|
الفن ليس محظورا منذ الآن!
نذير الماجد
الحوار المتمدن-العدد: 2083 - 2007 / 10 / 29 - 11:55
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
كيف سيبدو العالم لو أن ثمة قرار بحظر الموسيقى و كل أشكال الفن قد دخل حيز التنفيذ؟ لنفترض أن نظرة الخطاب الإسلاموي للفن و الموسيقى و الجمال قد سادت العالم و بدأ الفن يخضع لقيوده الصارمة و سلطته المتزمتة، كيف ستبدو الحياة حينها؟ لا يمكن تخيل ذلك و افتراضه حتى. فالفن منذ نشأته يمثل حاجة إنسانية ملحة تروي فيه ظمأ الانعتاق و التحرر من القيود و الأثقال و تنمي فيه امتيازات و "مقومات التأنسن" على حد تعبير أحد الباحثين، يعرف ذلك كل من تلوى و تأثر عند سماعه قطعة موسيقية أو عند تفاعله مع لوحة تشكيلية، فتتماهى ذاته مع ذات الفنان و تتحرك مشاعره و تتنشط الأحاسيس. و رغم تلك العلاقة الملتبسة بين الفن و الدين، بين الجمال و الجلال ، التي يسعى دوما الخطاب الاسلاموي إلى تكريسها و تثبيتها كصيغة نهائية و ناجزة حتى بدت أزلية غير قابلة للنقض و التغيير فإن أحدهما على أقل تقدير لا يمكن أن يشكل نقيضا للآخر، فالفن بوصفه شكلا من أشكال التعبير الجمالي و الانفعالي و الذي يمتاز به الإنسان دون سواه و تنتجه قدرته على الإبداع و الخيال الخصب لا يمكن إقحامه في التباسات و مقارابات تحد من انطلاقته و حريته بذرائع تتمترس بالدين الذي هو بطبعه موائما للفن و متصالحا معه ،يدل على ذلك تاريخ نشأة الفن الذي نشأ مستقلا عن الدين إذ لكل منهما أقنوم متمايز عن الآخر، فالخطاب الفني خيالي جمالي بخلاف الديني الذي هو واقعي تقريري مآله التفسير و التغيير.مع ذلك فإنهما متوائمان سياميا لا يمكن قمع أحدهما بالأخر و تقييد أولهما لصالح الثاني أو العكس، نلمس ذلك في تاريخ الموسيقى مثلا حيث نشأت و تطورت في مناخات ذات سمة دينية. لكن نتيجة لأسباب طارئة تاريخيا، بدت العلاقة تتخذ منحى التصادم و الخصام، و بمرور الزمن ترسخت في بنية الخطابات الدينية، مشكلة بذلك اغترابا للوعي الديني و الفني معا، حيث كانت هذه العدائية تكتسح كل الحيزات و المديات التي من خلالها يصبح الفن فنا و الدين دينا، من هنا يصبح التعبير الفني بطبعه معاد للتعبير الديني و التعبير الديني لا يمكن أن يتعايش مع التعبير الفني و هكذا. إذاً كان التصور السائد يوحي بأن هذا الصراع الذي اتخذ أشكالا متباينة و مستويات مختلفة من التدنيس إلى الاحتواء و السيطرة له أسبابه المتأصلة في طبيعة كل منهما. فيما يؤكد العديد من الباحثين أن أحد الأسباب التي أدت لهذا الالتباس هو ما حصل من علمنة شملت الفن كما شملت العلم و الفلسفة الأمر الذي ساهم في حدوث هذا الانشقاق و القطيعة مع الفن و الارتياب و الخشية منه. و لان كل فعل يؤدي لردة فعل مساوية كما في قانون نيوتن الفيزيائي فإن عملية علمنة الفن قابلتها ردة فعل حادة عنيفة من قبل أغلب الخطابات الدينية، و يمكن الاعتقاد أن هذه الاستجابة العنيفة تبلورت في صيغ قانوينة قمعية شملت كل أشكال الفن، نلمس ذلك في مواقف فقهية عديدة تحظر الموسيقى و فنون التصوير و غير ذلك و هو ما يشبه تلك الحرب العشواء التي شنتها الكنيسة ضد الأقيونات و فنون النحت و التصوير في القرنين السادس و السابع. هذا من جهة و من جهة أخرى يمكننا رصد مواقف أيديولوجية وضعية و سماوية حاولت تقديم صور تلفيقية عن العلاقة هذه، و هذا ما نجده يتمثل في محاولات الاسلامويين لما يسمونه أسلمة الفن أو "تديين الفن" و بصورة عامة هو نفسه ما يسمى بالفن الملتزم، لغرض إيجاد تسوية ما بين الخطابيين المتنازعين، الفني و الديني. إن هذا الإجراء لا يختلف كثيرا عن سابقه إذ هو يحد من حرية حركة الفن و انطلاقته و يحجم من دوره و تأثيره. و