من نافلة القول ان سياسات النظام الدكتاتوري السابق المستهترة، ومنها سياسة التبعيث، والبطش والإرهاب الدموي المتواصل،هي التي إضطرت عشرات الآلاف من ذوي الكفاءات العلمية الى ترك العراق والمغادرة الى الدول الأجنبية، وفي مقدمتها الأوربية، والولايات المتحدة، وكندا، وأستراليا. الإحصاءات غير الرسمية، الصادرة من هيئات ومنظمات حقوق الانسان العراقيه، تؤكد وجود 25 الفاً من حملة الشهادات العليا ، من مجموع 4 ملايين عراقي مهاجر خارج الوطن. وهذا الرقم لا يشمل حملة الشهادات الجامعية الاولية، الذين تؤكد الاحصاءات الاولية بان مجموعهم بلغ 90 الفاً، من بيهم 3500 طبيب و5000 مهندس، والباقي من مختلف الأختصاصات العلمية والانسانية الاخرى- نقلاً عن د. وليد الحيالي..
وممالا شك فيه أن خسارة العراق، من جراء هجرة العقول العلمية، خسارة جسيمة، ومع هذا لم يسع النظام السابق الى تعويض ولو جزء يسير منها رغم السنوات الطويلة من عمر المشكلة. وللتدليل على ضخامة حجم الخسائر المادية، نشير، على سبيل المثال، الى نتائج دراسة تفصيلية، أعدتها لجنة خاصة في منظمة الطاقة الذرية العراقية، برئاسة الدكتور أسعد الخفاجي، حول كلفة الخسائر المادية لدى إمتناع المئات من المبعوثين للخارج عن العودة والخدمة في العراق، أجريت عام 1989، بينت بان كلفة دراسة الحائز على شهادة الدكتوراه في العلوم والتكنولوجيا قد قدرت بمبلغ 140 ألف دولار. وإذا ضُرب هذا المبلغ بعدد الرافضين للعودة، وكان بالآلاف، فيكون الناتج لا يقل عن مليار دولار.وللمقارنة بما كان عليه الوضع قبل 14 عاماً، فإن العدد الحالي لأصحاب الكفاءات العلمية المهاجرة قد تضاعف بالتأكيد.وهذا ما أكدته دراسة حديثة للدكتور وليد الحيالي، توصلت الى أن الكلفة المالية المقدرة لهجرة 17500 حامل شهادة ماجستير و7500 حامل شهادة دكتوراه بنحو 4550.45 مليون دولار. بينما بلغت كلفة استقطاب (أي عودة) العدد السالف للوطن 1125 مليون دولار.وإذا ما تحققت عودتهم، فان العراق سيحقق- بحسب الدراسة- وفر مالي يقدر بمبلغ 3452.45 مليون دولار.وهو ما يشكل نسبة عائد 304.5 %.هذا فضلاً عن العائد الاجتماعي المتمثل باعادة القوى البشرية القادرة على العطاء والبناء الاجتماعي، بالإعتماد على ما إكتسبته جل العقول العراقية المهاجرة،وتحديداَ ذلك الصنف من العقول الذي مارس اختصاصه فعلاَ، من معرفة وخبرة ودراية ومواكبة علمية هائلة في بلدان المهجر، خاصة البلدان المتقدمة حضارياَ.
مرحلة جديدة وحساسة
ان العراق اليوم،الذي يمر بمرحلة إنتقالية جديدة وحساسة، هو بأمس الحاجة الى عودة أبنائه وبناته من أصحاب الكفاءات العلمية، ليساهموا في إعادة إعماره، وفي بناء دولته الجديدة. ولا جدال بان للمهارة والخبرة والكفاءة العلمية دور بارز في عملية البناء والنهوض والتطور.ولعل الصنف الذي كان يمارس إختصاصه من أصحاب الكفاءات هو المعول عليه في عملية البناء، والتغيير، والتقدم، الذي يتوق اليه ويستحقه شعبنا ووطننا..
