|
وضعيةُ معاصَرةٍ: من النبي محمد إلى المثقف المعاصر
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 2087 - 2007 / 11 / 2 - 12:08
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
1 وضعت الدعوة المحمدية العرب في خط الديانات التوحيدية، أو الإبراهيمية، التي عرفها الشرق الأدنى القديم. كانت الديانة التوحيدية الموحى بها هي أفق المعاصرة في المنطقة هذه في ذلك الزمن الذي ظهر فيه الإسلام. وكان ذاك الاندراج في خط تدخلات السماء في الأرض يضمن للعرب المشاركة في تراث ودراما كونية وتاريخ خلاصي ظلوا غرباء عنه، وعلى هامشه، حتى ذلك الوقت. كان بعض العرب يتنصرون، وكان ثمة عرب يهود أو يهود تعربوا، وكان الأفق الإبراهيمي، أفق "الكتاب" و"العلم"، هو أفق الثقافة في الزمن الذي ظهر فيه محمد بن عبد الله. ما حققته دعوة النبي العربي هو الانخراط في هذا الأفق، والدخول في المعاصرة الكتابية، لكن من موقع استقلالي ونقدي، أو "وطني"، كما يلمح هشام جعيط في كتابه الممتاز "تاريخية الدعوة المحمدية في مكة". استراتيجية الاستقلال الإسلامي ستتمثل في شيئين. أولا نقد "أهل الكتاب" على تحريف كتبهم وتفريق أديانهم شيعا من جهة، ومن جهة ثانية تقرير أنه ليس ثمة إلا دين واحد، هو دين نوح وإبراهيم وموسى وعيسى..، ومحمد: الإسلام. فالإسلام المحمدي سيطرح نفسه ويطالب الاعتراف به كعودة إلى النبع الصافي، إلى أصل اليهودية والمسيحية، وسيكون إبراهيم هو الأصل المشترك، وإن انتسب العرب إلى إسماعيل من خط النسب الإبراهيمي. وبهذا يتحقق للعرب اندراج في العالمية والمعاصرة وصيانة استقلالهم في الوقت نفسه. وضعية المعاصرة التي عاشها النبي محمد ومجتمع مكة في عصره يعيش ما يضاهيها مثقفو العرب اليوم. وجاذبية الأفق الإبراهيمي قبل 14 قرنا تقارب اليوم جاذبية الأفق الحضاري الغربي، الذي ينسب في الغرب إلى الثقافة اليهودية المسيحية. ومثقف اليوم الحداثي يشبه محمد بن عبد الله أكثر مما يشبهه أكثر شيوخ الإسلام ومجاهديه. بل إن أكثر هؤلاء أقرب ما يكونون إلى الملأ من قريش منهم إلى نبي الإسلام، الذي ما انفكوا يصادرونه ويعلنون انتسابهم إليه، وبالأصح انتسابه لهم. ليس إلا المثقف الحداثي هو من يعيش الدراما النفسية والروحية التي سبق أن عاشها رجل من قريش في مطالع القرن السابع الميلادي. وليس إلا المثقف هذا هو من يجمع بين معرفة "كتاب" الغرب و"علمه" وبين عيشه في عالم "أمي"، "لا يحسب ولا يكتب"، أو "لا يقرأ" كما يقول عنه أعداؤه المعاصرون. كان محمد بن عبد الله يحترم الموارد الثقافية التي عاصر أكثر بكثير مما يظهر أتباعه اليوم، وما ظهر نزوعه الاستقلالي إلا في وجه ما لقيه من تشكك أهل الكتاب ونفورهم من "محدث العلم" هذا. اليهود منهم بخاصة. هذا أيضا يماثل وضع المثقف الحديث العرب اليوم. يريد الاندراج في الحداثة الغربية، لكن الغرب لا يعترف به. نظن أن "العلم" و"الكتاب" كونيان، فنجد الغرب يصر على وضع أختامه عليهما. كأننا محكومون بالدراما النفسية ذاتها.