لسنا هنا بطبيعة الحال ندافع عن التعابير الفنية الهابطة أو نسعى لتلميع تلك الصيغ الفنية المبتذلة الرائجة اليوم في الوسط الفني. فهذا الصنف لا يمكنه الصمود حتى وفق المعايير الفنية الصرفة، إنه يعكس تدهورا مريعا في ذائقة الجمهور و نكوصا مفزعا في الفن، و الذي هو أحد أسمى الوجودات الإنسانية و أهم ما أنتجه إبداع الإنسان، هذه الأصناف المبتذلة لا يمكنها تقديم إلا أعمال هي أبعد ما يكون عن مسمى الفن ، إنها تعكس انحدارا في الثقافة و أمية متفشية عند المتلقين و هوسا و نهما جنسيين و تراجعا في الذائقة الفنية، و هو أقرب للعبث الوجودي منه إلى العمل الفني .. مقابل هذا التشويه لجماليات الفن و مكانته و دوره الممارس يوميا في بعض القنوات الفضائية العربية نجد على الطرف النقيض مواقف الحركات الدينية المتزمتة من شتى الأجناس و التعابير الفنية كالموسيقى و التصوير و الرقص و غيره، إنها مواقف لا يمكننا إلا أن نصفها بأنها أشد تجليات البربرية و الهمجية، لا فرق في ذلك بين هذا المذهب أو ذاك، فالخطاب الأصولي له موقف عدائي مستحكم لكل شيء يمت بصلة للفن و الجمال، حتى أنك حين ترصد مواقفهم المتزمتة تجاه المرأة تنتابك الدهشة و لا تجد تفسيرا شافيا غير النفور و الكراهية تجاة المرأة و الفن و حتى الطبيعة هذا فضلا عن الإرث الحضاري البشري، لذلك ليس من المستغرب أن تطال يد الغدر الطالبانية لتهدم تمثال بوذا في أفغانستان بمعاول الهمجية الأصولية الجديدة، و هو المعلم التراثي البارز في تلك البلاد و المعدود ضمن قوائم اليونسكو، الأمر الذي أثار موجة استياء عارمة و ادانة على مستوى العالم. هذه السلوكيات المعادية لكل حضارة و فن تستنسخ نفسها في صور كربونية و إن تفاوتت في الدرجة إلا أنها من حيث النوع واحدة لا تختلف في شيء، و لو شئنا تعدادها لما كفتنا هذه السطور القليلة. في الصومال إبان سيطرة المحاكم الإسلامية تم حظر جميع أشكال الموسيقى و الغناء في مقديشو ، و استفحل بهم الأمر إلى حد حظر مباريات كرة القدم!، مما أثار دهشة العالم و استغرابه و هواجسه و خشيته بعودة نسخة جديدة و انبعاث آخر لحركة طالبان المتزمتة التي كانت تحظر الموسيقى و الفنون و تفرض الحجاب بالقوة و الإكراه و تلزم المرأة بالبقاء في منزلها و تمنعها من التعليم! و في إيران إبان عهد الرئيس السيد محمد خاتمي أطلق وزير الثقافة و الإرشاد آنذاك السيد عطاء الله مهاجراني آراء جريئة تدعو لإتاحة الرقص للمرأة في حدود الاستعراضات الخاصة بالثقافة المحلية، أثارت هذه التصريحات جدلا واسعا أدى في محصلته النهائية إلى المطالبة بحجب الثقة عنه و إبعاده عن الوزارة و هذا ما حدث فعلا. الأمر نفسه أو شبيهه حدث في البحرين في موسم "ربيع الثقافة" حيث المواقف المنددة بما أحدثه الفنان الكبير مرسيل خليفة بالاشتراك مع الشاعر قاسم حداد، في عملهما الغنائي الراقص المشترك " مجنون ليلى". لقد دافع كلاهما عن عملهما بالقول: "جئنا لنعلن الحب"، و أتهما الإسلاميين الذين أثاروا الضجيج و طالبوا بالتحقيق حول ما حدث بأنهم "طيور ظلام و تجار فتاوى". و الملفت للنظر و الذي لا يخلو من دلالة عميقة تشي بتحالف ضمني وثيق بين أفرقاء أحدهم يكفر الآخر و يقصيه، أن اللجنة التي شكلها البرلمان البحريني للتحقيق فيما اعتبر خروجا عن الشريعة في ذلك المهرجان الثقافي، قد ضمت إسلاميين سلفيين "كتلة الأصالة و المنبر الاسلامي" و اسلاميين شيعة "الوفاق"! هذه المواقف المتزمتة كلها تنطلق من حيثيات و آراء و فتاوى دينية فيها قدر كبير من الخصومة و العدائية إزاء الفن و الجمال، لا فرق في ذلك بين سنة و شيعة، فكما نجدها عند السلفيين نجدها عند اتجاه واسع من الشيعة، يرى حرمة الموسيقى و ضرورة بقاء