عايد سعيد السراج
الحوار المتمدن-العدد: 2093 - 2007 / 11 / 8 - 12:12
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
كيف هي قصة السيد المسيح في القرآن – وكيف هي قصة حمله من السيدة العذراء 0
(00ويجوز أن يقال قصة مريم أم عيسى , لأن القصة متعلقة بالأم وابنها , فيجوز أن تضاف إلى الأم وإلى الابن , والغرض من إيرادها في القرآن تأييد صدق الدعوة الإسلامية القائلة بتوحيد الله , والرد على النصارى القائلين بأن المسيح ابن الله , ولذا بيّن في القصة كيف حملت مريم بعيسى من غير أب , وكيف ولدته كما هو مذكور في سورة مريم من القرآن 0
إن القرآن وصف الله في سورة الإخلاص بـأنه لم يلد ولم يولد , فدعوى النصارى بأن المسيح ابن الله مخالف للقرآن بأن الله لا يكون أباً لأحد ولا يكون أحد أبناً له , ولذا أنكر على النصارى قولهم هذا كما أنكر على كفار قريش قولهم : إن الملائكة بنات الله , فلا بد إذن من أن يرد على النصارى هذا القول ويبطله 0
والظاهر أن النبي محمداً حسب قول النصارى بأن المسيح ابن الله ناشئاً من كونه مولوداً بلا أب من البشر فلذا جعلوا الله له أباً وجعلوه له ابناً0 ويفهم من الرد الذي سيأتي ذكره أن النبي محمداً كان يحسب أن بنوة المسيح لله في زعمهم هي بمعنى كونه منحدراً من صلبه كبنوة أحد الناس لأبيه , ولذا نراه قد اهتم كثيراً في هذه القصة ببيان كيفية حمل مريم على وجه لا يلزم منه انحداره من صلب الله , وإذا بطل هذا بطل كونه ابناً لله 0
كيفية حمل مريم بالمسيح
قال في سورة مريم : ( واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً * فاتخذت من دونهم حجاباً / 1037/ فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً ) (1) , المراد بالروح في الآية هو الملك أي جبريل , قال المفسرون : أتاها الملك وهي في مغتسلها تغتسل من الحيض بصورة آدمي شاب أمرد وضيء الوجه , جعد الشعر , سوي الخلق , لم ينتقص من الصورة الآدمية شيئاً كما في الكشاف (1), ( قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً * قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً , قالت أني يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً * قال كذلك قال ربك هو على هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمراً مقضياً * فحملته فانتبذت به مكاناً قصياً ) (2) 0 قال المفسرون عن ابن عباس : فاطمأنت إلى قوله فدنا منها فنفخ في جيب درعها فوصلت النفخة إلى بطنها فحملت (3)0
هذه هي قصة حمل مريم بعيسى كما جاءت مذكورة في القرآن رداً لقول النصارى إن المسيح ابن الله , والذي ذكرناه من القصة هو ما يتعلق بحملها ولم نذكر ما بعده لأنه متعلق بالولادة وما يتبعها 0 وقد كرر القرآن هذا الرد بعبارة أخرى مجملة فقال في سورة النساء : ( إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة , انتهوا خيراً لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولداً ) (4) , ومما يدعو إلى الانتباه أنه في الرد الأول قال : ( فأرسلنا إليها روحنا) (5) , وفي الرد الثاني تقرب إلى عقيدة النصارى أكثر فقال : ( وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ) (6) , أي أن المسيح هو كلمة الله وروح منه ) (6) 0 وجاء في سورة أل عمران رد ثالث قال : ( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون* الحق من ربك / 1038/ فلا تكن من الممترين ) (7) 0
