاسلحة وهذا، في راي زكي خيري، برهان جلي على ان الحرب قد تحولت الى حرب وطنية، اذ لولا ذلك لما عاد الاتحاد السوفييتي، "صديق الشعوب" الى تزويد صدام بالاسلحة. وقد لام زكي خيري الشيوعيين العراقيين لانهم تركوا الجيش تحت رحمة صدام والبرجوازية ولانهم تخلوا عن مهمة الدفاع عن الوطن وتركوها للبرجوازية بحجة وجود صدام على راس هذا الجيش.
وانتهت الحرب، ونجا العراق بعون الله وبفضل قيادة البرجوازية لعملية الدفاع عن الوطن، ولكن الجيش العراقي لم بنتفض او يثر على صدام بل سار تحت قيادته لابادة الشعب الكردي مستخدما نفس الاسلحة السوفييتية اضافة الى غيرها. ولم ينبس الاتحاد السوفييتي ببنت شفة حول عملية ابادة الشعب الكردي ولم يتوقف عن تزويد صدام بالاسلحة بسبب ذلك. ولا شجب زكي خيري او حزبه عملية ابادة الشعب الكردي بالاسلحة السوفييتية خوفا من اغضاب صديق الشعوب وحصن السلام.
انتهجت هذه الاحزاب الشيوعية او العمالية او التي الغت اسماءها وابدلتها خجلا من ذكر اسم الشيوعية وانزلت عن برامجها كلمات الماركسية اللينينية والثورة والمراحل والقيادة الخ.. ومنها الحزب الشيوعي العراقي نفس السياسة التي استخدمها الامبرياليون والخروشوفيون في اعتبار فترة الحكم السوفييتي منذ ثورة اكتوبر وحتى زوال الاتحاد السوفييتي فترة واحدة متواصلة، فترة حكم اشتراكي ومجتمع اشتراكي، لا فرق فيها بين فترة بناء المجتمع الاشتراكي قبل الحرب العالمية الثانية وفترة الحرب ضد النازية وفترة اعادة البناء، وباختصار فترة قيادة لينين وستالين، وبين فترة تدمير الاشتراكية واعادة الراسمالية تدريجيا وتدمير الحزب الشيوعي والحركة الشيوعية العالمية وباختصار فترة حكم الخروشوفيين وقيادتهم. وفائدة هذه السياسة واضحة جلية وهي تصوير الظواهر السلبية التي نشأت وتطورت في المجتمع السوفييتي في الفترة الثانية وكأنها نتاج للتطور الاشتراكي وليست نتاجا لتدمير المجتمع الاشتراكي، والقاء تبعة نشوء هذه الظواهر السلبية على سياسة ستالين الذي تحققت تحت قيادته اعظم المنجزات التي احرزتها البشرية في اية فترة من تأريخها، وهي تحرير المجتمع السوفييتي من كل انواع الاستغلال وتحويل المحتمع البشري فيه لاول مرة الى مجتمع انساني حقيقي.
بنفس هذه العقلية ناقش زكي خيري تحليله لماحدث في الاتحاد السوفييتي. وقد جاء بالعديد من القضايا الجديرة بالنقاش اضافة الى النقاش الفلسفي والنظري مع مسوح. ناقش قيادة البروليتاريا والقضية القومية واسباب الازمة الشيوعية الحالية، والطريق اللاراسمالي صوب الاشتراكية وساناقش عدد من هذه الاراء رغم ان هدفي من كتابة المقال كان في البداية اقتصار البحث على التصنيع الاشتراكي.
بل ان زكي خيري توصل في نقاشه الى اكتشاف اقتصادي عبقري لم يسبقه اليه اي عالم اقتصادي ماركسي ولا اي عالم اقتصادي راسمالي. توصل الى ان ازمة الامبريالية التي اخذت بخناق الدول الامبريالية كلها خلال السنوات الاخيرة ما هي الا ازمة الساعة الاخيرة من يوم العمل. فيقول "فلو انقصت ساعات العمل في الولايات المتحدة الاميركية التي تتمتع باعلى تكنولوجيا، لو انقصت ساعة واحدة في اليوم لامكن تشغيل العشرة ملايين عامل اميركي هم العمال العاطلون اليوم في الولايات المتحدة ولتحول الكساد السائد فيها الى رواج. ولما تأثرت ارباح لراسماليين بل لزادت..." (ص ١٦). افليس هذا اكتشافا عبقريا!! ولم يكتف زكي خيري بتبشير الامبريالية بقدرتها على التخلص من ازمتها بل بشرها بالحصول على الرواج ايضا. ومن المعروف ان دورة الازمات الاقتصادية للراسمالية فقدت فترة الرواج منذ اواخر القرن التاسع عشر وقد لاحظ انجلز ذلك. ولم تحدث فترة رواج في تاريخ الراسمالية في القرن العشرين سوى مرة واحدة احرزت فيها الولايات المتحدة وحدها رواجا خلال الحرب العالمية الثانية، حين اصبحت مجهز العالم كله بالسلع والاسلحة فزودت من انتاجها دول الحلفاء وزودت دول المحور من انتاج رؤوس اموالها العاملة ضمن مناطق نفوذ هذه الدول. الا ان الامبرياليين الاميركان اما لأنهم لم يطلعوا على هذا الاكتشاف الذي يحل ازمتهم بهذه السهولة او انهم لم يأخذوا به بل فضلوا طريقتهم المجربة، طريق اشعال الحروب المدمرة مثل حرب الخليج او صفقات الاسلحة التي رافقت حرب الخليج والتي لم يكن حتى الامبرياليون يحلمون بمثلها. ورغم كل ذلك لم تنفرج الازمة.
الطريق اللاراسمالي صوب الاشتراكية
يبدو ان مسوح وحسب قول زكي خيري "كثير من المنظرين الجدد" يجدون ان استكمال التطور الراسمالي بكل مراحله هو الطريق الوحيد لبلوغ الاشتراكية، وبما ان زكي خيري ليس ضمن هؤلاء المنظرين الجدد فقد قرر خوض موضوع الطريق اللاراسمالي الى الاشتراكية.
بدأ زكي خيري بكارل ماركس الذي ابدى ملاحظات حول عدم حتمية المرحلة الراسمالية، فبفضل اجتماع استثنائي من الظروف ... تستطيع (الكومونة الزراعية) ان تستوعب منجزات الراسمالية دون المرور عبر جميع تطوراتها الرهيبة. ففي اجتماع مثل هذه الظروف كان من الممكن ان تتحول طبيعة الكومونة الزراعية وتتخذ صفات اشتراكية. ويتوصل زكي خيري من هذا الى انه "وفقا للنظرية الماركسية"، التطور الراسمالي ام اللاراسمالي رهن بالبيئة التاريخية التي توجد فيها المشاعة الزراعية" (ص ٤٢) ولكن "جرت الامور التأريخية خلافا لما كان يتمناه ماركس، (تصوروا ان ماركس كان يتمنى!) وتطورت الراسمالية في روسيا وحدثت الثورة التي "حققت حلم ماركس باقامة المزارع الجماعية الكبيرة الخالية من النير الاقطاعي والراسمالي ايضا" (ص٤٢)
وبعد اربعين عاما انعقد المؤتمر الثاني للاممية الشيوعية. وفي هذا المؤتمر نوقش السؤال "هل المرحلة الراسمالية من التطور محتومة على المستعمرات والبلدان التابعة؟" فاجاب لينين على السؤال بالنفي. وقد اورد زكي خيري صياغة لينين قائلا "انما يتوجب كذلك على الاممية الشيوعية ان تقر وان تثبت نظريا بمساعدة البروليتاريا في البلدان المتقدمة يمكن للبلدان المتاخرة ان تنتقل الى النظام السوفييتي والى الشيوعية عبر درجات معينة من التطوير متجنبة مرحلة التطور الراسمالي" (لينين م ١٠ ص ٩٦) (زكي خيري ص ٤٣)
وبعد ان ينكر ان الماركسيين العرب هم الذين فرضوا النصوص الماركسية على البلاد العربية بصدد عدم حتمية المرحلة الراسمالية اشار الى ان جمال عبد الناصر سبقهم الى ذلك حين اعلن عن تأميم بنك مصر ومشاريع راسمالية اخرى، مما فاجأ حتى المنظرين السوفييت "وعندئذ فقط بدأ البحث عن النصوص وجرى تتبع وصية لينين للاممية الشيوعية، وبقيت توصيته على الرف حتى المؤتمر السادس للاممية الشيوعية (١٩٢٨) ... لتنام مرة اخرى في الارشيف" (ص ٤٣)
ويعجب زكي خيري من انه كان يقرأ الادب الشيوعي اكثر من ستين عاما فلم يسمع "بالطريق اللاراسمالي الا بعد الضجة التي اثارتها تأميمات جمال عبد الناصر" "وقد كانت برامج احزابنا خلوا منها ومن اي مطلب يتجاوز العلاقات الراسمالية" (ص ٤٤). ولا تفوت زكي خيري هنا فرصة انتقاد الرفيق فهد انتقادا رقيقا بقوله "ومن المفارقات التأرييخية ان فهد مؤسس الحزب الشيوعي العراقي كان يدافع عن الراسمال الوطني الصناعي ويعارض احتكار الدولة لصناعة التبغ خلافا للجادرجي" (ص ٤٤)
ولكن جمال عبد الناصر اهتم بالتصنيع السريع "فأفسح المجال للراسمال الخاص وقدم له كل المساعدات التي كانت في مقدور الدولة ليعجل في تصنيع مصر ... ولكن الراسمال الخاص خيب امله وحمله على التأميم لتحقيق التصنيع السريع على يد قطاع الدولة مقتديا بتجربة الاتحاد السوفييتي حول الاقتصاد المصري الى اقتصاد متعدد الانماط واطلق عليه (الاشتراكية العربية) (ص٤٥)
ويتوصل زكي خيري من كل ذلك الى الاستنتاج التالي: "وفي يومنا هذا اصبحت امكانية تجاوز البلدان المتخلفة لمرحلة التطور الراسمالي اوسع بما لا يقاس عما كانت عليه في القرن الماضي او مطلع القرن الحالي. فالثورة العلمية التكنولوجية تتيح لقيادة ثورية حقا في مثل هذه البلدان تجاوز تخلفها والتحرر من بتعيتها الاقتصادية بسرعة فائقة ..." (ص ٤٦)
هذا هو الشكل الذي عرض فيه زكي خيري رأيه عن الطريق اللاراسمالي صوب الاشتراكية، الشعار الذي اتهم حزب زكي خيري به صدام حسين مدعيا ان صدام اختار الطريق اللاراسمالي صوب الاشتراكية تبريرا لجبهة ١٩٧٣. وقد شاهدنا ان زكي خيري اورد هذا المبدأ في ثلاث فترات متباعدة بعضها عن بعض فترة تحرير روسيا من القنانة، اي مبدأ ماركس في الطريق اللاراسمالي، وفترة ١٩٢١، اي المبدأ الماركسي اللينيني للطريق اللاراسمالي، وفترة المنظرين السوفييت، اي المبدأ الخروشوفي - بريجنيفي- غورباشوفي للطريق اللاراسمالي واصفا هذا المبدأ في هذه الفترات الثلاث وكأنه مبدأ واحد متطابق. ولكي نستطيع ان نفهم هذا ونتتبعه علينا ان نسلك نفس طريق زكي خيري التأريخي للقضية.
ابدى كارل ماركس (والعهدة على الراوي) في الستينات او السبعينات من القرن الماضي رأيه في امكانية ان تتخذ المشاعات الزراعية صفات اشتراكية بفضل احتماع استثنائي من الظروف. ولكن هذا الاجتماع الاستثنائي لم يتحقق وسارت روسيا في طريق التطور الراسمالي.
ورأينا ان زكي خيري قفز من هذه الفترة الى ١٩٢١ ولم يجرأ حتى على ان يذكر كما فعل في الفترة التالية بان هذا المبدأ الماركسي قد ترك على الرف لان ذلك على ما يبدو قد تشم منه رائحة انتقاد للينين الذي ترك هذا المبدأ الماركسي على الرف.
ولكن هل اهمل لينين حقا هذا الموضوع خلال الاربعين عاما التي قفزها زكي خيري؟ نعلم ان روسيا سارت في طريق التطور الراسمالي بحيث انه في الثمانينات من القرن التاسع عشر اصبحت البروليتاريا في روسيا طبقة متبلورة الى درجة تبرر تشكيل منظمات واحزاب ثورية باسمها كانت الخطوات الاولى في طريق تشكيل حزب البروليتاريا الذي وضع قيادة الطبقة العاملة كشعار لا في الثورة الاشتراكية فحسب بل في الثورة البرجوازية كذلك.
ولابد ان زكي خيري يذكر الصراع المرير الذي خاضه لينين ضد الشعبيين او الناروديين الذين كانوا يعتبرون التطور الراسمالي في روسيا ظاهرة عرضية عابرة وان الفلاحين الذين يشكلون اغلية السكان الساحقة في روسيا هم الذين يحققون الاشتراكية هناك وليس البروليتاريا التي لا تشكل سوى اقلية ضئيلة.
ولابد ان زكي خيري يتذكر كذلك ان لينين في "تكتيكان في الثورة البرجوازية"، وضع اهداف الحزب البلشفي في قيادة البروليتاريا في الثورة البرجوازية ومن ثم الثورة الاشتراكية كما يتذكر قيام الثورتين الرجوازيتين اللتين سبقتا ثورة اكتوبر الاشتراكية. ويبدو ان لينين لم يهمل مبدأ ماركس بل ان هذا التطور اللاراسمالي لم يبق له وجود في روسيا بسبب التطور الراسمالي الذي تحقق في المجتمع الروسي، ولا معنى للتطور اللاراسمالي في مجتمع راسمالي.
ويعلم زكي خيري انه حين تتطور قوى الانتاج الى مستوى معين يتحتم تغيير علاقات الانتاج بحيث تتفق مع هذا التطور وهو الهدف الذي تحققه الثورة وكانت ثورة شباط ١٩١٧ البرجوازية هي الثورة التي حولت علاقات الانتاج من علاقات اقطاعية اوتوقراطية الى علاقات برجوازية.
ويبدو ان لينين لم يكن من المنظرين الجدد الذين يعتقدون بحتمية استكمال التطور الراسمالي بجميع مراحله قبل التحول الى الاشتراكية بل كان مثل زكي خيري يؤمن بامكان التحول الى الاشتراكية قبل ان يستكمل التطور الراسمالي بجميع مراحله. فالاساس في التحول من المرحلة الاقطاعية الى المرحلة الراسمالية في رأي لينين هو السلطة. فبمجرد استيلاء البرجوازية على السلطة تنتهي الثورة البرجوازية وتبدأ مرحلة الثورة الاشتراكية بصرف النظر عما تنجزه البرجوازية الحاكمة الجديدة من اهداف الثورة البرجوازية، ولذلك، فور اطلاعه في الصحف السويسرية على اخبار الاطاحة بالقيصرية ونجاح ثورة شباط، وقبل ان يعرف ما سوف تنجزه السلطة الجديدة من اهداف، كتب في رسائل من بعيد يدعو البروليتاريا الروسية الى النضال في سبيل الثورة الاشتراكية، وكان هتافه الاول من على الدبابة فور وصوله في محطة السكك الحديدية في بتروغراد، فلتحيى الثورة البروليتارية. وقد طور هذه النظرية فور وصوله الى روسيا في مسائل نيسان. وقد قاد الحزب في اتجاه الاعداد للثورة الاشتراكية سواء اثناء فترة وجود السلطة المزدوجة حيث كان الانتقال السلمي الى الاشتراكية امكانية ام في فترة انتهاء السلطة المزدوجة حيث اصبحت الثورة المسلجة ضرورة حتمية. وفضح الحكومة البرجوازية والمنشفيك والاشتراكيين الثوريين الذين انحازوا الى البرجوازية. وجاءت الثورة، وكان عجز البرجوازية وتقاعسها في تحقيق اهداف الثورة البرجوازية مثل الاصلاح الزراعي سندا للثورة الاشتراكية ووقعت على عاتق دكتاتورية البروليتاريا مهمة انجاز الثورة البرجوازية انجازا ثوريا تاما. نرى ان لينين لم يرفع شعار الطريق اللاراسمالي صوب الاشتراكية بل طريق الثورة الاشتراكية للاطاحة بالراسمالية في ثورة اكتوبر.
كتب لينين بمناسبة الذكرى الرابعة لثورة اكتوبر
"ان مهمة الثورة في روسيا، المباشرة والقريبة، كانت مهمة برجوازية ديدقراطية قوامها القضاء على بقايا القرون الوسطى وازالتها الى الابد وتنظيف روسيا من هذه البربرية، من هذ العار، مما كان يعيق الى ما لا حد له كل ثقافة وكل تقدم في بلادنا." (لينين م١٠ ص ٤١٤)
وفي هذه  السنة بالذات اثار لينين في مؤتمر الاممية الشيوعية، مسألة عدم حتمية المرور بمرحلة التطور الراسمالي التي تكلم عنها زكي خيري. فهل كان الموضوع الذي اثاره لينين هنا تكرارا لنظرية ماركس في الستينات؟ لحسن الحظ، اشار زكي خيري عند بحثه هذا الموضوع الى المصدر الذي اقتبس منه اقوال لينين. وليسمح لي القارئ الكريم ان اعود فاقتبس نفس الفقرة من جديد ومن نفس المصدر الذي اشار اليه زكي خيري.
"لقد طرحت المسألة بالشكل التالي: هل يمكننا ان نعتبر ان التأكيد القائل بان المرحلة الراسمالية في تطور الاقتصاد الوطني محتومة بالنسنبة للشعوب المتأخرة التي تتحرر الان والتي نلاحظ في اوساطها بعد الحرب حركة في اتجاه التقدم، هو تأكيد صحيح؟ وقد كان جوابنا على هذا السؤال سلبيا. فاذا ما قامت البروليتاريا الثورية الظافرة بدعاية منتظمة بين هذه الشعوب، واذا ما  ساعدتها الحكومات السوفييتية بجميع الوسائل الموجودة تحت تصرفها، عندئذ يصبح من غير الصحيح التأكيد بان مرحلة التطور الراسمالي هي مرحلة محتومة بالنسبة للاقوام المتاخرة. ان واجبنا في جميع المستعمرات والبلدان المتأخرة لا يقتصر على تكوين ملاكات مستقلة من المناضلين، لا يقتصر على تشكيل المنظمات الحزبية والقيام حالا بالدعاية من اجل تنظيم سوفييتات الفلاحين والسعي كي تصبح هذه السوفييتات ملائمة لظروف ما قبل الراسمالية، انما يتوجب كذلك على الاممية الشيوعية ان تقر وان تثبت نظريا انه بمساعدة البروليتاريا في البلدان المتقدمة يمكن للبلدان المتأخرة ان تنتقل الى النظام السوفييتي والى الشيوعية عبر درجات معينة من التطور متجنبة مرحلة التطور الراسمالي." (لينين م ١٠ ص ٩٦)
اترك للقارئ هنا ان يقارن هذه الفقرة مع الصورة التي عرضها زكي خيري.
واضح ان لينين لم يعرض المسألة كما نقلها زكي خيري. فقد اهمل زكي خيري الشروط التي وضعها لينين، وهي "اذا قامت البروليتريا الثورية الظافرة بدعاية منظمة، واذا ما ساعدتها الحكومات السوفييتية تجميع الوسائل الموجودة تحت تصرفها" وهذا هو الشرط الذي يمكن تلخيصه بالدكتاتورية البروليتارية، اي الدولة الاشتراكية. ولا شك ان زكي خيري المتضلع في كتاب الدولة والثورة يعلم دور الدولة في هذا الصدد.
ولكي نستطيع ان نفهم مقولة لينين هذه علينا ان نبحث الموضوع في حالتين مختلفتين نظرا لانقسام العالم في الفترة موضوع البحث، سنة ١٩٢١، الى معسكرين، معسكر اشتراكي هو الاتحاد السوفييتي ومعسكر امبريالي يسيطر سيطرة مباشرة او غير مباشرة على بقية العالم.
في الاتحاد السوفييتي كانت دكتاتورية البروليترايا تنفذ مقولة لينين عمليا. فاستنادا الى المبدأ الماركسي الذي يفيد بان البروليتاريا لا تستطيع تحرير نفسها الا بتحرير سائر الكادحين، كان عليها ان تقرر سياستها تجاه المستعمرات الروسية التي اشتملها الاتحاد السوفييتي. ومن المعروف انه كانت ضمن الاتحاد السوفييتي شعوب تعيش في مجتمعات بعيدة جدا عن التطور الراسمالي، بل كانت ثمة شعوب تعيش فيما يقرب من العصر الحجري، لم تكن لها حتى لغات مكتوبة. كان على البروليتاريا "الثورية الظافرة" ان تعمل من اعلى على رفع مستوى هذه الشعوب الى المستوى الاشتراكي الذي كان الاتحاد السوفييتي يناضل في سبيل بلوغه. كان على دكتاتورية البروليتاريا ليس فقط ان تقضي في روسيا على بقايا القرون الوسطى وتنظفها من البربرية والعار، بل كان عليها ان ترفع مستوى الشعوب المتاخرة الى مستوى الشعب الروسي بدون ان تمر بالمراحل المتعددة التي تتخلل هذين المستويين. هذه هي طبيعة مقولة لينين فيما يتعلق بالاتحاد السوفييتي. وقد عبر لينين بصراحة عن ذلك في نفس الخطاب اذ قال : "ان نشاط الشيوعيين الروس العملي في المستعمرات القيصرية السابقة في بلدان متأخرة كتركستان وغيرها، قد وضع امامنا المسألة التالية " كيف نطبق الخطة الشيوعية والسياسة الشيوعية في ظروف ما قبل الراسمالية؟ لان السمة المميزة الهامة في هذه البلدان هي كون السيطرة فيها لعلاقات ما قبل الراسمالية، ولذلك لا مجال فيها لحركة بروليتراية صرفا، تكاد البروليتاريا الصناعية تكون معدومة في هذه البلدان وبالرغم من ذلك اضطلعنا فيها بدور القادة، وينبغي لنا ان نضطلع بهذا الدور" (مختارات لينين م١٠ ص٩٤)
اما على النطاق العالمي فالوضع يختلف عن هذا. كان لينين انذاك، في سنة ١٩٢١، ما يزال يتوقع نشوب ثورات بروليتارية وانتصارها في بلدان اوروبا المتطورة. وكانت هذه البلدان المتطورة الامبريالية تسيطر على المستعمرات في اسيا وافريقيا واميركا الجنوبية. وقد كانت شعوب هذه المستعمرات في مراحل دون المرحلة الراسمالية من التطور الاجتماعي. وكان على البروليتاريا الثورية الظافرة في بلد امبريالي ان تحرر شعوب مستعمراتها وان تبذل الجهود في رفع مستواها بدون ان تمر في مرحلة التطور الراسمالي. اي ان تقوم دولة البروليتاريا بانجاز ما تتطلبه المرحلة الراسمالية من تقدم في هذه البلدان بدلا من الراسمالية. هذا هو المحتوى الماركسي الدقيق لمقولة لينين في المؤتمر الثاني للاممية الشيوعية وهذا لا علاقة له بما تحدث عنه كارل ماركس في ستينات القرن التاسع عشر.
اذا اخذنا عراق ثورة العشرين مثلا وتصورنا نشوب ثورة بروليتارية ظافرة في بريطانيا سنة ١٩٢١ او بعدها، لكان على البروليتاريا البريطانية الظافرة ان تحرر الشعب العراقي من قيود الامبريالية وان تأخذ بيده في التطور بدون ان يحتاج الى المرور بمرحلة التطور الراسمالي.
في كلا الحالتين، الاتحاد السوفييتي والعالم الامبريالي، كانت الدولة، دكتاتورية  البروليتاريا، الدولة الاشتراكية، هي الاداة التي تستطيع ان ترفع هذه البلدان والشعوب الى المستوى الاشتراكي بدون معاناة التطور الراسمالي، اي بالطريق اللاراسمالي صوب الاشتراكية. فهل يمكن تشبيه هذا الوضع بالوضع الذي تحدث عنه كارل ماركس في الستينات من القرن الماضي؟ لا اظن انسانا ذا تفكير منطقي يستطيع ان يجيب على هذا السؤال بالايجاب.
ومرت الايام وسارت الامور خلاف ما كان "يتمناه" لينين في العالم الامبريالي. فقد ثبت الامبرياليون سيطرتهم واحبطوا الثورات التي نشبت في اوروبا ولم يعد ثمة امل في نجاح الثورات في وقت قريب.
وفي المستعمرات ايضا سارت الامور خلاف ما كان "يتمناه لينين" اذ ان هذه المستعمرات اخذت تسير في طريق التطور الراسمالي، ونشأت برجوازيات وطنية محلية ونشأت مع هذه البرجوازيات الوطنية بروليتاريا لان البرجوازية لا يمكن ان تنشأ الا اذا نشأت معها طبقة بروليتارية تكون موضع استغلالها. والى جانب المشاريع الراسمالية المحلية نشأت مشاريع راسمالية امبريالية في هذه البلدان فكانت عاملا هاما في خلق وبلورة بروليتاريا كبيرة تتعدى مستوى البروةليتاريا التي تنشأ نشوءا طبيعيا يرافق نشوء البرجوازية المحلية. اصبحت هذه المستعمرات، كما حدث في روسيا القيصرية في اواخر القرن التاسع عشر، مجتمعات برجوازية مرتبطة بالسوق العالمية رغم وجود الاقطاع ورغم ان السلطة فيها كانت سلطة شبه اقطاعية شبه اشتعمارية، ونشأت مرتبة من التجار الكومبرادوريين الذين ارتبطت مصالحهم ارتباطا وثيقا بالمصالح الامبريالية.
ونشأت مع نشوء البرجوازية المحلية احزاب برجوازية وطنية ومع نشوء البروليتاريا احزاب بروليتارية انتمت الى الاممية الشيوعية.
وكما انتفى موضوع التطور للاراسمالي في روسيا منذ اواخر القرن التاسع عشر، انتفى موضوع التطور اللاراسمالي في هذه المستعمرات، لانها تطورت فعلا الى مجتمعات راسمالية، ولكن هذه المجتمعات الراسمالية كانت تتطلب تغيير علاقات الانتاج شبه الاقطاعية، كانت تتطلب ثورات برجوازية ديمقراطية او ثورات تحررية او ثورات ديمقراطية او ثورات وطنية او غير ذلك من التسميات التي مهما تعددت واختلفت لا تتعدى كونها ثورات برجوازية.
وفي العديد من هذه البلدان حدثت بهذا الشكل او ذاك ثورات برجوازية نجحت باحلال السلطة البرجوازية بدلا من السلطة الاقطاعية الكومبرادورية الموالية للامبريالية. وقامت هذه الدول البرجوازية بخطوات واسعة في تطوير المجتمع الراسمالي في هذه البلدان بالقدر الذي لا يسمح للبروليتاريا فيه ان تهدد سلطتها، بل ان العديد منها انحازت الى الامبريالية على الاقل في موضوع مكافحة الشيوعية والقضاء على الحركات الثورية.
لنأخذ العراق مثلا:
لقد تطور المجتمع العراقي بعد ثورة العشرين في اتجاه التطور الراسمالي ونشأت بروليتاريا عراقية سواء في المشاريع الامبريالية كالنفط ام في المشاريع الحكومية شبه الاستعمارية كالسكك والميناء ومصفى النفط وغيرها ام في المشاريع البرجوازية الوطنية.
ونشأت الاحزاب المتعددة ومنها حزب البروليترايا، الحزب الشيوعي، واخذ هذا الحزب ينشر نفوذه في الاوساط العمالية على اختلافها. وزكي خيري خير من يعرف ذلك لانه كان بين مؤسسي الحزب في ١٩٣٤. وكان الرفيق فهد المؤسس الحقيقي للحزب الشيوعي سنة ١٩٣٨ عند عودته من تدريبه في الاممية الشيوعية اقدر واوعى من استطاع ان يستوعب الماركسية اللينينية وظروف العراق الوطنية وان يطبق النظرية الماركسية على ظروف العراق. ولذا كان برنامج الحزب الشيوعي العراقي خلوا من الطريق اللاراسمالي ، ولهذا ايضا كان الرفيق فهد يناضل في سبيل  تشجيع وتطوير الراسمال الوطني على حساب الراسمال الامبريالي والكومبرادوري. ويعرف زكي خيري ان الرفيق فهد في الميثاق الذي اقره المؤتمر الاول وضع بوضوح مرحلتين للثورة في العراق، مرحلة الثورة البرجوازية الديمقراطية، ومرحلة الثورة الاشتراكية رغم ان كتاب مؤلفات الرفيق فهد، الذي قدم له زكي خيري، خلا لسبب ما من شطر الميثاق الذي يبحث المرحلتين.
وقد اندلعت الثورة البرجوازية في العراق يوم ١٤ تموز ١٩٥٨ على شكل انقلاب عسكري قاده الضباط الاحرار، ولكنه منذ البيان الاول ، نقل سلطة الدولة من ايدي الاقطاع والكومبرادور الى ايدي البرجوازية، وهو ما كان جليا في تركيب حكومة الثورة الاولى. ان هذا التحول، تحول السلطة من ايدي الاقطاع الى البرجوازية هو الذي جعل انقلاب ١٤ تموز العشكري ثورة، بخلاف انقلاب بكر صدقي سنة ١٩٣٦ وانقلاب رشيد عالي الكيلاني سنة ١٩٤١، وبخلاف الانقلابات التي حدثت بعد ثورة ١٤ تموز في ١٩٦٣و ١٩٦٨.