المرأة و النساء في خدورهن و بيوتهن! و لكن قولهم هذا مع وقف التنفيذ! أنها صور متطابقة من التزمت و التطرف و الظلامية تعيد انتاج نفسها باستمرار. كم نحن بحاجة لأن نستظل و نحيا في ظل فردوس الفن و جمالياته، دون أن يقيده رقيب ديني أو أيديولوجي، و إن كان لابد من رقيب فيجب أن يكون رقيبا ذاتيا، أي في إطار الفن و المعايير الفنية ذاتها، إننا بحاجة إلى حركة إصلاحية دينية تسعى للمصالحة بين الفن و كل ما أنتجه ابداع الانسان و خياله الخصب و بين الدين و الممارسة الدينية، و لعل السيد محمد حسين فضل الله يمثل في الإطار الشيعي خطوة مفتاحية ضرورية في هذا السياق و هذا المسعى، فقد أعلن سماحته في لقاء سابق مع إحدى الصحف الالكترونية عن مواقف لا تخلو من جرأة و شجاعة يكشف من خلالها عن قابلية الفقه الإسلامي لمسايرة الفن و الإبداع الإنساني: الغناء في الوطن و الحب العذري و بجميع الآلات إذ لا توجد آله محرمة، و غيرها من أمور كلها متاحة في الدين، باستثناء تمجيد الظلمة و الطغاة فإنه محرم و محظور. كنت أتساءل منذ زمن : كيف يمكن أن يكون الدين حاجزا أمام حرية الإنسان في إبداعه و فنه و ابتكاره و خلقه الوجودي ؟ كيف ؟ جاءنا من يميط اللثام عن جانب مهم من جوانب حيوية الدين و قدرته على تحفيز الفن و الموسيقى ليقول لنا بجرأة علمية و فكرية بالغة : الفن ليس محظورا. و إن كان أغلب ما جاء في اللقاء لا يختلف عن الآراء الكلاسيكية لدى الفقهاء الآخرين إلا أننا نجد أنه يتضمن رأيا حازما و شجاعا يقول بأصالة الإباحة في الغناء بخلاف من يرون أصالة الحرمة ، و يستثني من ذلك أصناف معدودة، و الموقف الآخر الذي جاء ليكسر الرأي السائد الكلاسيكي هو جواز و إباحة إنشاد المرأة. و هذا موقف جريء و شجاع و متنور ... و نحن نجد في الوسط الفني نماذج قدمت أعمال فنية وطنية مليئة بالقيم الإنسانية و الحب العذري كالسيدة فيروز و السيدة ماجدة الرومي و جوليا بطرس و غيرهن . و في تصوري أن هذا الفهم يشمل أيضا الحركات الجسدية المموسقة ( كالرقص أو الاستعراضات الفلكلورية المحلية أو حتى الحركات الإيقاعية الجسدية المنظمة التي يقوم بها المعزون في مواكب العزاء الحسيني! ) فهذه كلها أيضا تأتي في سياق الرقص بمفهومه اللغوي لا باستخدامه الرائج ، هذه الرقصات المختلفة كالعزاء أو رقصة الدبكة أو العرضات الخليجية الشعبية كلها مباحة و لا إشكال فيها بل هي في الواقع أشكال مختلفة تميز الثقافة المحلية و تطبعها بطابعها الخاص الذي يمنحها الهوية و التشكل.
#نذير_الماجد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عمامة برجوازية في باريس!
-
ثقافة النقد و نقد الثقافة
-
الممارسة الدينية بين التكليف و التجربة
-
--تأملات حول التشيع السلفي-
-
المرأة الاكثر تأثرا من الاستبداد في السعودية
المزيد.....
-
وجهتكم الأولى للترفيه والتعليم للأطفال.. استقبلوا قناة طيور
...
-
بابا الفاتيكان: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق
-
” فرح واغاني طول اليوم ” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 اس
...
-
قائد الثورة الإسلامية: توهم العدو بانتهاء المقاومة خطأ كامل
...
-
نائب امين عام حركة الجهاد الاسلامي محمد الهندي: هناك تفاؤل ب
...
-
اتصالات أوروبية مع -حكام سوريا الإسلاميين- وقسد تحذر من -هجو
...
-
الرئيس التركي ينعى صاحب -روح الروح- (فيديوهات)
-
صدمة بمواقع التواصل بعد استشهاد صاحب مقولة -روح الروح-
-
بابا الفاتيكان يكشف: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق عام 2021
...
-
كاتدرائية نوتردام في باريس: هل تستعيد زخم السياح بعد انتهاء
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|