افتتاحية العدد (23) من جريدة الرأي *
الرأي:02-11-2003 08:34
لا تستطيع سورية أن لا ترد على الاعتداء الإسرائيلي الذي استهدف معسكرا مهجورا في عين الصاحب. إذ لا يحق لدولة سيدة أن تسكت على اعتداء عسكري على ترابها الوطني دون أن تتدنى مرتبة سيادتها في عين العالم وتتهاوى شرعيتها في نظر مواطنيها. هذا من ألف باء مفهوم الدولة السيدة. لكن يبدو أن سورية لا تستطيع الرد على العدوان الإسرائيلي بوسائل عسكرية بسبب الاختلال المطلق في موازين القوى العسكرية بين بلدنا والعدو الإسرائيلي، وبسبب الحقائق الجيوسياسية الجديدة في المنطقة. وبصرف النظر عن أسباب ضعف بلادنا العسكري (وغير العسكري) مقارنةً مع العدو، وبصرف النظر عن دور التركيبة الشمولية الفاسدة للنظام في إضعاف البلاد اقتصاديا ومعنويا وسياسيا وعسكريا، فإنه يبقى صحيحا أن المواجهة العسكرية مع العدو الإسرائيلي ليست في صالحنا، لا كشعب ولا كدولة.
إذاً: لا مناص من الرد على العدوان، لكن ليس من المهم ان يكون الرد عسكريا او غير عسكري بل الاهم ان يكون ردا استراتيجيا، يعزز منعة البلاد ويصون كرامة شعبنا .
ينبغي أولا استعراض رد الفعل الرسمي على العدوان الإسرائيلي.
هناك أربعة تعبيرات متتالية عن رد الفعل هذا: أولها رفع شكوى إلى مجلس الأمن الدولي؛ ثانيها الحديث عن قدرة سورية على تحقيق "توازن مقاوم ورادع" حسب تصريح وزير الخارجية؛ ثالثها ما أعلنه رئيس الأركان غير مرة من أن سورية لا تعدم وسائل الرد وأنها لن تقف مكتوفة الأيدي..إلخ، ورابعها ما ألمح إليه وزير الخارجية في حوار مع صحيفة بريطانية من أن سورية يمكن أن تستهدف المستوطنات الإسرائيلية في الجولان إذا عادت إسرائيل إلى الاعتداء عليها.
1. ليس هناك أي خطأ في أن تتقدم الحكومة السورية بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي أو الأمم المتحدة. فسورية دولة في نظام مؤسسي وقانوني دولي لا يمكنها العمل من خارجه. ليس هناك خطأ إلا حين تكون الشكوى إلى المؤسسات الدولية، حتى لو كانت هذه عادلة ومتوازنة، هي كل استراتيجية السلطة السورية للدفاع عن البلاد. هنا لا يعود شكاية العدو لمؤسسة دولية مجرد خطأ بل يرتفع إلى مرتبة خطيئة.
لا رد سياسياً على مشكلة عسكرية إلا إذا كان هذا الرد عنصرا في استراتيجية متكاملة تمزج بين الدبلوماسية واستخدام القوة، أو على الأقل تعمل على تطوير قدرات الدولة على تحقيق المزج. سنرى في سياق هذا التحليل أن الشكوى السورية ليست كذلك.
