لأن الحرب خدعة , فقد كان الرئيس بوش محقاّ عندما كان يجيب المتسائلين ب" أننا بصدد إزاحة النظام العراقي , ولكن لاتسألوني متى وكيف " وقد وفى الرجل بوعده للعراق والعراقيين ودول الجوار ممن كانوا يرون في نظام صدام تهديداً خطيراً لوجودهم ,وممن كان يعنيهم زوال هذا الكابوس المرعب ليتسنى لهم الإلتفات الى البناء بعد أن أفنوا الكثير من الوقت في التخوف والحذر من مقامراته والتحسب لمغامراته الرامية لمزيد من السطوة والنفوذ.
لقد كان الأغلبية ( وخاصة ضحاياه) يعتقدون بأن نظام صدام هو الأكثر خطورة ولايمكن وبأي حال من الأحوال أن يحل ماهو أسوأ منه , ولم يكن هذا الإعتقاد نابعاً من إن هنالك سقف محدد لمصطلح ( الأسوأ) , ولكن القناعة كانت مرتكزة على التطلعات الوطنية الى ماهو أفضل من جهة , و القدرات المادية والمعنوية للدولة العظمى ( الولايات المتحدة الأمريكية ) وسعيها الجاد لخلق ماهو أجود لنفسها في المنطقة والعالم من جهة أخرى , وبالتالي أسس شعور الشراكة هذا لشئ من الإطمئنان لدى الأطراف العراقية والعربية المؤيدة للحرب.
! الضبابية والسرية
الضبابية والسرية لضمان عنصر المفاجأة هما عاملان مهمان ولابد منهما لكسب الحرب , فالبرامج والخطط الحربية ليست كمثيلاتها السياسية من حيث التنظير والتطبيق , والإنتصار العسكري لايتطلب الشفافية والوضوح وإطالة الشرح لجهات متعددة بل يستلزم سرية المعلومات والسرعة في تغيير المواقع لضمان إنسيابية الخطط المرسومة. ومن الطبيعي أن يرافق ذلك حملات إعلامية مكثفة بقصد التشويش والتمويه وإرباك الخصم , هنا لايصبح لزاماً على المخططين أن يضعوا خططهم على طاولة الغير معنيين بها بشكل مباشر أو الإفصاح عن عامل الزمن والكيفية التي سوف تدار بها الحرب لمن لم يكونوا جزأً فعالاً في التنفيذ.
لذا تشكلت من واقع الأسوأ الذي لايمكن أن يؤدي زواله الى ماهو أسوأ منه (المشار إليه مسبقاً), وضرورات الإنتصار العسكري هذه , أسبابا كافية ومقنعة لإمتناع من تهمهم النتائج عن الخوض في أجوبة إحتكرها الرئيس لنفسه وللمقربين منه خدمة للعمليات الحربية , بل حفزتهم لركوب موجة التغيير دون قيد أو شرط في أغلب الأحيان .
فسياسة الإحتواء التي كانت متبعة بحق النظام لم تكن في نظر العراقي سوى عبئاً أثقل كاهل شعبه ومصدراً لثراء وتسلط الطغاة في بغداد , لذا كان حريصاً على فك الإرتباط وإلى غير رجعة بين نظام صدام والولايات المتحدة , ومبادراً لأن يكون جزءاً من عملية التغيير ومشاركاً فاعلاً في تسريعها خوفاً من أن تشكل دونية وروح النظام التنازلية مصدر إغراء لبعض الأطراف في القيادة الأمريكية قد تمكنه من الإستمرار في نعيقه على أطلال العراق لفترة أطول , من هنا رأى ضحايا صدام في تلك الحرب فرصة قد لاتتيح لهم الإشتراط ولكنها تستحق الإغتنام.
الشفافية والوضوح
الآن وقد وضعت الحرب أوزارها , منتهية بزوال صدام ونظامه من الخارطة السياسية ومخلفة لنتائج لم تكن بمستوى طموح من تبنوا نهجها مع إيمانهم بإمكانية التوصل الى نتائج أفضل بكثير فيما لو إتسمت مرحلة مابعد الحرب بالشفافية والوضوح من جانب , وأتيحت الفرصة لجميع الأطراف لتحمل مسؤولياتها من جانب آخر. لكن منطق الرئيس المتعلق ب .. لاتسألوني متى ؟ وكيف؟ إستمر ليشمل مرحلة مابعد الحرب على الرغم من إنه لم يقال , في الوقت الذي لم يعد يمتلك ما يبرر تكراره خاصة وإن التنفيذ في هذه المرحلة وصياغة الحياة السياسية في عراق المستقبل هو مشروع هائل يستلزم مشاركة الجميع وفي مقدمتهم الشعب العراقي بكافة فئاته وأطيافه, وكذا دول الجوار التي يؤدي إقصاؤها عن هذا المشروع إلى خسارة أطراف نحن بحاجة إليها, إن لم يؤدي الى الدفع ببعضها للعب أدوار سلبية لاتخدم مانحن ماضون إليه .
البلدوزر الأمريكي الذي نجح في ردم قلعة الديكتاتورية في بغداد , يجد نفسه عاجزاً عن إنتشال العراق من الواقع المؤلم والمزري الذي أوجده النظام البائد . وإصراره على التفرد بإنتشاله يعرضه الى إحتمالية التعثر والإرتكاس في هذا الواقع وبما لايتيح له الإنسحاب المبرمج فيما بعد, وحال كهذا قد يجر العراق ودول الجوار الى كوارث يصعب التنبؤ بها .
