|
جذور الحرية.
رحيم العراقي
الحوار المتمدن-العدد: 2092 - 2007 / 11 / 7 - 11:25
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
جاك دو سان فيكتور مؤرخ للأفكار وناقد أوروبي وأستاذ في جامعة باريس الثامنة. عمل طيلة عقد من الزمن صحافيا في ملحق «لوفيغارو الاقتصادي». ألّف أو ساهم في تأليف العديد من الكتب كان آخرها «نقد العبوديات الجديدة». و«جذور الحرية» هو كتاب عن الثورة الفرنسية الكبرى التي يعتبرها البعض أنها الثورة الحقيقية الوحيدة في التاريخ الإنساني الحديث. والمؤلف يبحث هنا في جذورها من خلال النقاشات التي عرفتها الساحة الفكرية والسياسية الفرنسية خلال المئة عام التي سبقتها والتي صنعت «الموديل الفرنسي» أو «الاستثناء الفرنسي». اختار المؤلف لكتابه هذا جملة صدّره بها وجاء فيها: «عندما أنظر إلى التاريخ، أرى فيه ساعات من الحرية وقرونا من الاستعباد». ثم أعقب هذه الجملة سؤال يقول: «كيف وُلد في فرنسا الخطاب حول الحرية»؟ يرى المؤلف في الإجابة على هذا السؤال مساهمة كبيرة في فهم النقاشات المعاصرة، لاسيما فيما يتعلق ب«التردد» الذي يبديه الفرنسيون حيال «الفكر الليبرالي» والذي يبدو فيه الكثير من «المفارقة» في وطن مونتسكيو وفولتير. إن المؤلف يعود في تحليلاته إلى عام 1689، أي إلى قرن سابق على الثورة الفرنسية، ففي تلك السنة قامت الثورة الإنجليزية، «الثورة المجيدة» كما كانوا يطلقون عليها، وطردت الملك جاك ستيوارت الثاني عن العرش على خلفية التأكيد أنه «حاول نسف العقد الأصلي» الذي كان يربطه بشعبه. آنذاك كانت سلطة لويس الرابع عشر، «الملك الشمس»، في أوج ازدهارها بفرنسا. ويؤكد المؤلف أن تلك الثورة الإنجليزية «المجيدة» لعبت دورا «غير معروف» في استيقاظ الوعي السياسي الفرنسي خلال عصر التنوير. عصر التنوير هذا يشكل «المرجعية» الأساسية في تكوين «الحساسيات السياسية والفكرية» المعاصرة في فرنسا اليوم. اعتبارا من قيام الثورة الإنجليزية شهدت فرنسا «نقاشا تأسيسيا حول مسألة جذور الحرية» استمر منذ ذلك التاريخ حتى قيام الثورة الفرنسية الكبرى عام 1789. ويستخدم مؤلف هذا الكتاب تعبير «جذور» بمدلول مزدوج. المدلول الأول يخص أصول الحرية السياسية بالمعنى الدقيق للكلمة وبالتمايز عن مفهوم «الليبرالية»، أما المدلول الآخر فيخص تحديدا «أشكال الخطاب الأول التي نشرت تلك الحرية السياسية في فرنسا وصولا إلى الثورة الفرنسية. هذا مع إشارة المؤلف إلى أن «الموديل الانجليزي» للثورة أيقظ في فرنسا منذ نهاية فترة حكم لويس الرابع عشر النقاش حول «حقوق الأمة» وحول طبيعة المواثيق القائمة بين الملك والشعب. هذا إلى جانب التأكيد أن الثورة الانجليزية لم تقم أبدا باسم أفكار فلسفة «كوك»، و«الحقوق الطبيعية» وإنما باسم احترام الدستور القديم «الخالد». وعلى خلفية قيام الثورة الانجليزية عام 1689 بدأت تنتشر في إطار حلقات ضيقة في قصر ملك فرنسا بفرساي أفكار تقول بضرورة إجراء بعض الانفتاح والحد من السمة التسلطية للنظام المطلق، وذلك بغية تجنب أن تعرف سلالة لويس الرابع عشر ما كان قد عرفه التاج الإنجليزي. ويؤكد مؤلف هذا الكتاب أن مجموعة من «الدوقات» الفرنسيين حاولوا القيام ب«ثورة هادئة» كان يمكن لها أن تنجح، لم يمت رمزها «دوق منطقة بورغونيا» عام 1712 في «ظروف غامضة». كما يؤكد المؤلف أن التوجه الإصلاحي كاد أن ينجح مرّة أخرى عند وفاة الملك لويس الرابع عشر. عندها حاول بعض المفكرين رفع شعار «حقوق» الأمة عام 1715. وعرفت فترة 1715 ـ 1718 نوعا من «اللبرالية» عادت الملكية بعدها