إستغرب الصحافي المصري الكبير الأستاذ فهمي هويدي في مقال منشور له في جريدة الشرق الأوسط اللندنية يوم 5/11/2003 كيف أن تركيا اكتشفت "التغلغل الإسرائيلي في شمال العراق" وفضحته في حين سكت العالم العربي عن ذلك وتجاهله، على الرغم من "خطورة هذا التسلل المتوشح وشاح العلاقات الكردية – الإسرائيلية..." وأنا لا أريد هنا الرد هنا على الأستاذ الكريم فهمي الهويدي لمحبتي له ولدفاعه منذ أكثر من عقد من الزمن عن الشعب الكردي وإسلاميته ووطنيته وعدالة قضيته الإنسانية. ولا أدري هل للهويدي علاقة بتلك العشيرة الكردية التي تحمل الإسم نفسه أم لا ، تلك التي قطنت كردستان الشمالي في القرن التاسع عشر على حد قول القنصل الروسي ألكسندر زابا في أرضروم والذي كتب بالكردية لمعهد الاستشراق الروسي في بيترسبورغ / روسيا عن عشائركوردستان وعن قصصها الممتعة آنذاك ولنا شرف إصدار كتابه بالأحرف الكردية الحديثة عام 1999 في السويد. إلا أنني أريد هنا التصدي لدجل ونفاق الحكومة التركية الذي يزداد وضوحا ويأخذ أشكالا وصيغا متنوعة للتعريض بالكرد وتخوينهم وتهديدهم وتعظيم خطرهم على العرب والترك معا في محاولة يائسة لتجد لنفسها موطىء قدم في "لواء الموصل" وبالتالي لضمه لتركيا كما فعلت مع "لواء الاسكندرون" السوري من قبل وما عملت له في "جمهورية قبرص التركية" أيضا وفشلت فيه فشلا ذريعا لصلابة الموقف الأوربي حيال القزم الذي اصطنعته وعرضت باحتلال جزء من الأراضي القبرصية تلك الجزيرة إلى تمزيق لوحدتها الوطنية لعقود طويلة من الزمن.
معلوم للجميع أن "تركيا الحديثة" التي تشكلت على أنقاض دولة الخلافة الإسلامية وبالتضافر والاتفاق بين حركة "الاتحاد والترقي" التركية والدول الأوربية في لوزان عام 1923 قد أدارت ظهرها للعالم الإسلامي منذ أن عرض مؤسسها "مصطفى كمال – الذئب الأغبر" نفسه لأوروباكبديل "ديموقراطي حديث" عن الخلافة الإسلامية "الرجل المريض" وتحولت تركيا في ظل الجمهورية إلى دولة قائمة على ثلاثة أسس ثابتة هي العداء للإسلام، العداء للشيوعية والعداء للقوميات غير التركية (كرد، أرمن، يونان، عرب، لاز...) ومارست سياسة تطهير عرقي سافرة ودموية تجاه الشعبين الكردي والأرمني، ووضعت برنامجا لإنهاء دور الإسلام في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية التركية بعد أن دمرت البلاد الكردية وأزالت العرق الأرمني وقضت على أي أمل للعرب في لواء الاسكندرون وغيره في الخروج من دائرة النسيان والتتريك والتذويب التام. وكان برنامج إلغاء الإسلام قويا لدرجة أن العطلة الأسبوعية تحولت من يوم الجمعة إلى يوم الأحد، والأحرف العثمانية تحولت إلى أحرف لاتينية، ومنعت الصلاة في مساجد معينة، وحرم العلماء والائمة من كثير من الحقوق، بل وضعت المعارضين منهم في السجون وتحت الإقامة الجبرية مثل الأستاذ بديع الزمان الكردي سعيد النورسي، وفرضت القبعة على المواطنين، وتمت إهانة الزي الشرقي وبخاصة الكردي والعربي، وما إلى هنالك من كل أشكال الانتماء الإسلامي حتى أن الآذان قد تحول من العربية إلى التركية وجعلت إهانة "آتاتورك" أشد عقوبة من إهانة المقدسات الإسلامية والرموز الإسلامية... وهل هناك أحد لايزال يجهل هذه الأمور والحقائق التاريخية؟!.