والواقع أنه منذ مؤتمر مدريد الذي تلا حرب الخليج الثانية وانهيار الاتحاد السوفييتي بات المنهج الدبلوماسي كل الاستراتيجية العربية، فيما كانت الدبلوماسية مجرد جزء صغير من استراتيجية إسرائيل التي تتسع لمراكمة القوة العسكرية، وشن الحرب (بما فيها الحرب-الوقائية)، وتكثير الأصدقاء عبر دبلوماسية نشطة، وشق معسكر الأعداء، وتطوير جهاز استخباري مشهود له في العالم أجمع، ونشاط إعلامي ودعائي مدهش. سورية حافظت على نوع من خيار عسكري لكن بالوكالة، أي عبر دعم متنوع الأشكال لحزب الله في لبنان، ودعم إعلامي وسياسي لبعض التنظيمات الفلسطينية. وبعد 11 أيلول 2001 بات دعم التنظيمات الفلسطينية المدرجة على قوائم الإرهاب الأميركية أمرا محفوفا بالمخاطر، خصوصا إذا ظل - وفقا للعادة السورية - مفتقرا إلى الاندراج ضمن إطار استراتيجي وطني متكامل يحسب أكلافه، ويضع سيناريوهات تترتب على توظيفه (ويضع هذا التوظيف في إطار غير وظيفي، أي لا يستخدم الفسطينيين كأدوات في أجندة سورية خاصة)، ويقدم اقتراحات حول بدائل ممكنة إذا بات الاستمرار في هذا الدعم مستحيلا. الافتقار لإطار استراتيجي مرن من هذا النوع يجعل حتى عناصر قد تكون مفيدة وضرورية بحد ذاتها، مثل دعم تنظيمات فلسطينية، يجعل منه عبئا على سياسة الدولة. هذا الافتقار يضيف ضعفا سياسيا ودبلوماسيا إلى الضعف العسكري السوري. فهو ضعف مركب لا يرتد إلى موازين القوى وحدها بل يمس تكوين السلطة ونظام الحكم وسوية النخبة الحاكمة ( ويشمل أيضا ضعفا فكريا وعقائديا في ظل جمود الفكر القومي وتحويل حزب البعث إلى حزب سلطة. وهذا وضعٌ لا يغطي عليه الحديث عن "الجيش العقائدي" و"السياسية المبدئية" ...إلخ). ويكون الضعف بسيطا حين يقتصر على موازين القوى وحدها، أي حين تكون عضلاتنا ضعيفة فيما الرأس سليم، وهو ما يعني أن يكون نظام الحكم ديمقراطيا والنخبة الحاكمة تخضع لمحاسبة الرأي العام ومضطرة لتطوير كفاءتها.
ولو كان الأمر كذلك لما كانت حقيقة أن إسرائيل قوية ونحن ضعفاء مشكلة خطيرة إلى هذا الحد،؛ فرأسنا السليم قادر عندئذ على طرح السؤال عن سبب قوتها وسر ضعفنا وقادر على بلورة استراتيجية وطنية حقيقية. إن ضعف سورية في رأسها، أي في نظام الحكم فيها وفي نخبتها الحاكمة غير الكفؤة، أكثر مما هو في قوة أعدائها أو في أية عوامل موضوعية تتعدى إمكانياتها.
ولذلك فإن المشكلة ليست أننا ضعفاء بل في أننا نزداد ضعفا؛ وأوضاعنا العامة، وليس العسكرية وحدها، تزداد ترديا. فلا نحن ننال احترام العالم لأننا لا نرد على القوة بالقوة، ولا ننال عطف العالم لأن أنظمتنا السياسية تمارس أبشع أنواع العنف تجاه شعوبها. في هذا الوضع تصبح الشكوى لمجلس الأمن، كمن يريد من الغير عوناً فيما هو عاجز عن إعانة نفسه.
انتهت الشكوى كما هو معلوم بفيتو أميركي غير مفاجئ، لكن المفاجئ أن دولا أدانت الغارة لم تؤيد الشكوى السورية لأن الدبلوماسية السورية لم تستطع التنبؤ بما هو متوقع: المطلب الأميركي بتضمين قرار مجلس الأمن المقترح إدانة لعملية حيفا، الأمر الذي لا يمكن للأوربيين إلا أن يؤيدوه حتى لو أدانوا الغارة الإسرائيلية. وهكذا باء رد الفعل الأول بفشل لم يحاسب عليه أحد، ولم ينتقد من أجله أحد، وفق التقاليد الراسخة للنخبة الحاكمة بأمرها.
2. ما المقصود بالقول إن سورية ليست عاجزة عن "خلق توازن مقاوم ورادع يُلْزِم إسرائيل إعادة حساباتها" حسب تصريح وزير الخارجية بُعيْد العدوان؟
معظم المراقبين رأوا في هذا التصريح إشارة إلى إشعال جبهة الجنوب اللبناني، وقد يشمل ذلك تسهيل اشتراك تنظيمات فلسطينية في مواجهة إسرائيل إلى جانب حزب الله.
