كلما اشتدت مطالبة الشعب العراقي ومجلس الحكم الانتقالي والحكومة المؤقتة من الإدارة الأمريكية وسلطة الاحتلال في بغداد باتخاذ الخطوات العملية والمنطقية لتسليم السلطة الفعلية وملفات السياسة والأمن والاقتصاد إلى الجهات العراقية المختصة في مجلس الحكم والحكومة لمعالجة ومتابعة الأوضاع المتردية في العراق والتصدي الناجح للعمليات التخريبية والانتحارية وجرائم قذف الصواريخ والقتل الجماعي وتحقيق الأمن المنشود للعراق والعراقيين, ازداد بالمقابل تشبث الإدارة الأمريكية ومسؤوليها في بغداد بصيغة الاحتلال والحكم المباشر في العراق ورفض تطبيق قرار مجلس الأمن الدولي الأخير رقم 1511 في مضمونه الأساسي وعدم الاستجابة لمطلب الشعب والمجلس والحكومة. وهذا الإصرار لا يكلف القوات الأمريكية المزيد من الخسائر البشرية والمادية ويضعف شعبية الرئيس الأمريكي في الولايات المتحدة ويضع الأخيرة في صدام مع العالم كله ويضعف إمكانية الحصول على المزيد من الدعم المالي والتأييد الدولي لسياستها في العراق فحسب, بل يرفع من عدد قتلى الشعب العراقي ومن محنته الطويلة ومن ضعف ثقته بالوضع القائم ويعطل عملية إنجاز مهمات فترة الانتقال ويدفع بعصابات صدام حسين والقاعدة والجريمة المنظمة إلى مزيد من النشاط والأفعال الإجرامية بهدف مواصلة حالة الفوضى والعبث وتحفيز المزيد من الناس للوقوف ضد الوضع الجديد والمشاركة في العمليات التخريبية.
يتفق أغلب المحللين السياسيين في العالم على أن الولايات المتحدة بقدر ما كانت مستعدة لإنزال الضربة العسكرية بالنظام وإسقاطه بسرعة, بالقدر ذاته لم تكن مستعدة لمواجهة الوضع الناشئ بعد الحرب لإشاعة السلام في البلاد وإعادة إعمار العراق, وبالتالي ارتكبت أخطاء فادحة لا يجوز ارتكابها في مثل الأوضاع التي يمر بها العراق والأوضاع الملتهبة في المنطقة بأسرها. وإذا كانت تلك الأخطاء قد ارتكبت بحجة أن الأمريكيين ما كانوا على علم جيد بالواقع العراقي وأن المعلومات التي قدمت لهم لم تكن كلها صادقة ودقيقة, وأنهم فوجئوا بنشاط القوى المعادية, فأن الأخطاء التي ترتكب اليوم وتصر الإدارة الأمريكية وسلطة الاحتلال على ممارستها في العراق ليست غير مفهومة ومرفوضة فحسب, بل تصبح أكثر فأكثر هي المسؤولة مباشرة عن استمرار الوضع غير الطبيعي في العراق واستمرار الإرهاب والقتل الواسعين لجنودهم وللعراقيات والعراقيين, وتسمح للجماعات السياسية المختلفة بوضع أكثر من علامة استفهام على ما يجري في العراق حالياً. ولم يعد مثل هذا الواقع مسموحاً به, إذ أن التكتيكات التي تمارسها الإدارة الأمريكية وسلطة الاحتلال لم تعد مقبولة وهي تقود البلاد إلى ما لا تحمد عقباه.
وإزاء هذا الإصرار الأمريكي على مواصلة العمل بنفس الأسلوب السابق ورفضهم تسليم الملفات لمجلس الحكم والحكومة, رغم الادعاء القائل بأنهم يرغبون الانسحاب من العراق بأسرع وقت ممكن, يطرح السؤال التالي نفسه بقوة على كل العراقيات والعراقيين وعلى مجلس الحكم الانتقالي والحكومة في آن؟ والناس تتساءل بأن من يرغب في الانسحاب السريع من العراق بعد تكريس الأمن والاستقرار يفترض فيه أولاً وقبل كل شيء أن يتعلم من الأخطاء التي ارتكبها بالأشهر السبعة المنصرمة وأن يغير نهجه السياسي ويمارس السياسة قبل ممارسة القوة العسكرية. ولكن كل الدعوات ذهبت حتى الآن أدراج الرياح, إذ ما زال التعالي والعجرفة وعدم الاهتمام بالرأي العراق هي السمات المميزة للموقف الأمريكي من الأوضاع المتدهورة في العراق.