وكما اعلن لينين منذ يوم نجاح ثورة شباط ١٩١٧ ان المرحلة انتقلت من المرحلة الاولى، مرحلة الثورة البرجوازية، الى المرحلة الثانية، مرحلة الثورة الاشتراكية، كان على حزب شيوعي ثوري حقيقي ان يعلن انتقال العراق من المرحلة الاولى الى المرحلة الثانية صباح ١٤تموز. ولكن الحزب الشيوعي العراقي، الذي مارس زكي خيري دورا حاسما في قيادته، لم يشعر ولم يفهم ذلك حتى هذه اللحظة.
وفجأة، بعد ان بقي المبدأ اللينيني على الرف، حلت المعجزة فأمم جمال عبد الناصر البنك المصري. واذذاك ذهل المنظرون الروس فأخذوا ينقبون في المصادر الماركسية واللينينية التي تركوها منذ زمن بعيد، كما ينقب اليهودي المفلس في دفاتر حساباته القديمة، ليجدوا تفسيرا لهذا الامر العجيب الذي لم يسبق له مثيل في التاريخ، فوجدوا مبدأ ماركس ومبدأ لينين في الطريق اللاراسمالي.
ما هو الجديد في تأميمات جمال عبد الناصر بحيث انها اثارت هذه الضجة؟ هل كان جمال عبد الناصر اول حاكم برجوازي يؤمم البنك وبعض المشاريع الراسمالية؟ ولماذا كان هذا التأميم مقتبسا حسب راي زكي خيري من التجربة الروسية؟ الا يجوز انه اقتبسها من تجربة نابوليون الذي مارس راسمالية دولة واسعة او من تجربة حزب العمال البريطاني الذي امم بعد الحرب البنك المركزي وصناعة الفولاذ واستخراج الفحم ومشاريع اخرى مثلا؟ ثم ما الذي يستطيع جمال عبد الناصر ان يقتبسه من التجربة الروسية؟ ان الدولة السوفييتية قامت في الايام الاولى من حكمها بمصادرة الارض وكافة المشاريع الراسمالية الكبيرة والمصارف سواء أكانت اجنبية ام محلية والتحارة الخارجية بدون تعويضات والغت جميع ديون الحكومات السابقة فهل في تأميم جمال عبد الناصر للبنك المركزي شبه ولو واحد في المليون من هذه التجربة؟ ان لجوء زكي خيري الى التجربة الروسية هو الوسيلة التي توصله الى هدفه في اضفاء صفة الاشتراكية على التأميم وادعاء بوجود اقتصاد ذي انماط متعددة، اشتراكية، راسمالية، اقطاعية وربما ما قبل ذلك.
والمشاريع المؤممة ليست غريبة عنا نحن العراقيين. فقد كانت المشاريع الحكومية مألوفة مثل السكك والطيران والميناء ومصفى الدورة وصناعة التبغ (التي اكتشف فيها زكي خيري مفارقة في معارضة فهد لها عكس كامل الجادرجي) وحتى البنك المركزي. ولم يكن انذاك من يعتبر هذه المشاريع قطاعا عاما له صفات اشتراكية. فما الذي جعل من تأميمات جمال  عبد الناصر، التي يعرف مصيرها اليوم كل انسان، قطاعا اشتراكيا او قطاع دولة له صفات اشتراكية؟ ان المنظرين الروس ارادوا ان يضفوا على حكم جمال عبد الناصر هذه الصفات الاشتراكية التي هو براء منها ليبرروا ضغطهم على الحزب الشيوعي المصري لحل نفسه ولكي يضغطوا بعد ذلك على الحزب الشيوعي العراقي في اتخاذ خط آب السيء الصيت.
وصم المنظرون الخروشوفيون جمال عبد الناصر بانه يسلك الطريق اللاراسمالي صوب الاشتراكية ثم اخذوا يصفون كل دولة راسمالية من دول اسيا وافريقيا بنفس الصفة، الجزائر والصومال والحبشة واليمن وليبيا وسوريا وايران الخميني وغيرها. بل اعلن بريجنيف من على منصة احد المؤتمرات ان الهند، هند انديرا غاندي، هي اكبر دولة سائرة في الطريق اللاراسمالي صوب الاشتراكية، وتبين فيما بعد ان اعظم انجاز اشتراكي احرزته هو خصي الشباب الهندي لمنعهم من انجاب الاطفال وهي العملية التي لم يسبقها اليها سوى هتلر الذي كان يخصي اليهود الذين لا يقتلهم لنفس الغرض. وقد طورت مقولة التطور اللاراسمالي فاطلق على بعض الدول البرجوازية اسم الدول ذات التوجه الاشتراكي وكانت الجزائر احدى هذه الدول وطبل الاتحاد السوفييتي لانتصار هذا الخط حين عقدت الجزائر معاهدات مع الشركات الامبريالية المتعددة الجنسيات. بل ان بعض الدول اعتبرت دولا اشتراكية وحسبت على المنظومة الاشتراكية مثل الحبشة واليمن.
وفي العراق اتهم الحزب الشيوعي صدام حسين باختيار الطريق اللاراسمالي صوب الاشتراكية وعلى هذا الاساس "تحالفت الاحزاب الشيوعية في البلاد العربية مع اولئك الدكتاتوريين وسارت عمليا تحت قيادتهم السياسية بما فيها الاحزاب التي نصت برامجها على ضرورة قيادة الطبقة العاملة للثورة الوطنية الديمقراطية كشرط ضروري لانجازها وان لم تخل احزابنا من معارضين لتلك السياسة" (ص ٤٥)
فهل هذا الوصف، الاحزاب الشوعية التي نصت برامجها على ضرورة قيادة الطبقة العاملة للثورة الوطنية الديمقراطية، يصح على الحزب الشيوعي العراقي في سنوات الجبهة ١٩٧٣ – ١٩٧٩؟ ان الحزب الشيوعي العراقي تخلى عن مبدأ قيادة الطبقة العاملة للثورة الوطنية الديمقراطية (اي الثورة البرجوازية) وتخلى عن مراحل الثورة نهائيا منذ الكونفرنس الثاني سنة ١٩٥٦. فما الذي ضحى به الخزب في سبيل الجبهة مع حكومة البعث؟ انه قبل كل شيء ضحى بالحزب نفسه او انه وضع الحزب تحت قيادة حزب البعث بأتمر باوامره تحت ستار الجبهة. وقد تخلى الحزب كشرط من شروط الجبهة ليس عن قيادة الطبقة العاملة بل عن العمل في صفوف الطبقة العاملة (وخصوصا في النقابات) وعن العمل في القوات المسلحة (وكان صدام يعدم كل شيوعي يشك بعلاقته مع القوات المسلحة) وفي صفوف الطلبة (اتحاد الطلبة) وبين الفلاحين. واعلن الحزب الشيوعي من على منبر المؤتمر بلسان سكرتيره العام عن تجميد منظمات لا حزبية منحت الحزب ثقتها واتخبته لقيادتها باعتباره افضل من يحرص على مصالحها ويناضل في سبيل تحقيق اهدافها، فجمد مثلا اتحاد الشبيبة والنساء الديمقراطيات الخ.. وسلم ممتلكاتها لحكومة البعث. وتحول الحزب بصحافته اليومية ونشراته وادبياته الاخرى الى مجرد بوق لتمجيد الرفاق البكر وصدام وميشيل عفلق وغيرهم في الوقت الذي كان حزب البعث يمارس سياسة الاعدامات والابادات الجسدية تجاه اعضاء الحزب الشيوعي. وقد لعب الحزب الشيوعي دورا هاما في تثبيت وترسيخ حكومة البعث التي كانت ضعيفة منعزلة عن الشعب. واصبح الحزب في هذه الفترة علنيا يحضر اجتماعاته العامة حزب البعث ابتداءا من البكر وصدام وانتهاءا بجلاوزة الامن بحيث اصبح كل شيوعي مكشوفا ومعروفا يستطيع حزب البعث وقوى الامن من اصطياده في اللحظة المناسبة.وهذا ما جرى في ١٩٧٩ حين تلقى قادة الحزب المساعدة على الهرب تاركين اعضاء الحزب الاخرين تحت رحمة حزب البعث وقصر النهاية. هذه كانت ارباح الجبهة الثومية التقدمية التي اعلن الحزب في المؤتمر الثالث انها جبهة لا مرحلية (جبهة زواج كاثوليكي) حتى الاشتراكية. كل هذه التضحيات قدمت على مذبح الطريق اللاراسمالي صوب الاشتراكية الذي اعلنه الحزب الشيوعي ولم يتفوه به حزب البعث او صدام ولو مرة واحدة. كل ما كان صدام يقوله انه مؤمي باشتراكية محمد.
من المعروف ان زكي خيري عدو الجمود العقائدي. والجمود العقائدي كما نعلم هو اقتباس نصوص من كتابات معلمي الماركسية ومحاولة تطبيقها على ظروف غير الظروف التي كتبت من اجلها.
وقد راينا كيف وضع لينين مقولته حول عدم حتمية المرور بالمرحلة الراسمالية. فالشرط الاول هو ان تكون الشعوب التي تتجاوز المرحلة الراسمالية الى الاشتراكية في اوضاع متأخرة عن المرحلة الراسمالية، اي انها لم تسر بعد في طريق التطور الراسمالي. ولكن زكي خيري يعترف بان هذه الشعوب المتأخرة مثل العراق قد قطعت اشواطا في طريق التطور الراسمالي. فهل يريد زكي خيري اعادتها الى ما قبل الطريق الراسمالي لكي يرفعها الى الاشتراكية بالطريق اللاراسمالي؟
والشرط الثاني في مقولة لينين هو ان هذه الشعوب التي لم تسلك بعد طريق التطور الراسمالي تكون خالية من البرجوازية، خالية من البروليتاريا، ولكن هذه الشعوب المتأخرة، مثل العراق ، كانت قد تطورت فيها البرجوازية الوطنية والبرجوازية الكومبرادورية ونشأت فيها بروليتاريا متبلورة تتعدى حدود البروليتاريا التي تنشأ طبيعيا مع البرجوازية نظرا لوجود مشاريع استعمارية كبيرة. وكانت البروليتاريا، في العراق مثلا، قد بلغت من النمو والتبلور ان نشأ لها حزبها الشيوعي الذي تصدر الحركة السياسة في العراق لفترة كبيرة، وفي بعض هذه البلدان المتأخرة، مثل العراق، كانت البرجوازية قد نجحت في الاستيلاء على سلطة الدولة في ثوراتها البرجوازية التي لم تستطع البروليتاريا قيادتها. والشرط الثالث لمقولة لينين هو ان تكون ثمة دولة اعلى من مستوى الدولة البرجوازية، دولة اشتراكية، تقودها البروليتاريا الظافرة في المتروبول، التي من واجبها ان ترفع الشعوب المتأخرة في مستعمراتها الى مستواها بدون ان تمر بالضرورة في مرحلة التطور الراسمالي. ولم يحدث في العالم بعد الاتحاد السوفييتي ان وجدت دولة كهذه في اوروبا ولا في اي مكان اخر من العالم حتى الحرب العالمية الثانية.
فزكي خيري، ومعلموه المنظرون الخروشوفيون، ابتدعوا فكرة اختيار البرجوازية للطريق اللاراسمالي، ورفع الشعوب فوق المستوى البرجوازي، الى المستوى الاشتراكي. نحن نعلم ان البرجوازية الوطنية في هذه البلدان المتأخرة اصبحت عاجزة حتى عن قيادة الثورة البرجوازية وتحقيق اهدافها تحقيقا كاملا. وهذا هو الاساس الذي بنيت عليه نظرية قيادة الطبقة العاملة للثورة البرجوازية. فكيف يمكن بعد هذا كله التفكير بان البرجوازية نفسها، عن طريق القطاع العام، اي راسمالية الدولة، الاداة الفعالة في خدمة البرجوازية، تستطيع رفع شعوبها الى مستوى اعلى حتى من مستوى البرجوازية الظافرة؟
قد يقول زكي خيري ان حكومات التطور اللاراسمالي هي حكومات بتي برجوازية، حكومات البرجوازية الصغيرة. ولنفرض جدلا انها فعلا حكومات بتي برجوازية. نحن نعلم من تراثنا الماركسي ان البتي برجوازية ليست طبقة متجانسة بل تتالف من مراتب مختلفة لا تشترك كلها الا بصفة واحدة فقط، صفة التقلب في مصالحها بين البرجوازية والطبقة العاملة. ولذلك فهي من الناحية السياسية ايضا متذبذبة بين البرجوازية والطبقة العاملة. وحين يجري الحديث عن حكومة بتي برجوازية فلا يقصد بهذا حكومة تمثل كافة مراتب البرجوازية الصغيرة. فهي بالدرجة الرئيسية لا تمثل اغلبية البتي برجوازية الساحقة، متوسطي الفلاحين، ولا الحرفيين في المدن. جل ما تتألف منه الحكومات التي تسمى حكومات البرجوازية الصغيرة هي مجموعة من المثقفين، اطباء، ادباء، اقتصاديين، صحفيين، مهندسين، محامين، اساتذة، ضباط الخ..
وبسبب وضع البتي برجوازية في هذه المجتمعات، مثل المجتمع العراقي، لا تستطيع حكومة كهذه ان تبقى في الحكم الا اذا مثلت مصالح الطبقة الحاكمة، الطبقة البرجوازية والا اذا شكلت ستارا بين البرجوازية والكادحين لاخفاء استغلالهم. فهل تستطيع حكومة كهذه سلوك طريق معاد للبرجوازية التي استولت على الحكم، كما جرى في العراق في ثورة ١٤ تموز والسير بالشعب في طريق تطور لا راسمالي؟ كلا والف كلا.
فهل يصح اذن تطبيق مقولة لينين حول عدم حتمية مرور الشعوب المتأخرة في مرحلة التطور الراسمالي على ظروف العراق في سنة ١٩٧٣- ١٩٧٩ او بعدها او على ظروف الهند او مصر او سوريا او الحبشة او غيرها؟ اليست محاولة تطبيق مقولة لينين على هذه الظروف جمودا عقائديا باجلى معانيه؟
رأينا ان لينين، مثل زكي خيري، لا يؤمن بضرورة استكمال التطور الراسمالي بكل مراحله للتحول الى الاشتراكية. ولكن هل موقف زكي خيري وموقف لينين في هذا الموضوع متشابهان ام ان التشابه مقصور على المقولة وحدها؟
طبق لينين مبدأه بعدم ضرورة استكمال التطور الراسمالي بكل مراحله للتحول الى الاشتراكية بان اعلن قور انتصار ثورة شباط البرجوازية في روسيا ان مرحلة الثورة البرجوازية قد انتهت وتحول الحزب من مرحلة الثورة البرجوازية الى مرحلة الثورة الاشتراكية بدون ان ينتظر لرؤية ما تحققه البرجوازية ولا ان يمنح البرجوازية فترة تنفس لكي تثبت نفسها او يفسح المجال امامها لكي تحقق اهدافها البرجوازية. كتب لينين منذ ١٩٠٥:
"من الثورة الديمقراطية سنبدأ فورا، وبمدى ما يتوفر لدينا من قوة، قوة البروليتاريا الواعية المنظمة، بالانتقال الى الثورة الاشتراكية. نحن نؤيد الثورة المستمرة غير المنقطعة. اننا لن نقف في منتصف الطريق ..." (مؤلفات لينين م ٨ ص ١٦ مقتبسة من ستالين م ٨ ص ٢٠)
اما زكي خيري فطبق هذا المبدأ نفسه، مبدأ عدم ضرورة استكمال التطور الراسمالي بكل مراحله بصورة تختلف كل الاختلاف عن طريقة لينين. فهو، الان، وبعد مرور ٣٦ عاما على نجاح الثورة البرجوازية في العراق لا يشعر بان مرحلة الثورة البرجوازية قد انتهت وجاءت مرحلة الثورة الاشتراكية، بل يدعو البرجوازية، او البرجوازية الصغيرة، الى خلق اشكال اشتراكية الى جانب الاشكال السابقة للاشتراكية وجعل المجتمع العراقي خليطا غريبا من الانماط الاجتماعية وتحت قيادة البرجوازية ذاتها. انه يدعو البرجوازية الى ان ترفع المجتمع العراقي الى مستوى اعلى من مستواها البرجوازي وتسير نحو الاشتراكية بالطريق اللاراسمالي كما يرفع الرباعون الاثقال فوق رؤوسهم.
هذا هو نمط تفكير زكي خيري حاليا. ولكن هل كان زكي خيري يفكر بهذا النمط منذ ١٩٥٨ وحتى الان؟ لا اظن ذلك. ولكني عاجز عن اقتباس شيء من اراء زكي خيري نفسه في مختلف فترات هذه المدة الطويلة لعدم توفر ذلك لدي. ولكن مع ذلك استطيع ان اتحدث عن اتجاه الحزب الذي كان زكي خيري من ابرز قادته.
بعد ١٤ تموز استمر الحزب الشيوعي في اجترار شعارات ما قبل الثورة والمطالبة باعادة تشكيل الجبهة على نفس الاسس السابقة رغم ان البرجوازية، عن طريق ممثلها محمد حديد، اعلنت يوم ١٤ تموز ان الجبهة قد انهت مهمتها، اي استيلاء البرجوازية على الحكم. وكان شعار الحزب الشيوعي الاستراتيجي خلال مدة حكم عبد الكريم قاسم صيانة الجمهورية بشكلها البرجوازي. وكان موضوع استكمال الثورة الديمقراطية شعارا معروفا لدى الحزب. واستمر هذا الشعار في كل الفترات التي تلت حكم عبد الكريم قاسم. وفي سبيل ذلك اكتفي باقتباس الاسم الذي اطلقه الحزب على برنامجه في المؤتمر الرابع للحزب الذي عقد في تشرين الثاني ١٩٨٥: "برنامج الحزب الشيوعي العراقي: من اجل انجاز الثورة الوطنية الديمقراطية والانتقال الى الاشتراكية" وهو اقرار صريح بضرورة انجاز او استكمال الثورة الديمقراطية قبل الانتقال الى المرحلة الاشتراكية فهل كان زكي خيري معارضا لهذا المنهاج؟
يشترط زكي خيري لتحقيق الطريق اللاراسمالي وجود "حكومة ثورية حقا" وهذا شرط اعجازي لا يمكن تحقيقه في ظروف الدول المعنية في الحال الحاضر.
ففي عصرنا اصبح من المستحيل وجود حكومة برجوازية ثورية حقا بعد استيلاء البرجوازية على الحكم اي بعد تحقيق الثورة البرجوازية الديمقراطية بقيادة البرجوازية لا بقيادة الطبقة العاملة. ولا فرق في ذلك فيما اذا كانت الحكومة مؤلفة من قادة الثورة البرجوازية انفسهم مثل حكومات عبد الكريم قاسم او جمال عبد الناصر او القذافي ام من حكومات برجوازية تلت ذلك ايا كان شكلها ام من حكومات جبهة البرجوازية مع الحزب الشيوعي مثل جبهة ١٩٧٣ – ١٩٧٩ مع حزب البعث ام الجبهة الحالية مع الطالباني والبرزاني في كردستان. ان الحزب الشيوعي في مثل هذه الجبهات لا يمكن ان يكون سوى ذيل للبرجوازية مهمته خدع وتضليل الطبقة العاملة وسائر الكادحين.
لم يحدث في عصرنا في الدول المعنية ان تحققت الثورة البرجوازية بقيادة الطبقة العاملة مثلما حدث في الصين وفيتنام بعد الحرب العالمية الثانية. ومن اهم اسباب ذلك تخلي الاتحاد السوفييتي وحكومته وقيادة الحزب الشيوعي السوفييتي عن الماركسية وسير الاحزاب الشيوعية في اعقابه. فقد تحققت كافة الثورات البرجوازية على الاقل في منطقة الشرق الاوسط القريبة منا عن طريق انقلابات عسكرية منذ ما بعد ثورة مصدق وحتى ثورة الخميني. وتحققت الثورة البرجوازية في ايران بقيادة اسلامية ظلامية كان من نبيجتها الحكم الاسلامي الرجعي في ايران.
وكانت الحكومات العسكرية التي جاءت بعد الثورات البرجوازية، اي (الانقلابات العسكرية التي لم تستحق صفة الثورة الا بسبب تحويلها السلطة من ايدي الاقطاعيين والراسماليين الكومبرادوريين المؤتمرين باوامر الدول الامبريالية الى ايدي البرجوازية)، حكومات برجوازية بحتة وضعت ضمن اهدافها تحطيم الحركة الشيوعية والحركة العمالية الثورية ولذلك لا يمكن ان تكون هذه الحكومات "حكومات ثورية حقة". فالحكومة الثورية الحقة الوحيدة الممكنة في مثل هذه الظروف هي حكومة الطبقة العاملة الظافرة، دكتاتورية البروليتاريا، لا الحكومات الديمقراطية الثورية التي تدعو لها بعض الاحزاب الشيوعية لما تعتبره ذروة الثورة الديمقراطية الضروري قبل الانتقال الى مرحلة الاشتراكية. ودكتاتورية البروليتاريا لا تسلك سياسة الطريق اللاراسمالي صوب الاشتراكية بل تسلك الطريق الاشتراكي، طريق تدمير السلطة الراسمالية والاقتصاد الراسمالي كشرط لبناء الاقتصاد الاشتراكي. وهكذا نرى ان زكي خيري يضع شرطا لتحقيق نظريته بالطريق اللاراسمالي، شرط وجود حكومة ثورية حقا، شرطا يبدو لاول وهلة شرطا ثوريا وبسيطا ولكنه في الواقع شرط مستحيل وغير قابل للتحقيق.
ولا يمكن ترك هذا الموضوع بدون الاشارة الى مقولة الاختيار. فقد بنيت نظرية الطريق اللاراسمالي صوب الاشتراكية، على الاقل بالنسبة للحزب الشيوعي العراقي، على اساس اختيار الطبقة الحاكمة، صدام حسين، هذا الطريق. والاختيار كما يعلم كل انسان يمكن في اية لحظة ان يتغير حين يقرر الشخص تبديل اختياراته فيختار مثلا الطريق الراسمالي او الطريق الاقطاعي، او الطريق الشيوعي متجاوزا الطريق الاشتراكي. ليس ثمة من حدود للاختيار.
ولكن ما معنى الاختيار في هذا الخصوص؟ معناه ان اية حكومة تستطيع الاختيار بين طرق مختلفة موضوعة امامها للسلوك فيها. ونحن نعلم ان النظرية الماركسية، المادية الديالكتيكية وتطبيقها على المجتمع، المادية التاريخية، قامت على اساس وجود قوانين تتحكم في اتجاه سير المجتمعات، بصرف النظر عن ارادة الانسان. فالحكومات لا تستطيع ان تسير دفة الحكم الا وفقا لمصالح الطبقة التي تمثلها. وعلى هذا الاساس استطاع كارل ماركس ان يكشف هذه القوانين ويدرس التناقضات التي تؤلف المجتمع في كل مرحلة من مراحل التطور واتجاه الحركة الحتمي في ذلك المجتمع. ولو كانت ثمة امكانية الاختيار لما استطاع كارل ماركس ان يحدد قانونا لاتجاه سير المجتمع. ان مفهوم الاختيار ما هو الا نقض الماركسية والمادية التأريخية من اساسها. فاما الماركسية واما الاختيار.
انتقاد ستالين وحديثه مع اج جي ويلز
طبيعي ان من حق زكي خيري كما هو من حق اي شخص اخر ان بنتقد ستالين متى شاء وحول اي موضوع يشاؤه. كان هذا الحق صحيحا حين كان ستالين على قيد الحياة يقود الاتحاد السوفييتي نحو الشيوعية ويلهم الحركات الشيوعية والوطنية في ارجاء العالم وهو ما زال صحيحا حتى اليوم، لان الانتقاد هو من مقومات الحركة الشيوعية ولا حركة شيوعية حقيقية بدون الانتقاد الشيوعي البناء. ولو ان زكي خيري لم يوافق على ذلك بالنسبة لانتقاد ستالين بالذات لانه كان من مؤلهيه فلم يعترف بحق انتقاده حتى المؤتمر العشرين. والانتقاد ليس كما يتصورة البعض اهانة للشخص المنتقد بل محاولة لتصحيح الاخطاء. فاذا كان الشخص المنتقد على صواب في انتقاده فيكون قد ساهم في تصحيح الخطأ الذي انتقده ورفع من مستوى الشخص الذي انتقده وبالتالي رفع من مستوى الحزب. واذا كان الشخص المنتقد على خطأ في انتقاده فذلك يمنح الفرصة للشخص الذي انتقده ان يدرس الانتقاد والاسباب التي ادت الى الخطأ فيه وتثقيف الشخص المنتقد بخطأ انتقاده وتوجيهه الى الصواب وبذلك يكون قد ساهم في رفع مستوى الشخص المنتقد وبالتالي رفع مستوى الحزب. هذه اشياء بديهية اولية في موضوع الانتقاد بالنسبة للاحزاب الشيوعية.
ولكن الانتقاد الموضوعي الصحيح يجب ان يوجه الى اراء الشخص موضوع الانتقاد بشكله الحقيقي. وهذا امر من البداهة بحيث ان القارئ قد يستغرب من ذكره. ولكن الواقع ان الكثير من الانتقادات تجري على اراء لا تمت بصلة الى اراء الشخص موضوع الانتقاد. فالمنتقد يشير الى اراء ينسبها الى الشخص الذي يريد انتقاده ويرد عليها. وهذا من الصفات السيئة للانتقادات اللاموضوعية. ويبدو لي ان زكي خيري يمارس هذا النوع من الانتقاد اللاموضوعي حين ينتقد ستالين في كراسه في عدد من المواضيع وخصوصا انه لا يستند في انتقاده على نص من ستالين لانتقاده. ومعلوم ان مؤلفات ستالين اصبحت بعد المؤتمر العشرين مستمسكات جرمبة واداة تشهير لمن يستشهد بها حتى في سبيل انتقادها. لذا نرى ان زكي خيري ينتقد ستالين بدون ان يستشهد باقواله بتاتا.
ارجو من القارئ ان يسمح لي في هذا الصدد بالخروج قليلا عن الموضوع فاشير الى حادث من احداث السجون ربما لا يعرفه ممن يقوا على قيد الحياة سوى زكي خيري وكاتب هذه السطور. وقد يبدو لاول وهلة ان هذا الامر شخصي ولكني اعتقد انه حدث تأريخي نموذجي وجزء من الحركة الشيوعية العراقية بنبغي تسجيله على الاقل من ناحية تاريخية.
بعد مجزرتي بغداد والكوت سنة ١٩٥٣ ارسل عدد من السجناء الشيوعيين والمحكومين بتهمة الشيوعية اليهود الى نقرة السلمان لفصلهم عن رفاقهم من الاديان الاخرى. واضافة الى هؤلاء السجناء ارسل الى نقرة السلمان ٤ سجناء غير يهود هم باسم (بهاء الدين نوري) وثلاثة اخرون جكموا معه. بقي هؤلاء الشيوعيون وبعض اصدقائهم الذين بلغ مجموعهم ١٦ او ١٧ سجينا منعزلين عن العالم الخارجي حوالى سنة ونصف،
قرر هؤلاء السجناء اصدار جريدة محلية في السجن كوسيلة من وسائل التغلب على عزلتهم ومقاومة تدهورهم الفكري والثقافي اسموها صوت السجين الثوري صدرت منها اعداد لا اتذكر عددها وهي جريدة يجري الحديث عنها اليوم على انها من منجزات السجون. وبعد هذه المدة نقل بعض السجناء الشيوعيين من سجن بعقوبة الى نقرة السلمان فازداد عدد السجناء وابتهج السجناء المعزولون بالتقائهم بزملاهم مما يخفف من عزلتهم.
اطلعت قبادة المظمة الجديدة على حياة السجناء طوال فترة العزلة ومن جملة ذلك اطلعت طبعا على جريدة صوت السجين الثوري. وبدلا من تشجيعها وتوسيعها وبث حياة جديدة فيها قررت ايقاف اصدارها واخفاء الاعداد المتوفرة منها عن اعين السجناء. واصدر زكي خيري بيانا خطيا باسمه علق على مكان بارز ليتاح لجميع السجناء قراءته، يحذر فيه من آراء خطيرة متفشية بين السجناء (بدون ان يذكر صوت السجين الثوري طبعا)، ولم تكن الاراء التي حذر منها منقولة بشكل دقيق من مقالات الجريدة.