حاول الإسلاميون وأشباه الإسلاميين ، من طورانيين أتراك تفننوا في استخدام قناع الدين للسيطرة على الشارع التركي والكردي المطبوع بالطابع الإسلامي الحنيف، تنظيم أنفسهم من جديد فتعرضوا للملاحقة والاعتقال والابعاد وحظرت تنظيماتهم الواحد تلو الآخر، إلى أن تمكنوا من بناء حزب قوي شارك في الحكم ألا وهو "حزب السلامة التركي" الذي لم يتمكن يوما من الإفصاح بشكل واضح عن توجهه الإسلامي، فتعرض للمنع وصودرت أمواله وسجن زعماؤه، ويوما بعد يوم ازداد عدد أتباعه وتنازل عن كثير من مواده الفكرية والعقيدية وبدل إسمه إلى حزب الرفاه ثم إلى حزب الفضيلة إلى أن وصل رجب طيب أردوغان إلى الحكم مؤخرا تحت إسم جديد وشعارات جديدة علمانية وبعيدة جدا عن الإسلام فجح حزبه الحاكم الآن في الانتخابات الماضية نجاحا باهرا وقضى على وجود معظم الأحزاب العلمانية الكلاسيكية، مستفيدا من سمعته الطيبة كرئيس بلدية مدينة استانبول الكبيرة سابقا، ومن سمعة معلمه العريق في السياسة البروفيسور نجم الدين آربكان الذي كان يضع الزهور أمام عدسات التصوير وسط سرب من الجنرالات المعادين للدين عداء سافرا على قبر عدو الإسلام والمسلمين آتاتورك باحترام وتقدير وآربكان هذا كان من مهندسي بناء العلاقات الاستراتيجية التركية – الإسرائيلية حسب علمنا...
تميزت سياسة الدولة التركية على الدوام بالبطش وإظهر القوة العسكرية باعتبارها عضو في حلف الناتو، وكانت على الدوام تلوح بأنها قادرة على خلق المتاعب لجيرانها، فهي قد هددت بغزو سوريا مرتين، مرة قبيل الوحدة السورية – المصرية عام 1958 ومرت في عام 1999 حيث أصرت على ضرورة إنهاء وجود حزب العمال الكردستاني (كادك حاليا) في سوريا ووادي البقاع اللبناني الذي كانت تسيطر عليه القوات السورية ، وطالبت بتسليمها زعيم الحزب عبد الله أوجلان، إلا أن سياسة نجم الدين آربكان أثناء حكمه البلاد قبل سنوات تميزت بالتودد إلى البلاد العربية والتلويح بإقامة إمبراطورية تركية تمتد شرقا حتى منغوليا وتضم مختلف الدول التي تسكنها شعوب ذي أصول تركية، إلا أن هذا كان بمثابة ضغط على "النادي المسيحي" الذي وصف به آربكان الاتحاد الأوربي، في محاولة لارغام الاتحاد على قبول تركيا عضوا فيه، ولما لم ينفع ذلك وقع مع إسرائيل معاهدة عسكرية وعمق من علاقات بلاده مع الولايات المتحدة الأمريكية بهدف تشديد الضغط على أوروبا...ولكنه لم يخطو أي خطوة تذكر على طريق إعادة أسلمة الدولة التركية، بعد أن أبعدها النظام الطوراني الأتاتوركي عن الإسلام عقودا عديدة من الزمن، ناهيك عن عدم حله لمشاكل البلاد الاقتصادية أو منح القوميات حقوقها القومية كالكرد والعرب.
أما رجب طيب آردوغان وحزبه الحاكم الآن فقد أعلن منذ البداية أن هدف حزبه الأول هو دخول تركيا الاتحاد الأوربي الذي سيزيد تركيا غربة عن الإسلام وبعدا عن المسلمين، في حين أنه يحرص كمعلمه آربكان على تمثيل تركيا في منظمة الدول الإسلامية، بل يستغرب كيف لا تدعى بلاده إلى اجتماعات الجامعة العربية وهي أمة مسلمة مجاورة للعرب لاتريد سوى الخير لهم. وفي الوقت نفسه فإن حجم التبادل التجاري مع اسرائيل في ازدياد والإسرائيليون يشترون مساحات واسعة من الأراضي المحيطة بسلسلة السدود العملاقة المقامة على نهري دجلة والفرات والاتفاق العسكري التركي – الاسرائيلي في توسع ليشمل كل الأسلحة والمجالات وهناك تنسيق كبير في مجال الاستخبارات العسكرية والتجسس والقوى الخاصة، واليهود الذين تحذر الحكومة التركية من تواجدهم في كوردستان العراق يتوغلون في النظام البنكي التركي وسائر مفاصل الصناعة التركية ولهم تأثير صارخ في مجالات الإعلام والثقافة الوطنية والتعليم والإدارة...