بسرعة إلى ممارسة طقوسها التقليدية. ما يؤكده المؤلف هو أن تلك العودة إلى الحكم المطلق لم تكن خالية من الوهم إذ أن فكرة إمكانية، بل ضرورة، القطيعة مع تلك الصيغة من الحكم كانت قد تأصّلت في العقول. وكانت التيارات الجديدة تنضوي تحت العنوان العريض المتمثل في «الدستور القديم» والذي أصبح يمثل عمليا «البرنامج المشترك» لجميع خصوم السلطة المطلقة حتى عام 1788. هكذا أصبحت المعركة ضد النزعة المطلقة في الحكم تدار ب«اسم الماضي». ذلك أن المجتمعات القديمة، في فرنسا كما في انجلترا، أعادت فكرة الحرية إلى الأصول، أي إلى تلك اللحظات التي تكوّنت فيها السمات السياسية لكل أمة من الأمم الأوروبية على قاعدة تفسخ الإمبراطورية الرومانية. إن مؤلف هذا الكتاب يولي أهمية خاصة لما يسميه «لحظة» مونتسكيو، كما جاء في عنوان أحد الفصول، وهو يؤكد أن مؤلف «روح الشرائع» ـ كتاب «منتسكيو» الشهير الذي تمّت ترجمته إلى اللغة العربية في مطلع القرن العشرين من قبل رفاعة الطهطاوي ـ قد أقام نظريته حول الحرية السياسية على «التجربة». لقد كان يرى في السلطة «ومهما كان مصدرها» تهديدا ضاغطا على الحرية. وينقل عنه المؤلف قوله: «كل إنسان يمتلك سلطة يمكنه أن يسيئ استعمالها». بهذا المعنى لا ينطلق مونتسكيو من «التأمّلات المجرّدة» الخاصة بالحرية وإنما ينطلق من السلطة «التي تهددها». ويؤكد مؤلف هذا الكتاب في شروحاته أن سنوات 1750 ـ 1770 مثّلت «قطيعة» كبيرة في فرنسا إذ انطرحت فيها للمرّة الأولى المسألة المركزية ل«الحداثة». وكان النظام الملكي هو الذي طرحها وبدا أنه قد يكون «محرّكها». بل يؤكد أن سلالة «البوربون» التي حكمت فرنسا حتى الثورة كانت قد أطلقت التجربة الأولى لمفهوم «دعه يعمل» وقامت في «تحرير» أسعار القمح مرتين مستلهمة بذلك توجهها من أولئك الذين كانت تطلق عليهم صفة «أنصار الحداثة» القائلين بأولوية النظام الطبيعي والعقل والفرد والملكية الخاصة. لكن ما يتم التأكيد عليه أيضا هو أن مثل ذلك التوجه الليبرالي «الاقتصادي» كان يعتمد على نوع من السلطة الاستبدادية المطلقة «السياسية» ذات الشرعية التاريخية، ولم يؤد إلى النتائج المرجوة بل إنه واجه معارضة كبيرة، ما دفع فولتير نفسه إلى الحديث عن «فلسفة القمح» التي شكّلت منعطفا في سياسة عصر التنوير وخلطت كل الأوراق. هنا يفتح مؤلف الكتاب قوسين ليشير إلى «التعقيد الكبير» الذي اتسم به عصر الأنوار، ويعيد «الجهل» الكبير به إلى عادة النظر إليه باعتباره «كتلة» واحدة، وكأنه كان هناك من جهة «التنوير» ومن الجهة الأخرى «معاداة التنوير». إن مثل هذه النظرة الأحادية كانت وراء عدم رؤية «التباينات» و«التعارضات» التي عرفهما معسكر «الحداثة» نفسه. وكان من نتائج النقاشات التي ثارت حول مفهوم «الحرية السياسية» أن الرأي العام» قد أصبح له وزنه أيضا في النقاش السياسي بمختلف تعبيراته. كان ذلك الرأي العام ممثلا آنذاك بالمقاهي والصالونات والصحافة والأكاديميات. وسرعان ما وجد ذلك صداه لدى البرلمانيين أنفسهم الذين أصبحوا يميلون في خطابهم إلى جعل الجمهور ك«شاهد» على ما يقولون. وضمن الإطار نفسه برز دور «أصحاب الطموحات» من الجمهور نفسه الذين حرصوا أن يكونوا قريبين من البرلمانيين خدمة لمصالحهم الشخصية. وفي الفصل الأخير من الكتاب الذي يحمل عنوان «فشل مونتسكيو» يشرح المؤلف كيف أن الأشهر التي سبقت قيام الثورة الفرنسية الكبرى عام 1789 كانت ممهورة بالخلافات بين القوى التي كانت تستعد للقيام بها وحيث كانت مسألة العرش الملكي وطبيعة النظام الاستبدادي قد