الدكتاتورية التي هيمنت على مقدرات العراق وأذاقت شعبنا الأبي أصناف القمع والإضطهاد،والتي حاولت خلال العقود الماضية ترسيخ آيديولوجية الأصنام والصور،التي يمنع عرضها إلا في إطارٍ لائقٍ بها،والتي حاولت عزل العراق بسور فاصل عن عالم يشهد كماً كبيراً من التحولات في مجالات الحياة المختلفة،هذه الدكتاتورية اللعينة انهارت وانتهت كنظام سياسي في عراق ما بعد التاسع من نيسان..هي انهارت ولم تسقط ...نعم أجهزتها القمعية الإرهابية،جيوشها الوهمية التي كانت تملأ الأرض ضجيجاً،موظفيها ومهرجيها ،كلهم أما تبخروا أو إختفوا أو ينتظرون الحكم العادل...هذه هي معالم انهيارها،لكنها لم تسقط ...لا من عيون اليتامى والأرامل في بلدي،الذين فقدوا أعزائهم في حروبها المتعددة،ولا من عيون الفقراء الذين باعتهم واشترت في ثروات بلدهم حروباً وأبواق ...هي لم تسقط بل أن معالم حضورها واضحة...فالدمار والخراب واضحان..دمار الإنسان وخراب الآلة،كمقياس للتطور العلمي والتقني،والفوضى عارمة،فوضى الواقع السياسي والإجتماعي والإقتصادي.إنها اختفت لكن مخلفاتها عديدة،ولكي تسقط علينا أن نقطع المسافة بين اختفائها وسقوطها بنجاح،والنجاح يتطلب العمل والعمل يتطلب الجد والمثابرة.
إن ما سببته الدكتاتورية شيء مروع،فكل معالم عدم سقوطها ومعالم حضورها بكفة،وإفرازات الواقع السياسي الذي خلفته بكفة أٌخرى..انه واقع يتطلب الكثير والكثير..لقد تركتنا الدكتاتورية،كعراقيين وكأحزاب أمام واقع صعب ومعقد ويتطلب منا النضال لتحقيق أهداف كبيرة ومعقدة.
إذا ما تعلق الأمر بالنضال،فتاريخ العراق السياسي زاخر بالتجارب النضالية،المقرونة بالتضحيات الكبيرة،التي تصدى فيها العراقيون لمخططات الإستعمار وأعوانه من اجل حرية بلدهم واستقلاله،كذلك التجارب النضالية عديدة،التي رفع فيها العراقيون شعارات البناء والتطور الإجتماعي،فالتاريخ النضالي زاخر،بالرغم من بعض الهفوات،والخبرة النضالية عامرة،والجذور عميقة في التاريخ وفي المجتمع خاصة إذا ما تعلق الأمر بالشيوعيين العراقيين.
لكن الحدود كانت نوعاً ما واضحة،وكذلك المراحل،أما اليوم فعلى التاريخ النضالي الزاخر،والخبرة النضالية العامرة وأيضاً على الجذور الممتدة عميقاً في التاريخ والمجتمع،أي على الشيوعيين العراقيين وغيرهم من التقدميين،أن يتصدروا النضال لإنجاز مهام التحرير والبناء معاً،ليس هذا فحسب بل هذا وفي ظل معالم عدم سقوط الدكتاتورية ومعالم حضورها المتمثلة بالدمار والخراب والفوضى.
إن مهام التحرير هي انعكاس طبيعي لواقع الإحتلال الموجود على الأرض وفي قرارات مجلس الأمن،لكننا يجب أن ننتبه وأن لا ننسى أن القوات الأمريكية والبريطانية احتلت أرض العراق حقاً،لكن النظام الدكتاتوري احتل إرادة شعب العراق.ولولا طرفي هذه المعادلة لقاتل العراقيون قوات الأحتلال من بيت لبيت ومن شارع لشارع،ليس دفاعاً عن أرضهم فحسب بل دفاعاً عن إرادتهم أيضاً.
إن قراءة كهذه لواقع الإحتلال لايجب إطلاقاً أن تقلل من همتنا وعزمنا في النضال من أجل عراقٍ مستقل حر الإرادة..من أجل وطن حر،لكنها،أي القراءة،لابد أن تكون حاضرة عند صياغة أدوات وأساليب النضال التحرري،لاسيما وأن الدكتاتورية انهارت لكنها لم تسقط بعد.