من الواضح بعد المباركة الأميركية للعدوان الإسرائيلي، وبعد سير قانون محاسبة سورية على سكة إقراره من قبل إدارة بوش، أن اي "توازن مقاوم ورادع" يمر بتسخين جبهة جنوب لبنان سيكون وخيم العواقب على لبنان وعلى المقاومة اللبنانية وعلى القوات السورية في لبنان، بل إن من المحتمل جدا أن ينتهي إلى طي نهائي للفصل الحالي من العلاقات السورية اللبنانية.
لكن قبل ذلك إذا ضربت إسرائيل موقعا سوريا بذريعة عملية فلسطينية في حيفا، فلماذا يفترض أنها ستمتنع عن ضرب سورية مجددا بذريعة ضربة لبنانية أو فلسطينية جنوب "الخط الأزرق"؟ إن إشعال جبهة الجنوب، بصرف النظر عن شرعيته، وقد يقود إلى إشعال سورية ولبنان معا؟ وأن الأميركيين، معززين بحماس مستعر من قبل إسرائيل الشارونية وبقليل من التحفظ من جهة الأوربيين وبصمت عاجز من قبل الدول العربية، يتحينون الفرصة لتوسيع دائرة "الحرب ضد الإرهاب" لتشمل سورية ولبنان وتعيد تشكيلهما من جديد بما يناسب مصالح وخطط الأميركيين والإسرائيليين؟ اي ردع وأي توازن والأميركيون في بغداد واندماج المصالح والرؤى الأميركية الإسرائيلية غير مسبوق؟
لا يكفي أن نسمي مطالب الولايات المتحدة من بلدنا إملاءات، أو نصفها بالتناقض، حتى يصبح رفضنا لها سياسة معقولة أو ناجعة. ولا يكفي أن نكون محقين في اعتبار الإرهاب ذريعة لسيطرة أميركية على المنطقة، موارد وموقعا وتفاعلات داخلية، حتى نستطيع الوقوف في وجهه. ولا يكفي القول إن إسرائيل لا تريد السلام لكي نكون نحن جاهزين للحرب أو قادرين على الدفاع عن بلدنا إن فرضت الحرب علينا. فعدالة القضايا شيئ والسياسة الناجحة للدفاع عنها شيئ آخر. ومعلوم على كل حال أن سوء سياسة سورية وأكثرية الدول العربية قد أفضى بنا إلى خسارة معظم أصدقائنا في العالم وإلى تسهيل مهمة أعدائنا في تشويه سمعة بلادنا وشعبنا وثقافتنا. إذ لا يحتاج المرء إلى جهد كبير أو ذكاء حاد كي يشوه سمعة دول تضطهد شعوبها. وليس من الصعب أن نتبين السر في سوء سياسات الدول العربية وسورية من أوّلها: إنها محكومة من قبل نخب غير منتخبة، بقاؤها مضمون في موقعها بصرف النظر عن حجم هزائمها وامتيازاتها مصانة مهما انحدر أداءها. هذه هي النكبة التي تهون نكبة فلسطين بالذات إزاءها، وبخاصة أن الحكام النكبويين استخدموا نكبة فلسطين ركابا لامتطاء ظهور شعوبهم... إلى الأبد.
إن شرط السياسة الناجحة ليس عدالة القضايا بل انتخاب السياسيين من قبل شعوبهم.
3. تحدث رئيس أركان الجيش أكثر من مرة عن أن سوريا ليست عاجزة عن الرد على العدوان الإسرائيلي، وأهاب بالطيارين والضباط السوريين أن يكونوا جاهزين لمواجهة أي عدوان. وفي آخر حديث له أوردته "سانا" في 23/10/2003 قال إن لجوء سورية إلى مجلس الأمن الدولي عقب العدوان الإسرائيلي عليها أوائل الشهر الحالي ليس دليل عجز لأنها قادرة على خلق توازن يردع إسرائيل والرد على أي مغامرة عدوانية. موقع المتكلم كرئيس لأركان الجيش من جهة، ومخاطبته للقوات المسلحة من جهة ثانية، يوحيان أن الرد سيكون سورياً وبوسائل سورية. هذا أحسن بالطبع من الرد عبر لبنان أو أي مكان آخر.