أصبحت ذات أهمية ثانوية. بالمقابل كانت «حرب مفتوحة» قد بدأت بين الشرائح الشعبية المنخرطة في منطق الثورة وبين أصحاب الامتيازات الذين كانوا يتطلعون لقيادتها وتوظيفها لحسابهم ولمصالحهم. لكن الثورة الفرنسية، وخلال عدة أشهر فقط، غيّرت توجهها بعيدا عن «نموذجي الحرية» اللذين قال بهما مونتسكيو، صاحب كتاب «روح الشرائع»، أي نموذج «الحرية المعتدلة» ونموذج «الحرية المتطرفة»، وأخذت المنحى الذي فرضته التحديات المطروحة. لقد غيرت الثورة البنى الاجتماعية والسياسية والقضائية في فرنسا وأنهت النظام القديم كي تكون نموذجا للثورة البورجوازية الوطنية. وتتم إعادة قيامها بشكل رئيسي إلى التناقض داخل البنية الاجتماعية الإقطاعية لذلك النظام القديم بين فئات طبقات ثلاث تمثل النبلاء ورجال الدين وعامة الشعب. كما ساعد على قيام الثورة تنشيط التجارة وتشكل طبقة بورجوازية دخلت اقتصاديا في تناقض مع الطبقة الارستقراطية عامة، الأمر الذي لم يمنعها من التعاون مع شريحة منها عند قيام الثورة بينما كان عصبها الرئيسي هو من الطبقات الشعبية، خاصة من الفلاحين والحرفيين. بالطبع يركز مؤلف الكتاب على الدور الذي لعبه المثقفون من أمثال مونتسكيو وفولتير وروسو ومجموعة «الموسوعة» وعلى رأسهم ديدرو في تلك الثورة. وكانت الثورة الفرنسية قد عرفت عدة تطورات وأصدرت ليلة 4 أغسطس 1789 ميثاق حقوق الإنسان والمواطن الذي هدف إلى التوفيق بين امتيازات رجال الدين والارستقراطيين العقاريين ومصالح الطبقة البورجوازية الصاعدة. وكان الشعار الأساسي الذي رفعته هو احترام الحرية والمساواة المدنية. والذي غدا فيما بعد ثالوث الحرية والمساواة والإخاء الذي لا يزال شعار الجمهورية الفرنسية حتى اليوم. هذا الكتاب يساعد كثيرا في المحصلة، على فهم «الموديل الفرنسي» وبالأصح «الاستثناء الفرنسي» حسب التسمية الشائعة.
#رحيم_العراقي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
القارة الصفراء والعالم الجديد..
-
هوغو شافيز : النفط، والسياسة، وتحدي الولايات المتحدة الأميرك
...
-
الأُممية
-
أوليف تويست
-
المرض والدواء مابين الفقراء والأغنياء
-
ت. س. ايليوت
-
الفرنسيون والبريطانيون : عداوة في غاية اللطف...
-
روبرت براوننغ..حياة ورسائل وأشعار غامضة
-
بيكاسو (1881 1973 )
-
الانفجار الديمغرافي
-
ساعة إينشتاين وخارطة بوانكارييه
-
كأس آسيا و أمن جمجمال و الجيش الأردني....!
-
هوشي منه بين الحلم الثوري الفيتنامي والبيروقراطية الستالينية
-
إعادة محاكمة غاليليو من جديد
-
ثقافة الرأسمالية الجديدة
-
أسوار سمرقند
-
بوش وأميركا اللاتينية
-
الى روح أبينا رغيد
-
أعشاش
-
..صورة من أمس..شعر شعبي عراقي
المزيد.....
-
مشتبه به بقتل فتاة يجتاز اختبار الكذب بقضية باردة.. والحمض ا
...
-
في ظل استمرار الحرب والحصار، الشتاء يضاعف معاناة نازحي غزة و
...
-
قصف إسرائيلي عنيف يزلزل الضاحية الجنوبية لبيروت
-
صدمة في رومانيا.. مؤيد لروسيا ومنتقد للناتو يتصدر الانتخابات
...
-
البيت الابيض: لا تطور يمكن الحديث عنه في اتصالات وقف النار ب
...
-
نائب رئيس البرلمان اللبناني: لا توجد عقبات جدية تحول دون بدء
...
-
استخدمت -القرود- للتعبير عن السود.. حملة توعوية تثير جدلا في
...
-
-بيروت تقابلها تل أبيب-.. مغردون يتفاعلون مع معادلة حزب الله
...
-
مشاهد للجيش الإسرائيلي تظهر ضراوة القتال مع المقاومة بجباليا
...
-
ماذا وراء المعارك الضارية في الخيام بين حزب الله وإسرائيل؟
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|