ولا تفوتنا الإشارة الى أن عودة أصحاب الكفاءات العلمية للوطن والعمل فيه تنطوي على جانبين مهمين: الأول- مشاركة هؤلاء العراقيين في شرف خدمة شعبهم ووطنهم،أي تأدية واجب وطني اَني وملح. والثاني- عودتهم لربوع وطنهم والإستقرار فيه مجدداً من شأنها أن تضع حداً لمعاناة المئات من الأسر وأفرادها من الغربة وتداعياتها.
بيد أن عودة اصحاب الكفاءات العلمية الى الوطن الأم تصطدم بمصاعب وعوائق جدية عديدة، لا يمكن تجاهلها.وتستلزم إجراء تحليل عميق لحيثياتها من قبل من يهمه التوصل لحل ناجع للمشاكل القائمة.ويتعين ان يأخذ بنظر الإعتبار:
1-مسألة غياب الأمان والإستقرار. من دون تحقيق الأمان والإستقرار في أرجاء البلد لن تتحقق عودة الكفاءات، كما نرى، ويشاطرنا هذا الرأي الكثيرون. إن غياب الأمن والإستقرار في عراق اليوم هو واحد من أبرز العوائق وأهمها في أن لا يفكر ويخطط الآلاف من العراقيين المتواجدين في الخارج في العودة للوطن في الوقت الحاضر، بل وبسببه تخلف لحد الآن الآلاف منهم حتى عن زيارة بلدهم، وتفقد أحواله العامة، والإطلاع عن قرب على حياة الناس، وبضمنهم أهلهم وأقرباءهم.
وهنا لابد اَن تعجل إدارة الإحتلال بتسليم ملف الأمن،الذي فشلت فيه، لمجلس الحكم الإنتقالي والحكومة العراقية المؤقتة،كي تثبت أنها حقاً تريد منفعة وخير الشعب العراقي، وأنها تسعى فعلاً لإعادة إعمار العراق، وبناء دولته الجديدة!. إن هذه الخطوة الضرورية جداً ليس فقط مطلوبة لإعادة الثقة بالوعود التي قطعتها الإدارة الأمريكية قبل الحرب للقوى المناهضة للنظام السابق، والتي فقدت مصاداقيتها بسبب عدم الوفاء بها، بل وستساعد على كسب أوسع قطاعات الشعب العراقي الى جانب المجلس والحكومة العراقية، ودعمهما في تحقيق واجباتهما ومهامهما الآنية الملحة، وأولها تحقيق الأمن والإستقرار في البلاد- كمهمة إستثنائية- الى جانب التعجيل بتحسين الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية، والإسراع في إعداد مسودة دستور الدولة البرلمانية الديمقراطية التعددية.
ينبغي طمأنة الجميع
2- وإذا أردنا حقاً وفعلاً عودة أصحاب الكفاءات العلمية، فلابد من طمأنة الجميع، بسن دستور والمصادقة عليه، يكفل إحترام حقوق الإنسان، والمساواة في المواطنة، والولاء للشعب والوطن وحدهما، بعيداً عن الإعتبارات القومية والدينية والطائفية والعرقية والمذهبية. ويقر بالتعددية، والتداول السلمي للسلطة، وإحترام العدالة والقانون، وبالمقابل يحرم كافة أشكال الإستبداد، والظلم، والجور، والتمييز، وعدم المساواة، والعنف، والإرهاب، والتسلط، والقسر، والإكراه. ويحارب الظواهر والتقاليد البالية والمتخلفة، التي تعيق الطموحات المشروعة، وفي مقدمتها التقدم الإجتماعي، والحياة الحرة السعيدة، والغد الأفضل.وكل هذا لن يتم بلوغه طبعاً إلا بسواعد وخبرة وكفاءة وإخلاص أبناء وبنات البلد، وبضمنهم ذوي الكفاءات العلمية المتواجدة حالياً في الخارج..
