قيمة الرموز الوطنية في حياة الشعوب
نشر الدكتور فاتح عبد السلام قبل ايام مقالة في جريدة الزمان مقالة سماها " لا حنجرة تنشد ولا اذن تطرب " انتقد فيها مشروع تغيير النشيد الوطني العراقي بوصفه من بقايا النظام السابق فضلا عن تغيير العلم العراقي .. وقال بأن النشيد الذي كتبه الشاعر شفيق الكمالي لم يتضمن مطلعه على اي ذكر لصدام او لحزب البعث وان الكمالي قد قتله صدام .. فليس من المعقول ان نعدم كل شيى بني في عهد صدام . وقد آخذ الكاتب ايضا على مجلس الحكم انشغاله بمثل هكذا مسألة اذ يقول : " لا أريد ان اتحدث عن اولويات ينبغي ان يهتم بها الحكام الجدد تبدو عملية تغيير النشيد الوطني امراً مضحكاً في صغره أمامها " . ويستطرد بعد لأي : " قرار ايجاد نشيد وطني هو قرار للعراقيين كلهم وليس للجنة لا نعرف كفاءة اعضائها أو نزاهتهم السياسية أو من يقف وراءهم ويغذيهم بالتعليمات. ليكن لنا بلد مستقر ثم نعلن الأمر علي الناس ليطلعوا علي حاجاتهم الحقيقية الى الكلمات الواجب تضمينها النشيد الجديد ". انني اختلف مع فكرته الاولى ولكنني اتفق مع فكرته الثانية ويمكنني ان اضيف شيئا آخر نسي الاخ فاتح ذكره هو اننا اصبحنا نحن العراقيين نغّير علمنا ونشيدنا الوطني وشعارنا الدستوري كما نغّير لو كنا نغيّر البستنا الداخلية كل يوم ولم يسبقنا احد في التاريخ بمثل هذه المهمة الخطيرة ، فرموز الامم العريقة سواء اعلامها واناشيدها وشعاراتها ثابتة وراسخة لا يمكن ان تتغير على امتداد عشرات بل ومئات السنين .. فهي رموز وطنية وثابتة لا تتغير حتى وان تغيرت الانظمة السياسية أو حتى لو استحدثت دول جديدة .. بعض من العرب وحدهم ومعهم بعض شعوب هامشية في الحياة سرعان ما ركضوا فغيروا رموزهم الوطنية في كل مرحلة من القرن العشرين . انظروا الى اعلام امم اخرى جارة لنا او بعيدة عنّا ! ولكن العراق يواجه اليوم مسألة تغيير تاريخي جديد ، فالمطلوب منه ان لا يخترع لنا اي بدائل ولكنني اقترح عليه ان يستعيد رموزنا الشرعية.
الثوريون القومويون العرب والعبث بالرموز الوطنية
لقد غير العراقيون والسوريون والمصريون والليبيون واليمنيون على وجه التحديد رموزهم عدة مرات واول من بدأ عملية تغيير الرموز الوطنية هو الرئيس الراحل جمال عبد الناصر عندما بدّل العلم المصري الاخضر القديم والنشيد الوطني والشعار المصري .. ولما توحدت سوريا مع مصر وولد اسم الجمهورية العربية المتحدة الغت هي الاخرى رموزها القديمة واستنسخت رموز مصر الناصرية .. ولما حدثت ثورة 14 تموز / يوليو 1958 انشغل الزعيم عبد الكريم قاسم بتغيير رموز العراق الوطنية وقضى وقتا طويلا يناقش ذلك مع وزرائه ومستشاريه رموز العراق الجديدة .. وخرج العراق بعلم وشعار ولكنهما جميلين احببناهما في طفولتنا ! ومضى زمن قصير رحل فيه الزعيم قاسم ليجتمع القادة الثلاثة للبلدان الثلاثة وبعد ما اسمي بالوحدة الثلاثية بين مصر وسوريا والعراق خف المشير عبد السلام عارف ليغير رموز العراق كرة اخرى فاستنسخ رموز مصر الناصرية : علما ونشيدا وشعارا ، وكذلك فعلت سوريا وركضت هي الاخرى فغّيرت رموزها .. اما ليبيا ، فلقد غّيرت ما شاءت ان تغّير وخصوصا اسمها الذي انفردت به ( الجماهيرية ) ! ولا ادري حتى يومنا هذا : هل سئلت الشعوب العربية وخصوصا في مصر وسوريا والعراق عن نشيد ( والله زمان يا سلاحي ) الذي عزفته الفرق العسكرية الهزيلة بعيدا عن مشاعر الجماهير ؟؟ وهل كان المواطنون يحفظون ذلك النشيد ( القومي ) ؟؟ ومن هزل هذه الدول انه لما جاء الرئيس انور السادات الى سدة الحكم في مصر كان أول ما فعله هو تغّيير اسم دولته فاصبحت ( جمهورية مصر العربية ) وغير نشيده الوطني واستعاد لحن شعبي وجماهيري خالد للموسيقار سيد درويش ( بلادي بلادي بلادي ) وغير علم بلاده ليبقى علم عبد الناصر يرفرف فوق العراق بثلاث نجمات وفي سوريا بنجمتين رموزا لوحدة عربية لا وجود لها مع حرب عربية باردة تتناحر فيها الاذاعات .. وبقي النشيد المصري يعزف في العراق من دون تغيير ولا تبديل على امتداد عهدي الرئيسين الفريق عبد الرحمن عارف والمهيب احمد حسن البكر ! ولما جاء القائد الضرورة صدام حسين الى السلطة لم يعجبه النشيد الوطني المصري فكلف الشاعر البعثي شفيق الكمالي بتأليف نشيد على غرار قصائده التي اوصل صدام فيها الى مصاف الالهة ولم يجد صدام في هذا العراق الطويل العريض موسيقار متمكن بفنه ابدا ! اذ كلف الفنان اللبناني وليد غلميه – مع احترامنا له - بتلحين نشيد العراق الوطني .. وهذا ما جرى ومضت سنوات حتى خط بيده كلمتي ( الله اكبر ) على علم العراق فغيره للمرة الثالثة ، ولم يكتف صدام بذلك ، بل غير اسم الدولة من ( الجمهورية العراقية ) الى ( جمهورية العراق ) في اول بيان اصدره بعد اندلاع عاصفة الصحراء التي سماها بـ " ام المعارك " ! وكلنا نذكر في العراق ان علمان كانا يرفرفان جنبا الى جنب .. علم جمهورية العراق وعلم حزب البعث العربي الاشتراكي ، وكنا نقول بأن العراقيين لابد ان يجتمعوا على علم واحد وولاء وطني واحد بعيدا عن علم الحزب الذي كان قد استل هو الاخر من علم الثورة العربية لعام 1916 !
وعليه ، فانني أسأل : هل هناك امة على وجه الارض تتلاعب برموزها الوطنية كما تلاعب بذلك العرب وخصوصا من قبل الضباط الاحرار الذين نجحوا بانقلاباتهم العسكرية التي اسموها بالثورات وخرقوا دساتيرهم وداسوا على كل رموزهم التي تربوا في ظلها وكانوا يستعدون امامها استعدادا شديدا ويحيونها صباح مساء ثم خانوها خيانات عظمى وكأن الرموز هي ملك انظمة سياسية .. ؟؟ ولم يسألهم احد عندما اغتالوا تلك الرموز ابدا وكأنهم الهة يحيون ويميتون .. ثم أسال : هل اخذوا رأي شعوبهم بما فعلوه ؟ هل صّوت كل الشعب والوطن على رموزه التي تحمل شرفه التاريخي ؟ فاذا ما جاء الحكام الجدد للعراق ليغيروا الرموز العراقية فانها والحق يقال لم تعد رموزا تاريخية حقيقية ابدا لأنها لم تستمد من روح الشعب العراقي بل بقيت على مدى اربعين سنة مستعارة من هنا وهناك ، وباستثناء كلمات الشاعر المغدور ابن البو كمال شفيق الكمالي فان اللحن لبناني ، وان العلم العراقي هو علم مصري وان الشعار الذي يمثله نسر مصري اصفر فهل من استعادة لشعار الشمس العراقية المتوهجة على كل العالم ؟
العراق : هل من استعادة حقيقية لرموزه الشرعية ؟
كنت قد نشرت قبل اشهر مقالة اناشد فيها المسؤولين العراقيين الجدد والقادمين ان يعالجوا على مهل موضوع الرموز الوطنية العراقية شريطة ان تقر في الدستور ويؤخذ فيها رأي الشعب العراقي لا ان تكون وفق امزجة شخصية واهواء سياسية ، فهي مسائل تخص الشرعية الوطنية والدستورية للبلاد ! واليوم اعيد مناشدتي من جديد واتساءل : هل من امكانية لاستعادتها من جديد ، فلقد غدا نشيد ( موطني موطني ) العريق مثلا يعزف منذ يوم التاسع من اكتوبر 2003 من قبل المواطنين العراقيين الذين انا واثق بأنهم يرفضون نشيدهم السابق ليس لأن كاتبه الشاعر البعثي المغدور شفيق الكمالي او لأنه لا يضم مديحا لصدام والبعث .. بل لأن النشيد القديم ( موطني موطني ) كان ولما يزل رمزا وطنيا عتيدا وشرعيا ترّبت على اسماعه اجيال وراء اجيال ! ولقد اقترحت ايضا ان تستعاد شرعية كل من علم العراق وشعار العراق القديمين .. والاستعادة هنا غير