فإن الرد على اعتداء عين الصاحب، عسكريا كان أو دبلوماسيا، ينبغي أن يندرج ضمن استراتيجية وطنية تستهدف ترقية قدرة البلاد على رد التحدي الإسرائيلي، وأن يكون ايضا رداً محسوبا لا نخرج في نهايته وقد صار عدونا أقوى ونحن أضعف. فمن غير الصائب القول إنه يجب الرد على العدو عسكريا مهما تكن النتائج كما تدعو أوساط مخلصة مهتمة بالقضايا الوطنية. إن سياسة لا تأبه بالنتائج، ليست سياسة؛ ولا يحق للسياسي أن يقول لنفعل كذا ولتكن النتائج ما تكون. وخصوصا حين يكون من الوارد جدا أن تكون النتائج كارثة علينا وانتصارا إضافيا لإعدائنا. نقول ذلك من أجل ان نعد للرد عدته التي تتجاوز جاهزية الجيش حتى لو كانت ممتازة (وهي ليست كذلك كما تشهد عيوننا وحواسنا وكما يعرف اعداؤنا: هناك ما لا يحصى من التقارير الأميركية والبريطانية والإسرائيلية عن وضعنا العسكري ووضع البلدان العربية، وهي لا تسر صديقا ولا تغيظ عدوا) إلى جاهزية الدولة والشعب والاقتصاد الوطني، وهي بائسة على الأقل.
رئيس الأركان (والنظام ككل) ليس مطالبا بأن يشن حربا ويربحها، بل ولا حتى أن يرد ردا انفعالياً على عدوان إسرائيلي، لكنه مطالب بالتأكيد بأن يكون الجيش جاهزا للدفاع عن البلد حين تُفرض المعركة ويكون لا مناص من القتال. هنا أيضا ثمة فرق بين ضعف وضعف: قد نكون ضعفاء لكن جيشنا جاهز نفسيا وسياسيا وتعبويا ومهنيا للرد ببسالة على العدوان والتضحية دفاعا عن الوطن؛ وقد نكون ضعفاء لأننا مهزومون من الداخل قبل أن تطلق رصاصة واحدة، لأن سياسة "الجيش العقائدي" حادت به عن مهامه الوطنية وأفقدته القدرة والجاهزية، وليس فقط لأن العدو متفوق تقنيا علينا. هناك ضعيف يقاوم لأنه كريم قوي الروح، وهناك ضعيف ذليل ميت الروح لا يقاوم عدوا ولا يدافع عن حق. والأرجح أن من لا يدافع عن حق هو من لا حق له، و" من تهن عليه حريته في بلده تهن عليه حرية بلده أمام الأجنبي"
4. يمكن لإشارة وزير الخارجية إلى المستوطنات الإسرائيلية في مرتفعات الجولان كهدف محتمل للرد السوري أن تكون خطوة موفقة لمقابلة الخرق الإسرائيلي لـ"قواعد اللعبة" برد شرعي ومناسب معا. وتكرار رئيس مجلس الشعب لكلام وزير الخارجية في اليوم التالي (تناقلت وسائل الإعلام كلام وزير الخارجية يوم 25/10 وكرره رئيس مجلس الشعب يوم 26/10) يشير إلى أنه موقف رسمي معتمد. بالحرف قال رئيس مجلس الشعب: "سوريا ستقصف المستعمرات في الجولان إذا تكرر العدوان عليها"، وأحال إلى كلام الشرع بقوله إنه يعبر عن "موقف سوريا الأصلي".