كذلك قررت القيادةة محاكمة او محاسبة المسؤولين عن المنظمة السابقة على اخطائهم ومن جملتهم رئيس تحرير صوت الشجين الثوري وكاتب اكثر مقالاتها والمسؤول عن التثقيف. وقد دافع هذا السجين عن الجريدة وعن الاراء التي جاءت فيها سواء اكانت من كتاباته هو ام من كتابات السجناء الاخرين الذين ساهموا في تحريرها. وفي خلال هذا الدفاع طلب رئيس التحرير احضار الجريدة للاستشهاد بها على صحة دفاعه وللبرهنة على ان ما جاء في بيان زكي خيري لا وجود له في الجريدة وان هذه الاراء التي انتقدها زكي خيري كانت من اختلاقه هو فرفض طلبه ولم توافق هيئة المحكمة على احضار الجريدة للتأكد من ذلك بل اكتفى زكي خيري بان زعم انه احب فقط ان يحذر السجناء من اراء خطيرة لا يشترط انها من اراء الجريدة وزعموا ان الجريدة قد اتلفت. كان هذا كذبا نظرا الى ان من كتبوا بعد ذلك عن الحركة الشيوعية ممن سمح لهم بالاطلاع على ارشيف قوى الامن ذكروا هذه الجريدة كما لو كانت موجودة في الارشيف.
كان من قرارات هذه المحكمة اعتبار رئيس تحرير الجريدة مسؤولا عن تثقيف المنظمة تثقيفا خاطئا يشكل خطرا على المنظمة وجردوه من مهمة التثقيف. ومع ذلك وبدون الغاء القرار، طلبت قبادة المنظمة من هذا الشخص، بل توسلت اليه عند رفضه، بمواصلة التثقيف وبقي هذا الشخص مرجعا للمشاكل النظرية التي تواجه المنظمة حتى ثورة ١٤ تموز رغم ان القيادة لم تعترف بخطأ قرارها واجحافه ولم تلغ القرار. اوردت هذا لسببين، الاول هو تسجيل حادث لم يعد يعرفه احد تقريبا تنويرا للمهتمين بتأريخ الحركة الشيوعية في العراق، وثانيا للدلالة على ان هذا الاسلوب من الانتقاد ليس عرضيا بل هو اسلوب راسخ يتبعه زكي خيري متى شاء وضد من يشاء.
اورذ على سبيل المثال وليس الحصر انتقادا وجهه زكي خيري الى ستالين بنفس الطريقة.
يقول زكي خيري: "ولا ازال اذكر حديثا جرى بين اج جي ويلز وستالين في اوائل الثلاثينات ...وكان ويلز اشتراكيا اصلاحيا من (الفابيين) وقد قال لستالين عندنا في بريطانيا وامريكا يمكن ادخال الاشتراكية ليس عن طريق الثورة كما جرى عندكم بل عن طربق الاصلاح. لم يكن في هذا الكلام ما يفاجئ احد بل كانت المفاجأة في رد ستالين : نعم ممكن ولكن خلال مائة سنة ! لقد عرف ستالين بالتشدد اليساري وليس اليمينية ومع ذلك كان رده ايجابيا." (ص ٣٧)
ليس غريبا ان يغار زكي خيري، وهو الشيوعي المخضرم، على ستالين. ستالين احد معلمي البروليتاريا، الماركسي اللينيني العظيم، قائد شعوب الاتحاد السوفييتي في سرائها وضرائها،مهندس الاشتراكية، ملهم البروليتاريا العالمية وامل شعوب العالم المكافحة من اجل تحررها. ستالين الذي لم يحد عن المارشسية، لا في اعماله ولا اقواله ولا كتاباته، قيد شعرة طيلة حياته السياسية. كيف يجوز لستالين هذا الذي عرف على حد قول زكي خيري "بالتشدد اليساري وليس اليمينية" ان يجيب بالايجاب على قول اج جي ويلز الاصلاحي؟ لقد حز ذلك في قلب زكي خيري واقض مضاجعه منذ سنة ١٩٣٤ ولكنه لم يجرؤ على التفوه به وانتقاد ستالين انذاك على اساس المثل الشعبي العراقي القائل "من يقول للسبع حلقك جايف؟" بل فضل التمسك بتأليه ستالين وتحريم انتقاده حتى المؤتمر العشرين رغم ان الانتقاد ظل يحز في قلبه. والان، بعد ستين عاما اتيحت له فرصة التفريج عن كربه بتنوير قرائه بموافقة ستالين على منهج اصلاحي.
لزكي خيري حاسة شم قوية للميول الاصلاحية تجعل بامكانه ان يتحسسها حتى في عبارة يتفوه بها ستالين وسط بحر من العبارات الماركسية. غير ان هذه الحاسة، مع الاسف، لم تسعف زكي خيري في اكتشاف كافة الشعارات الاصلاحية التحريفية الانتهازية التي رفعتها زمرة خروشوف كالانتقال السلمي الى الاشتراكية والطريق اللاراسمالي صوب الاشتراكية والغاء دكتاتورية البروليتاريا وحزب الطبقة العاملة، هذه الشعارات التي وصفها الشيوعيون في أرجاء العالم، وربما زكي خيري ايضا، بالببان الشيوعي لعصرنا، والتطوير الخلاق للماركسية والقضاء على الجمود العقائدي وغير ذلك من الاوصاف التي لا يمكن تعدادها في هذا المقال.
انا لا اشك في قوة الذاكرة لدى زكي خيري ولكني مع ذلك وددت ان اراجع المصدر للتأكد من دقة العبارة التي اوردها زكي خيري من الذاكرة بعد ستين عاما. نشرت المقابلة بين ستالين واج جي ويلز في المجلد ١٤ من مؤلفاته تحت عنوان "الماركسية ضد الليبرالية" فماذا وجدت؟ قرأت ٢٤ صفحة رائعة لا تقل حيويتها اليوم عن حيويتها وقت اجرائها بل تزيد لانها توجه صفعة في وجه كل التحريفيين الذين باعوا شعوب الاتحاد السوفييتي والديمقراطيات الشعبية وخانوا الاشتراكية وتخلوا عن الماركسية. رأيت حديثا يدل على عظمة هذا القائد الكبير الواسع الصدر، ومثالا رائعا لكيفية التعامل مع شخصية مثل اج جي ويلز، وافحامه بدون مهاجمته او جرح شعوره. في حديثه كان ستالين يصغي بامعان لاقوال اج جي ويلز فيجيب عليها نقطة فنقطة من دون ان يتنازل ولو قيد شعرة عن ثورية الماركسي اللينيني وعن الثورة. في الواقع لا يمكن التعبير بما فيه الكفاية عن روعة هذا الحديث الشيق باقتباس مقتطفات منه بل كان ينبغي الحاقه كليا بهذا المقال. ولكني ساكتفي باقتباس نتف منه تتعلق بالاصلاحية والثورية.
ويلز: "اوافق على الكثير مما قلته. ولكني اود ان اؤكد على نقطة انه اذا تبنت بلاد بكليتها مبدأ الاقتصاد المبرمج، اذا بدأت الحكومة تدريجيا، خطوة بعد اخرى، بتطبيق هذا المبدأ باستمرار، فان الاوليجاركية العالية ستزول في النهاية وتتحقق الاشتراكية، بالمعنى الانجلو سكسوني. ان تأثير الصفقة الجديدة، لروزفلت قوي جدا وفي رأيي هي اراء اشتراكية. يبدو لي انه بدلا من التركيز على التناحر بين العالمين علينا في الظروف الحالية ان نسعى الى ايجاد لغة مشتركة لجميع القوى البناءة".
ستالين: "...من الناحية النظرية طبعا لا يمكن استثناء التقدم تدريجيا، خطوة بعد اخرى، تحت ظروف الراسمالية نحو الهدف الذي تسميه اشتراكية بالمعنى الانجلو سكسوني للكلمة. اي نوع من الاشتراكية ستكون؟ في احسن الظروف تكون كبح اكثر الممثلين الشخصيين جموحا الى الربح الراسمالي الى حد ما، بعض الزيادة في تطبيق مبدأ تنظيم الاقتصاد القومي. وهذا جيد جدا. ولكن حالما يقوم روزفلت او اي ربان اخر من ربابنة العالم البرجوازي المعاصر، بالاضطلاع بأمر جدي ضد اساس الراسمالية، فمن المحتم انه سيجابه اندحارا تاما. فالبنوك والصناعات والمشاريع الكبرى والمزارع الواسعة ليست في ايدي روزفلت بل كل هذه الملكيات هي ملكيات خاصة، والسكك الحديد والاساطيل التجارية كلها تعود الى مالكين خاصين. واخيرا جيش العمال الماهرين والمهندسين والتكنيكيين هؤلاء ايضا ليسوا تحت قيادة روزفلت، بل تحت قيادة المالكين الخاصين، اذ كلهم يعملون لدى مالكين خاصين. علينا الا ننسى وظائف الدولة في العالم البرجوازي. فالدولة مؤسسة لتنظيم الدفاع عن البلاد وتنظيم صيانة النظام. انها جهاز لجباية الضرائب. فالدولة الراسمالية لا تعالج الاقتصاد بصورة واسعة بالمعنى الدقيق للكلمة. فالاقتصاد ليس في ايدي الدولة بل بالعكس توجد الدولة في ايدي الاقتصاد الراسمالي. لذا اخشى انه رغم كل هذه الطاقات والقدرات، لن ينجز روزفلت الهدف الذي تذكره، اذا كان هذا هدفه حقا. ربما، في سياق عدة اجيال، يمكن التقرب من هذا الهدف بعض الشيء، ولكني شخصيا اعتقد ان هذا ايضا ليس محتملا جدا" (ستالين م ١٤ ص ٢٤)
هل هذا موافقة بالايجاب على امكانية التحول الى الاشتراكية بالطريق الاصلاحي خلال مائة عام كما يوحي لنا زكي خيري؟ اترك للقارئ الكريم ان يقرر ذلك. هذه هي الفقرة الوحيدة في الحديث التي تحمل بعض الشبه بما اقتبسه زكي خيري من الذاكرة نظرا لوجود ذكر الاشتراكية بالمفهوم الانجلو سكسوني ووجود عبارة اجيال وامكانية التقدم نحو هذا الهدف الخ.. ولكن لا بأس في ان نقتبس نتفا اخرى من هذا الحديث الرائع لاظهار موقف ستالين من الثورة ومن الاصلاح.
بعد ان يبين سالين تركيب المجتمع الراسمالي من بروليتاريا وراسمالية وعدم امكانية التوفيق بين مصالح هاتين الطبقتين يقول "لي بعض الخبرة في النضال من اجل الاشتراكية وهذه الخبرة تعلمني انه لو قام روزفلت بمحاولات حقيقية لتلبية مصالح الطبقة البروليتارية على حساب الطبقة الراسمالية فان الاخيرة تنصب رئيسا اخر بدلا منه." (ستالين م١٤ ص٢٧- ٢٨)
حول دور القادة والاحزاب قال ستالين "ان تحقيق ثورة يحتاج الى اقلية قيادية ثورية الا ان المع اقلية واكثرها اخلاصا وقدرة تصبح عاجزة اذا لم تستند الى مساندة الملايين مساندة سلبية على الاقل. (وعلى اعتراض اج جي ويلز بسؤال سلبية على الاقل؟ وربما غير واعية؟) اجاب ستالين "غير واعية جزئيا او شبه واعية ولكن احسن اقلية تصبح عقيمة بدون مساندة الملايين." (م ١٤ص ٣٤)
وحول معارضة الثورات والايمان بالاصلاح اجاب ستالين:
"يستند الشيوعيون على اساس التاريخ ... ان خبرات التاريخ الغنية تعلمنا انه لحد اليوم لم تفسح اية طبقة طوعا الطريق لطبقة اخرى. لم تحدث اية سابقة كهذه في تأريخ البشرية. وقد تعلم الشيوعيون هذا الدرس التاريخي. ان الشيوعيين يرحبون بانسحاب البرجوازية انسحابا خياريا. الا ان مثل هذا التحول التدريجي غير محتمل. هذا ما تعلمنا اياه التجربة. ولهذا يريد الشيوعيون ان يكونوا على حذر، وعلى اشتعداد للمعركة." (م ١٤ ص ٣٧-٣٨)
وردا على محاولة اج جي ويلز باقناع ستالين ان اصلاحا هو بمثابة ثورة صغيرة قال:
"بسبب الضغط من اسفل، ضغط الجماهير، تلجا البرجوازية احيانا الى التنازل عن بعض الاصلاحات الجزئية مع الابقاء على اساس النظام الاجتماعي الاقتصادي القائم. وحين تعمل البرجواية بهذه الطريقة تجري حساباتها على ان هذه التنازلات ضرورية لغرض المحافظة على حكم طبقتها. هذا هو جوهر الاصلاح اما الثورة فتعني نقل السلطة من طبقة الى اخرى. لهذا من المستحيل وصف الاصلاح كثورة. ولهذا السبب لا نستطيع الاعتماد في تغيير الانظمة الاجتماعية بشكل انتقال غير محسزس من نظام الى اخر عن طريق الاصلاحات، عن طريق تنازلات الطبقة الحاكمة" (م ١٤ ص ٤٢- ٤٣)
اليس من حق زكي خيري اذن ان يغار على ستالين اذا ظن، وبعض الظن اثم، انه يؤيد الاصلاحية في الانتقال من الراسمالية الى الاشتراكية؟ ان ستالين في نظر زكي خيري، متشدد في اليسارية ولابد ان زكي خيري حين يصف ستالين بالتشد اليساري، يقصد ان ستالين كان شيوعيا، فالشيوعية هي اقصى الحركات السياسية اليسارية تشددا، بل هي الحركة اليسارية الحقيقية الوحيدة في عصرنا. فالشيوعي لا يحيد عن يساريته لحضة واحدة. واذا حاد عنها لحظة فهو ليس شيوعيا في تلك اللحظة. لذا لا معنى لوصف الشيوعي بالتشدد اليساري. فكل الحركات، على اختلاف صفاتها وتشمياتها، بما في ذلك ما يسمى بالحركات اليسارية او "اليسارية" ، رغم انها قد تكون يسارية بالقياس الى حركات سياسية اخرى، ليست سوى حركات يمينية بالقياس الى الشيوعية ولهذا لا يمكن ايضا وصف الشيوعي بالميول اليمينية، اذ ان من يتصف بالميول اليمينية لا يمكن ان يكون شيوعيا او ماركسيا باي حال من الاحوال.
ثم يشير زكي خيري الى خطل جواب ستالين الذي وضعه هو بقوله "وها قد مرت ستون عاما ونيف ولم تصبح بعد بريطانيا اشتراكية بل ابتعدت عنها اكثر خلال حكم ثاجر وميجر ... ناهيك عن امريكا"(ص٣٧)
يبدو ان زكي خيري نسي ان الاشتراكية التي تحدث عنها اج جي ويلز، الاشتراكية بالمفهوم الانجلو سكسوني، تحققت على ايدي حكومة العمال. وان هذه الحكومة قد سارت شوطا بعيدا، شأنها في ذلك شأن جمال عبد الناصر فيما بعد، في تحقيق قطاع الدولة، او القطاع الاشتراكي، او الاقتصاد المتعدد الانماط لدى تأميمها للبنك البريطاني المركزي والسكك وانتاج الطاقة الكهربائية وصناعة الغاز والتلفونات وصناعة الفولاذ واستخراج الفحم. وقد اثيرت في حينه ضجة كبيرة بين الاحزاب الاشتراكية عن تحقيق الاشتراكية بالطريق الاصلاحي. ولابد ان زكي خيري ما زال يتذكر تحليلات القادة الشيوعيين انذاك عن تأميم الصناعتين الاخيرتين، صناعة الفولاذ واستخراج الفحم ، ووصف هذه التأميمات بانها كانت انقاذا لهتين الصناعتين ولاصحابهما الراسماليين من الافلاس.
ويبدو ان زكي خيري لم يطلع كثيرا على سياسة حزب المحافظين بقيادة ثاجر ثم ميجر ولم يلاحظ ان سياسة هذا الحزب الاستراتيجية المعلن عنها كانت وما زالت حتى هذه اللحظة القضاء على الاشتراكية واتخاذ هذا الشعار حجة لخصخصة جميع مشاريع راسمالية الدولة الواحد بعد الاخر.
واكثر من ذلك. في المؤتمر العشرين نبش خروشوشف شعار الاممية الثانية بالانتقال السلمي الى الاشتراكية وأخذ حزبه وجميع الاحزاب التي سارت في ركابه يروجون لهذا الشعار ويعدون الشعوب بتحقيق الاشتراكية بهذا الطريق الاصلاحي. وانتظرت الشعوب بلهف تحقيق هذه الاشتراكية في اوروبا وكانت الانظار تتجه بالدرجة الرئيسية نحو فرنسا وايطاليا نظرا لسعة حزبيهما الاوروشيوعيين وامجادهما القديمة في النضال ضد النازية والفاشية.
واخيرا حلت المعجزة وجاءت جبهة حزب الاممية الثانية الاشتراكي الفرنسي والحزب الاوروشيوعي الفرنسي الى الحكم عن طريق الانتخابات واستبشر العالم، نتيجة خداع الخروشوفيين، بحلول الاشتراكية في فرنسا. وكل انسان في العالم يعلم المصير المخزي الذي آلت اليه هذه الجبهة رغم ان اثرها ما زال قائما في المسيو ميتران رئيس الحزب الاشتراكي ورئيس الجمهورية الذي يعمل يدا بيد مع حكومة اقصى اليمين.
وهنا تدوي كلمات ستالين التي قالها لاج جي ويلز سنة ١٩٣٤ صفعة لا في وجه احزاب الاممية الثانية والاممية الثانية والنصف فقط بل والاحزاب التحريفية في جميع انحاء العالم حيث قال "لا نستطيع الاعتماد في تغيير الانظمة الاجتماعية بشكل انتقال غير محسوس من نظام الى آخر عن طريق الاصلاحات، عن طريق تنازلات الراسمالية" وكل كلمة جاءت في الحديث مع اج جي ويلز.وقد ثبت اليوم ان شعار التحول السلمي من الراسمالية الى الاشراكية لم يكن يعني سوى تغطية الانتقال من الاشتراكية الى الراسمالية.
اسباب الكارثة
في كل موضوع ناقشه زكي خيري في كراسه تقريبا وجد سبب لانهيار الاتحاد السوفييتي والاشتراكية. ولكنه لم يدرج بين هذه الاسباب السبب الحقيقي الوحيد للانهيار وهو وجود طغمة خروشوف بريجنيف غورباشوف التحريفية التي تخلت عن الماركسية ووضعت نصب عينيها هدفا استراتيجيا واحدا هو القضاء على الاشتراكية واعادة الراسمالية الى الاتحاد السوفييتي. وفي هذا القسم من المقال نناقش بعض هذه الاسباب التي اوردها.
يقول زكي خيري "لو انه (مسوح) يتهم الماركسيين بانهم حولوا الماركسية الى عقيدة جامدة (دوغما) لكان هذا اتهاما واردا وواقعيا في كثير من الاحيان ويفسر الى حد بعيد الازمة الراهنة في الحركة الشيوعية" (ص١١)
ويقول ايضا "ان النقد يجب ان يوجه الى الماركسيين انفسهم الذين كفوا عن تطوير النظرية خلافا للحكمة المعروفة وهي ان الامانة للماركسية هي تطوير الماركسية" (ص٥)
لكي نستطيع مناقشة هذه النقطة يترتب اولا ان نضع تعريفا لتطوير الماركسية. نشأت الماركسية على اساس الدراسة المادية الديالكتيكية لحركة المجتمع. والمادية الديالكتيكية، كما هو معروف، قانون طبيعي يتحكم بالحركة في الطبيعة والمجتمع على حد سواء. فقانون المادية الديالكتيكية كان يتحكم في حركة الطبيعة منذ الازل وما زال يتحكم فيها وفي حركة المجتمع وسيبقى يتحكم فيها الى الابد. فقانون الديالكتيك قانون طبيعي كسائر القوانين الطبيعية موجود وفاعل بصرف النظر عن ارادة الانسان، وسواء أكان الانسان قد عرفه ام لا. يجري الخلط احيانا بين ظاهرتين مختلفتين: القانون الطبيعي وانعكاسه في دماغ الانسان، اي العلم. فالقانون الطبيعي قانون موضوعي يفعل خارجا عن نطاق ارادة الانسان، بل ان نشوء الانسان والمجتمع البشري ذاته هو نتاج مفعول قوانين طبيعية لا دخل فيها لارادة الانسان. وفانون الديالكتيك هو احد هذه القوانين الطبيعية، قانون الحركة. وليست للانسان القدرة على التأثير على اي قانون طبيعي بما في ذلك قانون الديالكتيك، فهو لا يستطيع تغييره او استبداله او وضع قانون جديد بدلا منه او تطويره. وهذا يعني ان عبارة تطوير الديالكتيك عبارة لا معنى لها. اذ لو استطعنا تطويره لاستطعنا تغييره او الغاءه.
الا ان هذه القوانين الطبيعية تنعكس في الدماغ البشري الواحد بعد الاخر فتصبح علما. وقد اكتشف الانسان خلال احتكاكه بالطبيعة العديد من هذه القوانين الطبيعية وما زال يكتشفها يوما بعد اخر. هذا الانعكاس للقوانين الطبيعية في الدماغ البشري، العلم، هو الذي يستطيع الانسان ان يطوره سواء عن طريق زيادة وتعميق معرفته للقانون ذاته ام في اكتشاف جوانب جديدة فيه لم يكن قد عرفها من قبل او اكتشاف قوانين جديدة قد ترتبط او لا ترتبط بهذا القانون او ذاك. ولكن معرفة الانسان لقانون طبيعي ايا كان لا تمنحه القدرة على الغائه او تغييره او تطويره. جل ما يستطيع الانسان ان يفعله هو ان يتعلم كيف يستفيد من مفعول القانون لتلبية اغراض المجتمع الذي يعيش فيه. فالانسان يستطيع ان يطور علمه للقوانين ولكنه لا يستطيع التأثير على القوانين الطبيعية ذاتها وهذا ما يقصد بعبارة عدم امكان تطوير الديالكتيك. وقد عبر ستالين عن ذلك اذ قال:
"ان الماركسية تعتبر قوانين العلم ـــ سواء أكانت قوانين العلوم الطبيعية ام قوانين الاقتصاد السياسي ــــ انعكاسا للعمليات الموضوعية التي تحدث مستقلة عن ارادة الانسان. يستطيع الانسان ان يكتشف هذه القوانين وان يعرفها وان يدرسها وان يحسب حسابها في نشاطاته وان يستفيد منها لمصلحة المجتمع، ولكنه لا يستطيع تغييرها او الغاءها. وهو اعجز من ذلك في المقدرة على خلق قوانين جديدة." (ستالين م١٦ ص ٢٩٠)
والماركسية، ظهرت عن طريق تحليل ماركس لحركة المجتمع، المجتمع الراسمالي القائم، والمجتمعات السابقة وفقا لقانون الديالكتيك، وتحديد التناقضات القائمة في كل حركة، وفي حركة المجتمع عموما، ورؤية النقيض النامي المتقدم والنقيض الزائل في كل حركة وفي حركة المجتمع ككل، وتمييز اتجاه مساندة النقيض المتقدم لغرض الثورة على النقيض الزائل والاطاحة به واحتلال محله. بدراسة المجتمع الراسمالي بهذه الطريقة توصل كارل ماركس الى الاتجاه الحتمي للتأريخ الانساني، الاتجاه نحو الاشتراكية والشيوعية، عن طريق ثورة النقيض المتقدم، البروليتاريا، على النقيض الزائل، الراسمالية واقامة دكتاتورية البروليتاريا لقمع الطبقة المطاح بها ومنعها من استعادة قواها ولبناء المجتمع الجديد الخالي  من استغلال الانسان للانسان.
والانسان استخدم شتى القوانين الطبيعية، بما فيها المادية الديالكتيكية بهذه الطريقة حتى قبل معرفتها. فهو استخدم السفن وتعلم كيفية تطويفها على الماء قبل ارخيميدس، وعلم كيف يبني العمارات الثابتة قبل اكتشاف نيوتن لقانون الجاذبية وغير ذلك الكثير. بل ان الانسان استخدم المادية الديالكتيكية قبل معرفتها، وعلى سبيل المثال نورد ثورات العبيد والثورات البرجوازية. بل ان العلماء في مختبراتهم العلمية استخدموا المادية الديالكتيكية وما زالوا يستخدمونها في بحوثهم العلمية رغم انكار اغلبهم لوجودها. والمثال الحي لذلك هو داروين، فقد توصل ديالكتيكيا الى نظرية تطور الاحياء رغم انه لم يعلم عن المادية الديالكتيكية شيئا. وقد قدر ماركس وانجلز ذلك وقال ماركس عنه "انه فعل في تطور الاحياء ما فعلته في تطور المجتمع" (الاقتباس من الذاكرة)
من هذا يمكن التوصل الى تعريف لتطوير الماركسية. ان تطوير الماركسية معناه تحليل الوضع المستجد في حركة المجتمع تحليلا ديالكتيكيا، تحديد التناقض الرئيسي فيه، تحديد النقيض النامي المتقدم والنقيض الزائل ، تحديد طريقة السير بالنقيض المتقدم نحو الاطاحة بنقيضه الزائل، والحلول محله وقمع بقاياه لمنعه من استعادة قواه والسير بالمجتمع الجديد في الطريق التي يؤدي اليها التحليل الديالكتيكي. وباختصار يعني تطوير الماركسية تحليل الوضع الراهن تحليلا ديالكتيكيا وتحديد السياسة الماركسية الثورية المترتبة على هذا التحليل.
فهل طور الماركسيون الماركسية بهذا المعنى؟
ان زكي خيري ينتقد الماركسيين عموما على الكف عن تطوير الماركسية وعلى تحويلها الى عقيدة جامدة بدون ان يكلف نفسه عناء تحديد الماركسيين الذين ينتقدهم لعدم تطوير الماركسية والفترة التي عاشوا فيها وحولوا الماركسية فيها الى عقيدة جامدة. وهذا يخلق البلبلة في نفوس قرائه. اذ يصبح للقارئ حق التوصل الى ان المراكسيين لم يطوروا الماركسية بتاتا في جميع فترات التطور وانهم حولوها الى عقيدة جامدة بصورة دائمة. وكذلك يسمح للقارئ بان يتوصل الى نتائج يحددها هو بنفسه ويعتبرها مثلا لما ذكره زكي خيري نظرا لان زكي خيري لم يحدد له المواقف المضبوطة التي يتحدث عنها. ففي كل فترة لا تعجبه يعتبر الماركسيين كفوا فيها عن تطوير الماركسية وحولوها الى عقيدة جامدة مثلما قال زكي خيري.
ولكن هل تقاعس الماركسيون حقا وبصورة عامة عن تطوير الماركسية؟
لا شك ان زكي خيري لا يتهم ماركس وانجلز ولينين بهذه التهمة. ومعروف، وقد ذكر زكي خيري بالتفصيل، ان لينين، بعد دراسة الظروف المستجدة في عصر الامبريالية، توصل الى استنتاجات جديدة طور الماركسية فيها مما استوجب اضافة مصطلح اللينينية على الماركسية. نذكر من هذه التجديدات اهمها فقط على سبيل المثال لان زكي خيري عدد الكثير منها حين دافع عن اللينينية. انها مقولة امكان بناء الاشتراكية في قطر زاحد خلاف مقولة كارل ماركس التي كانت تتطلب قيام الثورة في البلدان الراسمالية المتطورة في ان واحد. وقد سلك لينين في هذا التطوير بالضبط كما يريد زكي خيري، اي انه لم ينف ولم يلغ استنتاجات ماركس القديمة بل اعتبرها صحيحة حسب الظروف التي وضعت فيها وفسر الظروف التي استوجبت التوصل الى الاستنتاج الجديد. وعلى اساس هذا الاستنتاج استطاع الاتحاد السوفييتي بناء المجتمع الاشتراكي. ولم يكن قادة الاتحاد السوفييتي الماركسيون هم الذين حولوا الماركسية في هذا الصدد الى عقيدة جامدة بل كان الانتهازيون والتحريفيون المعادون للماركسية أمثال تروتسكي وتخارين وكامينيف وزينوفييف ومن ساروا تحت قيادتهم هم الذين حولوا النظرية الى عقيدة جامدة بان زعموا ان من المستحيل بناء مجتمع اشتراكي في الاتحاد السوفييتي ذي الاكثرية الفلاحية ما لم تحدث الثورة في بلدان اوروبا المتقدمة صناعيا (اي انهم ارادوا تطبيق مقولة ماركس على الظروف المستجدة في عصر الامبريالية).
وبعد وفاة لينين هل طور الماركسيون الماركسية؟ لا شك ان الماركسيين بقيادة ستالين لم يكونوا قادرين على بناء المجتمع الاشتراكي لو لم يطوروا الماركسية باكتشاف اتجاه الحركة في كل فترة من فترات السير في شق الطريق الجديد الذي لم يسبق للبشرية ان سلكته من قبل. ففي الفترة الاولى من السياسة الاقتصادية الجديدة (النيب) توصل الحزب الشيوعيى البلشفي بقيادة ستالين وباتباع توصيات لينين، الى ان الهدف الرئيسي فيها هو التنمية الزراعية لان الصناعة لا يمكن تطويرها في الهواء بل تتطلب حدا ادنى من المواد الخام للصناعة والمواد الغذائية للعمال. وتوصلوا في المرحلة الثانية من النيب الى وجوب التحول من اعتبار التنمية الزراعية اساسا الى اعتبار التنمية الصناعية اساسا لان الصناعة اصبحت الاساس الذي يعتمد عليه تطوير الزراعة اذ تزودها بالالات الزراعية الحديثة والمنتجات الصناعية اللازمة لتطوير الزراعة ولرفع مستوى الفلاحين. وهنا ايضا كان الانتهازيون بشتى اسمائهم واسماء منظماتهم هم الذين وقفوا ضد اعتبار الزراعة اساسا في المرحلة الاولى واعتبار الصناعة اساسا في المرحلة الثانية.