التبديل اذ لابد ان نفهم بأن العالم سيحترمنا كثيرا اذا ما استعدنا رموزنا الوطنية والدستورية القديمة ويدرك بأن العراقيين قد مروا باربعين سنة كانت فجوة زمنية قاحلة وغير شرعية ابدا في حياتهم التاريخية وانهم يستعيدون اليوم بكل مرونة وشفافية رموزهم التاريخية المجيدة سواء كانت ملكية ام جمهورية بعيدا عن الامزجة والاهواء السياسية التي يتجاذبها هذا وذاك .. وليكن الاختلاف الان بين العراقيين على ايهما يقع الاختيار : الرموز الملكية الهاشمية القديمة ام الرموز الجمهورية لـ ثورة 14 تموز / يوليو 1958 ، فالكل يعلم بأن للعراق المعاصر تأسيسين تاريخيين شرعيين : عهد ملكي قبل اكثر من ثمانين سنة بدستور دائم وعهد جمهوري قبل اكثر من اربعين عاما بدستور مؤقت . ومعنى استعادة الرموز الشرعية استعادة شرعية التاريخ بعد ان اقتنصه البعيدون عن روح الوطنية العراقية وقتلوا رموزه الوطنية ومعها الاف مؤلفة من العراقيين . هكذا ، يمكننا القول بأن الشرعية العراقية هي مع الرموز الهاشمية الاولى او مع رموز ثورة الرابع عشر من تموز 1958 بعيدا عن كل ( الرموز ) الطارئة على حياتنا الوطنية من ناصرية او عفلقية .. الخ
ماذا يمكن للعراقيين ان يفعلونه اليوم ؟
اذا كان مجلس الحكم الانتقالي قد عّين لجنة غير معروفة الاعضاء لتبديل رموز العراق وامهلها ثلاثة اسابيع لمثل هذه المهمة الخطيرة وخصوصا : العلم والنشيد والشعار وهي رموز قيمية وخالدة في حياة الشعوب والدول المحترمة .. فالواجب الذي لابد ان يدركه الجميع بما فيهم السادة اعضاء مجلس الحكم الانتقالي بأن المهمة وطنية ومقدسة واعتبارية وتخص كل العراقيين ولم تخصهم لوحدهم فقط .. لقد سمعت قبل ايام على احدى الفضائيات الاخ الدكتور موفق الربيعي عضو مجلس الحكم في تصريحه لوكالة فرانس برس بتأريخ 26 / 10 / 2003 ، حول تأليف لجنة لدراسة مقترحات تغيير النشيد الوطني وشعار العراق والعلم كما بدا وهو يقرر على هواه ما يمكن ابقاؤه او حذفه وتغييره في علم العراق الحالي كون كلمتي ( الله اكبر ) قد كتبهما صدام حسين بيده .. وانني اجيبه بأن ليس من حقه ابدا ان يتّصرف هكذا بكل سهولة باعلى رمز في البلاد يرفرف في سمائها ويفتديه كل العراقيين بدمائهم .. وهذا ايضا ينسحب على النشيد الوطني ( او ما يسمى بالسلام الملكي او الجمهوري ) وشعار البلاد . انني اقترح على كل العراقيين ان يشتركوا في ابداء وجهات نظرهم ، ولكن يكفي ان اغلب عواطف العراقيين مع نشيدهم العريق ( موطني موطني ) .. وان علم البلاد وشعارها عليهما اختلاف في استعادة ايا من رموز العهدين الشرعيين السابقين : الملكي والجمهوري برغم ان شعار الجمهورية العراقية هو من اجمل الرسوم الذي يضم جملة من المعاني العراقية الخالدة وقد ساهم في وضعهما اشهر الفنانين العراقيين . اما مسألة وضع كلمتي ( الله اكبر ) فاقول بأن اعلام الدول العربية والاسلامية لم تضع مثل هذا الشعار الديني عليها ، واعتقد بأن سمو الكلمتين اكبر من ان توضعا على علم ورمز ارضي وليس سماويا .. فالرايات في تاريخنا العربي والاسلامي لم تعرف وضع مثل هاتين الكلمتين منذ ان رفع الرسول الاعظم ( ص) علمه خفاقا انتقالا الى كل دول الخلافة الاسلامية .. وصحيح ان العلم يرفع ليخفق راية عاليا ، ولكنه معّرض للتنكيس والاحتجاب في مناسبات فليس من المفترض ان يكتب اسم ( الله اكبر ) فوق الاعلام لأنه موجود في القلوب والضمائر دوما فهو معنى كبير جدا يجمع الارض بالسماء وليس رمز وطني لشعب معين او ارض معينة . فهل سنكون اكثر ذكاء وروية في استعادة شرعية رموزنا العراقية يا اعضاء مجلس الحكم ( الانتقالي )؟؟