ولننظر في هذه الردود واحداً بعد آخر لنرى هي فيها ما يبطل قول النصارى إن المسيح ابن الله , فنقول :
أما الرد الأول فلا يبطله إلا إذا كان الابن بمعنى النازل من صلب الأب نطفة إلى رحم الأم , لأنه في ضمن هذا الرد يقول لهم إن المسيح ولد بلا أب كما تقولون ولكن لا يلزم من هذا أن يكون الله أباه , أي لا يلزم منه أن يكون منحدراً من صلب الله , بل أن ولادته بلا أب كانت بواسطة الملك الذي أرسله الله إلى مريم فنفخ فيها من روح الله فلحقت به مريم , فليس هو بابن الله 0
وللنصارى أن يقولوا جواباً على هذا الرد إننا لا نقصد بكون المسيح ابن الله انه نازل من صلبه كنزول أبناء البشر نطفاً من أصلاب آبائهم , وإنما نقصد بكونه ابن الله أنه خلق بلا أب على وجه خارق للعادة كما تقول أنت في ردك , والنبوة بهذا المعنى صحيحة, لأنها واقعة ولأنها لا تنافي كون الله لم يلد ولم يولد , ولماذا لا يجوز لله أن يصطفي بشراً خلقه بلا أب على هذا الوجه الخارق للعادة فيتخذه ابناً كما اتخذ إبراهيم خليلاً , ولا فرف بالنسبة إلى الذات الأحدية بين الابن والخليل, بل الخليل أبعد من الابن عن الله لأنه لا يكون إلا نداً لخليله بخلاف الابن فإنه يكون أصغر من الأب سناً أو رتبة فلا غرابة في أن تقول لمن هو أقل منك أو لخادمك يا أني , ولا تقول يا خليلي إلا لمن هو ندك ونظيرك , فإذا جاز اتخاذ إبراهيم خليلاً جاز اتخاذ المسيح ابناً أيضاً إذا كان المسيح كما يقول القرآن قد خلق مولوداً بلا أب على وجه خارق للعادة 0 / 1039/
والابن على إطلاقه لا يلزم أن يكون نازلاً من صلب الأب , فإن النبي محمداً قد اتخذ زيد بن حارثة ابناً فكانوا يسمونه زيد بن محمد وليس هو بنازل من صلبه بل تبناه فصار له ابناً 0 نعم , إن هذا الرد يصح أن يكون رداً لقول اليهود بأن المسيح ابن زانية لأنه ولد بلا أب , ولكنه لا يصح أن يكون رداً لقول النصارى بأن ابن الله لا بالمعنى المتعارف بل بالمعنى آخر 0
أما الرد الثاني فعجيب جداً لأنه قد قرر عقيدة التثليث بعينها وبينها من قول النصارى الآب والابن وروح القدس, سوى أنه زاد عليهم أن المسيح رسول الله , فإن النصارى يعنون بالأب الله وبالابن المسيح وبروح القدس جبريل أو شيئاً آخر هم يعلمونه , وكذلك الآية الواردة رداً عليهم تقول: بأن المسيح هو كلمة الله وروح منه , سوى أنها تعبر عن الابن بكلمة الله , وعن روح القدس بروح منه , فيكون الله وكلمته وروح منه ثلاثة , فكيف يقول لهم في الآية : ( ولا تقولوا ثلاثة) وقد جعلهم ثلاثة أيضاً , على أننا إذا أضفنا إلى ذلك كون المسيح رسول الله أيضاً كما تقوله الآية فقد صيرنا التثليث تربيعاً وزدنا في الطنبور نغمة أخرى 0
وكأن النبي محمداً يريد من النصارى في هذا الرد أن يتركوا التلفظ فقط بقولهم المسيح ابن الله أو بقولهم ثلاثة لأن يغيروا عقيدتهم بالتثليث ويبدلوها , ومن العجب أن النصارى لا يقبلوا هذا القول من أن القرآن وهو مؤيد لعقيدتهم كل التأييد فما ضرهم لو قالوا بأن المسيح رسول الله أيضاً مع كونه كلمة الله / 1040/ وروح الله 0
كنت في القدس سنة 1921 ميلادية وكان لي فيها صديق مسيحي اسمه نخلة رزيق كان أستاذاً للعربية في إحدى كليات القدس , وكان في العربية أديباً فاضلاً , وكان بيننا تزاور , فاتفق أن اجتمعنا يوماً فأفضنا في الحديث , وكان الكلام حول المسيح , وكان صاحبي راسخ الإيمان في دينه فقلت له نحن المسلمين نقول في المسيح كما تقولون سوى أننا نزيد عليكم بقولنا إنه رسول الله , وأنشدته هذه الآية : ( إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ) (1) , فانظر إلي وهو ينغض رأسه متعجباً ولم ينبس ببنت شفة , قلت له : فالمسلم مسيحي وزيادة , أليس كذلك يا أستاذ ؟
وكان صاحبي يستنشق النشوق فأخرج من جيبه علبة وقبض بإصبعه قبضة فحشا بها منخرية ونظر إليّ قائلاً : ولكنكم تنفون الصلب , فقلت له فوراً : أليس في ذلك تعظيم للمسيح أكثر من إثباته ؟ فأخرج من جيبه مشوشاً ومش به أنفه وهو مطرق كالمتفكر ثم رفع رأسه قائلاً : مِض, فقلت له : يا أستاذ قالوا إن في مض لمطعماً , فأقبل علي ّ كالمهتاج وقال: لا أنكر أن في نفي الصلب تعظيماً , ولكن المسألة ليست تعظيم , قلت : فماذا إذن ؟ قال : نحن نعتقد أن المسيح افتدى العالم من الخطيئة بنفسه , وهذا أساس الديانة عندنا , فإذا انتفى الصلب 000 وفتح كفيه كالمتعجب 0 وسنتكلم عن نفي الصلب عن المسيح وعن رفعه إلى السماء في القرآن 0
أما الرد الثالث فإنه يتضمن ما تضمنه الرد الأول ولكن بطريق القياس / 1041/ فهو يريد أن يقول لهم ما يلزم من خلق المسيح بلا أب أنه ابن الله , ألا ترون آدم فقد خلق بلا أب ولا أم وليس هو بابن الله بالاتفاق 0 وقد قلنا إن هذا لا يصح أن يكون رداً للنصارى إلا إذا كانوا يعنون ببنوة المسيح البنوة المتعارفة وهي كون الأب نازلاً من صلب أبيه , والنصارى لا يقولون هذا ولا يدعونه , نعم إنه يصح أن يكون رداً لليهود في قذفهم مريم بالزنا 0
ثم إن هذا القياس فيع نظر لأنه قياس مع الفارق , فإن قصة خلق آدم إنما وردت لبيان كون الله قادراً على خلق الإنسان بلا أب ولا أم قدرة خارقة للعادة , وليس كذلك خلق المسيح 0 قد يظن ظان أن خلق المسيح بلا أب أسهل على القدرة الربانية من خلق آدم بلا أب ولا أم , وأن خلق آدم أعجب من خلق المسيح , ولكن إذا تأمل جيداً رأى الحقيقة على عكس ذلك , لأن خلق أدم بلا أب ولا أم معناه أنه في الأصل خلق بالنشوء والارتقاء من جرثومة الحياة الأولى التي خلقت ب أب ولا أم في الدور الأقدم بناء على ما قاله العلماء في نظرية الحياة الأولى من أن الأرض كانت في بعض أدوارها القديمة صالحة لتوليد الحياة بلا واسطة الاجتماع بين الذكر و الأنثى أي بلا أب ولا أم , ثم انقضى الدور في الأرض فأصبحت الحياة فيها لا تتولد إلا من ذكر وأنثى حتى الحياة التي هي في أبسط أطوارها كحياة الجراثيم المكروبية 0