ولدى تطور الصناعة نسبيا وتطور الزراعة التعاونية توصل الحزب الشيوعي بقيادة ستالين الى ان الكولاك الذين اعلنوا تمردهم على الحكم السوفييتي ودفنوا محاصيلهم ورفضوا تسليم حصصهم للحكومة، اصبحوا العائق الاكبر في سبيل تقدم الزراعة التعاونية في الاتحاد السوفييتي والسير قدما في طريق البناء الاشتراكي. وعلى هذا الاساس قرر الحزب بان الاوان قد آن للقيام بالمرحلة التي عجزت ثورة اكتوبر عن انجازها في حينه، بسبب ظروفها الاقتصادية، مرحلة القضاء على البرجوازية كطبقة واكبر جزء منها طبقة الكولاك فاعلن الحزب عن خطه الجديد، خط ابادة الكولاك كطبقة، ودفع الفلاحين والعمال الزراعيين والمزارعين التعاونيين لتحقيق هذا الهدف تحت قيادة البروليترايا والحزب الشيوعي البلشفي. وتحقق هذا الهدف اذ في الفترة الواقعة بين ١٩٢٨ و ١٩٣٣ قضى نهائيا على الزراعة الكولاكية واصبحت الزراعة التعاونية هي السائدة في الاتحاد السوفييتي كله. وهنا ايضا كان الانتهازيون والتحريفيون بحجج شتى، وخصوصا بحجة التخلي عن سياسة النيب، هم الذين قاوموا تطوير الماركسية وحاولوا تحويلها الى عقيدة جامدة بجمودهم على سياسة النيب.
وهل طور الماركسيون الماركسية في العراق مثلا؟ لقد درس الحزب الشيوعي العراقي بقيادة فهد ظروف العراق وحدد اتجاه الحركة فيه وحدد شعاراته لهذه الحركة بمرحلتيها، مرحلة الثورة البرجوازية ومرحلة الثورة الاشتراكية. وقد جاء الميثاق الذي اقره مؤتمر الحزب معبرا عن ذلك. كان هذا تطويرا للماركسية من حانب الحزب الشيوعي بقيادة فهد. وبدلا من ان تسير القيادات التي خلفت فهد في هذا الخط الماركسي الصحيح لجأت الى تغييره، بحجة تطوير الماركسية والغاء الجمود العقائدي ومكافحة التطرف اليساري. فالغى باسم ميثاق فهد الذي اقره مؤتمر حزبي، ووضع ميثاقه الارتجالي الذي طمس مراحل التطور في الحركة الثورية العراقية. وجاء الكونفرنس الثاني سنة ١٩٥٦ ليلغي كل المبادئ الماركسية التي وضعها الرفيق فهد للحزب مثل قيادة الطبقة العاملة للثورة البرجوازية او الثورة الوطنية ومرحلتي الثورة، بل حتى ضرورة الثورة ذاتها متوصلا الى ان الطابع الغالب للحركة هو طابع سلمي حتى بوجود حكومة نوري السعيد (ولو ان الحزب غير كلمة سلمي بكلمة ثوري بعد انتفاضة الحي). وقد كان هذا الاتجاه باعتراف الحزب جريا وراء مقررات المؤتمر العشرين وتاثرا بها. فمن المسؤول اذن عن عدم تطوير الماركسية او تطويرها باتجاه انتهازي لا ثوري؟ هل هو فهد الماركسي ام القيادات الانتهاية التي خلفته؟
توصل الحزب بقيادة فهد الى ان الحزب يقوى ويشتد ساعده بتطهيره من الانتهازية، وبين ان الانتهازية ليست قضية عرضية بل هي اتجاه حتمي في ظروف العراق الاجتماعية. ولكن القيادات التي خلفته الغت هذا المبدأ الماركسي السليم واتخذت خطا معاكسا هو ما سمي "القضاء على الانتهاية" بادخالها الى الحزب. فهل كان فهد الماركسي الذي تقاعس عن تطوير الماركسية ام كان القادة الانتهازيون هم الذين شوهوا الماركسية بحجة تطويرها؟
بعد ١٤ تموز حمل الحزب الشيوعي، خلافا للميثاق الذي حدد منذ البداية ان شعار الحزب في المرحلة الثانية يجب ان يكون الثورة الاشتراكية ودكتاتورية البروليتاريا، شعار صيانة الجمهورية شعارا استراتيجيا وهو شعار ليست له اية صفة من صفات الشعار الاستراتيجي. فهل كان فهد هو الذي تقاعس عن تطوير الماركسية ام كان القادة الانتهازيون؟ ان الامثلة كثيرة وكلها تثبت ان الماركسيين الحقيقيين طوروا الماركسية وفقا للظروف المستجدة في حركاتهم الاجتماعية والسياسية وان اعداء الماركسية هم الذين طوروها في اتجاه يحرمها من مضمونها الثوري، في اتجاه انتهازي تحريفي.
بقول زكي خيري "واذا كان تطور الظروف التاريخية قد خلف بعض استنتاجات لينين في هذا الصدد الى الوراء فالظروف تتغير باستمرار وعلى العلماء ان يتابعوا هذا التغيير ويأخذونه في الحسبان." (ص ٢٤)
من هذا يبدو ان زكي خيري يعتقد ان بعض استنتاجات لينين اصبحت عتيقة ولم تعد تعبر عن الظروف المستجدة في عصرنا. وهذا جميل جدا. ولكن هذا القول لا يشكل سوى عبارة عامة، لذلك فهي عبارة لا معنى لها. فما فائدة هذا التأكيد على ضرورة تطوير الماركسية اللينينية حسب الظروف الجديدة؟ ماذا يستفيد قارئ زكي خيري من هذا التأكيد؟ ان القارئ يتوقع من ماركسي مثل زكي خيري الا يكتفي بهذا التأكيد العام الشامل بل يطالبه بارشاده الى الاستنتاجات اللينينية التي اصبحت في اعتقاده عتيقة والاستعاضة عنها باستنتاجات جديدة مع تبيان الاسباب المبررة لاعتبارها عتيقة وتبرير الاستنتاجات الجديدة وفقا للتحليل العلمي للظروف المستجدة. ولكن التأكيد العام الشامل لا يؤدي بحد ذاته الا الى تشويش افكار القارئ البسيط وحيرته. ومن نتيجة ذلك قد يعتبر كل استنتاج لينيني يخطر على باله استنتاجا عتيقا. ولكن زكي خيري القى هذه العبارة العامة على عواهنها لكي يوهم القارئ المسكين بانه الماركسي المتطلع على تطورات الظروف التاريخية والحلول المترتبة عليها.
وهل طور الماركسيون الماركسية وهل حاولوا استبدال الاستنتاجات اللينينية القديمة باستنتاجات جديدة؟
بعد وفاة ستالين ووصول زمرة خروشوف بريجينيف غورباشوف الى السلطة سلكوا الطريق الذي نوه اليه زكي خيري، واستبدلوا العديد، ان لم يكن جميع، استنتاجات اللينينية باستنتاجات جديدة بحجة تطوير الماركسية، بل وتطويرها تطويرا خلاقا.
ليس من الممكن تعداد ومناقشة جميع الاستنتاجات اللينينية التي استبدلها التحريفيون بل سنكتفي بذكر الاستنتاجات البارزة منها على سبيل المثال لا الحصر.
اعتبرت الماركسيية، ثم الماركسية اللينينية المبدأين الاساسيين للنظرية الماركسية والحركة الشيوعية مبدأ الثورة ومبدأ دكتاتورية البروليتاريا.
وقد استبدل التحريفيون الخروشوفيون شعار دكتاتورية البروليتاريا بشعار دولة الشعب بحجة تطوير الماركسيية من ماركسية الاشتراكية الى ماركسية الاشتراكية العليا المتطورة. وزعموا ان شعوب الاتحاد السوفييتي قد خلت من اعداء الاشتراكية فلم يعد ثمة لزوم للدكتاتورية. واستنادا الى ذلك رفعت الاحزاب الشيوعية الموالية للتحريفيين شعار الديمقراطية عموما (وهو لا يمكن ان يكون شيئا سوى الديمقراطية البرجوازية) بدلا من شعار دكتاتورية البروليتاريا الذي كان شرطا اساسيا من شروط قبول اي حزب في الاممية الثالثة. وظهر من التطور التاريخي ان دولة الشعب كله لم تكن في واقع الحال سوى دكتاتورية البرجوازية ضد شعوب الاتحاد السوفييتي.
واستنبط التحريفيون شعار الطريق اللاراسمالي صوب الاشتراكية. وهذا الشعار هو نسخة ثانية من شعار التحول السلمي الى الاشتراكية معدلة وفق ظروف الدول المتأخرة (او ما يدعى خطلا بدول العالم الثالث). وقد ظهر ان الطريق اللاراسمالي لم يكن في هذه البلدان سوى تغطية للدكتاتوريات  البرجوازية ووسيلة للقضاء على الحركات الثورية والاحزاب الشيوعية ذاتها (نوقش هذا الشعار بالتفصيل في مكان اخر من المقال).
واشار زكي خيري الى استنتاج اخر في هذا المضمار هو استنتاج التعايش السلمي كمثل على ابداعات الماركسية اللينينية لدى تعداده للانجازات التي حققتها الاشتراكية فقال "ومن ابداعات النظرية الماركسية اللينينية نظرية التعايش السلمي بين الانظمة الاجتماعية المتعارضة التي صانت السلام العالمي وحالت دون قيام حرب عالمية ثالثة" (ص ١٢)
والتعايش السلمي هو تطوير فعلي للماركسية اللينينية في ظروف جديدة نشأت بعد الحرب العالمية الثانية. فالتعايش السلمي هو استبدال لنظرية لينين في حتمية الحرب العالمية في عصر الامبريالية. وقد توصل ستالين الى هذا بعد تحليله لاوضاع ما بعد الحرب وظهور المعسكر الاشتراكي وتصاعد الثورات التحررية في ارجاء العالم ونشوء حركة السلام. ولكن التحريفيين الخرشوفيين قلبوا هذه النظرية رأسا على عقب واعلنوها وكأنها من اكتشافاتهم.. وكانت نتيجة سياسة التعايش السلمي الخروشوفي في الواقع انتهاء الاتحاد السوفييتي ذاته. (ناقش الكاتب هذا الموضوع بالتفصيل في مقال منفصل تحت عنوان التعايش السلمي من ستالين الى خروشوف، فند فيه بين ما فند زعم زكي خيري بان التعايش السلمي انقذ العالم من حرب عالمية ثالثة وان الحرب العالمية اصبحت في حكم المحال).
وفي كل هذه التغييرات في النظرية اللينينية لم يسلك الخروشوفيون الطريق التي يفضلها زكي خيري، طريق اظهار المقولات الجديدة كتغيير للمقولات القديمة واعتبارها تطويرا لها ولم يناقشوا الاسباب التي حتمت ظهور المقولات الجديدة التي كانت في اكثر الاحيان معاكسة للمقولات اللينينية ومماثلة لمقولات الاممية الثانية وسائر الاصلاحيين.
يظهر من كل ما سبق ان الماركسيين لم يكفوا عن تطوير الماركسية بل واصلوا تطويرها على الدوام وفقا للظروف الجديدة وظروف مجتمعاتهم النوعية وان الماركسيين المزعومين، التحريفيين والانتهازيين واعداء الماركسية واللينينية والاشتراكية والشيوعية في ارجاء العالم، لم يكفوا هم ايضا عن تزييف الماركسية بحجة تطويرها تطويرا خلاقا وغير ذلك من المزاعم التي مارستها جميع الاحزاب الشيوعية الضالعة بالتحريفية الخروشوفية بما فيها حزب زكي خيري.
لقد اورد زكي خيري سلسلة من اسباب انهيار الاشتراكية ولكنها حسب رايي استمرارية لعقلية معينة لذا اناقشها باختصار حسب تسلسلها التاريخي.
بدأ زكي خيري بقوله "ان افضلية الاشرتاكية ... حسب راي لينين ـــ ادرك العامل في الاشتراكية لاول مرة انه يعمل لنفسه. ولم يكن هذا محض تصور من تصورات لينين حول بناء الاشتراكية في روسيا بل كان اهم مبدأ لينيني لبناء الاشتراكية  في اي قطر من اقطار العالم. ومن الاخلال بهذا المبدأ على وحه التعيين نشأت جذور الازمة تأريخيا في النظام الاشتراكي."
ويضيف "يجب ان يكون للعامل مصلحة مباشرة في نجاح المشروع اقتصاديا والعكس بالعكس ... لا ان تذهب ارباح المشروع الى خزينة الدولة ولا ان تسدد هذه خسائره. (ص ٢٨- ٢٩)
يضع زكي خيري هذا الكلام وكأنه كلام لينين ولا يشير الى مصدره. اخشى ان يكون قد اقتبسه من صاحبه انولاسيس الذي وضعه هو الاخر بدون ان يشير الى مصدره. (جاء نقاش هذا الموضوع بالتفصيل في مكان اخر من المقال).
ان هذا العامل الذي لا يلمس سوى الربح المباشر من المشروع الذي يعمل فيه  هو عامل ذو عقلية برجوازية ضيقة. فلا يستطيع ان يفهم ان الدولة دولته من الحقوق التي يكتسبها من الاشتراكية بل يفهمها من الربح المباشر للمشروع الذي يعمل فيه فقط.
يعتبر زكي خيري ان العامل في مثل هذا المشروع الخيالي يشارك في ارباح المشروع وفي خسارته ايضا ولم يبين لنا كيف يصبح بامكان العامل ان يمول الخسارة ومن اين ياتي بالمال اللازم لذلك. كذلك لا يبحث زكي خيري موضوع المنافسة بين المشاريع وكيف يحاول احدها تدمير الاخر لغرض زيادة ربح مشروعه الخ.. هذا هو المبدأ الاساسي الذي وضعه لينين، حسب ادعاء زكي خيري، لبناء الاشتراكية. والاستنتاج المنطقي من هذا هو ان جميع المشاريع ينبغي تحويلها الى مشاريع تكون للعامل فيها مصلحة مباشرة، اي تحويل المشاريع التي استولت عليها دكتاتورية البروليترايا الى مثل هذه المشاريع والا بقي العامل يشعر كالغريب في بيته. وكان تيتو اول من حقق مشروعات كهذه فيما اسماه الادارة الذاتية واقتبس الخروشوفيون منه ذلك فيما بعد. وبرهنت مشاريع تيتو والخروشوفيين انها لم تكن سوى مشاريع راسمالية مقنعة بعبارات منمقة.
ويزعم زكي خيري بعد ذلك ان جرجينسكي حقق ذلك سنة ١٩٢٦. نحن نعلم ان جرجينسكي كان مسؤولا من قبل الدولة عن لجنة المشاريع المشتركة التي تشكلت في روسيا السوفييتية خلال فترة النيب. وقد بلغ عدد هذه المشاريع سنة ١٩٢٢سبعة عشر مشروعا كان لينين يحث على زيادتها. كانت هذه المشاريع عبارة عن مشاريع تجارية وصناعية خفيفة مشتركة بين الدولة البروليتارية والراسمالية يتعلم فيها الشيوعيون التجارة وادارة المشاريع اضافة الى زيادة المنتجات المتبادلة مع الفلاحين. ان الاستنتاج المنطقي من تحليل زكي خيري هو زيادة هذه المشاريع التي يشعر العامل فيها انه يعمل لنفسه عل حساب مشاريع الدولة التي يشعر فيها العامل بالغربة "كانه غريب في داره" على حد تعبير زكي خيري.
ثم يزعم زكي خيري ان "لينين صاغ فكرته هذه في ظل السياسة الاقتصادية الجديدة في اوائل ١٩٢٢ في طروحاته عن نقابات العمال، باسم خزروشوت وقد ترجمت الى الحساب الاقتصادي (او حساب الكلفة او قاعدة الربح) "وهكذا تحقق اعظم تبدل في تاريخ الانسان من العمل بالاكراه الى العمل للنفس" (ص ٢٩)
هل يشكل الربح اساسا للاشتراكية كما هي الحال بالنسبة للراسمالية؟ لا شك انه كذلك. ولكن مفهوم الربح في النظام الاشتراكي يختلف عنه في النظام الراسمالي. ففي النظام الراسمالي يشكل الربح المباشر من المشروع حافز الراسمالي في الاستمرار في انتاج سلع معينة وتوسيع انتاجها او حافزه في الانتقال الى انتاج يتأمل منه زيادة في ارباحه. اما في النظام الاشتراكي فيشكل النظام الاقتصادي كله مشروعا واحدا بالنسبة لدولة دكتاتورية البروليتاريا ويقاس ربح هذا المشروع او ذاك بالارباح التي ينالها المجتمع كله من المشروع. فأرباح المجتمع الاشتراكي تقاس مثلا في القضاء على الازمات الاقتصادية والبطالة والدعارة وسائر اشكال جيش البطالة الاحتياطي ورفع مستوى العمال والفلاحين والمثقفين المعاشي والثقافي وزيادة الاجور وانخفاض الاسعار والمعالجة المجانية ورعاية الطفولة والامومة والدراسة المجانية اضافة الى ذلك زيادة الانتاج الاجتماعي الضروري زيادة سريعة والتخلص قدر الامكان من انتاج السلع غير الضرورية اجتماعيا. ولذلك فان نظرة العامل الى الربح ليست ربحه المباشر من المشروع الذي يعمل فيه بل التغير الذي يطرأ على المجتمع الاشتراكي (يناقش هذا الموضوع بالتفصيل لدى مناقشة التطور الصناعي).
ثم يقول زكي خيري "طبقت هذه السياسة الاقتصادية في السنوات الاولى فاقترنت مصلحة العمال بمصلحة المشروع وجدواه الاقتصادية وعلى اشاس هذه الشركة المادية قامت شراكة بين العمال والدولة في ادارة المشروع وادارة الانتاج." (ص ٢٩)
ففي هذه المشاريع اذن قامت شراكة بين العمال والدولة. ورغم ان لينين يسمي هذه المشاريع مشاريع مشتركة بين الدولة والراسماليين الاجانب والمحليين، يدعي زكي خيري انها شركة بين العمال والدولة وان العامل فيها يشارك في ربح وخسارة المشروع. فكيف يتسنى للدولة التخطيط لمشروع يديره العمال ويكافحون من اجل تطويره وزيادة ارباحه؟ ثم ان القول بوجود شراكة بين العمال والدولة في نظام حكم اشتراكي يدعو الى السخرية. فالمفروض ان الدولة هنا هي، شاء زكي خيري ام ابى، دولة العمال والفلاحين، دكتاتورية البروليتاريا، ولذلك فلا معنى لشراكة العمال والدولة لان ذلك يعني في الواقع شراكة العمال والعمال. ولكن مثل هذا المنطق قد لا يتفق وتفكير زكي خيري.
ويعتبر زكي خيري ان تشكيل هذه المشاريع المشتركة ادى الى ان "نشأت لاول مرة في التأريخ الديمقراطية الصناعية" (ص ٢٩). سخر لينين كثيرا من عبارات فارغة لا معنى لها مثل ديمقراطية الانتاج وغيرها. ولا شك ان الديمقراطية الصناعية واحدة من هذه العبارات التي لا معنى لها. واذا فرضنا ان لها معنى فما هو هذا المعنى؟ لا يمكن ان نجد لها سوى معنى واحد هو اعطاء الحرية الديمقراطية لمن يريد العمل في الصناعة. فهل كان في ايام لينين او ستالين، في ظل دكتاتورية البروليترايا، حتى في فترة النيب  حرية الاشتغال في الصناعة؟ بالطبع لا يوجد في ظل دكتاتورية البروليتاريا مثل هذه الديمقراطية سوى على نطاق محدود، حققته سياسة النيب، في المشاريع التجارية والصناعية الخفيفة التي لم تصادرها الدولة وفي الزراعة الكولاكية التي اتسعت في فترة النيب.
ويقتبس زكي خيري من اتولاسيس قوله "ولكن بضع كلمات من ستالين في السنة التالية الغت جميع تلك الادوات تدريجيا وكان ذلك يعني العودة الى الوراء الى عام ١٩١٩ بل وحتى الى عام ١٩١٧." (ص ٣١)
واضح ان هذا يعني ان ستالين قضى على "الديمقراطية الصناعية". وما حدث في ١٩٢٧- ١٩٢٨ في الواقع ان الاتحاد السوفييتي تقدم صناعيا وزراعيا واخذت حركة المزارع التعاونية تتحول الى حركة واسعة النطاق فشعر الحزب الشيوعي بقيادة ستالين بان سياسة النيب قد اعطت ثمارها واصبح من الضروري التحول منها الى مرحلة اكمال الثورة الاشتراكية، اي الى القضاء على الراسمالية كطبقة مما استوجب القضاء على الكولاك خصوصا، وهي اكبر فئة متبقية من الطبقة الراسمالية. وكذلك القضاء على المشاريع الراسمالية في المدينة بما فيها المشاريع المشتركة مع الراسمالية. وقد ابدى الانتهازيون جميعا اشد المقاومة لهذا التحول بقيادة تروتسكي وبخارين وكامينيف وزينوفييف ومن لف لفهم. وهذه هي الجريمة التي لا يغتفرها لستالين جميع اعداء الاشتراكية من رؤساء الدول الامبريالية الى بقايا الاممية الثانية والثانية والنصف. هذا في عرف اتولاسيس وصاحبه زكي خيري هو القضاء على "الديمقراطية الصناعية" اي القضاء على حرية الراسماليين في المدن وفي الريف في مواصلة استغلال عمالهم وفلاحيهم وهذا في عرفهما عودة الى ١٩١٧.وابتدءا بعام "١٩١٧ الثاني" اي في سنة ١٩٢٨ سار الاتحاد السوفييتي قدما في تطوير الصناعة الثقيلة بصورة خاصة والصناعة عموما والزراعة المتطورة في المزارع التعاونية بأن وضعت تحت تصرفها احدث الالات الزراعية مما ادى الى تحقيق المجتمع الاشتراكي لاول مرة في تأريخ البشرية. ولا يقصر زكي خيري في تمجيد هذا الانجاز العظيم والفوائد التي قدمها للبشرية (رغم الاخطاء في هذا البناء حسب رأي زكي خيري طبعا). ففي ١٩٣٣ اعلن ان المجتمع الاشتراكي قد تحقق في الاتحاد السوفييتي وجاء دستور ١٩٣٦ تعبيرا عن ذلك.
وهنا يجد زكي خيري سببا اخر من اسباب الكارثة اذ يقول:
"ولو ان البلدان التي انتصرت فيها الثورة الاشتراكية لم تتسرع في الغاء الانماط ما قبل الاشتراكية كليا لما حلت بها الكارثة التي نشاهدها" (ص ٤٥)
وهنا ايضا لم ينور زكي خيري قراءه بالتفاصيل عن الغاء الانماط قبل الاشتراكية. ان الاتحاد السوفييتي لم يصبح مجتمعا اشتراكيا الا بعد ان الغى جميع هذه الانماط السابقة، الاقطاعية اولا والراسمالية اخيرا. فما الذي يريده زكي خيري؟ هل كان يريد من الاتحاد السوفييتي ان يبقي على هذه الانماط رغم انها اصبحت عائقا في سبيل التقدم الصناعي والزراعي وبناء المجتمع  الاشتراكي؟ هل كان بالامكان حسب رأي زكي خيري تحقيق حلم كارل ماركس بتكوين المزارع الجماعية مع انتشار وسيطرة الزراعة الكولاكية في الزراعة السوفييتية؟ واذا كان زكي يريد عدم القضاء على هذه الانماط قبل الاوان فهل كان يريد ان يؤجل ذلك لمدة سنة، لم دة عشر سنوات، لمدة قرن؟ ام ان زكي خيري كان يريد انشاء مجتمع اشتراكي مع بقاء الانماط الراسمالية ومؤامراتها ضد الاشتراكية الى الابد؟ علم ذلك عند الله وفي دماغ زكي خيري.
يقول زكي خيري "اضطلعت (روسيا) باول ثورة ضد الراسمالية واقامت اول دولة للعمال والفلاحين حققت حلم ماركس باقامة المزارع الجماعية الكبيرة الخالية من النير الاقطاعي والراسمالي ايضا... ولكن عقابا على اخطاء فادحة ارتكبت بحق مبادئ بناء الاشتراكية تتعرض المزارع الحماعية لتحدي الراسمالية من جديد ويتوقف مصيرها التاريخي من جديد على ارادة جماهير الفلاحين وحلفائهم العمال ...فاما واما". (ص ٤٣)
فسبب تدهور المزارع التعاونية اذن كان اخطاء فادحة ارتكبت بحق مبادئ بناء الاشتراكية. وما اشد صحة هذه العبارة! ولكن بناء المزارع الجماعية وتخريبها دام ٧٠ عاما وخلال هذه الحقبة اتخذت خطوات عديدة لا يمكن احصاؤها. فاي من هذه الخطوات كان من ضمن الاخطاء الفادحة واي منها لم يكن؟ هنا ايضا يتركنا زكي خيري في حيرة من امرنا، لا نعلم ما الصحيح وما الخطأ في تطبيق مبادئ البناء الاشتراكي على المزارع التعاونية. ولذلك فان عبارته لا تعني شيئا بل جل ما تفعله هو ان تخلق البلبلة في اذهان قرائها. لابد ان القارئ المتعطش الى معرفة الحقيقة يتساءل، هل كان نشر المزارع التعاونية صحيحا؟ هل كانت ابادة الكولاك كطبقة صحيحة ام خاطئة بالنسبة لمبادئ بناء الاشتراكية؟ هل كانت مساعدات الدولة العلمية والاقتصادية والتكنيكية في بناء وتطوير المزارع التعاونية صحيحة ام كان يجب اعطاء المزارع التعاونية استقلالها ومشاركة اعضائها بالربح والخسارة اسوة بالمشاريع الصناعية؟ هل كان انشاء محطات الالات الزراعية لمساعدة الفلاحين على الانتاج الواسع النطاق صحيحا؟ هل كان صحيحا منع بيع ادوات الانتاج الكبيرة كالتراكتورات والكومباينات، وهو ما دأب عليه الحزب الشيوعي بقيادة ستالين، ام كان الاصح ان تباع هذه الالات للمزارع التعاونية، وهو ما فعله الحزب بقيادة الخروشوفيين؟ هل كان صحيحا انتخاب ادارة المزارع التعاونية من بين اعضائها النشطين الامناء على مصلحة المزارع وتقدمها كما دأب الحزب الشيوعي بقيادة ستالين على فعله ام كان الاصح تعيين مدراء اخصائيين من خراج المزارع لادارة المزارع التعاونية مما جعلهم مدراء اداريين كجزء من البيروقراطية التي سادت الحكم السوفييتي بعد وفاة ستالين؟ انه عدد لا يحصى من التساؤلات مما لا يمكن حصره في هذه الفقرة. فاين الجواب؟ ان الاجابة على هذه الاسئلة سر يحتفظ به زكي خيري لنفسه.
وبصدد مناقشة زكي خيري لاسباب الكارثة ينتقل الى نقطة اخرى اذ يقول:
"كما قال ماركس تنمو مع الانتاج الحاجات ايضا ... ولم تلتفت الدولة الاشتراكية ولا سيما الحزب الى هذه الناحية من نظرية ماركس. ولما كانت الحاجة ام الاختراع فقد اخترع المضاربون والمغامرون من وراء ظهر الدولة ما يعرف باقتصاد الظل اي الاقتصاد غير الشرعي لاشباع بعض الحاحيات المتنامية التي لم تلتفت اليها الدولة او لم يكن بمقدورها الاهتمام بها. وقد ظنت ان احتكار الدولة للانتاج وعدم ترك اي فرصة للراسمال الخاص او صاحب المشروع الفردي انما يعني انجاز الاشتراكية بالتمام والكمال في مرحلة تاريخية جديدة (مرحلة الاشتراكية المتطورة) وحتى (الشروع ببناء اسس الشيوعية)، واستطاع اقتصاد الظل هذا الذي نشأ كضرورة لسد الفراغ ان ينشر الفساد..." (ص ٤٦)
تحتوي هذه الفقرة على عدد من الدرر. اولا ان الدولة السوفييتية والحزب الشيوعي لم يلتفتا الى هذه النظرية الماركسية. فهل هذا حقيقة تاريخية ام تزييف للتأريخ؟ نعلم ان دولة دكتاتورية البروليتاريا سواء في فترة قيادة لينين او ستالين مرت في ظروف صعبة بعد الثورة واثناء حرب التدخل وفي فترة النيب وفترة بناء الاشتراكية اذا تركنا فترة الحرب  ضد النازية وفترة بناء ما خربته الحرب. ولم تكن دكتاتورية البروليتاريا تخفي ذلك وتتجاهله بل كانت تصارح الشعوب السوفييتية بامكانياتها وتبين لها ما استطاعت ان تنجزه في سبيل تخفيف الازمات التي كانت تمر بها وفي مضمار تخفيف المجاعات وتوفير المواد الضرورية والخدمات التي تطورت بصورة مستمرة كلما تقدم بناء المجتمع الاشتراكي (يكفي زكي خيري ان يقرأ ايا من تقارير اللجنة المركزية في مؤتمرات الحزب للتأكد من ذلك). كانت تصارح الشعوب السوفييتية بحقيقة عجزها عن تلبية كافة حاجاتها الاستهلاكية المتعاظمة باستمرار لان انتاجها يتطلب تطوير الصناعة الثقيلة وانتاج ادوات الانتاج اللازمة وهذه مهمة من اصعب مهمات بناء الاشتراكية. ومع ذلك استمرت طوال فترة بناء الاشتراكية زيادة الاجور وانخفاض اسعار السلع الاستهلاكية وازداد انتاج هذه المواد باطراد. ويكفي هنا ان اقتبس فقرة واحدة من ستالين كتبها حول هذا الموضوع سنة ١٩٥٢ اي قبل وفاته بمدة وجيزة حيث قال:
"هل يوجد قانون اقتصادي اساسي للاشتراكية؟ نعم يوجد. ضمان التلبية القصوى للضروريات المادية والثقافية المتزايدة على الدوام للمجتمع كله عن طريق التوسيع المستمر واتمام الانتاج الاشتراكي على اساس التكنولوجيا المتقدمة". (ستالين م ١٦ ص ٣٣٧)
يبدو واضحا من هذه العبارة ان الحزب الشيوعي وقائده ستالين لم يلتفت الى هذا المبدأ الماركسي فقط بل اعتبره القانون الاقتصادي الاساسي للاشتراكية. وادعاء زكي خيري بان الحزب والدولة لم يلتفتا الى هذه النظرية الماركسية اجحاف بحق دكتاتورية البروليتاريا والاشتراكية والحزب الشيوعي البلشفي وستالين.