الشرعية الدولية تقر بأن الجولان أرض سورية محتلة وبأن الاستيطان غير شرعي فيها، الأمر الذي يعطي لدفاع سورية عن نفسها بضرب المحتلين شرعية دولية وأخلاقية لا جدال فيها. من المرجح، من ناحية أخرى، أن هناك الكثير جدا من الشباب السوري المتحمس للتضحية وافتداء أرض الوطن المحتلة بعزيمة لا تقل عن عزيمة المقاومين اللبنانيين والفلسطينيين. أي أن الشرعية الدولية تبيح، والحق الوطني يعزز ردا سوريا يستهدف المستعمرات الصهيوينة في الجولان المحتل. لكن السؤال هنا أيضا: هل أعددنا لهذا الأمر عدته؟ وهل السلطة جادة في مواجهة القوة بالقوة والحرب بالحرب؟ لا نرى أي مظهر من مظاهر الاستعداد لمواجهة خطر محدق: الأجهزة الأمنية تقدم للقضاء العسكري مواطنين مهتمين بالشأن العام بطريقة سلمية؛ "الأقارب" والمحاسيب "مستمرون ومستقرون" في نهب الدولة؛ مظاهر التحلل في مجال الإدارة وأجهزة الدولة الاخرى مستمرة؛ وفجوة الثقة بين عامة المواطنين وحكام البلاد أوسع مما كانت في أي وقت سابق.
نحن نعتقد أن من واجب السلطة بالفعل أن تنظر بعين الجد إلى احتمال الرد العسكري على العدو في الجولان لا أن يكون التلميح إلى ذلك مجرد بالون اختبار. لكننا لا نستطيع أن نمتنع عن رصد التعارض بين الرد على العدو وبين استمرار استعباد الشعب السوري ونهبه. فمن يريد أن يدافع عن كرامة بلاده لا يهين كرامة شعبه، ومن يدرك ان الخطر الحقيقي على الوطن في الجولان وفلسطين لا يسخر القضاء العسكري لترهيب نخبة من الشباب السوري وطنيةً وأخلاقاً وثقافةً. وخلاصة الأمر أن نظام ممارسة السلطة في البلاد أمسى عائقا أمام الدفاع عن الوطن، فوق كونه عائقا أمام حرية المواطنين وأمام إصلاح الاقتصاد وأمام فرص السوريين في الحياة الإنسانية السوية.
**************
سورية لا تستطيع ألاّ ترد على الاعتداء الإسرائيلي وتستأنف حياتها الطبيعية كأن شيئا لم يكن، وإلا فإنها ستصبح "ملطشة" لإسرائيل واميركا وكل من قد يستخدمه هذان الحليفان. بل إن الدولة التي تفشل في الرد على اعتداء يمس صميم سيادتها مهددة بالفعل بالانهيار، خصوصا إن (آ) تكرر العدوان، وهذا وارد؛ وإن (ب) كان بنيانها الداخلي واهنا، وهذا واقع الحال. لكننا أظهرنا عدم كفاية أربعة أنواع من الردود أو استحالتها أو عدم جدية النظام فيها.
ما العمل إذاً؟
طرح هذا السؤال د. محمد السيد سعيد نائب مدير مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في "الأهرام"، وأجاب عليه في مقالة عنوانها "سوريــا بعـد العـراق: مـا العمــل؟"
يقترح الكاتب المصري على سوريا "إحداث تغيير جذري لبيئة الصراع تجعل التصعيد العسكري أمرا صعبا أو مستحيلاً. وأفضل إجراء لتحقيق هذا السيناريو لا علاقه له بالصراع نفسه وإن كان يغير معطياته جذريا: أعني بدء عملية قوية للغاية للتحول الديمقراطي في الداخل". ويقترح الدكتور السيد سعيد المسار التالي لهذه العملية: "يقوم الرئيس الأسد بإصدار عفو عام عن جميع المعتقلين والمنفيين، ويباشر الدعوة لعقد جميعة تأسيسية لوضع دستور ديمقراطي جديد لسوريا، ويعرضه لاستفتاء عام تتلوه انتخابات تعددية حرة ونزيهة لبرلمان جديد يتمتع بسلطات حقيقية، ويدعو المجتمع الدولي ممثلا في الأمم المتحدة للقيام بدور في هذه العملية، ويفتح البلاد أمام المجتمع المدني العالمي من خلال استقبال عشرات من المؤتمرات والندوات حول القضايا التي تهم سوريا والعالم العربي والمجتمع الدولي، ويقبل برقابة دولية على الانتخابات العامة التي يخطط لها بل ويطلب من الأمم المتحدة عمدا إمداد سوريا بالخبرات اللازمة لوضع دستور جديد وهكذا والمهم هو أن يبدأ في سوريا ربيع مدني وسياسي له صدى عالمي".