3- مراعاة التغييرات التي طرأت على حياة أصحاب الكفاءات وأسرهم، خاصة الذين يقيمون في الدول المتقدمة، حيث إستقر معظمهم، وتكيف أغلبهم مع الظروف هناك، وحقق جزء كبير منهم الاستقرار المادي والمعنوي، ونشأ لدى المئات منهم وضع اجتماعي جديد، حيث الأطفال، وربما الزوجة، لا يجيدون العربية،ولا يعرفون طبيعة العراقيين في الداخل، ولا كيفية التعامل معهم. وهناك من لديه شباب يدرسون في جامعات بلد الإقامة وهم لم ينهوا الدراسة بعد عند عودة الوالدين. وثمة نسبة غير قليلة من ذوي الكفاءات العراقية المهاجرة قد تقطعت بها السبل عن الوطن نتيجة سنوات الغربة الطويلة، وإذا ما عادوا للعراق فأنهم سيبدأون من الصفر- من حيث العمل، والسكن، والنقل، والمعايشة، وغيرها.وكل هذا يستلزم دراسة جدية خاصة بغية تذليل المصاعب التي ستواجههم.
لجنة وطنية متخصصة
4- بعد هذا، وما أن يتحقق الأمان والإستقرار في البلد، يأتي دور تشكيل لجنة وطنية متخصصة لإعداد، ومن ثم إصدار، قانون خاص لعودة الكفاءات، يتعين بالضرورة أن يشجع ويعجل بعودة ذوي الكفاءات العلمية الى وطنهم الأم. والمطلوب من القانون ان يحدد من هو المقصود بالكفاءة العلمية.وهنا يتعين ان يراعي إشكاليتين هامتين:
الأولى- ليس كل من يحمل درجة الدكتوراه او الماجستير من العراقيين المتواجدين في الخارج قد أتيحت له فرصة العمل بإختصاصه. ثمة المئات منهم من عمل بإختصاصات أخرى لا علاقة لها بالعلم والبحث والتدريس، كالتجارة، والأعمال الحرة، والمكتبية، وماشابه. وكي لا تتكرر تجربة قانون الكفاءات في ظل النظام البعثي، وتحديداً التحايل والتزوير وشراء "الشهادات العلمية"، وغيرها من وسائل مسخ قانون الكفاءات إياهم والهدف الذي صدر من أجله،لابد أن ينص القانون على ضوابط محكمة، ومنها أن لا يقبل أي طلب ما لم يكن مشفوعاً بشهادة موثقة من الجامعة أو المؤسسة التي كان يعمل فيها صاحب الطلب، تؤكد الخدمة، والممارسة، والخبرة، والنجاح. ولا ضير ان يكون هناك إختبار من قبل لجنة كفؤة من الأخصائيين لبعض الإختصاصات..
الثانية- هنالك المئات، بل والآلاف من العراقيين من حملة البكالوريوس: مهندسين- من كافة فروع الهندسة- وأطباء، وفنيين جامعيين، وغيرهم، ممن لم تتح لهم فرصة البحث والتدريس، لكنهم إكتسبوا المعرفة والدراية والخبرة أثناء العمل، خصوصاً في البلدان الإسكندنافية،وأثبتوا نجاحهم في إختصاصاتهم، بل والبعض منهم تبوء منصب رئيس قسم او مدير، الخ.وثمة مجاميع من بين هؤلاء ممن أصبح مدرساً ناجحاً في معاهد وكليات، مع أنه لا يحمل شهادة الدكتوراه ولا حتى الماجستير. وكل هؤلاء يستطيعون ان يخدموا البلد كثيراً لو عادوا، مشمولين بقانون الكفاءات.
وعلى قانون الكفاءات المقترح ان يوفق بين المصلحة الوطنية العامة- كمردود إجتماعي لعودة ذوي الكفاءات العلمية للعمل في البلد- والمصلحة الذاتية لصاحب الكفاءة، بما يضمن:
أ- الضمانات القانونية، وأولها إبرام عقود عمل مؤقتة، لفترة إختبار- مثلاً 3 أشهر- للطرفين:طالب العمل ورب العمل.بعدها تبرم العقود الثابتة،أي لعدة سنوات.
ب- المكان المناسب للكفاءة المناسبة،علماً ومعرفة وخبرة ونجاحاً، بعيداً عن البيروقراطية، والروتين القاتل، والمحسوبية والمنسوبية، والإعتبارات الطائفية، أو العشائرية، أوالقومية، أوالمذهبية او الإنتماء الحزبي.