إن الإشكالية التي تواجهنا تكمن في طبيعة القيادة الحالية في الولايات المتحدة الأمريكية وفي الهيئات الاستشارية التي توجه عمل الإدارة الأمريكية على صعيد العالم والمنطقة وفي العراق. إنها جماعات المحافظين الجدد المؤمنين أشد الإيمان باللبرالية الجديدة والذين يمزجون بشكل غير حضاري وغير عقلاني وخطر بين الموقف الديني المتزمت والموقف الإيديولوجي المتشدد, في وقت يتهمون الآخرين بأنهم يتشبثون بالأيديولوجية والدين في مواقفهم السياسية وفي الصراع الدائر حالياً. وإزاء هذا الوضع حيث يعيش الشعب العراقي محنة كبيرة لا يعرف الإنسان مداها وكيف يمكن الخلاص السريع منها بعد معاناة رهيبة لمدة 35 عاماً تحت وطأة النظام الدكتاتوري الدموي, يتطلب الأمر من مجلس الحكم الانتقالي والقوى السياسية التي قاومت النظام الدموي السابق أن تتحرك لتوحد جهودها وتطرح مشروعها السياسي بجرأة وصراحة وحرص على مستقبل البلاد ومصالح الشعب. فالعمل المشترك مع الولايات المتحدة لا يعني إهمال النقد الجريء والمطالبة المستمرة والتعبئة السياسية لتنشيط الشعب وراء تلك المطالب من جانب القوى الديمقراطية واليسارية لإلزام سلطة الاحتلال بالأخذ بوجهة نظر الشعب والمجلس بدلاً من إهمال ذلك.
إن ما يجري في العراق يدعونا إلى توجيه الحديث إلى مجلس الحكم الانتقالي والحكومة المؤقتة في العراق وإلى كل العاملين من أجل غدٍ ديمقراطي للعراق خال من جمهرة الفاشيين من البعثيين ومن الشوفينيين العنصريين من القوميين والإرهابيين المتطرفين من الإسلاميين السياسيين ودعوتها إلى التفكير الجدي والحازم في سبل معالجة هذا الوضع, إذ أن استمراره يحملها مباشرة ويحمل الجميع مسؤولية كبيرة بسبب استمرار الموت وحمامات الدم في بعض مناطق العراق في وقت ترفض سلطة الاحتلال الاستماع إلى صوت العقل والواقع والتفاعل مع المجلس والحكومة وإعادة النظر بسياساتها في العراق واتخاذ القرارات والإجراءات المناسبة لمواجهة قوى الردة والإرهاب والجريمة من جهة, ولكي لا يسقط المزيد من الناس في هوة الأعمال المشابهة بسبب رفض المحتلين الاستماع إلى صوت العقل والمنطق والخبرة المتراكمة بحجة الدفاع عن البلاد وعن استقلالها.
إن ما يجري اليوم في العراق يفترض في الطرف الأمريكي-البريطاني تغيير كامل للنهج السياسي الذي تمارسانه في العراق مباشرة ودون تفويت للفرصة أو تضييع للوقت بالاتجاهات التالية:
1. ممارسة العمل السياسي في العراق بدلاً من استخدام العنف والقوة العسكرية وزيادة القوات المسلحة الأمريكية المقيمة في العراق.
2. الموافقة على المشاركة الدولية في القوات الفاعلة في العراق للمحافظة على الأمن والسلام وتقليص القوات الأمريكية المشاركة في العمليات الجارية والابتعاد عن الاحتكاك المباشر بالسكان وتسليم قيادة قوات حفظ السلام إلى الأمم المتحدة وبالتنسيق المستمر مع القوات الولايات المتحدة ومجلس الحكم الانتقالي.
3. نقل السلطة السياسية الفعلية إلى مجلس الحكم الانتقالي وتسليمها ملفات السياسة والأمن والاقتصاد, ومنها اقتصاد النفط الخام إنتاجاً وتصديراً, وعمليات إعمار العراق وكذلك العلاقات الخارجية واعتبار قرارات مجلس الحكم نهائية.
4. توجيه الجهود المركزية نحو عملية إعادة إعمار العراق والحفاظ على المنشآت والمؤسسات العراقية من عمليات التخريب والتدمير والقتل.