هذه اقتراح ثوري جدا!
ثم يمضي الكاتب المصري متسائلاً: "ما علاقة ذلك كله بالصراع والتهديدات العسكرية ضد سوريا من جانب اسرائيل والولايات المتحدة من ورائها؟" وجوابه: "التحول الديمقراطي يغير جذريا إلى الأفضل صورة سوريا لدي المجتمع العالمي الرسمي وغير الرسمي، فيصبح من الأصعب كثيرا -بالنسبة للداخل الأميركي وللمجتمع العالمي- قبول ضرب سوريا التي تتحول ديمقراطيا بالمقارنة بضرب سوريا كما هي معروفة بصورتها التقليدية، والتي لم تتغير كثيرا للأسف بعد تولي الرئيس بشار الأسد؛ وجر الأمم المتحدة إلى سوريا يعزز هذا التحول في الصورة ويجبر المنظمة الدولية والمجتمع الدولي على إنشاء حضور مباشر في سوريا يمثل في حد ذاته أعظم ضمان ضد ضربها".
غير أن المهم في رأي د. السيد سعيد هو "أن التحول الديمقراطي في سوريا يدخل الشعب السوري طرفا مباشرا وهو ما يمثل تغييرا جذريا في بيئة الصراع. فهو يسحب من إسرائيل وأميركا ورقة "الصورة الاستبدادية المنغلقة" التقليدية لسوريا. ولكن الأهم هو أنه يفتح الباب أمام تنظيم الشعب السوري لمقاومة أي عدوان على سوريا وفي عمق القضية نجد أن هذا الدخول للشعب هو أكثر ما يخيف اسرائيل وأميركا. فبينما تستطيع الامبريالية الأميركية وإسرائيل كسب معارك تقليدية فخسارتهما مؤكدة في الحروب الشعبية أو عندما يكون الشعب في صدارة الساحة السياسية".
لا نتبنى هذا التحليل لأننا نعوّل عليها، ولكن لنطرح أمام الرأي العام في البلاد تصورا مفيدا للخروج من دوامة خطيرة ليس ثمة ما يشير إلى أن النخبة الحاكمة تمتلك الأهلية على قيادة البلاد لتجاوزها بسلام.
على أن الديمقراطية ليست ضرورية لأنها تتيح لسورية تخطي الوضع الخطر الذي تولد عن اعتداء عين الصاحب (أو حتى الاحتلال الأميركي للعراق)، ولا لأنها تحسن سمعة بلادنا في العالم، ولا حتى لأن دخول الشعب ميدان مقاومة العدوان يخيف أمريكا وإسرائيل كما رأى د. السيد سعيد؛ الديمقراطية ضرورية لأنها كما ذكرنا شرط تطوير سياسات صحيحة تعود بالنفع العام على البلاد وأهلها، ولأنها كذلك شرط تأهيل نخبة سياسية كفؤة، ولأنها المناخ الذي لا بديل عنه من أجل التنمية السياسية التي باتت المدخل الأنسب لكل تنمية. إن قفزة نحو الديمقراطية ضرورة حيوية لا لأنها تثمر تغييرا إنقاذيا في البيئة الإقليمية فقط، وتحسن موقعنا النسبي حيال العدو الإسرائيلي فقط، وإنما لأنها الأفق الوحيد لوقف مسار من التحلل والانهيار العام أشد فتكا من العدوان الإسرائيلي ذاته.
ليس مشهدا نادرا في التاريخ أن تفضي أنانية طبقة أو نخبة حاكمة إلى انهيار البلد الذي تحكمه وسقوطه بين ايدي أعدائه بصرف النظر عن وعيها. وباختصار لا تستطيع سورية الرد على تحديات بيئة إقليمية متغيرة دون أن تغير نظامها السياسي. هذه هي المهمة الإنقاذية المطروحة على الشعب السورية وقواه الحية، الآن وليس غداً.
* نشرة سياسية يصدرها الحزب الشيوعي السوري /المكتب السياسي/