والدرة الثانية في هذه الفقرة هي ان ما يسميه زكي خيري "اقتصاد الظل" نشأ كضرورة لسد الفراغ الذي لم تستطع الاشتراكية اشغاله. وان الدولة حاربت هذا الاقتصاد ولم تعترف بشرعيته. وهذا ايضا تزييف للتاريخ.
ان السوق السوداء التي يسميها زكي خيري "اقتصاد الظل" لم تظهر كما يزعم زكي خيري كضرورة لتلبية الحاجات التي اهملتها الدولة او عجزت عن توفيرها. والواقع هو ان السوق السوداء نشأت منذ اول يوم نتيجة لسرقة الانتاج الاشتراكي في المدينة وفي المزارع التعاونية وبيعه باسعار باهظة. فحين بدأ التمايز الطبقي في الظهور نبيجة للسياسة التي اتبعها الخروشوفيون في المزارع التعاونية اخذت منتجات هذه المزارع العالية الجودة تسرق لتؤخذ الى الاسواق وتباع الى جانب الاسواق الحكومية فاختفت السلع الحكومية لتنتقل الى السوق السوداء لبيعها باسعار تزيد عدة مرات عن الاسعار الحكومية. وفي الصناعة جرى انتاج الظل عن طريق سرقة المواد الخام او المنتجات من المصانع الحكومية او عن طريق تشغيل المصانع بطريق غير شرعي لانتاج سلع تختلف عن السلع التي ينتجها المصنع. ويذكر زكي خيري مثالا على مثل هذه السرقات. وقد ساعد على ارتفاع الاسعار والسوق السوداء التضخم النقدي الناجم عن اصدار الخروشوفيين للنقود الورقية بدون حدود لغرض تلقي الخدمات بهذه الاوراق (ولابد ان زكي خيري يتذكر قانون النقود الذي كشفه كارل ماركس). كان ظهور هذا الاقتصاد (اقتصاد السوق السوداء) نتيجة مباشرة لسياسة الخروشوفيين الرامية الى اعادة الراسمالية. وقد ساعدت هذه السوق على نشوء الطبقة البرجوازية الجديدة التي حققت في النهاية انهيار الاشتراكية واصبحت الان الطبقة الحاكمة رسميا في الدول التي نشات عن انهيار الاتحاد السوفييتي وتحوله الى راسمالية مكشوفة. ولهذا فان ما يسميه زكي خيري مكافحة الدولة لاقتصاد الظل لم يكن حقيقة بل مجرد كلام يخفي توجيه الدولة ذاتها لهذه السوق السوداء.
وهذه درة اخرى
يقول زكي خيري "ظنت (الدولة) ان احتكار الدولة للانتاج وعدم ترك اي فرصة للراسمال الخاص او صاحب المشروع الفردي انما يعني انجاز الاشتراكية بالتمام والكمال في مرحلة تاريخية جديدة (مرحلة الاشتراكية المتطورة) وحتى (الشروع ببناء اسس الشيوعية".
فعلا ان دكتاتورية البروليتاريا سلكت الطريق الذي مهد لها كارل ماركس ووضعه لها لينين عمليا قبل وفاته، طريق القضاء التام على كافة انماط الانتاج الاستغلالية السابقة. وهذا كان شرطا لانجاز الاشتراكية منذ المرحلة القديمة اي منذ سنة ١٩٣٣. ولم يتحقق المجتمع الاشتراكي الا حين افلحت دكتاتورية البروليتاريا في انجاز ذلك. وقد افرط زكي خيري في امتداح هذا المجتمع الخالي من الاستغلال الاقطاعي والراسمالي ايضا. فاي معنى لاشتراكية يكون خلالها دور للراسمال الخاص ولاستغلال العمال في هذا المجتمع والاستعداد للاطاحة بالاشتراكية في اللحظة المناسبة؟ وبعد ان سارت الاشتراكية السير المظفر الذي شاهدناه في الثلاثينات وفي حرب الدفاع عن الوطن الاشتراكي والتقدم الهائل في اعادة البناء ينتقد زكي خيري الاشتراكية لانها فكرت في الاستغناء عن الراسمال الخاص، لا في المراحل الاولى فقط بل فيما اسماه (مرحلة الاشتراكية المتطورة) ايضا. ونحن نعلم ان هذه (الاشتراكية المتطوزة) كانت من اختلاق الخروشوفيين لايجاد الحجة لالغاء دكتاتورية البروليتاريا وحزب الطبقة العاملة. بل اكثر من ذلك فان زكي خيري يريد اعطاء فرصة للراسمال الخاص حتى في فترة وضع الاساس لبناء الشيوعية وكأن الاشتراكية ليست هي وضع الاساس لبناء الشيوعية. واكثر من ذلك اظن ان زكي خيري لا مانع لديه من اختلاق مجتمع شيوعي تسنح فيه الفرصة للراسمال الخاص.
وآخر اسباب الكارثة التي اتناولها في هذه السلسلة هو السبب التالي.
"وقد الغى ستالين السياسة الاقتصادية الجديدة والاجراءات الاخرى التي ادخلها لينين لبناء الاشتراكية قبل الاوان. وفي السنوات الاخيرة تذكر الاقتصاديون السوفييت تلك السياسة الاقتصادية اللينينية ولكن بعد خراب البصرة." (ص ٣٤)
لقد تحدثنا سابقا عن مهمة الغاء السياسة الاقتصادية الجديدة التي وضعها لينين للتحول الى القضاء على الراسمالية كطبقة، وهو الشرط الاساسي لبناء مجتمع اشتراكي. وهذا يعني ان الاشتراكية التي تحققت سنة ١٩٣٣ في الاتحاد السوفييتي كانت نتيجة لالغاء السياسة الاقتصادية الجديدة والاجراءات الاخرى التي ادخلها لينين لبناء الاشتراكية قبل الاوان، اي ان الاشتراكية قد تحققت نتيجة للتخلي عن اللينينية.
ولكن زكي خيري يلوم الاقتصاديين السوفييت على انهم تذكروا "السياسة الاقتصادية اللينينية بعد خراب البصرة" (كنا في السابق نذكر هذا المثل الشعبي الشهير حين كانت البصرة ما تزال مدينة عامرة ومزدهرة اما الان فاننا نذكره بعد خرابها فعلا بفضل الامبرياليين والحكومات الغربية الرجعية والمجتمع الدولي بالتعاون مع صدام حسين).
يبدو ان زكي خيري كان يريد العودة الى السياسة الاقتصادية الجديدة اللينينية كحل للكارثة ولكنه كان يريد ذلك قبل خراب البصرة. يقول ان ستالين الغى السياسة الاقتصادية الجديدة قبل الاوان، وقد الغاها فتحقق بناء مجتمع اشتراكي في الاتحاد السوفييتي. فهل يمكن قبل خراب البصرة، اي قبل السنوات الاخيرة، في السبعينات والستينات مثلا العودة الى السياسة الاقتصادية الجديدة بالشكل الذي وضعه لينين سنة ١٩٢٢ حين ساد الدولة السوفييتية خراب سبع سنوات من الحرب وكانت اغلبية سكانه من متوسطي الفلاحين ولم تكن لديه صناعة تذكر وكانت زراعته بدائية في مستوى القرون الوسطى الى دولة اصبحت من اكبر الدول الصناعية واصبحت اغلبيتها من العمال وتطورت زراعتها التعاونية تطورا هائلا الخ..؟ أليس هذا جمودا عقائديا باجلى صوره؟
نرى من كل سلسلة اسباب الانهيار السالفة انها تنصب كلها على امر واحذ هو "ضرورة افساح المجال للراسمال الخاص للبقاء في المجتمع الاشتراكي وضرورة عدم القضاء على الانتاج الراسمالي كلية باي حال من الاحوال حتى الشيوعية. وهذا يدل على عدم ثقة زكي خيري بالبروليتاريا وبقدرتها على تحقيق مجتمع اشتراكي والسير به نحو الشيوعية بدون ان تتلقى مساعدة من الراسمالية.
لقد عارضت كافة العناصر الانتهازية المعادية للاشتراكية موضوع القضاء على الانتاج الراسمالي وخصوصا على الكولاك كطبقة صراحة وفي نقاشات الحزب البلشفي حتى ١٩٢٨ حين طرد تروتسكي وبخارين وزينوفييف وكامينيف وبياتاكوف وعدد آخر من قادة الانتهازية في داخل الحزب. بعد ذلك بمدة وجيزة اعترف اكثر هؤلاء المطرودين باخطائهم واعيدوا الى الحزب بناء على اعترافهم بصحة خط الحزب بقيادة ستالين في تحقيق بناء المجتمع الاشتراكي. وبما ان السند الشعبي الاخير لهؤلاء كان الكولاك فلم يبق امامهم بعد القضاء على هذا السند سوى طريق التخريب والقتل والاغتيال والخيانة لتحقيق عودة الراسمالية. وقد ظهر ذلك جليا في محاكمات الثلاثينات حين اعترفوا بذلك صراحة. ولم يفعل الخروشوفيون حين استلموا السلطة سوى انهم نفذوا المنهاج الذي قرر اولئك الخونة تحقيقه لاعادة الراسمالية بكامل تفاصيله مع تغيير الاستعانة بهتلر بالاستعانة بالامبريالية الاميركية وسائر الدول الامبريالية.
ان ابقاء النمط الراسمالي هو بيت القصيد في جميع هذه الانتقادات التي وجهها زكي خيري للاشتراكية جزئيا لاعداء الاشتراكية الخروشوفيين الذين كانوا السبب في ظهور الراسمالية الجديدة. وقد عبر زكي خيري عن ذلك بوضوح تام اذ قال "ان التطور اللاراسمالي لا يتنافى كليا مع تطور القطاع الراسمالي الخاص الخاضع لرقابة الدولة والمجتمع في اقتصاد وطني متعدد الانماط طوال عشرات السنين وحتى تنجز الثورة العلمية التكنولوجية مهمتها التاريخية اي نقل ابشرية الى عالم جديد". (ص ٤٦)
كانت الماركسية كما تعلمناها من ماركس وانجلز ولينين وسالين وتعلمها زكي خيري من ماركس وانجلز ولينين فقط تعتبر وجود طبقة ثورية هي البروليتاريا التي تقع على عاتقها مهمة الاطاحة بالنظام الراسمالي عن طريق الصراع الطبقي وبناء مجتمع اشتراكي خال من استغلال الانسان للانسان والسير به نحو المجتمع الشيوعي. وقد شرح لنا المعلمون شكل المجتمع الاشتراكي والمجتمع الشيوعي وتحقق لاول مرة في تأريخ البشرية المجتمع الاشتراكي في الاتحاد السوفييتي. وكان على ستالين ان يحدد الشروط الاقتصادية والاجتماعية اللازمة لتحول المجتمع الاشتراكي في الاتحاد السوفييتي الى مجتمع شيوعي.
وها نحن نرى في العبارة الاخيرة شيئا جديدا. يبدو ان هذه المقولة الماركسية كانت بين المقولات التي خلفها التاريخ الى الوراء نبيجة للتطورات الحديثة وخصوصا الثورة العلمية التكنولوجية. وقد طور زكي خيري الماركسية وفقا للظروف المستجدة اذ تبين له ظهور قوة جديدة، هي اكثر ثورية من البروليتاريا تقع على عاتقها مهمة "نقل البشرية الى عالم جديد" وعلى هذا الاساس وجد ان افضل شكل لتطور البشرية (او على الاقل اغلبية البشرية الرازحة تحت نير الامبريالية العالمية اي ما يسمى دول العالم الثالث التي اختلقت سياسة الطريق اللاراسمالي من  اجلها) هو نظام متعدد الانماط تنال فيه الراسمالية "ديمقراطية صناعية" تحت رقابة الدولة والمجتمع الى ان تقوم طبقة الروبوتات (الانسان الالي) الجديدة بالتحالف مع طبقة الكومبيوترات بمهمتها التاريخية في نقل البشرية الى عالم جديد. ولا يشرح زكي خيري لنا مع الاسف ما هو هذا العالم الجديد. ربما يكون هذا العالم الجديد الذي بحققه الثورة التكنولوجية نفس االنظام الاتصادي العالمي الجديد الذي تتشدق به الولايات المتحدة وتدعي تحقيقه بعد انتهاء الحرب الباردة (اي انهيار الاتحاد السوفييتي). عالم جديد اصبحت فيه الامبريالية الاميركية شرطي العالم يوجه مجلس الامن او المجتمع الدولي لاحتلال اي بلد لا ينسجم مع عالمها الجديد. او لعله عالم جديد لا وجود فيه للصراع الطبقي يسير فيه الذئب الامبريالي مع حمل الشعوب في ظل التطور التكنولوجي. او لعله عالم جديد تستعبد فيه الطبقة الحاكمة الجديدة طبقة الروبوتات، الانسان الآلي، على غرار ممالك القرود التي نشاهدها في الافلام الامبركية. ان زكي خيري لم ينعم علينا حتى بتسمية لهذا العالم الجديد او تحديد لطبيعته.
سبب اخر من اسباب الكارثة يورده زكي خيري لا يرتبط بالسلسلة السابقة مباشرة ولا يجوز انهاء هذا القسم من المقال بدون مناقشته.
يقول زكي خيري "ان افدح كارثة في (الزلزال) الأخير هي تلك التي انزلت في ساحة الحزب الشيوعي السوفييتي الذي كان اعظم قوة سياسية في العالم سحابة القرن العشرين ومن بين اكثر من عشرة ملايين عضو في جمهورية روسيا الاتحادية لم يبق سوى نصف مليون هم اللب الشيوعي السليم الملتف حول راية الحزب." (ص ٣٧)
هنا ايضا لا اكاد افهم زكي خيري ولماذا يسمي هذا كارثة فادحة. من المعلوم ان السياسة اللينينية حول الحزب تعتبر ان الحزب يتقوى ويتعزز بتطهيره من العناصر الانتهازية والضعيفة وهذا منصوص عليه في النظام الداخلي للحزب الشيوعي العراقي. كان في الحزب الشيوعي السوفييتي عشرة ملايين عضو في روسيا الاتحادية تسعة ملايين ونصف منهم من العناصر غير السليمة فطهر الحزب نفسه منهم وبقي اللب الشيوعي السليم المؤلف من نصف مليون. الا يعتبر ذلك انتصارا للحزب الشيوعي واللينينية؟ فكيف يسميه زكي خيري كارثة فادحة؟ ولكن هذا اللب الشيوعي السليم بقيادة غورباشوف برهن على انه كان الاداة التي وضعت اللمسات الاخيرة في التحول من راسمالية مقنعة الى راسمالية صريحة ونال غورباشوف لقاء خدماته اموالا طائلة وعلى راسها جائزة نوبل.
ولنعد الان لتفحص ما اذا كان هذا التدهور في الحزب كارثة حقا ام لا. كان الحزب في الظروف السرية يتعرض الى ضربات شديدة وانتكاسات في الحركة فيزداد تأثير الاراء الانتهازية وتتراجع العناصر الضعيفة فيتعرض الحزب الى تقلص اعضائه لفترة مؤقتة. ولكن سياسة الحزب اللينينية الصحيحة في مختلف الظروف هي الضامن لاجتذاب الجماهير الواسعة والتقاط اكثر العناصر الثورية صلابة ووعيا. هكذا كان الحزب البلشفي قبل ثورة اكتوبر. وقد قاد هذا الحزب الثورة حين لم يكن اعضاؤه يبلغون نصف مليون.
ولكن الامر تغير بعد الثورة اذ لم يصبح الحزب علنيا فقط بل اصبح حزبا حاكما. وقاد الحزب البلشفي الشعوب السوفييتية، ضمن صعوبات جمة، في بناء المجتمع الاشتراكي والدفاع عنه. فكان الانتماء الى الحزب الشيوعي شرفا عظيما لا يتشرف به سوى خيرة العناصر الثورية. ونما الحزب فاصبح كما يقول زكي خيري يتألف من عشرة ملايين. ولكن مقياس الانجذاب نحو الحزب الشيوعي هو قناعة الشعب وخيرة ابنائه الثوريين بصحة خطه السياسي وتفانيه في خدمة شعبه وقيادته نحو تطور الاشتراكية والتقدم نحو الشيوعية.
بهذا الوضع استلم الخروشوفيون قيادة الحزب واستلموا دولة تتقدم باطراد نحو الشيوعية. ولكن سرعان ما ظهر زيفهم امام شعوب الاتحاد السوفييتي وشعرت هذه الشعوب بتخلي هذه القيادة عن الخط اللينيني السليم وعن تطوير المجتمع. شعروا بظهور مساوئ البرجوازية الجديدة التي اخذت تسود المجتمع. شعروا بان اجورهم التي كانت ترتفع باطراد اخذت بالهبوط وان اسعار المواد الضرورية التي كانت تنخفض باستمرار اخذت في الارتفاع. شاهدوا التضخم النقدي الهائل والسوق السوداء وظهور البطالة والدعارة والفقر وغيرها من مساوئ البرجوازية الجديدة التي شاهدها حتى زكي خيري بعينه فظنها من مساوئ الاشتراكية.
وكان الهجوم على ستالين نقطة تحول كبرى لا في الحركة الشيوعية العالمية وحدها بل في الحركة الشيوعية داخل الاتحاد السوفييتي. فأخذت الجماهير تنفض عن الحزب الشيوعي وفقدت الثقة فيه وفي قيادته فانهار الحزب كما وصفه زكي خيري من عشرة ملايين الى نصف مليون. وقد كان هذا النصف مليون المتبقي في الواقع حثالة الانتهازية والتحريفية لا اللب الشيوعي السليم الذي يلتف حول راية الحزب. هذه هي الكارثة الحقيقية وليس ما يصوره زكي خيري ويلقي مسؤوليته على الشعوب السوفييتية واعضاء الحزب الذين تركوه لانه لا يمثل مصالحهم.
التصنيع الاشتراكي
ناقش زكي خيري التصنيع الاشتراكي في عدة مواضع ومن جوانب مختلفة. وبما ان التصنيع الاشتراكي كان في اعتقادي احد اهم منجزات الاتحاد السوفييتي فساناقشه ببعض التفصيل وحسب التسلسل التاريخي.
في الواقع كانت الثورة الاشتراكية هي البداية لكل شيء، ومن ذلك التصنيع الاشتراكي. ان دكتاتورية البروليتاريا صادرت بدون تعويض كافة المصانع والمشاريع الاجنبية والمشاريع المحلية التي تستخدم اكثر من عدد معين من العمال والغت جميع القروض المتراكمة على الحكومات السابقة منذ الايام الاولى للثورة وجعلتها مشاريع حكومية تديرها دكتاتورية البروليتاريا مباشرة.
كانت هذه المشاريع مدمرة من جراء الحرب العالمية وازداد تدميرها خلال حرب التدخل التي تلت الثورة. لذا لم يكن انتاجها سوى جزء ضئيل من انتاج ما قبل الحرب. ولهذا عانت الدولة السوفييتية من نقص هائل في الانتاج الصناعي والمواصلات في السنوات الاولى.
كان مصدر الدولة والجيش الاحمر المحارب ضد المعتدين الاجانب والروس البيض من المواد الغذائية يؤخذ من الفلاحين عن طريق مصادرة فائض الانتاج. وقد كان حماس الفلاحين للثورة لانها قضت على الاقطاع واعطتهم الارض، وهو حلمهم الاساسي، وحماسهم في محاربة المعتدين خوفا من عودة الاقطاع، وموافقتهم على تسليم فائض الانتاج، قوة هائلة في مساندة الثورة والحرب، ومن مقومات انتصار دكتاتورية البروليتاريا.
كان لينين يعتبر مصادرة الفائض ضرورة قصوى، وقرضا بقدمه الفلاحون لدكتاتورية البروليتاريا عليها ان تسدده فيما بعد مضاعفا.
يدعي زكي خيري ان هذا الحماس استمر بحيث انه كان السبب في الانجازات العظمي التي انجزتها شعوب الاتحاد السوفييتي منذ وفاة لينين وحتى ١٩٥٣، حين نضبت الحماسة الثورية. الا ان لينين، على الاقل، لا يتفق مع زكي خيري في هذا الصدد. فان لينين شعر بنضوب الحماسة الثورية وابتعاد الفلاحين عن الثورة وانجذابهم الى البرجوازية منذ انتهاء حرب التدخل. وهذا ما دعاه الى وضع السياسة الاقتصادية الجديدة. تحدث لينين عن هذا في العديد من كتاباته وخطاباته واكتفي باقتباس فقرة واحدة فقط على سبيل المثال.
"ان الاستعاضة عن المصادرة بالضريبة العينية، قبل كل شيء، وفوق كل شيء، مسألة سياسية لان جوهر هذه المسألة يكمن في موقف الطبقة العاملة من طبقة الفلاحين ... لا ريب انكم جميعكم تعلمون جيدا اي تراكم من الاحداث ولا سيما اثر استفحال البؤس الناجم عن الحرب والخراب وتسريح الجنود ورداءة الموسم القصوى، اي تراكم من الاحداث والظروف قد جعل وضع الفلاحين مضنيا جدا، حرجا جدا، وعزز بصورة حتمية ميلهم من البروليتاريا نحو البرجوازية". (لينين م١٠ ص ٣٤٩).
وعلى هذا الاساس كان على الحزب ان يجد الوسائل التي تجتذب الفلاحين من جديد نحو البوليتاريا. وهذا هو الشرط الاساسي لبقاء دكتاتورية البروليتاريا. وكانت الوسيلة هي السياسة الاقتصادية الجديدة. شعر الحزب انه خلال حرب التدخل ابتعد في تقدمه عن خطوطه الخلفية فكان عليه ان يتراجع قليلا استعدادا لهجوم جديد. فقرر استبدال مصادرة الفائض بالضريبة العينية لتحقيق هذا التراجع.
كان من المفروض في الثورة الاشتراكية ان تستولي الدولة على كافة وسائل الانتاج فور نجاح الثورة، اي ان تلغي كافة الانماط السابقة للاشتراكية، وبهذا ينتفي وجود الانتاج السلعي نهائيا. قال انجلز في ضد دوهرينغ "ان استيلاء المجتمع على وسائل الانتاج يؤدي الى نهاية انتاج السلع ومعه نهاية سيطرة المتتج على المنتج" (مقتبسة من ستالين م ١٦ ص ٢٩٩). ولكن الاستيلاء على جميع وسائل الانتاج لا يمكن تحقيقه الا في مجتمع متطور صناعيا وزراعيا الى درجة ان الاغلبية الساحقة من المشاريع فيه تكون مشاريع راسمالية كبيرة. ولم يوجد قطر كهذا في العالم كله عدا بريطانيا.
وقعت الثورة الاشتراكية في روسيا وهي بلد من اكثر الاقطار الاوروبية تأخرا صناعيا وكان اغلبية الزراعة فيها زراعة فردية. ولذلك لم تستطع دكتاتورية البروليتاريا ان تصادر جميع وسائل الانتاج وهذا هو السبب في استمرار الانتاج السلعي الراسمالي والزراعي والحرفي مدة طويلة بعد الثورة. لذا يؤكد لينين ان ما انجزته الثورة في السنوات الاولى كان انجاز اهداف الثورة البرجوازية انجازا تاما وحاسما. ولا يعني هذا ان الحزب تخلى عن اهداف الثورة الاشتراكية. انما كان تحقيق اهداف الثورة البرجوازية تمهيد الطريق لتحقيقها في المستقبل. وكانت السياسة الاقتصادية الجديدة هذا التمهيد. ان انتصارات الثورة التي حققتها خلال سنوات الحرب الاهلية وحرب التدخل افسحت لدكتاتورية البروليتاريا مجالا للتراجع، ولتقديم بعض التنازلات للبرجوازية والسماح لها بالتوسع والمتاجرة تجارة داخلية اي بين المدينة والريف في حدود معينة، والتنافس معها في منافسة توجد لدكتاتورية البروليتاريا فيها افضلية واسعة لحيازتها على السلطة والمشاريع الصناعية الكبيرة والحهاز المصرفي والتجارة الخارجية وملكية الارض. فالتراجع في السياسة الاقتصادية الجديدة كان الخطوة الاولى، اعادة ارتباط القيادة، البروليتاريا، بالمؤخرة، الفلاحين، استعادة وتعزيز حلف البوليتاريا والفلاحين بقيادة البروليتاريا، ولدى تحقيق ذلك تعود الدولة الى الهجوم. ويتمثل الهجوم في فترة السياسة الاقتصادية الجديدة بالمنافسة مع الراسمالية، تطوير الصناعة والزراعة، تعلم التجارة الداخلية وتوسيعها.
ابتهج الكثيرون من اعداء الاشتراكية في الخارج والداخل بالسياسة الاقتصادية الجدييدة. فقد ظنوا ان هذا التراجع كان برهانا على فشل الاشتراكية وحتى تصوروا ان لينين في طريق العودة الى الراسمالية. وقد زخرت كتابات لينين الاخيرة بشرح السياسة الاقتصادية الجديدة، والتراجع السابق للهجوم، والسخرية من اعداء الاشتراكية المتشمتين. أكتفي باقتباس فقرة واحدة كتبها لينين تحت عنوان ملاحظات صحفي على سبيل المثال:
"لنتصور رجلا يصعد الى جبل عال، شديد الانحدار، ولما تتناوله الدراسة. لنفترض انه افلح، بتذليل مصاعب ومخاطر لا سابق لها، وصعد الى اعلى بكثير مما صعده سابقوه، ولكنه لم يبلغ القمة مع ذلك. واذا هو في وضع يغدو فيه التحرك الى امام في الاتجاه المختار ... مستحيلا حقا وفعلا. فاضطر للرجوع الى الوراء ... والبحث عن طرق اخرى ... تبشر بالوصول الى القمة" ويواصل القول "اما الاصوات الاتية من تحت، فانها تنم عن الشماتة. بعضهم يشمتون على المكشوف ويصيحون سيسقط الان وهذا جزاء له، فلا لزوم للجنون! وبعض اخر يحاولون ان يخفوا شماتتهم. انهم يجزعون رافعين عيون الحزن، واحسرتاه، ان مخاوفنا تتحقق! أولسنا نحن الذين امضينا حياتنا كلها على اعداد خطة معقولة للصعود الى هذا الجبل، وطالبنا بتأجيل الصعود طالما لم ينته اعداد خطتنا..."
نتف من مقال ادبي رائع يستطيع القارئ قراءته كاملا في المجلد العاشر من مختارات لينين باللغة العربية في الصفحات ٤٣٧ – ٤٣٩)
فالسياسة الاقتصادية اذن كانت تراجعا لايجاد طرق اخرى للصعود الى القمة اي تحقيق الاشتراكية.
سياسة الربح الملموس لمس اليد
يقول زكي خيري "حسب رأي لينين: ادرك العامل في الاشتراكيةلاول مرة انتهاء انقسام الناس الى مستثمرين ومستثمرين، ادراكه انه يعمل لنفسه ...