2 على أية مخارج تنفتح وضعية المعاصرة هذه؟ على واحد من ثلاثة. أولها الإقامة على دين آبائنا كما ورثناه منهم. وثانيها الالتحاق بالغرب والتماهى به. وثالثها تركيب جديد، يعادل بزوغ الإسلام ويستوعب إسلامنا اليوم. المشكلة أن الإقامة على دين الآباء الموروث، وهو خيار الإسلاميين، لا يوحد مجتمعاتنا القائمة ولا "الأمة الإسلامية" ذاتها، ولا يضمن درجة أعلى من الارتقاء الحضاري والأخلاقي لها. تراكمت منذ مطالع الإسلام مشكلات لم تعالج ولم تحل، جوهرها انقسام المسلمين فرقا متعددة ومتعادية. وتولدت مشكلات معقدة أيضا من تفاعلنا مع الحداثة الغربية، جوهرها انقسامات إضافية، قومية واجتماعية وثقافية. الإسلام في أي من نسخه التي نعرف، السني أو الشيعي..، الإخواني أو السلفي الجهادي أو الرسمي، جزء من هذه الانقسامات، ما يجعله غير مؤهل لتوحيدها. وهي بعد انقسامات موضوعية، لا مجال للرجوع عنها، لكن يفترض أن يكون من الممكن تجاوزها أو تخفيض مراتبها، وهو ما يقتضي الاندراج ضمن تصور توحيدي جديد، لا نتوفر عليه بعد. الالتحاق بالغرب؟ غير ممكن. الغرب لا يقبل به، أكثر حتى مما نرفضه نحن، ومن تعارضه مع طبائع الثقافات والمجموعات الحضارية الكبرى والعلاقات بينها. هل من فرصة لتركيب مبدع وأصيل؟ ضعيفة. نحن مستلبون اليوم للغرب إن إيجابا أو سلبا، انبهار أعمى أو عداء أعمى، فلا نستطيع "موضعة" الغرب، ذات العالم الحديث، وطرحه ضمن تركيب لنا، بينما هو لا يكف عن "طرحنا". وهو كان وعى ذاته وبنى هويته بأن طرح عالم الإسلام نقيضا لأطروحته: ديانة السيف والشهوة والتعصب، مقابل النور الذي ينتشر من تلقاء ذاته والتسامح والحب (هذا في وقت أخذ الغرب يفتح العالم ويبيح الجسد ويعلن لنفسه رسالات تحضيرية وأعباء تمدينية). ومطلب الأصالة خطر حين لا تتوفر شروطه. ينقلب من الإبداع والابتكار إلى الاختلاف المحض، ما لا قوام له في حالتنا إلا في الماضي. لكن هل نحن محكومون بالتركيب؟ استيعاب الإسلام والحداثة على أسس جديدة تدمجنا في الحضارة وتحررنا من التبعية في آن معا؟ ومن جهة أخرى، هل يمكن أن نمتنع عن الخيارات الثلاثة المفترضة؟ أو ننفلت من هذه الجدلية الحضارية والتاريخية، متطلعين إلى أفق مختلف، متحرر؟ وهل يستطاع مقاومة فعل الجغرافية، والتاريخ، والثقافة، الدافعة نحو الانخراط والتركيب؟ يبدو التركيب مرغوبا جدا ومتعذرا. لكن هل ينبغي لمرغوبيته أن تكون بديهية؟ إذا أجبنا بنعم، نكون أوفياء لمنطق قيام الدعوة الإسلامية، لكن على خصومة مع الإسلام المعاصر، المعادي للغرب والحداثة معا. وإن أجبنا بلا نتوافق أكثر مع الإسلامية المعاصرة، ونبتعد عن وضعية المعاصرة، التي نظن أننا نشارك نبي الإسلام بها. الجواب الإيجابي يفترض ذاتا عربية تعاني من مشكلات، متخلفة أو "أمية"، لكنها موجودة ويمكن أن تغدو فاعلا تاريخيا. الجواب السلبي إما ينكر وجود الذات هذه، فيدعوها للالتحاق بغيرها، أو هو يعتبرها ذاتا لا كغيرها من الذاتيات، فيرفض التفاعل والتركيب مع من هو أدنى منها. هل يمكن رفض التركيب باسم الحرية أيضا؟ أن نجتنب الأفق الحضاري الغربي بأمل إبداع حضارة مختلفة، ولو اقتضى الأمر أزمانا طويلة لذلك؟ الأرجح أن هذه يقتضي "التحرر" من الإسلام كذلك، وتبني موقف "جاهلي". وقد كان هذا موقف أصناف من القوميين، زكي الأرسوزي مثلا. 3 عود على بدء، نحن اليوم في وضعية محمدية، إن جاز التعبير، كما كان نبي الإسلام في وضعية معاصَرة قبل أكثر من 1400 عام. لكن لا أنبياء بعد محمد. الحمد لله. فكيف تتحقق معاصَرة العرب المعاصِرة دون رسالة (المعاصرات الرسالية، الشيوعية والبعثية، كانت زائفة، آلت إلى خروج من العصر لا إلى مشاركة فيه)؟ وكيف ينهض العرب دون رسالة؟ نميل إل موقف متواضع: إصلاح ما بأيدينا من دين ولغة وثقافة، تمييزا عن عدمييتن. واحدة تريد الخلاص منه، وواحدة تجده مكتملا كما هو، مستغن عن أي إصلاح. هذا، أعني الإصلاح، موقف انخراط في التاريخ أيضا، رفض للانحلال وللوثينة القومية. ليس فقط لا سبيل لنهضتنا دون الإصلاح الديني الإسلامي (واللغوي والثقافي)، بل إن الإسلام ذاته هو ما يشدنا إلى الانخراط والمعاصرة والإصلاح. الإسلام في صيغته التوحيدية والتفاعلية وليس في تشكله الإيديولوجي والانقسامي المعاصر.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في توازي التفكك الوطني وانقسام الطيف الحداثي في سورية
-
العلمانية كوعي ذاتي لدنيوية الدولة
-
في إيديولوجية المواجهة ووظيفتها ومآلاتها
-
في نقد الردح والردح الذاتي
-
حوار شخصي وصريح مع إسلامي سوري في شؤون الإسلام والحرية والعق
...
-
في النموذج الإخواني وتناقض الإسلامية المعاصرة
-
نحو إعادة هيكلة الدور الإقليمي لسورية
-
خواطر مرسلة في شأن السياسة والثقافة
-
في أن الليبرالية الاقتصادية سياسة الجيل البعثي الثالث
-
في أصول المشكلة الثقافية العربية وجوهرها
-
في أزمة الهيمنة ومصير العروبة في سورية
-
قضية محمد حجازي وحرية الاعتقاد الديني
-
صراع مطلق فصنع طوائف فتقسيم دول..
-
تأمل في شأن الحرية ونقد الدين
-
العلمانية أهم من أن تترك للعلمانويين!
-
العرب أمام المشكلة الغربية
-
سورية والدول العربية بين ما دون الدولة وما فوقها
-
-أمتان-: حكم ذاتي إسلامي في ظل دولة علمانية، أو العكس!
-
في أصل خراب الديمقراطية والوطنية في المشرق
-
تقييم ائتلاف -إعلان دمشق-
المزيد.....
-
الرئيس بزشكيان: نرغب في تعزيز العلاقات مع الدول الاسلامية ود
...
-
ضابط إسرائيلي سابق يقترح استراتيجية لمواجهة الإسلام السني
-
المتطرف الصهيوني بن غفير يقتحم المسجد الأقصى
-
اكتشافات مثيرة في موقع دفن المسيح تعيد كتابة الفهم التاريخي
...
-
سياسات الترحيل في الولايات المتحدة تهدد المجتمعات المسيحية
-
مفتي البراميل والإعدامات.. قصة أحمد حسون من الإفتاء إلى السج
...
-
إسرائيل تكثف غاراتها على غزة وتقصف المسجد الإندونيسي
-
استقبلها الآن بأعلى جودة .. تردد قناة طيور الجنة TOYOUR EL-J
...
-
منظمة: 4 من كل 5 مهاجرين مهددين بالترحيل من أميركا مسيحيون
-
جدل حول اعتقال تونسي يهودي في جربة: هل شارك في حرب غزة؟
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|