ويطرح الوضع الراهن على مجلس الحكم الانتقالي والقوى المساندة له في المجتمع العراقي أن يناضل ويعمل من أجل تحقيق ما يلي: وضع أجندة واضحة ودقيقة للاتفاق عليها ثم طرحها ومناقشتها مع سلطة التحالف المحتلة ورئيسها السيد بريمر تتضمن, كما أرى, النقاط التالية:
1. توسيع مجلس الحكم الانتقالي بمزيد من ممثلي القوى السياسية العراقية التي ترفض الإرهاب الدموي والتخريب وتسعى لإقامة حياة ديمقراطية في البلاد. ويمكن توسيعه بحيث يصبح معبراً بصورة أفضل لأوساط الشعب ويساعد على تعبئة الجماهير الشعبية حول المجلس وسياساته.
2. أن تنقل السلطة مباشرة إلى المجلس بدلاً من سلطة الاحتلال وأن يتسلم مباشرة ملفات السياسة والأمن والاقتصاد, ضمنه اقتصاد النفط الخام, لكي يأخذ على عاتقه إدارة البلاد وتنظيم العمل وتشكيل هيئات اختصاص ميدانية لمعالجة المشكلات الخاصة بهذه الملفات, إذ أن معالجتها لا يمكن أن تتم إلا بصورة متشابكة, رغم استقلالية بعضها عن البعض الآخر, ولكنها تبقى واحدة في الجوهر.
3. أن تمنح الوزارات صلاحيات فعلية في نشاطها وتوضع لها ميزانيات فعلية ورفض اقتصار ذلك على رواتب الوزير وبقية الموظفين لكي يتسنى لها ممارسة أعمالها دون معوقات.
4. أن تتسلم قيادة قوات الشرطة والأمن العراقيين ومسؤولية متابعة موضوعات الأمن الداخلي.
5. اتخاذ خطوات جادة لإعادة جمهرة غير قليلة من الجنود الذين يم يكونوا يوماً بعثيين أو بعثيين حقاً إلى الخدمة العسكرية وعودة نسبة مهمة من الضباط الذين فصلهم نظام صدام حسين في فترات مختلفة إلى الخدمة العسكرية للاستفادة من خبراتهم في العمل في القوات المسلحة.
6. تشكيل هيئة أمنية من المختصين من مختلف محافظات العراق لدراسة الوضع العام وأوضاع المحافظات والمدن المختلفة, وخاصة المناطق التي تمارس فيها العمليات الإرهابية أو المرشحة لذلك ووضع حلول عملية للمشكلات القائمة فيها ومتابعتها يومياً وتأمين اتصالات وتبادل معلومات سريعة وتزويد هذه الأجهزة بما هو ضروري من معدات وأجهزة حديثة وأموال.
7. أن تبقى قوات الاحتلال مساعدة لعمل القوات المسلحة العراقية وتنفيذ العمليات في المناطق الضرورية وبعيداً عن الاحتكاك المباشر بالشعب العراقي مباشرة.
8. رفض الميول الطائفية في العمل السياسي لدى هذا العضو أو ذاك في المجلس أو الحكومة المؤقتة واستبداله في حالة إصراره.
9. وضع معالجة جريئة وجادة للنشاط التخريبي الذي يقوم به السيد مقتدى الصدر باعتباره الوجه الثاني للعملة ذاتها, للتطرف والطائفية المتشددة للشيخ إسامة بن لادن في العراق.
10. يحق لسلطة الاحتلال مناقشة قرارات مجلس الحكم الانتقالي ولكن لا يحق له ممارسة الفيتو بشأنها, إذ أنها تعبر عن الرأي العراقي, وهو صاحب الدار. مثال على ذلك, محاولة الإدارة الأمريكية جلب قوات تركية أو مجاورة إلى العراق ورفض الشعب لمثل هذا الإجراء.
كان إسقاط النظام منقبة كبيرة وتحريراً حقيقياً من طاغية لم يعرف النصف الثاني من القرن العشرين مثله في المنطقة العربية وفي كثير من بلدان العالم الثالث. وكان الإنسان العراقي يعرف جيداً أن أقطاب النظام سيحاولون بعد سقوط نظامهم المقاومة ومواصلة إرهابهم للناس بهدف إجبار القوات الأمريكية على الانسحاب, كما حصل لها في لبنان والصومال. وهذه العمليات التي تجري يومياً هي جزء من هذا المخطط. وإذا استمرت الإدارة الأمريكية على نهجها الخاطئ الراهن فسوف ينتهي الوضع باتساع قاعدة المعارضة للوجود الأمريكي في العراق في الولايات المتحدة ويمكن أن يندحر جورج دبليو بوش في تجديد رئاستة ثانية, كما ستزداد مقاومة الشعب العراقي للوجود الأمريكي أيضاً, وبالتالي ستكون الإدارة والقوات الأمريكية في وضع لا يحسد عليه على مختلف الأصعدة.