"ولكي يلمس العامل انه يعمل لنفسه حقا وليس للغير لا يكفي ان يكون المشروع او جميع المشاريع ، مؤمما، لا تكفي جتمعة جميع وسائل الانتاج ... بل يجب ان يكون للعامل مصلحة مباشرة في نجاح المشروع اقتصاديا والعكس بالعكس، لا ان تذهب ارباح المشروع الى خزينة الدولة ولا ان تسدد هذه خسائره. وقد صاغ لينين فكرته هذه في ظل السياسة الاقتصادية الجديدة ... باسم خزروشوت وقد ترجمت الى (الحساب الاقتصادي او حساب الكلفة او قاعدة الربح) ..." (ص ٢٨ – ٢٩)
(الحساب الاقتصادي، حساب الكلفة، حساب الربح) التي ذكرها زكي خيري على انها الترجمة لكلمة خزروشوت ويقول ان لينين حددها في موضوعاته عن النقابات (قرات المقالين عن النقابات وهما بالدرجة الرئيسية رد على اراء تروتسكي وبخارين ولم اجد فيهما اي ذكر لكلمة خزروشوت او لترجمتها) هي عبارات يستخدمها الراسماليون في طريقة ادارتهم لرؤوس اموالهم وتحديداتهم لاسعار سلعهم لغرض تحقيق الارباح المطلوبة. والطريقة التي يعرض بها زكي خيري مصلحة العامل وكيفية لمسه للربح تجعل من هذا العامل عاملا ذا عقلية برجوازية لا يفهم شيئا من حياته سوى الربح. ليس هذا وحسب بل يجعله راسماليا فعلا اذ انه يطلب من العامل المشاركة في الخسارة ايضا وهذا يتطلب وجود راسمال لدى العامل يمول منه الخسارة عند حدوثها. والمشاريع التي يتصورها زكي خيري تسير على نفس الاساس الاقتصادي الراسمالي من وجود قانون القيمة المسيطر على الانتاج، والمنافسة بين المشاريع، وتوخي الربح على حساب المشاريع الاخرى، وتحديد نوعية الانتاج، وكميته، وتحديد اسعاره، والمتاجرة فيه والتحول من انتاج غير مربح الى انتاج مربح لا حسب حاجات المجتمع بل حسب متطلبات الربح، وابتلاع المشاريع المربحة للمشاريع الخاسرة، وحتى تقليص عدد العمال وطرد قسم منهم توخيا لزيادة الارباح. وهذا يعني ايضا ان المشروع يقرر كمية المواد الاولية والخامات التي يحتاجها لتسيير انتاج سلعه وبقاء هذه المواد ومنتجات المشروع ضمن نطاق الانتاج السلعي يجري تبادلها بين المشاريع المختلفة او بين المشاريع والدولة. فهل يتلاءم كل هذا مع مفهوم الاشتراكية؟
نعلم ان الاشتراكية تتطلب في اعلى مراحلها القضاء على الانتاج السلعي والتبادل ولذلك فهي تعمل على تقليص التبادل قدر المستطاع وبصورة مستمرة. وملكية الدولة للمشاريع الصناعية ومحطات المكائن الزراعية هي من اهم وسائل تقليص الانتاج السلعي والتبادل. ونعلم ان الانتاج السلعي والتبادل يستمران في بلد مثل الاتحاد السوفييتي لعدم امكان الاستيلاء على جميع وسائل الانتاج. ويتمثل الانتاج السلعي والتبادل على النطاق الضيق بالقياس الى التبادل والانتاج السلعي في الاقتصاد الراسمالي بالدرجة الرئيسية في التبادل بين الريف والمدينة، حيث تبقى المتاجرة مستمرة الى حد ما، وحيث اتسعت بدرجة كبيرة لدى التحول الى السياسة الاقتصادية الجديدة. ولكن الهدف هو تقليص هذا التبادل باستمرار وبقدر المستطاع وبعذ القضاء على الانتاج الراسمالي وتحقيق المجتمع الاشتراكي اصبح التبادل يجري بين صناعة الدولة والمزارع الجماعية. والعملية التي تنهي هذا التبادل بين الريف التعاوني والصناعة الاشتراكية في آخر الامر هي تحويل المزارع الجماعية من اقتصاد اشتراك تعاوني الى جزء من الاقتصاد الاشتراكي ككل. وكان الاتحاد السوفييتي في ١٩٥٣ يسير قدما نحو تحقيق هذا الهدف. وقد ناقش ستالين ذلك في كراس المشاكل الاقتصادية الاشتراكية.
ما الذي يلزم فعله لتحويل المزارع الجماعية الى ملكية عامة؟ يشير ستالين الى ان الارض ليست ملك المزارع الجماعية ولا الالات الزراعية اذ انها ايضاة ملكي عامة تعود للدولة. لذلك لا يمكن الاتجاه نحو الارض او الالات لهذا الغرض. فالمزارع الجماعية لا تمتلك سوى فائض انتاحها الذي تبيعه في السوق كسلعة وعليه يجب البدء بهذه الملكية الخاصة للمزارع التعاونية. "لكي نرفع المزارع الجماعية من نظام التداول السلعي وادخاله في نظام تبادل المنتجات بين صناعة الدولة والمزارع الجماعية . (ستالين م١٦ ص ٤٠٢)
الا ان الاتجاه المنطقي لنظرية زكي خيري في لمس الربح لمس اليد معاكس لهذا الاتجاه. فاذا كان الربح المباشر من المشروع هو الطريق الذي يلمس فيه العامل انه يعمل لنفسه فان الاتجاه المنطقي يقضي بتحويل المشاريع التي سبق للدولة ان استولت عليها واذارتها الى مشاريع تكون للعامل مصلحة مباشرة في ربحها وخسارتها، وهذا يعني زيادة مطردة في الانتاج السلعي والتبادل، وزيادة مطردة في مفعول قانون القيمة، ليصبح بالتالي القانون المتحكم في الانتاج، اي التحول الى الانتاج الراسمالي.
نملم ان من ميزات الاشتراكية التي يعترف بها حتى زكي خيري، ولو انه يعتبر ذلك اقل اهمية من مبدأ الربح، البرمجة المركزية للانتاج. وطبيعي ان زكي خيري يعلم ان البرمجة المركزية تتطلب قبل كل شيء السيطرة على المشاريع التي تجري برمجتها مركزيا. وقد مارست دكتاتورية البروليتاريا البرمجة المركزية على المشاريع التي استولت عليها منذ اليوم الاول بعد انتصار الثورة وطورتها بحيث انها تصرفت فيها كانها مشروع واحد ووزعت مصادرها الاقتصادية على هذه المشاريع وحددت انتاجها وفقا لما يتطلبه قانون التطور المتوازن وبذلك انتفى التبادل بين المشاريع ولم تعد المواد الاولية والالات سلعا تباع او يجري تيادلها بين المشاريع. الا ان البرمجة المركزية لا يمكن تطبيقها على المشاريع التي لا تديرها الدولة. ولذلك فان الدولة لا تستطيع تطبيق البرمجة المركزية على المشاريع الخيالية التي يريد زكي خيري ايجادها نظرا لان ادارة المشروع فيها تقع على عاتق العمال الذين يملكون المشروع ويديرونه على اساس الربح.
وقد رأينا ان الدولة رغم ان الزراعة الجماعية نوع من انتاج اشتراكي، لم تستطع ادارتها مباشرة ادارة مركزية وبقيت العلاقة بين الدولة والمزارع الجماعية حتى ١٩٥٣ علاقة تبادلية وبقيت المواد التي تجهزها الدولة للمزارع الجماعية سلعا وكذلك المواد التي تجهزها المزارع التعاونية للدولة.
فالبرمجة المركزية اذن تتناقض مع المشاريع الفردية حتى لو كانت ملكا للعمال حقا.
وقد طبق تيتو في الاقتصاد اليوغوسلافي كله ما اسماه بمشاريع الادارة الذاتية. وكانت هذه المشاريع في الظاهر ملكا للعمال، ولكنها في الواقع كانت مشاريع راسمالية رغم كل الكلام المعسول حول الاشتراكية. ولذلك لم تكن يوغوسلافيا دولة اشتراكية من الناحية الاقتصادية ولو يوما واحدا.
وقد اتخذ الخروشوفيون في مسار سياستهم الرامية الى اعادة الراسمالية طريق تيتو مثالا يحتذونه. فقد زعموا ان تخلف الانتاج نوعيا وكميا كان بسبب عدم وجود المنافسة بين المشاريع ولذلك قرروا بيع المشاريع الى عمالها اسوة بما فعله تبتو في يوغوسلافيا. واثبت التاريخ ان هذا البيع زاد من تبادل السلع ومن مفعول قانون القيمة وتحولت هذه المشاريع الى مشاريع راسمالية اصبحت في اخر الامر الاساس الاقتصادي للدول الراسمالية الحالية التي نشأت على انقاض الدولة الاشتراكية. هل كان تحول الاتحاد السوفييتي من سياسة النيب الى سياسة تحقيق المجتمع الاشتراكي بابادة الكولاك كطبقة سنة ١٩٢٨ عودة الى ١٩١٧ كما يدعي زكي خيري؟
في ١٩١٧ او ١٩١٩ كانت الدولة السسوفييتية دولة ورثت عن الراسمالية بلدا هدمته الحرب فكان عليها ان تبني الاقتصاد من الصفر. وقد جاءت حرب التدخل الامبريالية لتضاعف من هذا الدمار بحيث ان ١٩٢١ كانت سنة ازمة خطيرة سواء من الناحية الاقتصادية ام من الناحية الاجتماعية. فمن الناحية الاقتصادية استولت دكتاتورية البروليتاريا على جميع المشاريع الكبيرة العائدة الى الراسماليين الاجانب والمحليين على حد سواء ولكن هذه المشاريع لم تكن تنتج سوى جزء ضئيل بالقياس الى انتاج ما قبل الحرب. ومن الناحية الاجتماعية ساد التذمر لدى الفلاحين الذين ايدوا الثورة لانها قضت على الاقطاعيين والملاكين وساندت الحرب ضد المتدخلين والجيش الابيض خوفا من عودة الاقطاع. وكان تذمرهم صادقا ومفهوما لان الحكومة السوفييتية كانت تصادر كل فائض الانتاج لديهم. وقد تفاقمت الازمة لدى تسريح الجيش المحارب اذ لم يجد الجنود المسرحون العمل فكان ثمة اكثر من مليون عاطل لجأ بعضهم الى الشقاوة. اضافة الى تقنين الطعام بكميات لا تكاد تسد الرمق.
اما الوضع في ١٩٢٨ فقد كان مختلفا تماما عن تلك السنوات. لقد نجحت الدولة البروليتارية في اعادة بناء المصانع وبلوغ مستويات انتاج ما قبل الحرب وتعدته. وبدأت حركة تعاونية كانت المزارع فيها تنتج كميات كبيرة من المحاصيل الغذائية والصناعية اذا ما قيست بانتاج الزراعة البدائية للفلاح المتوسط الذي كان سائدا في السنوات الاولى واخذت الدولة توفر للمزارع الجماعية ادوات حديثة وتساعد هذه المزارع على اتباع وسائل علمية لتنمية الحاصلات الزراعية. وقد اخذت التجارة المحلية تتحول الى ايدي الدولة عن طريق تنظيم التبادل بين المزارع الجماعية والمدينة. كل هذه الظروف وفرت لدكتاتورية البروليتاريا شروط القضاء على بقايا الراسمالية الذي بدونه لا يمكن بناء مجتمع اشتراكي فهل يمكن مشابهة هذه الظروف بظروف ١٩١٧؟ لا اظن انسانا منصفا يستطيع ان يقول ذلك.
يبدو من كل ذلك ان لينين ابعد من ان يفكر بالصورة التي يصورها لنا زكي خيري لان لينين كان يريد بناء مجتمع اشتراكي خال من الاستغلال الراسمالي وهذا كما رأينا يتعارض مع مبدأ الربح او حساب الكلفة.
وحول الصناعة اورد زكي خيري العبارة التالية:
"ولكن ما كان يقض مضاجع ستالين الذي تولى دفة القيادة بعد لينين ليس القلق على بناء الاشتراكية بقدر ما هو الخوف من حرب تشنها الامبريالية على الاتحاد السوفييتي الذي كان حتى ١٩٢٨ ما يزال في مؤخرة الدول الصناعية الكبيرة ... فكان همه الاول تحويل الاتحاد السوفييتي الى دولة صناعية عظمى ان لم يكن اعظم دولة صناعية ربما اكبر من همه في انجاز البناء الاشتراكي، لولا ان المهمتين قد اقترنتا تأريخيا ..." (ص ٢٩- ٣٠)
لنناقش اولا الخوف من حرب تشنها الامبريالية.
من عبارة زكي خيري لا يظهر ما اذا كان ينتقد ستالين على خوفه من الحرب ام يمجده على ذلك. ولكن خوف ستالين لم يكن جديدا على الاتحاد السوفييتي ولا على الحزب البلشفي. لقد تعلموا ذلك من لينين. ففي اغلب كتاباته كان لينين يؤكد على خطر الحرب الذي تعد له الامبريالية ضد البلد الاشتراكي. اقتبس عبارة واحدة من لينين على سبيل المثال:
"طالما لم نطح بالراسمال في البلدان الاخرى، وطالما الراسمال اقوى منا بكثير، فانه سيتمكن في كل حين من ان يوجه قواه ضدنا، ويشن علينا الحرب من جديد. ولهذا ينبغي لنا ان نقوي انفسنا، ولهذا الغرض ينبغي لنا ان نطور الصناعة الضخمة، ينبغي لنا انهاض النقليات" (لينين م ١٠ ص ١٧٣). واقتبس ستالين من لينين العبارة التالية:
"اننا لا نعيش في مجرد دولة، بل في نظام من الدول، وان وجود الجمهورية السوفييتية جنبا الى جنب مع الدول الامبريالية لامد طويل لا يمكن التفكير فيه. فان واحدا منهما يجب ان ينتصر في النهاية. وقبل ان تأتي هذه النهاية فان وقوع سلسلة من الصدامات الرهيبة بين الجمهورية السوفييتية والدول البرجوازية سيكون حتميا. (لينين مجلد ٢٤ ص١٢٢، مقتبسة من ستالين م ٨ ص ٧٠)
فالخوف من الحرب هو اذن تراث ورثه ستالين عن لينين وواصل تطوير الاتحاد السوفييتي لاعداده للصمود في وجه هجومات الدول الامبريالية.
كان لينين وستالين مؤمنين بنظرية لينين حول حتمية الحرب العالمية في عصر الامبريالية. ومن هذا كانا على يقين بان السلام بين الاشتراكية والامبريالية هو حرب باساليب اخرى واعداد للهجوم مجددا على الاتحاد السوفييتي.
وكان تطوير الصناعة وسيلة من وسائل اعداد بلد الاشتراكية للدفاع عن نفسه ضد الهجوم من اية جهة كانت. ولكن هل الصناعة وحدها كافية للاستعداد هذا؟ بالطبع لا. فقد رأينا دولا متقدمة صناعيا، دولا عظمى، تنهار امام الهجوم الهتلري في ظرف ايام معدودة، بل وبدون مقاومة مثل تشيكوسلوفاكيا والنمسا وفرنسا وغيرها. ان الصناعة جانب هام وضروري لهذا الاستعداد ولكن الجانب الثاني قد يكون اهم من ذلك.
نجح الاتحاد السوفييتي تحت قيادة ستالين في التطور الى دولة صناعية عظمى كما قال زكي خيري وفي فترة عقد واحد او عقدين من السنين. ولكن التصنيع وحده لم يكن كافيا للدفاع عن الوطن الاشتراكي ضد الغزاة النازيين. ولم يكن التفاني في الدفاع عن هذا الوطن نتيجة للتصنيع وحده بل كان نتيجة حب هذه الشعوب لوطنها الاشتراكي الذي حقق لها التآخي وحفزها على الوقوف صفا واحدا تجاه العدو، كان نتيجة اقتناع هذه الشعوب بان السير بقيادة الحزب البلشفي وستالين يؤدي الى زيادة رفاهها وثقافتها وانقاذها من اهوال المجتمع الراسمالي بما فيها من بطالة وازمات وخوف المستقبل وارتفاع الاسعار والتضخم النقدي والدعارة والفقر والعوز واذلال الطبقات الحاكمة. وهذا لا يمكن تحقيقه بالتصنيع وحده. ولو اقتصر انجاز الحزب البلشفي بقيادة ستالين على تحقيق اعداد الشعوب السوفييتية من الناحية الصناعية والناحية الاجتماعية للدفاع عن وطن الاشتراكية لكفى لكي يعتبر ستالين من اعظم قادة البشرية والشيوعية.
يشير زكي خيري في العبارة المقتبسة اعلاه ان هم ستالين انصب على التطوير الصناعي السريع. وادا اخذنا بالحسبان القسم الاول من العبارة ما يقض مضاجع ستالين الخوف من الحرب، امكننا ان نستنتج، ولو ان العبارة موضوعة بشكل التفافي، ان الحرص على التطوير الصناعي السريع كان لتحقيق قوة الاتحاد السوفييتي العسكرية. لا شك ان التطور الصناعي عامل من اهم عوامل بناء الاشتراكية ولو انه لا يعني بناء المجتمع الاشتراكي. وسياتي نقاش هذه النقطة ادناه. ولكننا مع ذلك يجب الا نمر مر الكرام على ارتباط هدف التصنيع السريع لغرض الدفاع، وهدف تسريعها لغرض بناء الاشتراكية.
اذا كان زكن خيري يعتبر ان هدف التخلص من الخوف من الحرب، هدف تقوية امكانيات الدفاع، هو الذي اقترن باريخيا بهدف بناء الاشتراكية فهذا اعتبار خاطئ. صحيح ان تقوية الدفاع عن الوطن يتطلب صناعة متطورة تجهز الجيش باحدث اسلحة الدفاع. ولكن هذا الاتجاه ليس ضروريا ولا متفقا مع بناء المجتمع الاشتراكي. فلولا وجود خطر الهجوم الامبريالي لكان بامكان دكتاتورية البروليتاريا ان توفر هذه المجهودات الهائلة بما تستهلكه من الانتاج الصناعي وتوجيه المصانع للانتاج الحربي وما تستنزفه من طاقات الشعوب غير المثمرة في تكوين الجيوش الجرارة التي لا تشترك في عملية الانتاج الاجتماعي. وقد عبر ستالين عن ذلك في رده على اتلي رئيس الوزراء العمالي البريطاني في شباط ١٩٥١ اذ قال:
"ان رئيس الوزراء اتلي يجب ان يعلم من تجربته الخاصة وكذلك من تجربة الولايات المتحدة ان زيادة القوى العسكرية للبلدان وتوسيع سباق التسلح يؤدي الى تحديد الصناعة السلمية واغلاق انشاءات مدنية عظمى ورفع الضرائب وارتفاع اسعار السلع الاستهلاكية ... فلو ان الاتحاد السوفييتي لا يحد من الصناعة السلمية بل بالعكس يوسعها، ولا يتوقف عن سياسة تخفيض الاسعار بل يواصلها فانه لا يستطيع في الوقت ذاته ان يطور الصناعة الحربية وان يوسع قواه العسكرية بدون ان يتعرض بذلك الى خطر الافلاس." (ستالين م ١٦ ص ٢٦٢)
فالتصنيع الحربي وتقوية القدرات العسكرية يحدان من التقدم نحو البناء الاشتراكي ولا يقترن الهدفان تاريخيا.
واذا كان زكي خيري يقصد بعبارته ان هدف التصنيع السريع وهدف بناء الاشتراكية اقترنا تأريخيا، فهذا صحيح جدا. فان التطوير الصناعي ضرورة من ضرورات بناء الاشتراكية. وتزخر كتابات لينين حول هذه النقطة الشيوعية : " ان الشيوعية هي السلطة السوفييتية مضافا اليها كهربة البلاد باسرها." (لينين م ١٠ ص ٢١٣) خير طريقة نتبعها هي ان نصنع الالات (نفس المصدر ص ٢٦٣) ويمكننا اقتباس العشرات من هذه العبارات التي تؤكد على اهمية التطوير الصناعي لبناء الاشتراكية.
ولكن هدف التطوير الصناعي ليس متطابقا مع هدف بناء المجتمع الاشتراكي. واضح ان بناء المجتمع الاشتراكي والتقدم نحو المجتمع الشيوعي مستحيل بدون صناعة متطورة. ولكن التطوير الصناعي وحده لا يكفل بناء المجتمع الاشتراكي. فمهمة بناء المجتمع الاشتراكي اوسع كثيرا من مهمة التطوير الصناعي، والتطوير الصناعي هو احد العوامل الضرورية للتطوير الاشتراكي. من الممكن جدا تطوير الصناعة الى اقصى حدود التطوير بدون ان يعني ذلك بناء مجتمع اشتراكي. ومن السذاجة هنا ان نورد الامبريالية كمثال. فها نحن نشاهد اعظم تطوير صناعي واعظم تقدم في الثورة التكنولوجية بدون ان يكون ذلك سلوكا نحو بناء مجتمع اشتراكي. وكذلك راينا ان توقف الخروشوفيين السوفييت عن طريق تطوير الاشتراكية ادى الى عودة الراسمالية رغم التطور الصناعي الهائل الذي شاهدته الدولة. فعوامل بناء المجتمع الاشتراكي عديدة ومتنوعة يشكل التطوير الصناعي احدها فقط ولكن هذه العوامل تتضمن تطوير الزراعة الجماعية والقضاء على بقايا الراسمالية والتثقيف وتربية الشعب بالاخلاق الاشتراكية وتحقيق تآخي الشعوب السوفييتية عن طريق تطبيق حق تقرير المصير تطبيقا لينينيا صحيحا الخ الخ ..
ان اقتران الهدفين تأريخيا لا يعني ان تحقيق التطوير الصناعي يحقق الاشتراكية اوتوماتيكيا ولا يعني ان الاشتراكية يمكن تحقيقها كنتاج عرضي للتصنيع السريع كما يؤكده زكي خيري في عبارته.
وادعاء زكي خيري بان اهتمام ستالين بتقوية الدفاع خوفا من هجوم امبريالي لا يتفق واتهامات الخروشوفيين لستالين. فقد زعم الخروشوفيون ان ستالين كان جاهلا لخطر الحرب وقصر في اعداد الاتحاد السوفييتي حربيا بما فيه الكفاية. فمن هو الصحيح يا ترى؟
ومن اعتبار اقتران هدفي الصناعة وبناء الاشتراكية وتحقيق الاشتراكية بسبب هذا الاقتران يوحي زكي خيري بان بناء الاشتراكية هو من البساطة والسهولة بحيث انه يمكن ان يكون نتاجا عرضيا للتصنيع السريع. بينما نحن نعلم ان بناء المجتمع الاشتراكي كان طربقا لم يسبق للبشرية ان سلكته من قبل ولذلك كان طريقا محفوفا بمخاطر الزلل والاخطاء وزاخرا بضرورة تصحيح الاخطاء. وتأريخ الحزب البلشفي بقيادة لينين ثم بقيادة ستالين زاخر بامثلة هذه الصعوبات والاخطاء وتصحيح الاخطاء.
لهذا لابد ان نضع سؤالا. هل كان ستالين يهتم اولا ببناء الاشتراكية وكوسيلة من وسائل ذلك تطوير الصناعة السريع؟ ام كان كما يدعي زكي خيري يهتم بالتطوير الصناعي السريع اكثر من اهتمامه ببناء الاشتراكية وان الاشتراكية تحققت لاقتران الهدفين تأريخيا؟
قليل من الاطلاع على تأريخ الحزب البلشفي منذ وفاة لينين وحتى سنة ١٩٢٨ يظهر ان الصراع المحتدم داخل الحزب بين اغلبية الحزب بقيادة ستالين والاقليات المعارضة على تعددها وخصوصا مع تروتسكي انصبت على موضوع امكانية تحقيق مجتمع اشتراكي في قطر واحد، وقطر ذي اغلبية فلاحية وتأخر صناعي مثل الاتحاد السوفييتي. وكان تروتسكي وسائر عناصر المعارضة الذين ضاعفوا نشاطهم بعد وفاة لينين للضغط على ستالين يؤكدون بان من المستحيل بناء مجتمع اشتراكي بدون نجاح الثورة في البلدان الصناعية المتقدمة وبانكار امكانية الاعتماد على العمال والفلاحين لبناء مجتمع اشتراكي. بل وصل بهم الامر الى حد الدعوة الى ضرورة الاستسلام الى الراسمالية ريثما تتحقق الثورة في بلدان اوروبا لكي تأتي البروليتاريا الظافرة لعون الاتحاد السوفييتي. وكان موقف اغلبية الحزب بقيادة ستالين حديا وقاطعا في امكان بناء مجتمع اشتراكي كامل في الاتحاد السوفييتي بقواه الداخلية استنادا الى حلف العمال والفلاحين رغم بقاء الاحاطة الامبريالية وبقاء خطر الحرب. ان الوثائق حول هذا الموضوع عديدة وكثيرة ولا ارى حاجة الى الرجوع الى اي متها. انها الخط الرئيسي في صراعات الحزب البلشفي في تلك الفترة. اكتفي باقتباس نبذة قصيرة على سبيل المثال: "ماذا يعني بناء الاشتراكية؟ يعني بناء الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي التغلب على برجوازيتنا السوفييتية بمجهودنا نحن في سياق النضال ... ومن هذا ينشأ السؤال : هل بوسع البروليتاريا في الاتحاد السوفييتي ان تتغلب على برجوازيتها السوفييتية؟ ان الحزب يجيب على هذا السؤال بالايجاب " (ستالين م ٩ ص ٢٢)
يبدو من هذا ان اشخاصا مثل تروتسكي وزينوفييف وغيرهما كانوا يرون بناء المجتمع الاشتراكي مستحيلا لصعوبته بينما يعتبره زكي خيري من البساطة بحيث انه يمكن ان يتحقق كنتاج عرضي للتصنيع السريع.
لا شك اذن ان التطوير الصناعي كان مهمة ضرورية، لا لتقوية الدفاع فقط، بل بالدرحة الرئيسية لبناء الاشتراكية. والمسألة التي نناقشها الان هي اية صناعة؟ فالتطور الصناعي يمكن ان يتخذ اشكالا مختلفة. يمكن مثلا ان يتجه التطور الصناعي نحو توسيع انتاج المواد الاستهلاكيية تطويرا سريعا وخصوصا في بلد مثل الاتحاد السوفييتي الذي كان يعاني اشد النقص في الانتاج الصناعي والزراعي بحيث ان المجتمع كان يعيش على التقنين الذي هو اقرب الى الجوع والعري منه الى الرفاه والشبع. وليست اتهامات الدولة الاشتراكية وستالين بالتجويع وقتل الملايين جوعا بقليلة. ولكن هل هذا هو المقصود بالتطوير الصناعي السريع؟
احتدم الصراع داخل الحزب البلشفي حول هذه النقطة ايضا. كانت اغلبية الخظب بقيادة ستالين تعارض تطوير الصناعة الخفيفة ، صناعة المواد الاستهلاكية، كالهدف الرئيسي من تطوير الصناعة. بل تريد تطوير الصناعة الثقيلة لان الصناعة الثقيلة هي الضمان الوحيد لتطوير انتاج المواد الاستهلاكية بصورة مستمرة. بينما طالبت جميع فئات المعارضة بتفضيل تطزير الصناعة الخفيفة على الصناعة الثقيلة. وكان الحزب وستالين في هذا الصدد يسترشدان باراء لينين. فقد قال لينين على سبيل المثال : "ان القاعدة المادية للاشتراكية لا يمكن ان تكون الا الصناعة الضخمة الالية التي من شأنها ان تعيد ايضا تنظيم الزراعة. ولكنه لا يجوز الاقتصار على اعلان هذا المبدأ العام. ينبغي تجسيده ..." (لينين م ١٠ ص ٣٩٦)
تحدث زكي خيري عن سيطرة الدول الامبريالية على اشباه المستعمرات والبلدان التابعة بواسطة خيط تسحبه متى ما ارادت لخنقها."والراسمال الدولي لا يدخل من التكنولوجيا الحديثة الى البلدان المتخلفة الا ما هو مربوط بخيط يمكنه سحبه متى شاء ليترك البلد متخلفا كما كان ..." (ص ٤٨)
فما هو هذا الخيط الذي يمسك به الراسمال الدولي (اقرأ الراسمال الامبريالي)؟ لقد شاهدنا تاريخيا نوعين من الخيط. فقديما كان الراسماليون الاستعماريون يجبرون مستعمراتهم او البلدان التابعة لهم على الانتاج الواحد (البرازيل ، قهوة، كوبا، سكر ، العراق ، تمر ، مصر ، قطن الخ..) وحين تتوتر العلاقات بين الدولتين تتوقف الدولة الاستعمارية عن شراء هذا المنتج فتخنق الدولة التابعة. وقد استعمل هذا الاسلوب حتى في ثورة مصدق في ايران حيث توقفوا عن شراء النفط فدفعوا حكومة مصدق الى الافلاس ثم الانهيار.