ج- توفير متطلبات الدراسة والبحث والعمل المثمر والإنتاج والإبداع.
د- المحفزات المادية- راتباً شهرياً جيداً، وعلاوات سنوبة، وإحتساب الخدمة في الخارج، وسكن مناسب، ومنحة تأثيث و نقل، الخ.
وهنا لابد من لأخذ بنظر الأعتبار مايلي:
قضية طوعية
إن عودة أصحاب الكفاءات العلمية للعمل في الوطن الأم تنطوي على أمرين، لابد من إدراكهما مسبقاً:
-الأول: أنها قضية طوعية، وليست إجبارية. يتعين على صاحب الكفاءة، وخاصة غير الأعزب، أن يناقش الموضوع جيداً مع أفراد أسرته، وأن يضعهم أمام كافة الإشكالات والصعوبات التي سيصطدمون بها في فترة التكيف مع الوضع الجديد بالنسبة لهم.وهي تستلزم، أيضاً، تهيئة نفسية مناسبة،والتحلي بقدر من الصبر والتحمل.
-الثاني: العودة بحد ذاتها تعد تضحية كبيرة من قبل صاحب الكفاءة، الذي يمارس إختصاصه في بلد الإقامة.فهو عند قدومه للوطن الأم، وفي ظروفه الراهنة، ملبياً نداء الواجب، بدافع شعوره الوطني النبيل، سيتنازل مجاناً عن الكثير من المزايا والإمتيازات- معروفة للجميع..من هنا يتعين مكافئته على تضحيته، وعلى المشاكل والمصاعب والمتاعب التي تنتظره.
مكافأة العائدين
وإن خير مكافئة يستحقها صاحب الكفاءة العلمية، الذي سيعود للوطن، هي- كما نرى- العقود المغرية، المساوية مائة بالمائة لعقود الخبراء الأجانب، بكل ما فيها من مزايا وإمتيازات.
من هذا المنطلق نقترح على قانون الكفاءات العلمية:
أولاً- أن يشمل صاحب الكفاءة العراقي بسلم رواتب الخبراء الأجانب لمدة 5 سنوات قادمة، قابلة للتمديد- بحسب وضع الوزارة، أو المؤسسة، التي سيعمل فيها.
ثانياً- توفير السكن المجاني المناسب- مثلاً شقة مناسبة لعدد أفراد عائلته، مؤثثة، وقريبة من موقع عمله.ومنح من يرغب سلفة للتأثيث الإضافي، تسدد بأقساط شهرية.
ونعتقد أنه من المفيد جداً تشييد مجمع سكني، خاص بذوي الكفاءات العلمية، ممن لا يملكون سكناً خاصاً، تتوفر فيه: روضة، ودار حضانة، ومستوصف، ومدرسة، ومكتبة، ومقهى للإنترنيت، وملعب، بالإضافة الى حدائق، وسوق ومتاجر،ومكتب للخدمات البريدية،ونقطة حراسة، وغيرها. فأن من شأن هذا المجمع وملحقاته ان لا يوفر الخدمات المطلوبة لهم ولأسرهم فحسب، بل ويساعد على خلق علاقات صداقة وزمالة، وبالتالي يخفف من الوحدة، ويعجل بعملية تكيف الأسرة، والفرد، في الظروف الجديدة.
ثالثاُ- السماح لصاحب الكفاءة القادم بإدخال سيارته بدون جمرك، ومنح من يرغب سلفة لشراء سيارة، بإعتبارها وسيلة مهمة لا غنى عنها.
أخيراً، نحن نعد عملية عودة أصحاب الكفاءات العلمية للعمل في العراق مهمة وطنية كبيرة، ذات مردود مادي وعائد معنوي كبيرين.ومن هنا هي تستلزم من المعنيين، ومن كل حريص على إنجاحها، المشاركة الواسعة في مناقشة أفضل السبل لتحقيق هذه المهمة الآنية والملحة، الى جانب الترويج لها بنجاح !
------------
* طبيب وأكاديمي عراقي، مقيم في السويد