إن المقترح الذي أتقدم به بسيط للغاية, ولكنه مهم وصعب للغاية أيضاً ويتضمن ما يلي:
في حالة رفض سلطة الاحتلال هذه الإجراءات أو عدم الوصول إلى اتفاق مناسب بشأنها وإصرار الطرف الأمريكي-البريطاني على نهجه الراهن, أرى من الخطأ استمرار المجلس تحمل المسؤولية وعليه تسليم الأمر إلى سلطة الاحتلال والتخلي عن أداء المهمات الناقصة التي لا يمكن أن تقود إلى نتائج سليمة. إن مثل هذا القرار سيضع سلطة الاحتلال أمام صعوبات داخلية وعربية وإقليمية ودولية جديدة, ويجبرها على التفكير الجدي باتخاذ القرار الصعب, قرار تسليم السلطة فعلياً إلى مجلس الحكم الانتقالي في فترة الانتقال الجارية.
لا أنكر بأن مثل هذا الموقف فيه بعض المخاطر والتضحيات, ولكن استمرار الوضع البائس يحمل من المخاطر أكثر بكثير من الأجراء الذي يفترض أن يتخذه مجلس الحكم الانتقالي. ويمكن أن لا يتفق عليه الجميع, ولكن لا بد منه لإقناع الطرف الأمريكي-البريطاني بجدية المجلس وشعوره العالي بالمسؤولية. إن الموقف الجماعي هو الذي يساعد على إقناع سلطة الاحتلال بأن المجلس لا يمكنه الاستمرار بالطريقة الراهنة وفي العلاقة الراهنة مع سلطة الاحتلال. وسيجد الموقف تأييد ودعم الغالبية العظمى من الشعب العراقي أولا,ً ولكنه سيجد الدعم والتأييد على الصعيدين العربي والإقليمي وعلى المستوى العالمي وفي الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي أيضاً. كما أنه سيجد الدعم والتأييد من قوى سياسية قوية في الولايات المتحدة ومن أوساط واسعة من الشعب الأمريكي التي ترفض النهج العنفي غير السياسي الذي تعالج بها إدارة بوش الأوضاع في العراق وترفض استقبال المزيد من جثث الجنود الأمريكيين وكذلك الجرحى.
إن هذا الموقف المبدئي للمجلس لا يعبر عن تخل عن المسؤولية, بل يجسد الشعور الأكبر بالمسؤولية إزاء الشعب العراقي ومصيره ومستقبل الديمقراطية فيه وكذلك المسؤولية إزاء حياة الجنود الذين ساندوه في إسقاط النظام الدموي وتحرير الشعب العراقي من ظلمه وجوره, وإزاء إنهاء فترة الانتقال وخروج القوات المحتلة من العراق واستعادة البلاد لاستقلالها وسيادتها الوطنية.
وسيكون لهذا الموقف تأثيره الإيجابي على الوضع في العراق ذاته, إذ عندها وسيأخذ العراقيون من النساء والرجال مصيرهم بأيديهم وسيواجهون أعداء الشعب بقوة وحزم كبيرين. إن هذا لا يعني بأن التخريب سينتهي بسرعة ولكننا سنكون على الطريق الصحيح لوضع حدٍ له بالسرعة الممكنة وستستعيد القوى السياسية العراقية اعتبارها أمام أنظار الشعب بأن كلمتها هي المسموعة وهي التي تقرر للعراق ما يريده الشعب. الجميع يتطلع إلى موقف أمين وجرئ ومسؤول من جانب مجلس الحكم الانتقالي إزاء الوضع الجاري في العراق وإزاء مستقبل بنات وأبناء العراق من مختلف القوميات والأديان والمذاهب والاتجاهات الفكرية والسياسية.
يجب أن ندرك جميعاً بأن قوى الردة والظلام والإرهاب في العراق والعالم العربي وفي المنطقة تريد تحويل العراق إلى ساحة مكشوفة لصراع دموي غير محدود وشامل, وهي تمتلك السلاح والانتحاريين الأغبياء والتأييد والدعم المالي, وهو الأمر الذي يجب أن ننتبه إليه ونحذر منه ونسعى إلى خنقه في مهده. فهل ستتعظ الولايات المتحدة من دروس الأشهر والأيام المنصرمة, وهل سيتخذ مجلس الحكم الانتقالي الموقف المطلوب؟ هذا ما نطرحه للمناقشة ونأمل حصول التغيير في النهج الأمريكي أولاً وقبل كل شيء لكي لا يتحمل الجميع المزيد من الخسائر البشرية والمادية وإطالة فترة الاحتلال في العراق.
برلين في 30/10/2003 كاظم حبيب