ولكن الامبريالية التي استندت على توظيف الراسمال في المستعمرات والبلدان التابعة وجدت نوعا آخر من الخيط، وهذا هو الخيط الذي يشير اليه زكي خيري. انه عبارة عن استثمار رؤوس الاموال الامبريالية في انشاء مصانع لاخر واحدث المنتجات وابقاء الخيط في ايديها، انتاج ادوات الانتاج. اننا نشاهد هذا باجلى معانيه اليوم في عصر الثورة العلمية التكنولوحية. فها هي سنغافورة وتايلاند وهونغ كونغ وكوريا الجنوبية وتايوان تنتج آخر مستحدثات هذه التكنولوجيا في العالم وتغرق بها حتى الاسواق الامبريالية ذاتها. ولكن الخيط، انتاج وسائل الانتاج، يبقى في ايدي الامبرياليين يسحبونه متى شاؤوا. وقد اوضح ستالين ذلك حين قال:
"يتصور بعض الرفاق ان التصنيع يتضمن تطوير اي نوع من الصناعة ... ذلك ليس صحيحا طبعا. فليس كل نوع من التطور الصناعي تصنيعا. ان مركز التصنيع، اساسه، انتاج وسائل الانتاج، تطوير صناعة بناء المكائن الخاصة بنا. ان التصنيع لا يضطلع بمهمة زيادة حصة الصناعة الانتاجية في اقتصدنا الوطني ككل فقط بل يضطلع ايضا، ضمن هذا التطور، بضمان الاستقلال الاقتصادي لبلادنا، المحاطة كما هو الحال بدول راسمالية، صيانة بلادنا من ان تتحول الى ملحق للعالم الراسمالي. ان بلد دكتاتورية البروليتاريا، وهو محاط بالراسمالية، لا يمكن ان يبقى مستقلا اقتصاديا اذا لم ينتج بنفسه ادوات ووسائل الانتاج داخل البلاد نفسها. اذا بقي جامدا على مستوى من التطور حيث عليه ان يبقى اقتصاده الوطني ملحقا للاقطار الراسمالية المتطورة التي تنتج وتصدر ادوات ووسائل الانتاج. ان الجمود على هذا المستوى يعني ان نخضع انفسنا للعالم الراسمالي.
"خذوا الهند مثلا. يعلم كل انسان ان الهند مستعمرة. فهل فيها صناعة؟ لا شك في ذلك. هل هي متطورة؟ نعم. الا ان نوع الصناعة المتطورة هناك ليس النوع الذي ينتج ادوات ووسال الانتاج. ان الهند تستورد ادوات انتاجها من بريطانيا. ولهذا السبب (ولو انه بالطبع ليس السبب الوحيد) تخضع صناعة الهند خضوعا تاما للصناعة البريطانية. هذا اسلوب امبريالي محدد ـــ تطوير الصناعة في المستعمرات بطريقة تبقيها ملحقة بالمتروبول، بالامبريالية." (ستالين م ٨ ص ١٢٧)
ولكن تطوير الصناعة الثقيلة، انتاج وسائل الانتاج، ليس امرا سهلا خصوصا في بلد دكتاتورية البروليتاريا المحاطة بعالم امبريالي يعمل على تدميره. بحث كارل ماركس هذا الموضوع بتفصيل بالغ. وبين مثلا ان انتاج وسائل الانتاج يجب ان يكون من السعة بحيث يكفي للتبادل الداخلي ضمن هذا القطاع، اي بيع ادوات الانتاج لمعامل هذا القطاع من الصناعة وكذلك تجهيز وسائل الانتاح اللازمة للقطاع الثاني، انتاج المواد الاستهلاكية، الصناعة الخفيفة. ولم تصبح الدول الراسمالية دولا صناعية كبرى الا حين افلحت في تحقيق التوازن بين قطاعي الصناعة المذكورين. ولو ان هذا التوازن يتم، كما تتم كل التوازنات في الاقصاد الراسمالي، عن طريق فوضى الانتاج وتحول الراسمال من انتاج السلع القليلة الربح الى انتاج السلع الكثيرة الربح بصرف النظر عن نوعها وعن فائدتها للمجتمع وعن حاجات المجتمع الضرورية.
ان تطوير الصناعة الثقيلة يتطلب راسمالا كبيرا اعظم بكثير من الراسمال اللازم للمصانع الخفيفة. وكان على الدول الراسمالية الجديدة ان تجد المصادر اللازمة لتوفير هذا المقدار الهائل من الراسمال. سلكت الدول الراسمالية طرقا عديدة للحصول على هذه الكميات من الراسمال. فبريطانيا استعملت نهب مستعمراتها والقرصنة لتحقيق ذلك بينما استغلت المانيا تعويضات الحرب الالمانية الفرنسية لتحقيق ذلك واستغلت دول اخرى مثل روسيا القيصرية القروض الاستعمارية لتحقيق ذلك.
ولكن دكتاتورية البروليتاريا في الاتجاد السوفييتي كانت عاجزة عن استخدام اي من الوسائل المذكورة لتحقيق تطورها الصناعي. فهي لا تستطيع استغلال المستعمرات القيصرية التي انضمت الى الاتحاد السوفييتي في هذا السبيل. وليس لها تعويضات من اية دولة ولا تستطيع اخذ القروض الامبريالية التي تؤدي الى استعبادها وبالتالي الى العودة الى الراسمالية. فلم يكن امام الدولة السوفييتية سوى طريقة التجميع. وتجميع الراسمال يعني ان تقوم دكتاتورية البروليتاريا التي تضطلع بالبرمجة المركزية للاقتصاد الاشتراكي بتخصيص مقدار من واردات الدولة لتطوير الصناعة الثقيلة يتزايد باطراد كلما تقدم المجتمع اقتصاديا وكلما ازدادت مداخيل الدولة. وهذا هو الطريق الذي سارت فيه دكتاتورية البروليتاريا، بقيادة الحزب البلشفي وستالين. نرى من هذا ان دكتاتورية البروليتياريا طورت  صناعتها بتطوير الصناعة الثقيلة مثلما فعلت الدول الراسمالية سوى ان الدول الراسمالية فعلت ذلك عن طريق فوضى الانتاج والنهب بينما فعلت دكتاتورية البروليتاريا ذلك عن طريق الانتاج المتوازن، طريق البرمجة المركزية.
نناقش الان موضوع تطوير الصناعة الثقيلة من وجهة نظر الحساب الاقتصادي او حساب الكلفة او حساب الربح. نعلم ان الراسمال ينقسم الى قسمين (حسب النظرية الماركسية)، الراسمال الثابت والراسمال المتغير. وسبب هذه التسمية هو ان الراسمال الثابت هو راسمال ينتقل الى السلع الجديدة بدون تغيير في قيمته بينما يتغير الراسمال المتغير لدى انتقاله الى السلعة الجديدة. فالراسمال المتغير هو الراسمال الذي يستخدم لدفع اجور العمال. وبما ان اجور العمال تدفع عن قيمة القوة العاملة (اي القيمة التبادلية للقوة العاملة) ويقوم الراسماليون باستخدام القيمة الاستعمالية للقوة العاملة التي اشتروها، اي ساعات العمل التي ينفقها العامل على الانتاج، فان الفرق بين القيمة التبادلية للقوة العاملة والقيمة التبادلية لنتاج عمل القوة العاملة، سماه كارل ماركس فائض القيمة وهذا هو المصدر الوجيد لارباح الراسمال. هذه امور بديهية يعرفها كل من الم ولو الماما بسيطا بالاقتصاد السياسي الماركسي.
وبما ان الراسمال الثابت يزداد زيادة كبيرة بالنسبة للراسمال المتغير في المشاريع الكبيرة فان فائض القيمة الناجم في هذه المشاريع اقل بكثير من فائض القيمة الناجم من المشاريع الخفيفة مباشرة. ولكن الارباح في النظام الراسمالي تتوزع وفقا لفوضى الانتاج وليس وفقا لفائض القيمة الناجم عن المشروع ذاته. يتحقق ذلك اوتوماتيكيا بفرض اصحاب مشاريع انتاج ادوات الانتاج اسعارا مضخمة لمنتجاتهم وبواسطة الاحتكار وغير ذلك. واننا نشاهد الان تضخم ارباح الراسماليين الذين يزاولون الانتاج الحربي الذي يتميز عن غيره بان المستهلكين هم الدول بالدرجة الرئيسية ويمكن فرض اسعار باهظة على الدول لتداخل السياسة والاقتصاد في مثل هذه الصفقات. ولهذا نرى ان الراسمال المستثمر في العالم اليوم في الاقتصاد الحربي هو الاف اضعاف الراسمال المستثمر في الاقتصاد السلمي. وهذا الاقتصاد الحربي هو، في اوقات السلم، العامل الاول في تخفيف الازمات الاقتصادية. ويزداد هذا التأثير اضعافا في اوقات الحروب، الوسيلة المثلى للتخلص من هذه الازمات. فاذا اخذنا المشروع منفردا، منفصلا عن الاقتصاد الراسمالي ككل، فان هذه المشاريع الضخمة، التي اصبحت في عصر الثورة التكنولوجية تدار بواسطة الروبوتات، مشاريع خاسرة من وجهة نظر انتاج فائض القيمة من الراسمال المتغير المباشر للمشروع. لذا لا نستطيع فهم ارباح هذه المشاريع الا اذا راينا فائض القيمة الذي يحصل عليه الراسماليون مجتمعين كصندوق واحد يوزع على الراسماليين حسب نسب راسمالهم.
بينما نحتاج الى استخدام تصورنا لكي نفهم كيفية توزيع فائض القيمة على الراسماليين فاننا لا نحتاج الى ذلك لفهم ربحية النظام الاشتراكي. ففي النظام الاشتراكي يجري تنظيم الانتاج عن طريق المركز، دكتاتورية البروليتاريا، حسب متطلبات قانون توازن التطور في الانتاج بصورة واعية وعلمية. ولا تنظر دكتاتورية البروليتاريا الى المشاريع كوحدات منفصلة ينبغي اجراء حسابها الاقتصادي على انفراد بل كفروغ لمشروع كبير يقوم كل فرع منه باكمال الفروع الاخرى. فالمحطة الكهرمائية تجهز الكهرباء لسائر المشاريع المرتبطة بها ولذلك لا ينظر الى المحطة الكهرمائية كوحدة ينبغي ان تقدم ارباحا بشكل مباشر بل ينظر اليها كوحدة ضرورية لا يمكن لسائر المشاريع ان تتطور بدونها. وتتمثل ارباح المحطة الكهرمائية بمساهمتها في تحقيق ارباح المشاريع كلها. وفي هذا بعض التشابه لما يجري من توزيع مجموع فائض القيمة على مجموع الراسماليين كلهم. الا ان الفرق هو بين كون الدولة الاشتراكية تجري حساباتها الاقتصادية وفقا لقانون توازن التطور الاقتصادي الذي اكتشفته وتعلمته وتعلمت استخدامه لصالح المجتمع الاشتراكي بينما يجري ما يجري في البلد الراسمالي عن طريق فوضى الانتاج وتحكم قانون القيمة والقوانين الاخرى بصورة غير واعية بعيدا عن ارادة الانسان وفقا لقاعدة الربح.
ولابد هنا ان نشير الى ان الامبرياليين وجميع اعداء الاشتراكية على تنوعهم، وكذلك زكي خيري، يلومون ستالين لانه كان يبني مشاريع غير مربحة. ان ستالين لم يكن ينظر الى الربح نظرة برجوازية، نظرة الربح المباشر الملموس لمس اليد الذي يدره المشروع مباشرة للراسمالي او حتى للعمال اصحاب المشروع. بل ينظر الى الربح نظرة اشتراكية، نظرة الفائدة التي يقدمها الانتاج الاشتراكي كله للمجتمع. قال ستالين سنة ١٩٥٢ :
"يستنتج بعض الرفاق ان قانون التطور المتوازن للاقتصاد الوطني والتخطيط الاقتصادي يلغيان مبدأ مربحية الانتاج. هذا غير صحيح ... اذا درست المربحية لا من وجهة نظر المشاريع او الصناعات الفردية، ولا لفترة سنة واحدة، بل من وجهة نظر الاقتصاد الوطني كله ولفترة عشرة اعوام او خمسة عشر عاما، وهو النهج الصحيح الوحيد لهذه المسألة، فان مربحية بعض المشاريع والصناعات المؤقتة غير الثابتة هي ادنى من كل مقارنة مع ذلك الشكل العالي من المربحية الثابتة والدائمة التي نحصل عليها نتيجة عمل قانون التطور المتوازن للاقتصاد الوطني ومن التخطيط الاقتصادي، التي تنقذنا من الازمات الاقتصادية الدورية المدمرة للاقتصاد الوطني والتي تلحق اضرارا هائلة بالمجتمع والني تضمن نسبة توسع مستمر عال للاقتصاد الوطني. " (ستالين م١٦ ص ٣١٦)
وخلال الصراع بين اغلبية الحزب بقيادة ستالين ومختلف منظمات المعارضة تحقق الاتجاه الصحيح، اتجاه التطوير الصناعي، تطوير صناعة ادوات الانتاج والصناعة عموما، نتيجة للبرامج الخمسية التي وضعتها الدولة عن طريق البرمجة المركزية وحماس الشعوب السوفييتية في تحقيق هذه المشاريع قبل الموعد المحدد لها. واصبح الاتحاد السوفييتي دولة صناعية كبرى وانعكس ذلك على الزراعة بتوجيه احدث الالات الزراعية الى محطات الالات الزراعية التي وضعت تحت تصرف المزارع الجماعية. وهنا يفاجؤنا زكي خيري بالعبارة التالية: "ولشحة الموارد المالية وانعدام اي مساعدة خارجية وضع (الحساب الاقتصادي) على الرف وتبعته ايضا الديمقراطية الصناعية على مستوى الادارة والتخطيط لتليها فيما بعد الديمقراطية على المتسوى الساسي للدولة". (ص ٣٠)
ماذا يعني زكي خيري بشحة الموارد المالية؟ ابتدأ الاتحاد السوفييتي بما يقرب من الصفر من الموارد المالية، ولم يستطع الاتحاد السوفييتي الحصول على مساعدات خارجية غير استعبادية. ومع ذلك استطاع بموارده الشحيحة الضئيلة ان يطور الصناعة والزراعة مما زاد في موارده المالية زيادة مطردة. فكيف حدث ان تحول الاتحاد السوفييتي بعد هذا التطور الواسع الى شحة الموارد المالية؟ هل نضبت الموارد المالية او الكنوز الطبيعية في الاتحاد السوفييتي كما نضبت الحماسة الثورية؟ ثم ما علاقة شحة الموارد المالية بالديمقراطية الصناعية؟ لماذا ادت شحة هذه الموارد الى وضع الديمقراطية الصناعية على الرف؟ رأينا انه اذا كان لعبارة الديمقراطية الصناعية اي معنى فمعناها منح الحرية للراسماليين بتطوير صناعتهم وهذا معاكس بالضبط للطريق الذي سلكه الاتحاد السوفييتي في تحقيق المجتمع الاشتراكي. اما الديمقراطية السياسية فهذا امر اخر يختلف عن الديمقراطية الصناعية. وقد رأينا ان لينين، حتى قبل توفر امكانية تحقيق المجتمع الاشتراكي، كان يعلن "ان دكتاتورية البروليتاريا هي اللاديمقراطية للراسمالية". ولم يكن يتشدق بالديمقراطية السياسية بشكلها البرجوازي بل كان يعتبر ان حرمان الراسمالية من الديمقراطية السياسية هو الضمان لتحقيق الديمقراطية للبروليتاريا والكادحين. ان ما يلوم زكي خيري الاتحاد السوفييتي عليه، حرمان الراسماليين من الديمقراطية السياسية، هو امجد ما في الاشتراكية واكبر برهان على الديمقراطية السياسية للكادحين.
ويقول زكي خيري ان شحة الموارد المالية ادت الى الغاء الحساب الاقتصادي. ان الحساب الاقتصادي الذي يتحدث عنه زكي خيري هو الحساب الاقتصادي الراسمالي، حساب الكلفة، مبدأ الربح، وهو الحساب الاقتصادي الناجم عن تحكم قانون القيمة في الانتاج، الحساب الذي يؤدي الى عبودية المنتج للسلعة التي ينتجها. ولكن قانون القيمة يفقد مفعوله التنظيمي للانتاج في الانتاج الاشتراكي، ويبقى مفعوله ساريا في نطاق تبادل السلع الذي يبقى في الاتحاد السوفييتي على نطاق ضيق جدا، وبالدرجة الرئيسية في التبادل الذي يجري بين الصناعة الاشتراكية والزراعة التعاونية وكذلك المواد الاستهلاكية التي يستهلكها العمال والمثقفون في المدن. والاتجاه العام في التطور الاشتراكي هو نحو تضييق مفعول قانون القيمة باطراد لاجل الغائه آخر الامر بالقضاء نهائيا على الانتاج السلعي والتبادل. وقد رأينا ان الحساب الاقتصادي الاشتراكي يختلف كل الاختلاف عن هذا النوع من الحساب الاقتصادي. انه الحساب الاقتصادي القائم على اساس النظام الاقتصادي كله.
ولكن هل صدق زكي خيري في قوله بالغاء الحساب الاقتصادي حتى بالمفهوم البرجوازي للعبارة؟ لا شك ان الكوادر الشيوعية كانت جاهلة في تطبيق هذا الحساب الاقتصادي لمصلحة الاقتصاد الاشتراكي. ولذلك حدثت بعض الفوضى في تحديد اسعار المواد التي بقيت في نطاق التبادل السلعي. وقد انتقد ستالين هذه الكوادر مرارا وتكرارا وحثها على تعلم قانون القيمة وتطبيقه في حالة دراسة كلفة الانتاج وتسعير السلع. واورد العديد من الامثلة التي كان من شانها ان تلحق الانتاج الاشتراكي بافدح الاضرار لو لم تتصدى لها اللجنة المركزية وتصححها. وارى من المناسب هنا اقتباس عبارة في هذا الصدد كتبها ستالين في كراس المشاكل الاقتصادية للاشتراكية سنة ١٩٥٢:
"ان مفعول قانون القيمة لا يقتصر على نطاق تداول السلع. بل يمتد ايضا الى الانتاج ... في هذا الخصوص تكون لامور مثل حساب الكلفة والمربحية وكلفة الانتاج الخ.. اهمية عملية في مشاريعنا، لذا فان مشاريعنا لا تستطيع العمل ويجب الا تعمل بدون اخذ قانون القيمة بنظر الاعتبار.
"ان المشكلة ليست كون الانتاج في بلادنا يتأثر بقانون القيمة. بل المشكلة هي ان منفذي اعمالنا ومخططاتنا، باستثناءات قليلة، ضعيفو الاطلاع على عمل قانون القيمة، لا يدرسونه، ولا يدرجونه في مجال تقديراتهم. وهذا يوضح في الواقع الارتباك الذي ما زال يسود في مجال سياسة تحديد الاسعار." (ستالين م ١٦ ص ٣١٠ – ٣١١). ثم يورد بعض الامثلة البارزة على ذلك.
ان قانون القيمة في الاشتراكية اذن ليس قانونا متحكما في الانتاج كما هو الحال في الانتاج الراسمالي. ولكن يجب اخذه بنظر الاعتبار عند تحديد كلفة الانتاج واسعار السلع التبادلية في المجتمع الاشتراكي.
رأينا ان المربحية في النظام الاشتراكي تقاس بالتخلص من الازمات الاقتصادية والبطالة، وفي التطور السريع نسبيا في الانتاج الاجتماعي وكل ما يرافق ذلك من التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والصحي.
بعد وفاة ستالين وتولي القيادة من قبل التحريفيين الخروشوفيين تبدلت جميع هذه المقاييس واصبح هدف الانتاج اعادة الراسمالية. وهذا ما جعل زكي خيري يرى نضوب الحماسة الثورية. فقد شعر العمال بتحول السياسة وفقدوا تدريجيا ثقتهم في الحزب الشيوعي وبالقيادة الجديدة.
أخذ تطور الانتاج يتناقص بحيث انخفضت نسبة زيادة الانتاج الى المستويات السائدة في الدول الامبريالية بل الى ما دون ذلك. وبدأت بالظهور المظاهر المميزة للاقتصاد الراسمالي من بطالة وجيش البطالة الاحتياطي متمثلا بالدعارة والفقر والتسول وحتى بعزوف المراة عن العمل، بتشجيع الحكومة التي اخذت تثقف بان مصلحة الشعوب تقضي اقتصار نسبة كبيرة من النساء على واجبات البيت وتربية الاطفال. والى جانب السوق السوداء والتضخم النقدي الهائل نشأت الجريمة وعصابات المافيا والحركات القومية العدائية وسياسة الترويس ورفعت رأسها الحركات الدينية بتشجيع من الدولة واعيد بناء الكنائس ودور العبادة على حساب الدولة. وقد ساعد على هذا استجداء القروض الامبريالية بشروطها الاقتصادية الاستعبادية والشروط السياسية التي ترتبط بها وادخال المشاريع الامبريالية المستقلة والمشتركة الى الاتحاد السوفييتي. وأخذ كل قائد جديد يلقي تبعة الجمود الاقتصادي والتدهور الاجتماعي على عاتق الحاكم السابق مثلما حدث على سبيل المثال في فترة حكم غورباشوف تجاه فترة حكم بريجنيف التي سميت فترة الركود.

انتقد زكي خيري الاتحاد السوفييتي على الانجرار الى سباق التسلح وقد اقتبس من محمد حسنين هيكل من مقدمة كتابه عن حرب الخليج: "كان ماكنمارا وزير الدفاع في عهد كندي اصرح من عبر عن سياسة كندي في محاضرة امام اساتذة الدفاع الوطني في واشنطن (١٤ سبتمبر ١٩٦١) بقوله : علينا ان نرغم الاتحاد السوفييتي على تغيير اولوياته؛ ان النظام الشيوعي يعد جماهيره بمجتمع من الرفاهية ينتفي فيه الفقر ومجتمع من المساواة ينتفي فيه التمايز الطبقي، ولتحقيق هذا فان الاتحاد السوفييتي مطالب بان يضع التنمية كأولوية اولى قبل الامن وعلينا ان نرغمه ان يرفع اولوية الامن ويضعها قبل التنمية وان نشده الى سباق للسلاح يقطع انفاسه ويرهن موارده ويتركه في النهاية ترسانة نووية بدون رغيف خبز او قطعة لحم. وكذلك فان غلبة الامن على الاولويات السوفييتية سوف تنعكس من الخارج الى الداخل فتزيد من تركيز السلطة في يد المسؤولين عنه في اجهزة الحزب والدولة، منا يباعد بينهم وبين عامة الناس ويعزلهم" (هيكل ص ٩، مقتبس من زكي خيري ص ٢٢)
اورد زكي خيري هذا الاقتباس الذي اقتبسته جزئيا للبرهنة على خطأ مسوح في اعتقاده ان القول بان الانهيارات المذهلة كانت نبيجة التآمر الامبريالي الصهيوني ليس صحيحا اطلاقا. وزكي خيري يعارض هذا النفي المطلق.
ان الامبريالية لم تكف لحظة واحدة منذ ثورة اكتوبر وحتى زوال الاتحاد السوفييتي عن التآمر وحبك المكائد والهجوم على الاتحاد السوفييتي. وهذا امر طبيعي لان الامبريالية ترى في الاشتراكية عدوخها الرئيسي ومسرعة مصيرها المحتوم. وحتى خلال الحرب العالمية لم تتوقف المؤامرات ضد الاتحاد السوفييتي رغم وجود جبهة الحرب ضد النازية.
ولكن المسألة لا يمكن بحثها بهذه البساطة. ان مؤامرات الامبريالية المستمرة لا تعني بالضرورة خضوع او انجرار الدولة الاشتراكية الواعية لهذه المؤامرات نحو الشرك الذي تنصبه لها الامبريالية.
اقتبست اعلاه قول ستالين في الجواب على اتلي، رئيس الوزراء البريطاني، حول سباق التسلح. وهذا يعني ان محاولة جر الاتحاد السوفييتي الى سباق التسلح لم تكن جديدة ولكن جواب ستالين كان قاطعا في ان الاتحاد السوفييتي، اذا كان يريد الاستمرار على اولوياته، اي تطوير الصناعة وخدمة رفاه الشعوب السوفييتية، فان انجراره الى سباق التسلح يعرضه الى الافلاس.
ولكن الخروشوفيين انجروا مع ذلك الى سباق التسلح باقصى ما توفر لهم ذلك فهل كانوا جاهلين للنتائج المترتبة على هذا الانجرار؟ لا اعتقد ذلك. ان الخروشوفيين انجروا الى هذا السباق لان سباق التسلح كان يتفق مع خططهم الرامية الى اعادة الراسمالية الى الاتحاد السوفييتي. وتجويع الشعوب السوفييتية احد العوامل الضرورية لتحويل الاتحاد السوفييتي الى بلد راسمالي. فتجويع الشعوب السوفييتية هو الوسيلة المثلى لخلق طبقة عاملة جديدة لا تملك سوى قوة عملها التي تؤجرها او تبيعها الى الراسمال.
ولم يكن سباق التسلح من حانب الحكام الخروشوفيين مجرد هواية او مجرد وقوع في الشرك الذي نصبه لهم كندي او ماكنمارا، بل كان غاية بحد ذاته. فقد تحول الاتحاد السوفييتي الى ثاني اكبر تاجر للسلاح ان لم يكن الاول. وتجارة الاسلحة كما رأينا تحقق اكبر الارباح للراسمال وتدار منذ البداية على اساس راسمالي وكذلك تحقق من الناحية السياسية نفوذا سياسيا على الدول المشترية للاسلحة.
من هنا يبدو واضحا ان الدولة الاشتراكية التي تلتزم بقانونها الاقتصادي الاساسي، تلبية الحاجات المتنامية للشعوب، لا يمكن ان تنجر الى سباق التسلح وان الدولة التي تنجر الى سباق التسلح لا يمكنها ان تفعل ذلك الا بالتخلي عن القانون الاقتصادي الاساسي للاشتراكية.
الثورة العلمية التكنولوجية
تحدث زكي خيري عن الثورة التكنولوجية بمفهومها الدارج حاليا اي بتمييزها عن الصناعة التقليدية في مواضع عدة وبحثها من جوانب مختلفة اتعرض لبحثها في هذا القسم من المقال.
انتقد زكي خيري الاتحاد السوفييتي بقوله:
"ارتكبت اخطاء فادحة في النظرية والممارسة لا سيما في البناء الاقتصادي ادت الى كارثة اصابت الاشتراكية الفعلية في الاتحاد السوفييتي واوروبا الشرقية حيث ظهرت مفارقات مذهلة مثل انتاج ارقى ماكنة في العالم كمركبات الفضاء السوفييتية والعجز عن صنع حقنة لمرة واحدة ... وانتاج ٣٠٠٠٠ رأس نووي اي ما يعادل ما انتجته الولايات المتحدة اغنى دول العالم والعجز عن توفير الخبز والزبدة واللحم بما يكفي للسكان والتصنيع السريع للاتحاد السوفييتي بحيث يصبح ثاني قوة صناعية في العالم خلال سنين معدودة والتلكؤ في ادخال الثورة العلمية التكنولوجية ... وهكذا دواليك" (ص ١٢- ١٣)
لابد من الاشارة هنا مرة اخرى الى ان زكي خيري يستخدم في هذا الموضوع نفس المغالطة التي سبق ان تحدثنا عنها، وهي اعتبار سنوات الحكم السوفييتي مسيرة واحدة متواصلة لا فرق فيها بين مرحلة بناء الاشتراكية ومرحلة تدميرها. والمغالطة هنا تنطوي على مغالطة زمنية ومغالطة موضوعية.
فالمغالطة الزمنية هي ان الاتحاد السوفييتي لم يكن في وضعه بعد الثورة قادرا على اللحاق بالثورة التكنولوجية. فالدول التي تريد اللحاق بالثورة التكنولوجية عليها ان تكون دولة صناعية متقدمة قبل كل شيء. والدولة الصناعية المتقدمة، كما رأينا، يجب ان تكون فيها صناعة انتاج ادوات الانتاج متقدمة جدا. وان الثورة التكنولوجية تتطلب زيادة الراسمال المخصص لهذه الصناعة اضعافا لكي تستطيع انتاج ادوات انتاج الثورة التكنولوجية. فعليها ان تنتج المعامل التي بمقدورها ان تصنع السيارات مثلا باستخدام الانسان الآلي (الروبوتات) وهذه المصانع تتطلب راسمالا ثابتا يزيد بدرجة كبيرة على الراسمال اللازم لانتاج مصنع سيارات تقليدي. ويصدق الشيء ذاته على المصانع التي تنتج الكومبيوترات والالات الالكترونية والصواريخ والقنابل الذرية والطائرات السريعة والاقمار الصناعية وغير ذلك من معالم الثورة التكنولوجية. والاتحاد السوفييتي الذي كان بعد ثورة اكتوبر بلدا زراعيا متاخرا حتى بمقاييس الاقتصاد الزراعي المتقدم، لم يكن بامكانه، حتى لو اراد، ان يلحق بركب الثورة التكنولوجية. فموضوع اللحاق بالثورة التكنولوجية اذن لا يخص فترة بناء الاشتراكية. وان خلق امكانات اللحاق بهذه الثورة كان يتطلب تحويل الاتحاد السوفييتي اولا الى بلد صناعي متقدم في الصناعة التقليدية وهذا يعني ان التركيز الذي ابداه الاتحاد السوفييتي بقيادة الحزب البلشفي وستالين في الثلاثينات كان شرطا لخلق امكانات اللحاق بالثورة التكنولوجية.
ومن الناحية الزمنية ايضا لم تكن الثورة التكنولوجية نفسها كثورة صناعية متميزة ومتقدمة عن الصناعة التقليدية موضوع بحث في تلك الفترة حتى بالنسبة للدول الامبريالية. اذ ان هذه الثورة نشأت بعد الحرب العالمية الثانية، وخصوصا في العقود الاخيرة. فاذا اردنا انتقاد الاتحاد السوفييتي على عدم لحاقه بالثورة التكنولوجية، علينا ان ننتقده في هذه الفترة لا في فترة بناء الاشتراكية.