ويعود التلكؤ والتخبط هذا الى غياب سلسلة لابد من إكتمال حلقاتها لكي تعطيه بعداً مناسباً وتوفر الأرضية الصلبة التي تمكّن هذا البلدوزر من إنتشال العراق من قاعٍ يصل عمقه الى أكثر من ثلاثة عقود من الإرهاب الفكري والمؤسسي والقيمي ناهيك عما تخلل هذه العقود من سني الحصار ونتائجها السلبية وإفرازاتها الخطيرة على الفرد والمجتمع والتي أجاد النظام العراقي برمجتها بما يتلائم مع آيديولوجيته التسلطية وتسخيرها لأغراضه ومآربه المشبوهة.
بعبارة أخرى , أثبتت نتائج الستة الأشهر المنصرمة من التفرد الأمريكي بعدم إمكانية أية جهة في النهوض بالعراق بشكل منفرد , فهنالك أدوار لابد لها من التكامل لتحقيق هذه المهمة البالغة الصعوبة, فالحلقة الأولى تتجسد في البعد الوطني بكافة تفاصيله , والثانية والثالثة يتجسدان بالبعد العربي والإسلامي الذي تتشكل منه دول الطوق , وإن التفريط بأي من هذه الحلقات يقلل من فرص النجاح الأمريكي في تحقيق المعلن من أهدافهم في العراق . في الوقت الذي يساهم تهميش القوى الوطنية الفاعلة والمؤثرة في إستحالة أي فرصة للإستقرار, فالمؤتمرات التي عقدت خارج العراق والتي سبقت سقوط النظام لم تعد نتائجها وبياناتها صالحة لمحاكاة الواقع العراقي الآن , ومبدأ التوافق والتعيين الذي رافق تشكيل مجلس الحكم وما نجم عنه من تشكيلة وزارية ليس بحلٍ مقبول من أغلب الأطراف. والإتخاذ من هشاشة الظرف الذي نحن فيه مناسبة للكسب السياسي لهذا الطرف على حساب الآخر هو إساءة لتاريخ الجهة التي تسعى لهذا الكسب وتقليلاً من حظوظها لدى الشعب وقواه الوطنية .
ماكان ذلك ليحدث لولا سوء التقدير من بعض الأطراف لحجم المسؤولية التي تصدوا لها , والتي ستزداد هولاً إذا ماترك الحبل على الغارب ولم يعاد النظر بالخطوات السابقة , فالشجاعة كل الشجاعة بإعادة دراسة الإمكانيات والتصرف على أساسها , فليس هنالك ضرورة لتحميل القوارب بما لاتحتمل والشروع بإبحار غير آمن في أجواء عاصفة لاينفع معها أبراج مراقبة ولاخفر سواحل.
نبذ التهميش والإقصاء
لازال هنالك متسع من الوقت أمام الجميع فالوقت الضائع لم يبدأ بعد ولكنه ليس ببعيد , فالمرحلة تقتضي أن تتسم خطوات الولايات المتحدة بالشفافية والوضوح فيما يخص الشأن العراقي , فقد عرف العراقيون ودول الجوار متى وكيف إبتدأت الحرب ولكنهم لازالوا يجهلون , كيف ومتى تبتدأ مرحلة السلام فهم جزءاً لايتجزأ منها , ومرحلة يكتنفها الغموض قد تدفعهم الى الإجتهاد الذي قد يخطأ وقد يصيب , أما الوضوح فيجعل جهود الجميع تصب في مجرى واحد , والتركيز من قبل الولايات المتحدة على الإستثمار السياسي لمواقف دول الطوق هو المفتاح الرئيسي لمرحلة الإستقرار إذا ما أريد لها أن تكون , فالتراكم المتتالي للأخطاء الأمريكية التي أرتكبت داخل العراق , منحت هذه الدول حصصاً لم تكن في حسبانهم وجعلت لهم نفوذاً لايمكن تجاهله بأي حال من الأحوال.
أما مجلس الحكم فهو الآخر مطالب بردم الهوة بينه وبين القوى الوطنية الأخرى التي لاتطالب بأكثر من حقها الطبيعي والقانوني في أن يكونوا شركاء في المسؤولية وخاصة من هم أدرى بشعاب العراق , فلا بد من رأب الصدع وتوحيد الصفوف لأنه الخيار الأجدى لمجابهة التحديات القائمة والمحتملة التي تهدد حاضر ومستقبل العراق , فالسلطة التي تتسع لضيوف ثقال على إختلاف جنسياتهم ليست بعاجزة عن إستيعاب أبناء الوطن.
المرحلة الراهنة هي الأكثر حساسية وتعقيداً بين المراحل في تاريخ العراق المعاصر من حيث كونها مفترق طرق تتشابك به المصالح والمعتقدات وتتبادل التأثير به وعليه جهات عدة , فالذاتية من حيث يروق لنا هذا الطرف أوذاك , أو يحقق مصلحتنا الكاملة والغير مشروطة هذا الحل أم لا , غير كافية لجسر الهوة بين مانحن فيه ومانطمح أن نكون عليه , بل تجاوز الأزمة يخضع لشروط موضوعية ينخرط في ظلها جميع الأطراف الفاعلة وتنصهر في إطار المصالح الوطنية والإقليمية والدولية على حد سواء. فالإعتراف المتبادل بالأدوار وماينتج عنه من حلول واضحة لاتحتمل التأويل هو البداية المثلى لإختزال الزمن والمسافات في سبيل تحقيق الهدف الكبير المتمثل في تمكين العراق من الوقوف على قدميه وحكم نفسَهُ بنفسِه ومن ثم الشروع في رحلة البناء وإعادة الإعمار .