لذا فأولئك الذين يتباكون على سيادة العراق،أولئك الذين ساهموا في صناعة الاحتلال،عليهم أن يصمتوا،لأن قعقعة سلاحهم الفارغة التي لم تستطع الدفاع عن أرض العراق،لاتهدف إلى تحريرها بل تهدف الى خلق حالة من انعدام الأمن والاستقرار تمهيداً لعودة لرموز الظلم والطغيان...أما أولئك الذين يحملون وطنهم في جوف أفئدتهم،وأخذتهم الغيرة عليه أقول لهم أن جميع العراقيون الذين يعز عليهم وطنهم معكم،لكن قراءتكم خاطئة،وسلاحكم لايعجل برحيل الإحتلال بقدر ما يطيل من بقائها.
إن المرحلة الصعبة والمعقدة، التى يمر بها شعبنا،تحتم علينا بذل أكبر قدر من الجهد لترسيخ حقائق سقوط الدكتاتورية ونهايتها إلى الأبد على أرض الواقع،كما تحتم علينا أيضاً تعزيز أساليب النضال السياسي السلمية لإنهاء الأحتلال.أنها صيغة أو معادلة صعبة،صعوبتها تكمن بصعوبة المرحلة وتعقيداتها،لكنها تستند إلى مبررات وحقائق يدعمها التاريخ ويعززها الواقع.
فالتاريخ يقول أن أكثر من ثلاثة عقود،من ممارسات قمع واضطهاد الأحزاب والقوى الوطنية والتقدمية المعارضة لنهج الدكتاتورية،ومن سياسات التشريد والتجويع والتمييز بحق الغالبية العظمى من أبناء شعب العراق،بالإضافة إلى محارق الحروب الخاسرة التي خاضها الدكتاتور،وراح ضحيتها مئات الألوف من أبناء شعبنا،كلها لم تعزز حالة التصدي للنظام للدرجة التي تهدد كيانه ووجوده،لأن مقومات بقاءه كانت عديدة،داخلياً يأتي في مقدمتها شدة بطش واضطهاد وقساوة أجهزته القمعية الإرهابية من جهة،وتعدد حلقات أجهزته القمعية والإستخباراتية من جهة ثانية،وعربياً تمثلت بعض مقومات بقاءه بلعبة توازنات القوى،والمصالح الأنانية الضيقة لبعض الدول،والوهم الذي عاشته بعض القوى السياسية العربية عن دور لنظام يضطهد شعبه ويساهم في تحرير الآخرين ،أما دولياً فكان للعقود التجارية والوعود الإقتصادية دور في ذلك،هذا بالإضافة إلى السياسات التي اتبعها النظام في شراء الذمم والأبواق هنا وهناك،وهذا كله جعل النظام حملا ثقيلا جاثما على صدور العراقيين.أما الأحتلال فلا تجارب التاريخ ولا تجليات العصر توفر له أي من مقومات البقاء،انه راحل لا محال مادمنا نتوق إلى أن نكون أحراراً.
أما مهام البناء فهي حاضرة ومتشعبة،تستمد أهميتها وثقلها من معالم الدمار والخراب الذي خلفته الدكتاتورية .بناء الإنسان مهمة عاجلة واستثنائية،وإنقاذ السياسة من حالة الفوضى مهمة ليست بالهينة،وكلتا المهمتين توطئه لحالة من البناء أعم وأشمل ،وهي بناء العراق الديمقراطي التعددي الموحد.ومثلما للتحرير أدواته وأساليبه للبناء أدواته وأساليبه أيضاً،بناء الإنسان والواقع السياسي مهمة عامة،جبهتها واسعة،أما بناء العراق فهي مهمة فيها نوع من الخصوصية ،خصوصية ترتبط بمفهوم البناء وآفاقه،والمفاهيم المطروحة على الساحة اليوم عديدة ومتنوعة.
إن صورة كهذه لواقع مهام البناء الصعبة تتطلب من جميع أقطاب الحركة الوطنية والتقدمية العراقية، و من الشيوعيين بالذات،استعراضاً متأنياً ودراسة معمقة لتجارب التاريخ وتجارب الحركة الوطنية والتقدمية العراقية،من أجل استخلاص الدروس والعبر لتدعيم القدرات وإتقان آليات الحركة والإنتقال بين مفاهيم العام والخاص ومفاهيم الوحدة والصراع.