الا ان الاتحاد السوفييتي في الثلاثينات، بالتركيز على صناعة ادوات الانباج، خلق الظروف المناسبة، اي الصناعة المتقدمة، التي تؤهله للحاق بالثورة التكنولوجية. ولكن الحكومات السوفييتية المتعاقبة بعد وفاة ستالين لم تكن تريد الاستمرار بتطوير انجازات الاشتراكية بل كانت تهدف الى تحطيمها. وتحطيم الاشتراكية لا يمكن ان ينسجم مع اللحاق بالثورة التكنولوجية في الانتاج المدني. اذ ان هذه الحكومات عملت بمختلف الحجج، مثل ربحية المشاريع، والادارة الذاتية وتحطيم الببرمجة على ايقاف تطوير الصناعة الثقيلة على اساس انها من اخطاء ستالين، والتركيز على صناعة انتاج ادواة الاستهلاك من جهة ، والتركيز في الصناعة الثقيلة على انتاج الاسلحة وملحقاتها مثل الصواريخ العابرة للقارات والاقمار الصناعية وحتى الصناعات المدنية غير المرتبطة بتوفير الحاجات الاستهلاكية الضرورية. وليس من يشك في ان الاتحاد السوفييتي كان على الاقل في السبعينات اكثر تقدما من الولايات المتحدة في هذا المضمار.
ولكن زكي خيري لم يقصر في انتقاد لجوء الاتحاد السوفييتي الى التطوير الصناعي السريع الذي ادى حسب ادعائه الى الغاء الحساب الاقتصادي والديمقراطية الصناعية ثم الديمقرطية السياسية.
فهل لحقت الدولة السوفييتية بركب الثورة العلمية التكنولوجية؟ نعم ولا.
حتى استنادا الى ما ذكره زكي خيري في الفقرة المقتبسة اعلاه لحقت الدولة السوفييتية بالثورة التكنولوجية بل حتى تفوقت فيها احيانا في مجال الانتاج الحربي وملحقاته كغزو الفضاء. فكانت اكثر تقدما من الولايات المتحدة مثلا في ارسال اول قمر اصطناعي واول انسان الى الفضاء الخارجي مع ما يتطلبه ذلك من الصواريخ عابرة القارات القوية. في هذا المجال تكون الاجابة على السؤال السابق نعم لحقت الدولة السوفييتية بالثورة التكنولوجية وكان للتقدم الصناعي الذي احرزه الاتحاد السوفييتي في فترة بناء الاشتراكية  الفضل الاول في هذا اللحاق.
ولكن زكي خيري لاحظ بحق تخلف الاتحاد السوفييتي عن اللحاق بالثورة التكنولوجية في مجال الانتاج المدني السلمي الذي يوفر الحاجات الاستهلاكية.
ان القانون الاقتصادي الاساسي للاشتراكية، تلبية الحاجات الضرورية المتزايدة باستمرار، يحتم استخدام احدث التطورات التكنولوجية لغرض تحقيقه. وان الدولة الاشتراكية التي انجزت التصنيع الذي لم تحققه الراسمالية الا خلال خرون في ظرف عقدين او اقل كان بامكانها، ومن واجبها، ان تنجز ذلك بنفس السعة والاتقان. زقد كان لينين وستالين يؤكدان دائما على ضرورة اقتباس واكتشاف احدث انواع التكنولوجيا في الانتاج. وقد سار الاتحاد السوفييتي قدما في هذا الاتجاه خلال الحرب العالمية وبعدها وأحرز انتصارات واسعة في هذا المضمار.
الا ان التخول السياسي الذي احدثه الخروشوفيون غير الاتجاه بل قلبه. فلم تكن المفارقة التي لاحظها زكي خيري ناجمة عن عجز الاتحاد السوفييتي في انتاج ابسط الحاجات الانسانية بل كانت في التناقض بين سياسة اعادة الراسمالية الى الاتحاد السوفييتي والاتجاه نحو اللحاق بالثورة التكنولوجية. كانت السياسة الجديدة تتطلب تطوير الانتاج الحربي والاسلحة بتجارتها المربحة من ناحية وتجويع الشعوب السوفييتية وسلب حقوقها من الناحية الثانية. والحكومات السوفييتية المتعاقبة بعد وفاة ستالين  لم تكن عاجزة عن اللحاق بالثورة التكنولوجية بل متعمدة في التقاعس عن هذا كما تقاعست عن كل خطوة من شأنها أن تحقق رفاها ورخاء لشعوبها. ولهذا يجب الاجابة غلى هذا السؤال،  هل لحق الاتحاد السوفييتي بالثورة التكنولوجية بالنفي. لا، لم يلحق الاتحاد السوفييتي بركب الثورة التكنولوجية في الانتاج المدني.
يقول زكي خيري "وفي يومنا هذا اصبحت امكانية تجاوز البلدان المتخلفة لمرحلة التطور الراسمالي اوسع بما لا يقاس عما كانت عليه في القرن الماضي او مطلع القرن الحالي. فالثورة العلمية التكنولوجية تتيح لقيادة ديمقراطية ثورية حقا في مثل هذه البلدان تجاوز تخلفها والتحرر من تبعيتها الاقتصادية بسرعة فائقة مستخدمة افضل منجزات الراسمالية واكثر افضليات الاشتراكية وصولا الى الاشتراكية." ٤٦)
لا نعود هنا الى مناقشة الطريق اللاراسمالي الذي تقوم به البرجوازية او البتي برجوازية برفع المجتمع اعلى من مستواها الاقتصادي. ولا نناقش ايضا امكانية وجود قيادة ديمقراطية ثورية حقا في عصرنا عدا دكتاتورية البروليتاريا التي تنشأ عن ثورة اشتراكية او دكتاتورية العمال والفلاحين التي تنشأ عن ثورة برجوازية تقودها الطبقة العاملة. ان ما اود مناقشته هنا هو الامكانيات التي اتسعت في ايامنا بما لا قياس له في السابق بسبب الثورة التكنولوجية.
منذ سنة ١٩٢٦ قال ستالين ما يلي: "ما الذي يحدث لو ان الراسمال افلح في تحطيم الجمهورية السوفييتية؟ سينشأ غصر احلك رجعية في جميع البلدان الراسمالية والبلدان المستعمرة وسيضيق الخناق على الطبقة العاملة والشعوب المضطهد، وستفقد الحركة الشيوعية العالمية مواقعها،" (ستالين م ٩ ص ٢٨-٢٩)
هذا الوضع بالذات هو الذي نعيشه اليوم في جميع انحاء العالم. فقد اصبحت الامبريالية الاميركية شرطي العالم، تحصي على الشعوب انفاسها، وتتدخل بجيوشها واساطيلها البحرية والجوية وصواريخها واسلحتها الفتاكة، مستخدمة خادمها الامين، مجلس الامن، ولعبتها الكبرى، هيئة الامم المتحدة او ما يحلو لبعضهم ان يسميها المجتمع الدولي، لغرض ادخال جيوش حليفاتها الامبريالية وحتى جيوش الدول المتخلفة الضالعة في ركابها للمساهمة معها في تحطيم اية حركة لا تلقى رضاها ونزع سلاح اية حركة ثورية مسلحة تحدث في اية بقعة من بقاع العالم. نشاهد هذا كل يوم في هايتي والصومال ويوغوسلافيا السابقة وعلى ظهرانينا في العراق وفي الخليج وفي كوريا الشمالية وغيرها.
وقد اشار زكي خيري الى الخيط الذي يمسك به الراسمال الامبريالي لخنق كل دولة من الدول المتأخرة متى شاء وينسى ان امكانية اتخاذ احدث منجزات الثورة التكنولوجية يتطلب وجود صناعة ادوات انتاج متقدمة في الدولة المعنية. ويطلب من حكومة ديمقراطية ثورية (خيالية) ان تقتبس خيرة منجزات الاشتراكية بدون تحديد الطبيعة الطبقية لهذه الحكومة الديمقراطية وينسى ان التقدم الاقتصادي لا يجري في ايامنا في معزل عن الكفاح السياسي ضد الامبريالية التي تمسك بخناق جميع الدول بدون استثناء. اننا نعيش عضر احلك الرجعية الذي تحدث عنه ستالين. اننا نعاني من عصر فقدت فيه الشيوعية والماركسية المكانة التي كانت تتمتع بها في عهد لينين وستالين نتيجة لتصوير الانهيارات التي حلت بالاتحاد السوفييتي كنتيجة لاخطاء الاشتراكية او عدم امكانية تطبيقها عمليا والى خطل الماركسية وليس نتيجة لخيانة الماركسية والتخلي عنها وتدمير الاشتراكية.
واذا كان هذا الوضع من الناحية السياسية فان التطور الاقتصادي بالشكل الذي تحدث عنه زكي خيري، ان تقتبس الدولة الديمقراطية (اللاراسمالية في مجتمع راسمالي) كل منجزات الثورة التكنولوجية وجميع افضليات الاشتراكية للتحول الى الاشتراكية عن طريق التطور اللاراسمالي ثرثرة لا اساس لها لا من الناحية السياسية ولا من الناحية الاقتصادية.
ولا يمكن هنا الا ان نشير الى نظرية زكي خيري الجديدة، نظرية "ان تنجز الثورة العلمية التكنولوجية مهمتها التاريخية اي نقل البشرية الى عالم جديد". (ص ٤٦)
ناقشنا في مكان اخر موضوع المهمة التأريخية للثورة التكنولوجية. نبحث هنا موضوع الثوررة التكنولوجية وتاثيرها في الاقتصاد والمجتمع.
بما اننا نناقش الامور من وجهة نظر ماركسية، والماركسية تؤمن بالصراع الطبقي وسيطرة طبقة من المجتمع على اخرى يترتب علينا هنا ان نبحث الثورة التكنولوجية وفقا للطبقة المسيطرة في المجتمع. وعليه نناقش تأثير الثورة التكنولوجية في مجتمع راسمالي امبريالي، ومجتمع راسمالي لا امبريالي او قبل راسمالي وفي مجتمع اشتراكي.
ماهو تأثير الثورة التكنولوجية في مجتمع راسمالي امبريالي؟ من ناحية الانتاج تؤدي الثورة التكنولوجية الى تسريع الانتاج وانتاج سلع اكثر تقدما سواء في القطاع الحربي من الانتاج ام في القطاع المدني منه, ففي كلا الحالتين تكون المصانع والالات اكثر تكليفا مما يؤدي الى ارتفاع نسبة الراسمال الثابت الى الراسمال المتغير. وهذا التغير يؤدي الى انخفاض فائض القيمة الناشئ عن عمل العمال في مثل هذه المصانع. ولكن الامر لا يقتصر على ارتفاع نسبة الراسمال الثابت الى الراسمال المتغير. اذ ان من المفروض ان مصانع التكنولوجيا العالية تستخدم الات متقدمة تكنولوجيا مما يؤدي الى انخفاض في عدد العمال اللازم لتشغيل مصنع من هذا النوع عن عدد العمال اللازم لمصنع من نفس الحجم بالصناعة التقليدية. فمصنع سيارات عادي قد يحتاج الى الاف العمال لتشغيله بينما لا يحتاج مصنع سيارات من نفس الحجم تديره الروبوتات الا الى عدد ضئيل من المهندسين والفنيين. ويعني هذا في المجتمع الراسمالي الاستغناء عن فيض العمال في هذه المصانع. ويكون من نتيجة ذلك تضخم البطالة نظرا الى ان توسيع المعامل والمصانع لا يستوعب العمال المستغنى عن خدماتهم. ولذا يزداد عدد العمال العاطلين في المجتمع ويعاني العدد الضخم منهم بطالة مزمنة دائمة ومتزايدة. وهذه الظاهرة اصبحت ملازمة في كافة البلدان الامبريالية في العقود الاخيرة. كذلك يؤدي تضاؤل فائض القيمة الذي تحصل عليه الراسمالية عموما الى شعور الراسماليين بمفعول قانون انخفاض معدل الربح وتضطرهم الى اللجوء الى الارباح الصورية الناجمة عن المضاربات ومن الواضح ان المضاربات في البورصة ليست سوى نوع من المقامرة تكون فيها ارباح شخص على حساب خسارة اخر. فالراسمال عموما لا يزداد نتيجة لهذه المضاربات. ولكن انتقال الاموال من شخص الى اخر يبدو من الناحية القانونية ارباحا تدفع عنها الضرائب وتسجل في دفاتر حسابات الشركات كأرباح بينما تسجل الاموال ذاتها في الجانب الخاسر من دفاتر الشركات الخاسرة. وكذلك تزداد ارباح شركة على حساب اخرى عند ابتلاع الشركات المفلسة اثناء الازمات من قبل الشركات الاكبر منها لقاء جزء من تكلفتها الاصلية. وقد اصبحت هذه الارباح المتأتية عن المضاربات ظاهرة غالبة في المعاملات الراسمالية تخفي الى حد ما انخفاض معدل الربح الناجم عن الانتاج الحقيقي.
قد تؤدي الثورة التكنولوجية الى زيادة الحاجات الضرورية للانسان. نشاهد ذلك في انتشار التلفزيونات ومسجلات الفيديو مثلا حتى في ابسط البيوت وكأنها من ضروريات الحياة. واصبحت ترى في الطرق شبابا يصغون الى الموسيقى بمسجلاتهم المتنقلة او يتحدثون في التلفونات اليدوية حيثما ذهبوا الخ.. ولكن الاتجاه الحقيقي في هذه المجتمعات هو تسريع الظاهرة التي تميزت بها المجتمعات الراسمالية طيلة فترة وجودها، ظاهرة تجمع السلع والنقود لدى فئة من المجتمع وتجمع الحاجة والفقر فيي الجهة الثانية، وهذا ما يسمى عادة الازمات الاقتصادية او ازمات فيض الانتاج، حيث يشعر الكادحون بالحاجة الى المواد الضرورية وبالافتقار الى النقود اللازمة لشرائها بينما تتراكم السلع في المخازن والحوانيت ولا تجد لها شاريا. وهذا ما نشاهده اليوم في جميع العالم الراسمالي.
فهل تشكل هذه الثورة التكنولوجية سيرا نحو عالم جديد؟ اذا كان يقصد بالعالم الجديد، الاقتصاد العالمي الجديد الذي تعد الولايات المتحدة ببنائه بع انتهاء الحرب الباردة، عالم السيطرة الاميركية على انفاس شعوب العالم طرا، فهذا ممكن. اما اذا كان يقصد بذلك تقدم البشرية نحو عالم اكثر عدالة من العالم الراسمالي، او الى عالم اشتراكي، فهذا مجرد ثرثرة لا اساس لها من الناحية العلمية. فها قد تطورت الثورة التكنولوجية تطورا هائلا في الولايات المتحدة واليابان والمانيا وحتى روسيا فلم يقدم ذلك البشرية خطوة نحو عالم افضل بل ادى الى تراجعها خطوات الى الوراء، في سبيل الاسوأ.
وما هو تأثير الثورة التكنولوجية في البلدان المتاخرة، بلدان ما يسمى بالعالم الثالث؟ اننا نعلم ان هذه البلدان تقع اليوم من الناحية السياسية ومن الناحية الاقتصادية موقع البلدان التابعة للامبريالية، وهي تشكل مصدر الثروات الطبيعية والمواد الاولية وسوقا للمنتجات الامبريالية. اضف الى ذلك فان توظيف رؤوس الاموال الامبريالية في هذه البلدان وهو الصفة المميزة في تحول الراسمالية الى راسمالية امبريالية، يؤدي الى ان تصبح هذه الدول مصدرا للايدي العاملة الرخيصة. فما الذي جددته الثورة العلمية التكنولوجية على هذه الظاهرة؟ انها فاقمت من كل هذه المظاهر. فانتاج احدث منتجات الثورة التكنولوجية زاد من حاجة الامبريالية الى المواد الاولية اللازمة لهذا الانتاج والموجودة في هذه البلدان. فانتاج القنابل الذرية مثلا يتطلب الخامات اللازمة لصنع هذه القنابل وهذا يؤدي الى زيادة افقار هذه البلدان بسلب المزيد من ثرواتها الطبيعية. ويؤدي كذلك الى زيادة حاجة الدول الامبريالية الى اسواق لمنتجاتها وليس لها سوى اسواق هذه الدول. اننا نرى على سبيل المثال بلادنا العربية تستنزف ثرواتها النفطية لقاء النزر اليسير ليستعيد الامبرياليون ما دفعوه ثمنا للنفط ببيع المنواد الاستهلاكية وانشاء المباني والطرقات واهم من كل ذلك اغلى انواع الاسلحة التي تنتجها الثورة التكنولوجية.
واكثر من ذلك. فان توظيف الاموال في هذه البلدان زاد اضعافا مضاعفة نتيجة للثورة التكنولوجية. فها نحن نرى ان هذه البلدان جهزت بالمواد اللازمة لانتاج احدث منتجات الثورة التكنولوجية المدنية بحيث اصبحت تغرق الاسواق الامبريالية ذاتها بها. فسنغافورة وتايلاند وكوريا الجنوبية وتايوان اصبحت في مقدمة انتاج منتجات الثورة التكنولوجية. فهل ادى هذا التطور الى زيادة رفاه هذه الشعوب؟ بالطبع لا. اذ ان استغلال هذه الشعوب من قبل الامبريالية تضاعف وتضاعف معه فقر وجوع شعوب هذه البلدان.
والانكى من كل ذلك تفاقمت المنافسة بين الدولة الامبريالية الكبرى، الولايات المتحدة، والدول الامبريالية الكبرى الاخرى كألمانيا واليابان، والصراع الهائل بينها من اجل الهيمنة على هذه الاسواق ومناطق النفوذ واعادة اقتسامها. وقد اقتصر تهذه المنافسة حتى الان على ما يسمى بالحرب التجارية والحرب الاقتصادية او غير ذلك. وليس بخاف على الماركسيين ان هذه المنافسة تهدد العالم بنشوب الحروب بل الى نشوب حرب عالمية ثالثة لاعادة اقتسام الاسواق ومناطق النفوذ.
وهل يؤدي انتاج احدث منجزات الثورة التكنولوجية الى البقدم نحو عالم جديد؟ ليس من يستطيع القول بان هذه البلدان تقدمت خطوة واحدة نحو عالم افضل بفضل اقتباس آخر منجزات الثورة التكنولوجية. ولكن زكي خيري لم يقصد هذه البلدان جميعا بل أكد على وجوب وجود حكومة ديمقراطية ثورية حقا لتحقيق هذا الاتجاه. وقد ناقشنا سابقا استحالة وجود حكومة ثورية حقا في عالمنا عدا دكتاتورية البروليتاريا او دكتاتورية العمال والفلاحين الناشئة عن ثورة برجوازية بقيادة الطبقة العاملة.
ولكن هل تستطيع حكومة ثورية حقة، حتى اذا كانت دكتاتورية البروليتاريا، اقتباس احدث منجزات الثورة التكنولوجية وافضل مزايا الاشتراكية بدون نضال سياسي مرير ضد الامبريالية العالمية؟ هل يمكن تطوير هذه البلدان اقتصاديا والتخلص من تبعيتها للامبريالية بدون ثورة على الامبريالية، وبدون القضاء على الراسمالية المحلية؟
قبل كل شيء شاهدنا ان الامبريالية تمارس سياسة الخيط الذي تشده حين تريد خنق اية دولة تبدي بعض المقاومة لسيطرتها. وهذا يعني ان الحكومة الثورية لن تستطيع السير خطوة واحدة يهذا الطريق بدون التصادم مع الامبريالية وبدون العمل على الاستقلال من تبعيتها من الناحية السياسية. وهذا يعني ايضا ان تصادم هذه البلدان، حكومة وشعبا، مع الامبريالية، هو الطريق الى التخلص من تبعيتها وليس تطوير الثورة التكنولوجية.
ومن الناحية الاقتصادية على هذه الدولة ان تزيل الخيط الامبريالي من على رقبتها. وهذا يعني قبل كل شيء استقلال هذه البلدان اقتصاديا اي بناء صناعتها الثقيلة، صناعة ادوات الانتاج، التي تكفل لها تطوير البلاد اقتصاديا من دون ان تكون تابعة اقتصاديا للامبريالية. وهذا ما حققه الاتحاد السوفييتي في الثلاثينات ودمرته الزمرة الخروشوفية في فترة تدمير الاشتراكية باعادة اعتمادها على الاقتصاد الامبريالي.
لذلك من السخف التحدث، حتى من الناحية الاقتصادية المحضة، عن اقتباس منجزات الثورة التكنولوجية التي تنجز مهمتها التأريخية في نقل البشرية الى عالم جديد. فالانتقال الى العالم الجديد لا يتحقق الا بالثورة على العالم القديم واقامة العالم الجديد على انقاضه، اي الاطاحة بالطبقات الحاكمة المستغلة على الوانها واقامة نظام حكم ينتفي فيه استغلال الانسان للانسان، اي النظام الاشتراكي.
وما هو تأثير الثورة التكنولوجية في مجتمع اشتراكي؟ ان تأثيرها معاكس تماما لتأثيرها في العلم الراسمالي. فقد رأينا ان القانون الاقتصادي الاساسي للاشتراكية هو تلبية حاجات الشعوب المتنامية باستمرار. والثورة التكنولوجية وسيلة عظمى في سبيل تحقيق ذلك. فمن الناحية الاقتصادية يزداد انتاج الحاجات الضرورية زيادة هائلة نتيجة للثورة التكنولوجية وتزداد ارباح المجتمع الاشتراكي التي تتمثل بارتفاع مستوى المعيشة وتوفير الحاجات الضرورية المتنامية مع استمرار انعدام الازمات الاقتصادية. ومن الناحية الثقافية ايضا تزداد امكانات المجتمع الاشتراكي في تحقيق التقدم الثقافي للمجتمع وخصوصا زيادة اوقات الفراغ من العمل الناجم عن تقصير يوم العمل مما يوفر للشعوب امكانية زيادة التفرغ للثقافة. وفي هذا تسريع للقضاء على التمايز الثقافي، القضاء على التناقض بين العمل الفكري والعمل اليدوي.
كل هذا التقدم هو من مستلزمات السير نحو تحقيق المجتمع الشيوعي من الناحية الاقتصادية. فالاساس الاقتصادي للمجتمع السيوعي هو الزيادة الهائلة في انتاج السلع الضرورية بحيث يمكن التحول من الشعار الاشتراكي، من كل حسب طاقته ولكل حسب عمله، الى الشعار الشيوعي، من كل حسب طاقته ولكل حسب حاجته.
خاتمة
توخيت في هذا المقال ان ادافع عن الماركسية باعتبارها النظرية الثورية الموجهة لكل انسان او منظمة تهدف الى النضال الحقيقي لمصلحة الطبقة العاملة والشعوب الكادحة وللسير معها في طريق القضاء على الطبقات المستغلة بجميع اشكالها وتحقيق المجتمع الانساني الحتمي الذي دلنا عليه معلمونا ماركس، انجلز، لينين، ستالين. وقد حاولت الى جانب مناقشة الاراء والنظريات الخاطئة والتحريفية الانتهازية ان ابرهن نقطة هامة هي ان التثقيف التحريفي الذي مارسه الخروشوفيون تحت شعارات ماركسية كاذبة طيلة اربعة عقود ادى الى اشباع اذهان الكثير من المناضلين السياسيين الذين يؤمنون بالماركسية او يتحدثون باسمها، حتى المخلصين منهم، بدرجات متفاوتة بهذه المفاهيم والنظريات التي اصبحوا يعتقدون انها ماركسية حقيقية رغم ظهور زيفها وانكشاف نتائجها المدمرة للاشتراكية.
انني ارى ان من يريد خدمة الطبقة العاملة والشعوب الكادحة فعلا ان يتخلص من الجمود الذي خلقته هذه النظريات الزائفة ومن الاعتقاد بان الظروف العالمية قد حتمت اعتبار نظريات ماركس ولينين عتيقة بالية لم تعد تنطبق على عالمنا الحالي، عالم انهيار الاشتراكية والسيطرة الامبريالية مجددا على العالم كله، عالم الثورة التكنولوجية.
من الطبيعي ان التطورات العالمية تتطلب تغيير تعض النظريات القديمة واستبدالها بنظريات جديدة وهذا كان سلوك الماركسيين الحقيقيين في مختلف الفترات. ولكننا قبل ان نتوصل الى استبدال اي شعار من شعارات الماركسية السابقة علينا ان نسلك الطريق الذي سلكه لينين لدى استبداله بعض مقولات ماركس وانجلز وسلكها ستالين في تغيير بعض مقولات لينين. علينا ان نبين الاسباب التي جعلت الشعار القديم شعارا صحيحا ماركسيا في حينه وان نبين الظروف التي استجدت في الاوضاع المعنية التي حتمت استبدال هذا الشعار المعين بشعار جديد، وعلاقة الشعار الجديد بالشعار القديم.
علينا ان نتخذ في كل ابحاثنا وتفحصاتنا للمفاهيم السائدة حاليا الماركسية اللينينية المستمدة من كتابات ماركس وانجلز ولينين وستالين لانها الماركسية الحقيقية التي تهدينا وتؤهلنا الىالتوصل الى الحلول الصحيحة للحركة في مجتمعاتنا الحاضرة والى تحسس المفاهيم والاراء الخاطئة والانتهازية والتحريفية ودحضها وكشفها امام الطبقة العاملة وسائر الكادحين. فالماركسية المستمدة من هؤلاء المعلمين هي التي تخلق منا ماركسيين حقيقيين نستطيع ان نجد الطريق الصحيخ في كل وضع سياسي اينما كنا.
علينا ان نتجنب الاسلوب الذي اتبعه الخروشوفيون التحريفيون وكافة الاحزاب والقيادات التي سارت في اعقابهم. اسلوب القاء الشعارات الجديدة بصورة عشوائية وبدون حتى التنويه بالشعارات القديمة التي حلت محلها ولا الظروف التي حتمت هذا الاستبدال. علينا ان نتجنب اسلوب ابتداع واختلاق شعارات من عندنا والتثقيف بان لينين هو الذي وضعها لخدع الناس وحملها على تقبل الشعار الجديد استنادا الى الثقة التي يتمتع بها لينين في قلوب وعقول بسطاء الناس. علينا ان نتفحص كل شعار وكل مقولة انتشرت في العقود الاربعة الاخيرة بكل دقة والتأكد من مصدرها ودراستها وفقا للتحليل الطبقي للمجتمع في فترة ظهور الشعار للتأكد من ان هذا الشعار ليس من الشعارات المضللة التي تغلغلت في عقولنا بدون ان نشعر.
ارجو ان اكون قد وفقت في هدفي من كتابة هذا المقال ولو بمقدار ضئيل وفي هذا ما يسعدني لاني به اقوم بخدمة للطبقة العاملة والكادحين وهي المهمة التي يجب ان تكون الاساس في كل نضال يخوضه اي انسان مؤمن بالماركسية اللينينية.
حسقيل قوجمان
١٤ تشرين الاول ١٩٩٤
 



#حسقيل_قوجمان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التعايش السلمي من ستالين الى خروشوف
- أزمة الخليج
- زواري الاعزاء
- ذكرياتي في سجون العراق السياسية- الجزء الاول
- ذكرياتي في سجون العراق السياسية- الجزء الثاني
- معركة تفكيك الرؤوس الذرية
- الحرب العالمية الثالثة خصائصها المميزة
- خطرات من قراءة كتاب عزيز سباهي - عقود من تاريخ الحزب الشيوعي ...
- خطرات من قراءة كتاب عزيز سباهي - عقود من تاريخ الحزب الشيوعي ...
- كتاب : الثورة التكنولوجية واقتصاد العولمة - الجزء الاول
- كتاب : الثورة التكنولوجية واقتصاد العولمة - الجزء الثاني
- كتاب : الثورة التكنولوجية واقتصاد العولمة - الجزء الثالث
- كتاب - خارطة طريق الولايات المتحدة الاميركية برؤية ماركسية - ...
- كتاب- خارطة طريق الولايات المتحدة الاميركية برؤية ماركسية - ...


المزيد.....




- هولندا: اليمين المتطرف يدين مذكرتي المحكمة الجنائية لاعتقال ...
- الاتحاد الأوروبي بين مطرقة نقص العمالة وسندان اليمين المتطرف ...
- السيناتور بيرني ساندرز:اتهامات الجنائية الدولية لنتنياهو وغا ...
- بيرني ساندرز: اذا لم يحترم العالم القانون الدولي فسننحدر نحو ...
- حسن العبودي// دفاعا عن الجدال... دفاعا عن الجدل (ملحق الجزء ...
- الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا ...
- جورج عبد الله.. الماروني الذي لم يندم على 40 عاما في سجون فر ...
- بيان للمكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية
- «الديمقراطية» ترحب بقرار الجنائية الدولية، وتدعو المجتمع الد ...
- الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»


المزيد.....

- الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي ) / شادي الشماوي
- هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي ... / ثاناسيس سبانيديس
- حركة المثليين: التحرر والثورة / أليسيو ماركوني
- إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا ... / شادي الشماوي
- كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر ... / عبدالرؤوف بطيخ
- رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع ... / شادي الشماوي
- كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر ... / عبدالرؤوف بطيخ
- كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات ... / شادي الشماوي
- المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب - ... / شادي الشماوي
- ماركس الثورة واليسار / محمد الهلالي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - حسقيل قوجمان - دفاع عن الماركسية في محنتها