إلا أن رفض تركيا التعاون مع الأمريكان لاسقاط النظام البعثي الحاكم في العراق ورفضها مرور القوات الأمريكية عبر أراضيها قد وضع حكومة أردوغان في موقف حرج للغاية وأساء للعلاقات التركية – الأمريكية إساءة كبيرة، وظنت الحكومة أنها بذلك ستكسب رضاء الأوربيين الذين سيفتحون لها أذرعها للانضمام إلى الاتحاد الأوربي..ولكن بعد أن فشلت في تحقيق أي تقدم صوب أوروبا عادت لتذرف الدموع في أحضان الإدارة الأمريكية وتبدي رغبتها الشديدة في التعاون معها من أجل إحلال السلام في العراق، لكنها في الوقت نفسه مقتنعة بأن لها حقها التاريخي في التدخل في شؤون العراق الداخلية وتطالب بإلحاح بالسماح لقواتها بالتمركز في المناطق التي يتواجد فيها التركمان بذريعة "حمايتهم من الظلم الكردي" وتدعي بأن لها الحق في الانتشار في اقليم كوردستان العراق لمحاربة " الارهاب الكردي" على الرغم من أن حزب العمال الكردستاني (كادك حاليا) يتعاون مع تركيا ويعمل ضمن حدود المسموح به في تركيا وتنازل عن كل الأهداف القومية العليا للشعب الكردي ولم يعد يستخدم السلاح في وجه القوات التركية التي لم تعلن حتى الآن من جهتها وقف العمليات الحربية ضد الكرد.
ولقد تخلت الحكومة التركية مؤقتا عن سياسة "الذئب الأغبر" أي سياسة التهديد والترهيب العسكري وبخاصة بعد أن اكتشفت أنها لوحدها في حلف الناتو ولايساندها الأمريكان في تحقيق مطامحها القومية التوسعية، فإنها ترتدي عباءتين الأولى عباءة الساحر الذي سيحول المشرق كله إلى دول ديموقراطية لاعلاقة لها بالإسلام من خلال تحقيق عضويتها في الاتحاد الأوربي، والأخرى هي عباءة الثعلب المتدين الذي يذرف دموع التماسيح على عروبة العراق ووحدته الوطنية واستقلاله واستقراره فيما إذا سمح لها الأمريكان ومجلس الحكم العراقي بتوسيع نفوذها العسكري والسياسي ليشمل كل كوردستان العراق الغني بالنفط، أي "لواء الموصل" الذي لم تخف يوما طموحها في "استعادته"...
وهذا اللون من الرياء والنفاق السياسي ظهر بالطبع أثناء انضمام وزير الخارجية التركي عبد الله غول إلى اجتماع دول الجوار في دمشق مؤخرا، هذا الاجتماع الذي بقي وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري بعيدا عنه وبررت ذلك بشرى كنفاني رئيسة قسم الإعلام في وزارة الخارجية السورية (5/11/2003) بأن "العراق ليس من دول جوار العراق" متناسية أن جمهورية مصر العربية التي حضر وزير خارجيتها الاجتماع نفسه ليست جارة أيضا للعراق، بل هي ليست من القارة التي ينتمي إليها العراق... فتركيا تخاف على "عروبةكوردستان العراق!!" من التوغل الإسرائيلي وتركيا قادرة على "دحر الإرهاب الصدامي" إن سمح لها بالدخول إلى كركوك، وهي مستعدة للتعاون مع "مجلس الحكم الانتقالي في العراق" إن تخلى هذا المجلس عن عناده وسمح للقوات التركية بالسيطرة على الطرق التي تربط كوردستان العراق ببغداد العاصمة، كما أن تركيا مستعدة للتضحية بدماء أبنائها من أجل سواد عيون العرب!!!
وهنا لابد لإحراج الثعالب في أنقره من طرح موضوع تواجد أكثر من خمسة آلاف عسكري تركي في كوردستان العراق رغم توقف العمليات الحربية لحزب العمال الكردستاني ضدها، وهذه القوات لاعلاقة لها بالستقرار في العراق، بل هي قوات أجنبية محتلة لأراضي دولة مجاورة، فبأي حق وحسب أي شرع تصر تركيا على خرق السيادة العراقية إن كانت تؤمن بهذه السيادة؟ ولماذا لاترسل قواتها إلى أرمينيا واليونان وسوريا وايران ففيها كلها جماعات وقوات لحزب العمال الكردستاني؟! هنا يجب على الجماهير الكردية الشعبية أن تجبر تركيا على الخروج من أراضي كوردستان العراق بالمظاهرات والحجارة، بالعصيان والاحتجاج أمام مراكز تواجدها ومنع جنودها من التنقل أو عرباتها العسكرية من التحرك، وعلى الإعلام الكردي التحرك لتقوية "العصيان المدني" في هذا الإتجاه، دون أن تورط الأحزاب السياسية الكبيرة في معارك جانبية مع تركيا لأنها منهمكة في عملية تحقيق الاستقرار في العراق عامة وفي كوردستان العراق خاصة.. ويستطيع حزب العمال الكردستاني (كادك) أن ينزع قناع الدجل والنفاق عن وجه الحكومة التركية بقيامه بسحب قواته وأنصاره من كوردستان العراق، إن كان فعلا يريد للشعب الكردي الانتصار على طغيان هذه الدولة المتعجرفة التي تلبس الآن " رداء الدفاع عن المصالح العربية في كوردستان ضد التوسع الاسرائيلي " وهي تقوم بالتنسيق التام والشامل مع اسرائيل في كل المجالات..
فعلى من تضحك الثعالب البائسة؟!