أعظم عقبة تواجه العقل وأحفلها بالتحدي التخلص من فكر الآباء. الذي نهانا الله عن اتباعه و(التحرر) منه هو التحرر مما نسجه الآباء بكل حرص وحب.
ونحن طال علينا الأمد وبقينا في رحم الآباء بدون القدرة على الولادة إلى العالم الجديد. ومعروف في الطب أن الجنين الذي يبقى في الرحم أكثر من أجله يقضي على الأم والجنين معاً.
وهناك من يظن أن (الآباء) هم آباء قريش. وأن (فرعون) هو بيبي الثاني الذي عاش في الألف الثانية قبل الميلاد. ولكن لكل ثقافة آباء. وهذا يعني أن لنا آباء يجب التخلص منهم بحرص واحترام. وكما كان لكل قرية مقبرة كذلك الحال مع الأفكار الميتة فيجب أن تدفن كما تدفن الجثث بكل أجلال.
وموقفنا من الآباء يتحدد بآية أننا نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيآتهم. فهذا هو الانفكاك السليم من مشيمتهم بدون نزف قاتل. ويجب أن نعذر الآباء فهم ابناء عصرهم ونتاج بيئتهم ويمكن رؤيتهم على صورة بشرية وليس إلهية.
ولكن (من هم آباؤنا؟) والجواب على هذا صعب وحساس ومزعج ولكن لا مفر من الإجابة عليه؟ ويمكن القول باختصار إنه ذلك المخزون الثقافي من تراثنا الفكري الذي لم يعد يؤدي دورا ويؤذي مثل الجثث التي تؤذي رائحتها ويجب أن تدفن وبسرعة على السنة.
وتراثنا الفكري يعادل وضعنا. والاستمرار في إنتاج هذه الأفكار يعني أن أوضاعنا المزرية سوف يعاد إنتاجها وتستمر في الوجود.
ونظرا لأن أوضاعنا مريضة فأفكارنا مريضة مثل مريض التيفوئيد حامل جراثيم السالمونيلا. وهذا يعني أنه لا بد من تشريح الذات وهي من أقسى المراجعات لأننا أمام مريض يهذي من الحمى ويرفض الاعتراف أنه مريض؟ فليس هناك أبغض على النفس من الانتقاد ولا تسكر النفس بخمر كالثناء. ونحن نثني على أنفسنا وزعماءنا في كل محفل ونزعق بالدم بالروح نفديك يا أبو الجماجم؟
وشخصية مثل ابن تيمية أصبحت متعالية فوق الخطأ ودون النقد ولم ينمو بعد اتجاه النقدالذاتي.
ولعل كتابي (في النقد الذاتي) الذي صدر عام 1982م كان الأول في هذا الاتجاه وكان أكثر من مزعج وقليل من تابع هذا الاتجاه. ويفترض الكل إلا ما ندر أن مشكلتنا هي أمريكا وإسرائيل. ولكن لو خسف الله الأرض بإسرائيل ما انحلت مشاكلنا. ولم يأت النسر الأمريكي إلى أرض نينوى واوروك لولا أنه رأى جيفة؟
وفلسفة ظلم النفس هي فلسفة قرآنية ولكن فكر السلف يتهم الكافرين والمارقين أنهم خلف انحطاطنا. مثل من يتهم الجراثيم انها خلف المرض وينسى انهيار الجهاز المناعي. ونحن بهذا نعطي عقولنا إجازة مفتوحة.
وانهيار جهاز المناعة الداخلي أدى إلى انفجار أكثر من مرض ومنها تورط الفكر السلفي بالعنف ولكننا لم نتصور أنه سيرتطم بإبراج نيويورك؟
ولعل أهم تطبيقات الفكر السلفي هي الفهم الخطير لموضوع الجهاد والقتال فخلطوا عملاً صالحاً وسيئاً. وضاع معنى الجهاد والقتال في سبيل الله معاً. واعتبروا أن سنام الجهاد هو الإطاحة بالأنظمة (الجاهلية) بالقوة المسلحة فأعادوا إحياء مذهب الخوارج.
وحتى أفضل المستويات في الفكر الإسلامي التقليدي ترى ان الانقلابات العسكرية لا بأس بها إن لم تكن دموية كمن يريد عبور المحيط بدون أن يصاب بالبلل. ولا يتصورون أن الجهاد بمعنى القتال هو وظيفة دولة راشدية وليس أي دولة كما أنه ليس مهمة تنظيم مسلح. وأن الجهاد هو دعوة لإقامة حلف عالمي لرفع الظلم عن الإنسان أينما كان ومهما دان.
ونقل السلطة السلمي عجزنا عنه ولم نقرأه إلا بعد ألف سنة مترجماً إلى اللغة الإنكليزية حينما بدأنا نقرأ حقوق الإنسان من منظمة الأمم المتحدة.
وحيث الفكر السلفي كف العقل عن الحركة ونشط العنف. ولا تجتمع الديموقراطية مع العنف إلا إذا اتحد الماء مع النار. والعالم الجديد غريب علينا مثل الجن الأزرق. لأنه عالم لم نشارك في صناعته.