فخلق آدم بلا أب ولا أم يمكن تخرجه على هذا وتأويله / 1042/ وليس كذلك خلق المسيح فإنه خلق في دور لا تتولد فيه الحياة إلا من ذكر وأنثى , خصوصاً حياة الإنسان التي هي أرقى ما بلغته الحياة في أطوارها التي اجتازتها بالنشوء والاتقاء , فخلق المسيح على الوجه المذكور من المستحيلات استحالة علمية , وليس كذلك خلق آدم فإنه من الممكن إرجاعه إلى أصل علمي كما قلنا آنفاً , فقياس خلق المسيح على خلق آدم غير صحيح 0 وأيضاً في القرآن ما ينافي خلق المسيح على هذا الوجه الذي ذكره القرآن , فقد جاء في سورة المؤمنون قوله : ( لقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين , ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ) (1) 0 المراد بالإنسان آدم أي خلقناه من الطين بلا أب ولا أم , والضمير في قوله : " ثم جعلناه " يعود إلى الإنسان لكن لا بمعنى آدم بل بمعناه الأعم الذي يشمل ذرية آدم 0 ففي العبارة نوع من الاستخدام والمعنى على ما يقوله الزمخشري أنه خلق جوهر الإنسان أولاً طيناً ثم جعل جوهره بعد ذلك نطفة تكون في قرار مكين , أي في الرحم (2) 0 فمعنى الآية صريح في أن الإنسان بعد خلق آدم لا يكون إلا من نطفة تتكون في الرحم , وهذا ينافي خلق المسيح كل المنافاة 0
صلب المسيح ورفعه إلى السماء
من تتمة قصة عيسى ما يعترف به اليهود والنصارى من صلبه وما يدعيه النصارى والمسلمون من رفعه إلى السماء , فالنصارى يقولون بالصلب والرفع معاً , واليهود يقولون بالصلب دون الرفع , والمسلمون عكس اليهود يقولون بالرفع دون الصلب , ولا ريب أن الصلب في حقيقته / 1043/ مصيبة فاجعة من المصائب التي أوجدتها الهمجية البشرية , فإيقاعه من قبل عتاة متمردين على شخصية مقدسة ممتازة بالبنوة لله ينافي بحسب الظاهر قدسيتها ويحط من قدر منزلتها الرفيعة المقدسة , وعليه فأولى الناس بنفي الصلب عن المسيح هم أتباعه النصارى المؤمنون به المقدسون له كل التقديس , ولكنا مع ذلك نرى النصارى قائلين بصلب المسيح , فيجب أن تكون العبرة في صحة وقوعه لقولهم لا لقول غيرهم من الناس , إذ ل يمكن في عرف الناس وعادتهم أن يقول أتباع المسيح بصلبه وهو غير واقع 0 نعم يجوز أن يكذب اليهود في ادعائهم صلبه لأنهم أعداؤه المنكرون لقدسيته فلا يستبعد منهم القول بصلبه وإن كان غير واقع , وليس كذلك النصارى فإن العادة تقضي بأن ينفوه الصلب عنه وإن كان واقعاً , كما نفى أتباع الحاكم بأمره في مصر قتله وموته مدعين أنه حي قد اختفى ولا بد من رجوعه , وقتل الحاكم بأمره هذا واقع لا مرية فيه , وكما نفت الشيعة موت محمد المهدي صاحب الزمان في زعمهم وادعوا أنه مختف ٍ لا بد من ظهوره يوماً ما , والخلاصة إن قول النصارى هو القول الثبت المعول عليه في صحة صلب المسيح دون غيرهم من الناس 00)
(1) سورة مريم , الآيتان : 16 – 17 – (1) الكشاف , تفسير الآية 17 من سورة مريم 0 (2) سورة مريم , الآيات : 18 – 22 (3) انظر على سبيل المثال , الكشاف , تفسير القرطبي وتفسير ابن كثير في تفسير الآيات 18 – 22 من سورة مريم 0 (4) سورة النساء , الآية : 171 – (5) سورة مريم , الآية : 17 – (6) سورة النساء , الآية : 171 – (7) سورة آل عمران , الآيتان : 59 – 60 – (1) سورة النساء , الآية : 171 – (1) سورة المؤمنون , الآيتان : 12 – 13 – (2) الكشاف , تفسير الآيتين , 12 – 13 من سورة المؤمنون 0
* من كتاب الشخصية المحمدية للكاتب العراقي معروف الرصافي 0
#عايد_سعيد_السراج (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