ومقتل الفكر السلفي أنه يحدد فهم القرآن في عصر ورجال وتفاسير بعينها. والتفسير الفعلي ليس العصر والرجال بل آيات الآفاق والأنفس. وهو مرجع القرآن. والقرآن طلب بذاته السير خارج القرآن فقال: سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق؟
وأي صخرة أدل على نفسها من كل كلام كتب حولها من أي مصدر لأنها كلمة الله الأخيرة والنص الأصلي. وكل كلام يختلف حوله الناس بضع وسبعون شعبة. وهي مشكلة النسخ الإسلامية فالمسلم البوسني غير الأفغاني والماليزي غير العربي.
ومن أعظم مقاتل الفكر السلفي انفكاك النص عن الواقع. ولا يمكن لأي كلام أن يرسخ وينمو بدون جدلية تفاعل النص مع الواقع.
وللدخول على أي حقل معرفي لا بد من الأدوات المعرفية. ولفهم النص القرآني لا بد من استخدام العلوم الإنسانية المساعدة. فلا يمكن فهم القرآن بتفسير ابن كثير كما لا يمكن فتح جمجمة اليوم بأدوات فرعونية. وهذا ليس انتقاصاً من جراحي الفراعنة أو ابن كثير لأنهم أولاد عصرهم ونتاج بيئتهم. ولذا يجب تسليط جراحة فكرية جديدة مثل أشعة ليزر لمعالجة النصوص كما يعالج قصر البصر اليوم فيستغنون عن النظارات. واليوم ولدت تقنية جديدة في ترجمة النصوص عن طريق الكمبيوتر مباشرة بدون قواعد النحو والصرف والبنتاغون بمشروع (تايدس Tides) صرف 22 مليون دولار من اجل التركيز على فك أسرار اللغة العربية بـ 150 مليون كلمة عربية ونقل القرآن إلى كل اللغات فسخرهم الله إلى نشر كلمته من حيث لا يدرون.
ونحن حتى اليوم لم نفهم أن مشكلة التوحيد ليست تيولوجية بل سياسية. أن لا يتخذ الناس بعضهم بعضا أربابا من دون الله. وهي ورطة العالم الإسلامي حاليا فقد عادت الأوثان إلى بلاد العربان. ولكن بين المسلمين وهذا الفهم سنة ضوئية.
وهذا المرض هو الذي أضاع الخلافة الراشدية قديما ونجح الانقلابيون الأمويون في تحويل الرشد إلى غي والخلافة إلى ملك بيزنطي. وهي نصف المشكلة فالأمراض تحدث مع الجميع ولكن استمرار المرض يعني السرطان أو الموت. وهو الذي قاد الحضارة الإسلامية إلى الموت tالعالم العربي اليوم مثل الجثة المتفسخة تمشي باتجاه التحلل يتناوب على افتراسها 500 صنف من الدود والذبان من كل صنف زوجان.
وموت أمة لايعني موت الإسلام. والإسلام هو مجموعة قيم قابلة للتحقق. وأي أمة التزمت بقدر من هذه القيم حققت الإسلام بهذا القدر. وكندا اليوم أقرب إلى الإسلام من صوماليا وجزر القمر.
وماهر عرار اليوم أنقذه الكنديون من غيابات الجب من يد أهله الذين ساموه الخسف والهوان. وفي البلاد الثورية يلقى القبض على من يفتح الانترنيت ليقرأ مقالة للمعارضة.
وباختصار الفكر السلفي يرى أن الرجوع إلى الخلف يعني المشي إلى الأمام. والفكر السلفي يرى أن فهم القرآن يزداد وضوحا كلما غصنا أكثر في مغارة الماضي. وهكذا فتفسير الطبري أفضل من القاسمي والقرطبي أفضل من رشيد رضا. والفكر السلفي يرى ان فهم السلف هو مفتاح الدخول لأسرار القرآن مثل من يريد إجراء عملية فتق بأدوات الزهراوي. مع أن السلف هم الذين أضاعوا الخلافة الراشدة بحرب أهلية طاحنة. وتحول التاريخ الإسلامي إلى مسلسل محموم من قنص السلطة الدموي ومحاولة شرعنته بالسيف كما جاء في قصة ابي ليث الصفار الذي زحف بالحرافيش والزعر والأوغاد إلى بغداد للاستيلاء على كرسي الخلافة فحذره البعض من بيعة الخليفة فسحب سيفا ملفوفا بخرقة ثم لوح به أمام العيارين وقال هذا ما أجلس الخليفة في بغداد على طست الملك فعهدي وعهده واحد.
يروى ان راعيا عثر على قلم حبر فاخر فقلبه فلم يهتدي إلى وظيفته ولما تلوثت أصابعه بالحبر هداه تفكيره إلى استخدامه بأن كسر القلم ورش الحبر على رأس أكبر كبش.
وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون.