|
يا أعداء النظام الديكتاتوري وخيار الحرب المدمرة اتحدوا
سيف صادق
الحوار المتمدن-العدد: 97 - 2002 / 3 / 21 - 09:15
المحور:
اخر الاخبار, المقالات والبيانات
يوما بعد آخر تتكشف معالم الاستراتيجية الأمريكية لابتلاع العالم بحجة مكافحة
الإرهاب. وكما هو معروف فقد حددت الإدارة الأمريكية هدف المرحلة الأولى لحملتها العالمية متمثلا بالقضاء على تنظيم القاعدة وبن لادن وطالبان، والجميع منتوج المخابرات الأمريكية وبالتعاون مع المخابرات الباكستانية طبعا، اللاعب الأساسي في المعادلة الأفغانية. غير أن شهية صقور الحرب وممثلي المجمع الصناعي العسكري الأمريكي لا تنتهي بـ " تحرير أفغانستان " من رجس طالبان وتنظيم القاعدة، فعين هؤلاء مفتوحة على مناطق أخرى تكفل ضمان توطيد آليات الهيمنة العالمية بدون أية عوائق !
وخلال الفترة الأخيرة تصاعدت وتنوعت التصريحات الرامية الى تحديد الهدف القادم للحملة الأمريكية ممثلا بالعراق. وهناك العديد من المؤشرات الدالة على عزم واشنطن استغلال حملة مكافحة الإرهاب كذريعة لضرب العراق والتخلص من صدام حسين. والزيارات المكوكية لنائب الرئيس الأمريكي لا تحتاج الى تعليق، ناهيك عن مناورات تجري وراء الكواليس لتحضير طبخة تهدف لوضع ترتيبات " اليوم الثاني للتغيير " في العراق، فالأمريكان عبروا في اللقاءات السرية مع طيف واسع من قوى المعارضة التي ارتضت العمل تحت مضلتهم العتيدة أن " اليوم الأول " للحملة على العراق – أي صدام ونظامه - يعود للأمريكان وحدهم ووحدهم فقط.
بعض الأسئلة والإشكاليات الملتبسة
===================
ومن المؤكد أن التمرينات والاستعدادات العسكرية والمشاورات التي تجري في غرف محكمة الإغلاق والتي تجريها الولايات المتحدة، ترافقها على الأرض حملة إعلامية بدخان كثيف وما يصاحبها من صخب كبير يجعلها تفعل فعلها في أوساط عديدة، خالقة مناخا حربيا وحالة رعب بدت للكثيرين كما لو أن جنود العم سام سيدخلون منازلنا فورا وبدون تأخير لتخليصنا من نظام بغداد. إن مناخات شرعنة الحرب وتحويلها الى حقيقة لا تقبل النقاش، حتى قبل أن تقع، قد دفعت بعض القوى والتيارات السياسية الى استخلاص الاستنتاج التالي : الحملة الأمريكية قادمة وهي حقيقة. وبما أننا ليسنا بقادرين على إيقافها فلا داعي للوقوف ضدها كي لا نضع أنفسنا في زاوية ضيقة ؟ ولا يكتفي هؤلاء بذلك بل يواصلون جدالهم بالقول : إن الوقوف ضد المخطط الأمريكي لإسقاط صدام يبدو كما لو أننا نقف ضد مصالح شعبنا !
ويبدو الأمر كما لو أن هناك تطابق بين مصالح شعبنا والمصالح الحيوية الاستراتيجية للولايات المتحدة في بلادنا.
تتكاثر الأسئلة وعلامات الاستفهام والتعجب، وذلك أمر طبيعي لأن النقاش حول هذا القضايا ليس نقاشا أكاديميا صرفا يجري في غرف مغلقة، بل على العكس هو جدل صاخب يدور حول مصير الوطن ومستقبل شعبنا، وهل ستستطيع بلادنا الانتقال اليوم من نظام شمولي قمعي إرهابي الى بناء نظام ديمقراطي تعددي وتداولي أم لا ؟ وما هي القوى القادرة حقا على إنجاز هذه المهمة الخطيرة والنبيلة في أن؟
وارتباطا بذلك يتعين مساءلة المروجين لخيار الوقوف مع الولايات المتحدة وتبني خيار الحرب السؤال التالي : هل أن تطبيق هذا الخيار سيتمخض عنه قيام نظام ديمقراطي حقا أم لا ؟
ولا شك أن هناك من يعتقد بوجود هذه الإمكانية انطلاقا من أن الولايات المتحدة – البلد الرأسمالي الأقوى في العالم هذه الأيام – لن تفرض إلا هذا البديل – الديمقراطي – وليس غيره، لأن أي نظام آخر يتعارض مع أحد أهم أسسها. ويبدو أن مروجي هذا الطرح ينطلقون من فرضية نظرية لم يزكها الواقع، وتقوم على المطابقة بين الرأسمالية والديمقراطية، واعتبار هذه الثانية مكونا عضويا من مكونات النظام الرأسمالي. قد يكون هذا الطرح مقبولا كفرضية نظرية، لكن هذه الفرضية لا تتطابق مع الواقع الرأسمالي الفعلي. فالتشكيلة الرأسمالية لا يمكن أن تكون ديمقراطية انطلاقا من أساسها الاقتصادي وتحديدا علاقات الإنتاج السائدة فيها تقوم على أساس ثنائية الهيمنة/الخضوع، أي هيمنة رأس المال على قوة العمل، فهي علاقة استغلالية، لا ديمقراطية في جوهرها، لأنها تتم بين طرفين غير متكافئين. والنموذج الديمقراطي المطبق في البلدان الرأسمالية هو نتاج المساومة التاريخية بين الطبقات البرجوازية والقوى الاجتماعية الأخرى، وهو نتاج ميزان قوى متحرك وليس وصفة جاهزة. لهذا فإن المراهنين على خيار أمريكي يجلب الديمقراطية على طبق من ذهب للعراق، هم على خطأ لأن الولايات المتحدة لن تجلب هذا الخيار أبدا، فهي ليست معنية به أصلا، ولا يدخل في اجندتها الفعلية، وليس النظرية، كما أن تحقيق هذا الخيار سيهدد نظام امتيازاتها وهيمنتها على مكامن الثروة النفطية والثروات الأخرى في العراق والمنطقة، وهو أحد أهم أهدافها الاستراتيجية في هذه المنطقة، وغيرها كذلك.
قد يجادل وطنيون وديمقراطيون وماركسيون، إضافة الى مؤيدي المشروع الأمريكي، بأن الحزب الشيوعي العراقي يناضل منذ عدة عقود ضد النظام الديكتاتوري، والولايات المتحدة تسعى اليوم لإزاحة هذا النظام فلماذا لا يوافق الحزب على دعم الخيار الأمريكي الذي يلتقي مع شعار الحزب : إزاحة النظام الديكتاتوري ؟
من الطبيعي أن الإجابة على هذا السؤال تستدعي التمييز بين الآمال والواقع. من المؤكد أن أمال كل العراقيين تتمثل برحيل صدام حسين ونظامه بأسرع وقت، وهذا أمر مشروع ومطلوب. ولكن هذا نصف الحكاية وليس كلها، فهي ترتبط بسؤال آخر : هل يقايض العراقيون صدام حسين ونظامه بخيار أخر ليس هناك ما يشير الى أنه سيكون ديمقراطيا حقا، لأن الولايات المتحدة لا تهدف إقامته أصلا، كما تمت الإشارة إليه أعلاه ؟ وإذا كان هدف الأمريكان إزاحة صدام وهدف حزبنا كذلك إزاحته، فلا يعني هذا التطابق الشكلي في المقدمات تطابق النتائج. الأمريكان، كما تشير تجارب عديدة وبالملموس، يريدون إجراء تغيير شكلي فوفي في النظام وليس النظام ذاته، ويراهنون على عمل انقلابي عبر حملة عسكرية كاسحة ومدمرة تحرق الأرض والبشر، وتهدف الى خلق تململ داخل المؤسسة العسكرية يتحول الى تمردات، تفضي الى تملك ناصية الأحداث من طرف أحد رجالات الحلقة الضيقة من العسكريين المحيطين بالرئيس العراقي. أما الحزب الشيوعي فهو يناضل منذ عدة عقود، مع العديد من قوى المعارضة، لإزاحة النظام الديكتاتوري ومن اجل انبثاق نظام ديمقراطي تعددي تداولي وفيدرالي. والقارئ النبه يفهم مغزى وجوهر الاختلاف، وبالتالي فإن طرقنا للتغيير تتقاطع على مستوى الشكل والمضمون كما يقال.
وارتباطا بذلك لماذا نرفض نحن خيار الحرب الذي تطرحه الولايات المتحدة ولا نراهن عليه، وهل هو الإمكانية الوحيدة لدى أمريكا وحلفائها إذا كانت راغبة حقا في إزاحة النظام الديكتاتوري، وهل نرفض هذا الخيار لأسباب نفسية، أم نتاج " عقدة إيديولوجية " كما يدعي بعض كتاب الأعمدة في بعض الصحف المعارضة، أم لأسباب مبدئية ؟
يتكاثر سيل الأسئلة، ومن السهل تمييز الغث من السمين منها. ولكننا سنعود الى السؤال ذاته : لماذا يرفض الحزب الشيوعي العراقي خيار الحرب ؟ استنادا الى متابعة سياسة الحزب ومواقفه المعلنة من الأحداث وتطوراتها، يمكن القول إن الرفض نابع عن طائفة من الأسباب من بينها :
أولا : استنادا الى العديد من السيناريوهات المطروحة في السر وفي العلن، فإن هذا الخيار يستند الى كتلة نارية كثيفة لا تبقي ولا تذر، وتطول مختلف الهياكل الارتكازية الإنتاجية والخدمية والاجتماعية في بلادنا. ويعني أن هذا الخيار يشكل خيار رعب ودمار لبلادنا وشعبنا المكتوي بنيران عديدة، وليس من الحصافة ولا المسؤولية بالنسبة للسياسي أن يراهن على تدمير شعبه ووطنه استنادا الى مبرر رحيل الديكتاتورية. ومثل هذا الخيار يستدعي من السياسي أن يسأل نفسه عن مستقبل النضال في بلد مدمر على الطريقة الأمريكية ! علما بأنه ليس هناك من دليل عملي مؤكد على أن الحملة العسكرية ستتوج بتحقيق هدفها الأساسي وهو رحيل النظام ورأسه.
ثانيا : الحزب يرفض من حيث المبدأ خيار الحرب لحل المشكلات السياسية، ويميز بين العدوان والدعم النزيه، استنادا الى الخبرة النظرية والسياسية العملية التي راكمها خلال تاريخه النضالي وتاريخ الأحزاب الشقيقة. خاضت بلادنا حربين مدمرتين ونتائجهما معروفة للجميع، وهل يتعين علينا خوض حرب ثالثة ورابعة؟ ينبغي القول : لا للمزيد من الدمار لشعبنا، وهذه الحرب إن وقعت، ستصفي أخر قلاع المقاومة لدى شعبنا.
ثالثا : خيار الحرب المطروح اليوم من طرف الولايات المتحدة وحلفائها هو خيار غير عادل لأنه سيلحق أقصى الأذى بشعبنا بالدرجة الأولى، وربما يؤدي الى تعزيز مواقع الديكتاتورية ويساعدها في ترميم قاعدتها المتآكلة باستمرار، في حال عدم تمكنه من إسقاط النظام أو نجاح الديكتاتور في الإفلات من هذه الحملة العسكرية، كما أفلت من عمليات عسكرية مماثلة منذ حملة " تحرير الكويت " وما تلاها. ومن جهة أخرى فإن أي عمل عسكري سيقع سيكون بمثابة عدوان مما يشكل خرقا فاضحا للشرعية الدولية وميثاق الأمم المتحدة.
رابعا : لا ينبغي القبول بمبررات الولايات المتحدة وحلفائها التي تروج الى أن خيار الحرب هو الخيار الوحيد لإزاحة النظام الديكتاتوري ( هذا إذا كانت هي راغبة حقا في إزاحته بكامله وليس استبداله عبر ترتيب آخر يضمن لها هيمنتها). هناك العديد من الخيارات الفعلية الأخرى التي لو تم استعمالها لساهمت في الضغط على النظام وخنقه تدريجيا بهدف خلق الفرصة للانقضاض عليه من الداخل، عبر القوى الشعبية المناهضة له. ولكن الولايات المتحدة لا تدعم أي خيار لا يخرج من تحت معطفها، حتى لو كان قادرا حقا على إزاحة النظام، والأمثلة كثيرة على محاولات عديدة وجدية كانت قادرة على تحقيق هدف شعبنا في الخلاص من الديكتاتورية لكن النظام كشفتها وصفاها في الحال، ليس فقط نتيجة عبقرية أجهزته التي يصورها البعض بكونها كلية القدرة، ولكن عبر تسريبات أمريكية !!
خامسا : الرهان على خيار الحرب يعني تحطيم أية إمكانية فعلية لتحقيق خيار ديمقراطي يحتاجه شعبنا ويناضل من اجل تحقيقه منذ عقود. ومن هنا نستنتج أن هذا الخيار يستهدف من بين ما يستهدف قطع الطريق أمام البديل الديمقراطي، وهو بهذا يتطابق مع مسعى النظام الديكتاتوري لقتل هذه الإمكانية/الضرورة التي يحتاجها شعبنا اليوم وبحدة. لقد مزّق النظام الدكتاتوري الوطن، وأوهن الشعب وادخله في حروب مريرة دفع ثمنها دما وقهرا ومرارة الهزائم. وخيار الحرب الذي تهدد الولايات المتحدة سيفضي الى ذات النتيجة. ومن هنا ضرورة الخيار الديمقراطي كوسيلة وحيدة لمنع تدمير الوطن ورحيل النظام.
لهذه الأسباب، وغيرها، ينبغي رفض هذا الخيار الذي لن يجلب لشعبنا النصر محمولا على دبابة عسكرية أمريكية. وإن تحقق " النصر " عن هذا الطريق فإن الأمريكان لن يسلموا السلطة الجديدة إلا وفقا لطبخة معدة سلفا، والمثال الأفغاني واضح، ولن يغادروا البلاد فور إنجاز مهمتهم " التحريرية "، كما يتصور البعض، ولن يتم إخراجهم بالحجارة، كما يتصور البعض عن وعي أو بدون وعي. اجتياح العراق عسكريا يكمل أحد أهم أهداف الحملة الجديدة التي بدأت باجتياح أفغانستان، إذ سيتم التحكم المباشر بالثروة النفطية الهائلة في بلادنا ليس عبر وسطاء، كما في السابق، بل بشكل مباشر. وتحتاج إعادة بناء الاقتصاد والمجتمع الى استثمارات هائلة، وتتطلب وجود شركات أجنبية تقوم بهذه العملية. واستنادا الى تجربة " تحرير الكويت " وما تلاها، حيث استحوذت الشركات الأمريكية على معظم الاستثمارات المتعلقة بإعادة البناء، ستتعامل الولايات المتحدة مع الوضع الجديد باعتباره مشروعا اقتصاديا واعدا لا يجوز تقاسم مغانمه، مثلما هي لم تسمح بتقاسم مهمة اليوم الأول للعمل العسكري مع أحد ! وتحتاج هذه الموجة الواسعة من الاستثمارات الواعدة والثروة النفطية الراهنة والمحتملة ( وهي كبيرة جدا) الى حماية عسكرية على الأرض، عندها تبدأ مشكلة الفرز بين أوهام رحيل الأمريكان، بعد إنجاز المهمة العسكرية " التحريرية"، وبين واقع وضرورة استمرار التواجد العسكري لحماية مكاسب سياسية واقتصادية تقع ضمن صلب الأهداف من وراء هذه الحملة.
هناك من ينتقد موقف الحزب ويتساءل : لماذا أنتم ضد توجيه الضربة العسكرية حتى لو أدت الى إسقاط النظام ؟ يبدو أن هذا السؤال مطروح بشكل خاطئ أو مفخخ، إذ أن الحزب يقف ضد خيار الحرب أساسا انطلاقا من المبررات المذكورة أعلاه. ويعتقد بأن ليس هناك ما يشير بالحتم الى أن هذه الضربة الموعودة ستؤدي الى تحقيق هذه النتيجة. فقد قامت الولايات المتحدة قبل ذلك بعدة ضربات عسكرية، وعمليتي عاصفة الصحراء وثعلبها لم تفضيا إلا الى نتيجة واحدة : لقد أسهمت في ترميم قاعدة النظام المتآكلة، وبدا وكأن عملية " ثعلب الصحراء " برغم كل الضجيج الذي رافقها كانت مصممة بدقة لإعطاء جرعة الأوكسجين المطلوبة للنظام الديكتاتوري، وأدت الى تقوية مواقعه وزيادة وحشيته، وكأنها كانت تريد منه أن يكون اكثر سطوة لقمع الحركة الجماهيرية المتنامية وبأشكال جديدة، رغم طابعها غير المنظم !
كما أن هناك من يدعو الى ضرورة المرونة السياسية والعودة الى الأطروحة المعروفة : السياسة فن الممكنات، وان " الموقف الوطني المسؤول " الذي صاغه اجتماع ل.م الأخير ( 18/12/2001) فيه شيء من التطرف ! مرة أخرى نقول ومع شديد الاحترام لهذا الطرح الذي ينطلق في بعض جوانبه من حرص على الحزب وسياسته ومصيره، إلا انه ينبغي القول انه يطرح القضايا بشكل لا ينم عن فهم دقيق لجوهر الأطروحة السابقة : السياسة فن الممكنات. إن ترجمة فكرة : السياسة فن الممكنات الى الملموس تعني ضرورة التوصل الى حلول وسط. غير أن سؤالا آخر يطرح نفسه وهو : هل ينبغي القبول بأي حلول وسط مهما كانت طبيعتها ؟ الجواب طبعا لا. من المهم أولا التأكيد على حقيقة أن هناك فرق بين حلول وسط وأخرى، أي انه ليس هناك " وصفات عامة " للحلول الوسط، وليس لها أن تكون، إذ ينبغي أولا تحليل الظروف الملموسة لكل حل من الحلول المطروحة. ومن هنا ضرورة إبراز الفارق المبدئي العميق جدا بين " الحل الوسط الذي لا ينتقص قط من الولاء الثوري والاستعداد لمواصلة النضال " والحلول الأخرى التي تقفز فوق الواقع وتكيفه لخدمة مصالح لا تتعلق بمصالح المجتمع وتطلعاته، في اللحظة التاريخية الملموسة. هناك حاجة ملحة عند بحث الحلول الوسط، الى التمييز بين الثوابت والمتغيرات. ومنعا لأي التباس فإنه لا بد من الإشارة الى أنه لا يوجد سور صيني بين الطرفين ولكن هناك ضرورة للتميز، منعا لأي خلط في المواقف، ومنع التداخل بين الاستراتيجية والتكتيكات الملوسة لتحقيقها. وفي مثل هذه اللحظات المصيرية فإن المطلوب من الحزب أن يشدّد على تمييز ثوابته الوطنية المعروفة من جهة، ويفهم جيدا وبشكل عميق المتغيرات الجديدة الناجمة عن أحداث 11 أيلول 2001، وبما يمكنه من امتلاك ناصية المناورة السياسية، وتوظيف تكتيكاته الملموسة لخدمة أهدافه الاستراتيجية، وفي مقدمتها مشروعه الوطني الديمقراطي الهادف الى بناء عراق ديمقراطي فيدرالي موحد. وبهذا المعنى يمكن فهم : السياسة فن الممكنات، والتي لا تعني بأي حال من الأحوال الانخراط في صفقات سياسية تدمر الوجه الوطني المستقل والناصع للحزب وتاريخه النضالي المعروف في الدفاع عن مصالح الكادحين والطبقات الشعبية، و الكفاح ضد الأنظمة القمعية والديكتاتورية، والنضال ضد الهيمنة الأجنبية ومشاريعها. ويتعين على الحزب أن لا يفرط بهذه المواقف انطلاقا من تأويل خاطئ يحول السياسة من علم رفيع ورافعة للنضال المطلبي والسياسي - الفكري، الى نشاط يقوم على عقد صفات ومساومات مبنية على فكرة الربح والخسارة بالمعنى التجاري المتعارف عليه، مع الاحترام لهذا النشاط على الصعيد الاقتصادي طبعا.
الطريق الثالث : إمكانية تاريخية نادرة ينبغي عدم التفريط بها
========================================
الخلاصة، إننا نرفض خيار الدكتاتورية وخيار الحرب. ومن هنا ينطرح سؤال آخر : على ماذا نراهن الحزب إذن ؟
بداية نقول ردا على متشككين من مواقع مختلفة والذين يدعون بان رفضنا لهذين الخيارين لا يقترن بطرح بديل محدد، وبالتالي يبدو موقف الحزب كما لو إننا نقف موقفا انتضاريا، لهؤلاء جميعا ينبغي القول إن مثل هذا الطرح يخلط الحق بالباطل كما يقال. فالحزب يستعد للتطورات كطرف مستقل مناهض للنظام ورافض للخيار العسكري. وحينما يتحدث الحزب عن الاستعداد للتطورات كطرف مستقل فإنه لا يعني بذلك سوى استقلاله عن هذين الخيارين المدمرين وبالتالي تمايزه عنهما. وبمقابل ذلك فإن تأكيد الحزب هنا على هذا التمييز يعني، من جانب آخر، أنه يراهن على القوى التي لا ترتبط بالمشروعين المذكورين. وهذه القوى متنوعة غير أن ما يميزها هو التشتت. ومن هنا ينبغي بذل أقصى الجهود لتوحيدها وبعث الحيوية والتنظيم في نشاطاتها.
واستنادا الى التطورات التي رافقت الهزيمة المذلة للنظام في حرب " تحرير الكويت " التي توجت باندلاع الانتفاضة الشعبية في آذار 1991 والتي شملت 14 محافظة عراقية، فإن مثل هذا الخيار ممكن التكرار، وبالتالي يمكن الرهان على إمكانية اندلاع انتفاضة شعبية جماهيرية مرة أخرى، وهو خيار ممكن الوقوع إذا ما نفذت الولايات المتحدة خيارها الحربي، وسيؤدي الى تداعيات وتفاعلات عديدة، وانقلاب معادلات كثيرة. وطبعا ينبغي التأكيد هنا على أن خيار الانتفاضة الشعبية الجماهيرية لن يكون نسخة طبق الأصل لتلك التي حدثت قبل 11 عاما، ذلك لأن الصيغة الجديدة لا يمكن حصرها في الأطر الكلاسيكية لمفهوم الطريق السلمي أو المسلح. ينبغي الرهان إذن على خيار الانتفاضة الشعبية وقدرتها، إن احسن توجيهها وقيادتها، على تحقيق تحول ديمقراطي حقيقي. وينطلق هذا التأكيد من واقع أن الحرية التي يتوق إليها شعبنا لن تأتي عبر مساومات تتم وراء الكواليس وفي غرف مغلقة لتوزيع المغانم بين " المنتصرين " في الحرب، ولا عن طريق الرهان على تحولات في سلوك النظام الديكتاتوري تؤدي الى دمقرطة المجتمع الذي هندسته وصممته الدولة الشمولية وفقا لمقاسات جعلت منه وكأنه كتلة صوانية غير قابلة للكسر. نقول هنا : ينبغي عدم الرهان على الخيارين المذكورين، بل يتعين استبدالهما برهان ثالث هو خيار البديل الديمقراطي عبر الانتفاضة الشعبية الذي يجعل من تحرر بلادنا وشعبنا من الديكتاتورية والعدوان ممكنا بفضل شجاعة جميع العراقيين والعراقيات التواقين الى تحقيق الحرية بالوسيلة المتاحة لهم، وهي شن هجوم منظم تقوم به الجماهير الشعبية ومعارضة موحدة وحازمة وتعرف هدفها جيدا. ولا شك أن ديالكتيك المعارك التي خاضتها القوى المناهضة للديكتاتورية طيلة العقود الماضية، وهي معارك غير متكافئة طبعا لأسباب معروفة، قد أنتجت على الدوام أفكار وأساليب وأشكال عمل جديدة، هي ليست من منتوج الخيال الخصب لـ " مفكرين " جالسين في غرف مكيفة بل هي منتوج تعميم الخبرات الكفاحية وحاجات النضال الملحة، أي عقل الجماهير وعبقريتها الخلاقة، رغم الديكتاتورية والحصار الظالم.
في هذه اللحظات الحاسمة والمصيرية، تتصارع الخيارات والإرادات، ويلوح مهندسو " خيار الحرب " بتحقيق " نصر سريع "، في حين ينافح الديكتاتور وهو يتحدث زورا وبهتانا باسم العراق، بأنه سيحول البلاد الى فيتنام ثانية و " مقبرة للغزاة ". الطرفان، إذن، يقامران بمصير الوطن والشعب، فهل تتمكن القوى المناهضة للخيارين من درء وقوع كارثة حقيقية تنتظر بلادنا وشعبنا، وكيف يمكن تحقيق ذلك ؟ الجواب نعم، والطريق الوحيد لتحقيق ذلك هو طريق وحدة القوى المناهضة للخيارين السابقين، ومواصلة النضال دون كلل، وابتداع أشكال جديدة للنضال وتوحيد الطاقات وتعبئتها. من المؤكد أن الحزب الشيوعي العراقي يعي تماما الصعوبات التي تواجه قوى المعارضة، ويعي التمايزات الناشئة داخلها، ويعرف حجم الصعوبات التي تعترض سبل توحيدها على أساس برنامج واضح ومحدد. ولكنه رغم ذلك لن يتخلى عن نهجه الرامي الى الوحدة والاتفاق على قواسم مشتركة تساهم في فتح الطريق أمام توحيد القوى المناهضة للديكتاتورية تمهيدا لإلحاق الهزيمة النهائية بها. وبغض النظر عن التسميات فإن الشيء الرئيسي هو أن تعرف الغاية من الوحدة : تحقيق النصر على الديكتاتورية وإلحاق الهزيمة النهائية بها، وبناء عراق ديمقراطي فيدرالي موحد. ولن يتحقق هذا دون وحدة كل القوى المناهضة للديكتاتورية وخيار الحرب.
ولاشك أن التهديدات الأمريكية، وتضارب تصريحات كبار الإدارة الأمريكية، قد أطلق سيلا من " السيناريوهات " المرعبة، وبدأ المشهد السياسي العراقي المعارض اليوم في حالة غليان شديد، مقرونة بديناميكية غير معهودة، ولكنها مفهومة طبعا. وقد ساهمت " سيناريوهات الرعب " التي نشرتها بعض الصحف الأمريكية والبريطانية وغيرها في إضفاء المزيد من الإستقطابات السريعة لتقاسم مغانم كعكة لم يتم طبخها بعد، أو بدا الصراع حول جلد الدب قبل أن يتم اصطياده !
والمتابع للشأن المعارض، ومع شديد الاحترام لكل وجهة نظر مغايرة، سيصاب بخيبة أمل مريرة حين يرى ساسة ومعارضون يدافعون عن " جدية " الولايات المتحدة في تهديداتها لتوجيه ضربة ستكون " قاصمة " هذه المرة، وليس على غرار سابقاتها. فيما يقابلهم على الخندق الآخر من " حرب الاستحكامات والمتاريس " ساسة آخرون يمارسون نهجا مغايرا إذ يربطون، مباشرة أو بالواسطة، بين الوطن والنظام الراهن، وتقديمهما وكأنهما كل لا ينفصل، انطلاقا من مقاربة خاطئة لترتيب التناقضات. خلاصة القول أن الطرفين، وان اختلفت المنطلقات، يحصرون المتابع السياسي، ناهيك عن المواطن العراقي البسيط، في إحدى زاويتين قاتلتين: أما الاصطفاف مع النظام الديكتاتوري، الذي خرب البلاد واستنزف شعبنا في حروب داخلية وخارجية، أو مع الولايات المتحدة ومخططاتها لتدمير بلادنا بحجة إزاحة الديكتاتور ونظامه وهي التي أنتجته وطورته في فترات محددة، وأصبحت " تباهي به الأمم " ! وبهذه المقاربة القاصرة يبدو المشهد السياسي موسوما بلونين فقط، وليس كموزائيك متعد الألوان والخيارات والأفاق.
ولاشك أن كلا زاويتي النظر للأزمة الراهنة وحلولها وتداعياتها خاطئتان بل وقاتلتان في الوقت ذاته. ومن هنا ضرورة خوض نضال فكري وسياسي من اجل مواجهة هذه الأطروحات، وان يقترن ذلك بمساعي حثيثة ينبغي أن تتكلل ببلورة مشروع آخر لا يراهن على الهجوم الأمريكي من جهة، ولا يصطف مع النظام الراهن بحجة الدفاع عن الوطن وهو الذي فرط بسيادته ودمره في معاركه الدونكيشوتية العديدة.
ولكن ثمة سؤال يطرح نفسه بشدة : هل هناك إمكانية لذلك ؟ نجيب بنعم. إن الإمكانية متوفرة لبلورة طريق أخر، يتجاوز هذين الخيارين، لحل الأزمة البنيوية المتفاقمة، وتخليص شعبنا من النظام الديكتاتوري الراهن، وقطع الطريق على المراهنين على الخيار الأمريكي لإزاحة النظام، إذا انطلقنا من خيار الرهان على شعبنا وقواه الحية، وفهم العوامل الخارجية فهما سليما، وتوظيفها توظيفا صحيحا ومن دون أية شروط تكون عبئا على تطلعات شعبنا في خياره الوطني والديمقراطي والمناهض للديكتاتورية والعدوان الخارجي.
العودة الى السؤال الكلاسيكي : ما العمل ؟
==============================
وحين نقول أن الإمكانية متوفرة لتبلور الطريق الثالث، الذي لن يكون سوى الطريق الوطني والديمقراطي في أن، فلا يعني ذلك تنمية الأوهام بنزعة انتظارية لتبلور قوى هذا الطريق، بل ينبغي البدء والمباشرة العملية اتخاذ خطوات مباشرة وملموسة :
خلق ديناميكية جديدة داخل قوى المعارضة، تسمح هذه الديناميكية بتحريك أطراف عديدة تعاني من حالة الانتظار السلبي لما ستسفر عنه تطورات الأحداث ومجريات الصراع. ويتعين على حزبنا أن يواصل المساعي والجهود من أجل توضيح مخاطر الرهان على مشاريع وطبخات لا تستهدف سوى مصالح أصحابها والمراهنين عليها. ويخطأ من يراهن، في هذه اللحظات الحاسمة والخطيرة في أن، على نهج الانتظار السلبي لأن الأحداث تتطور بسرعة، وسيجد المنتظرون والمراهنون على " وضع رجل في الجنة ورجل في النار !" أنفسهم خارج الساحة !!
تطرح وحدة القوى الديمقراطية، وفي لبها قوى اليسار، اليوم على جدول الأعمال بدون أي تأجيل، وينبغي أن يلعب حزبنا دوره كقطب تتوحد حوله جبهة قوى اليسار والديمقراطية، إضافة الى " الكتلة الصامتة " التي ما زالت تتأرجح في خياراتها وتحتاج الى من يدلها على " الطريق السليم ". من المهم التأكيد على واقع هذا التيار بكل تكويناته، وأن محدودية نشاطه وتأثيره في اللحظة الراهنة هي قضية آنية، ولكن تأثيره سيتعاظم في أي انعطافة سياسية وانفتاح الأفق خارج فضاء الديكتاتورية، انطلاقا من تطلع المجتمع العراقي الى تحول ديمقراطي حقيقي وليس شكلي. إن المخاطر المحيقة ببلادنا وشعبنا تطرح اليوم اكثر من أي وقت مضى مطلب أن تتوصل قوى التيار الديمقراطي الى مساومة تاريخية كبرى تتيح لها أن تصبح حقا قطبا جاذبا ومؤثرا وقادرا على القيام بفعل نضالي مؤثر إذا ما وقعت ساعة الحقيقة، ساعة المعركة الفاصلة مع الديكتاتورية ونظامها البغيض. لقد بينت تجارب عديدة، سواء في بلدنا أو في مناطق أخرى، أن الشرط الحاسم لضمان نجاح مشروع التغيير الديمقراطي يتمثل في قيام تحالف يضم القوى اليسارية والديمقراطية والقوى الراغبة في الرهان على هذا البديل. من الصحيح تماما أن حزبنا، لأسباب لا تخفي على أحد، هو المبادر الى طرح البديل الوطني الديمقراطي، ليكون بمثابة النفي لخياري الديكتاتورية والحرب، ولكن هذا البديل لا يمثل فكرة مقولبة أو مجرد رغبة تراود الشيوعيين العراقيين، بل هو ضرورة تختمر في مجتمعنا، رغم كل عسف النظام الديكتاتوري وقمعه المسلط على مختلف فئات شعبنا وقواه السياسية. إن المطلوب اليوم أن ترتقي هذا القوى الى مستوى الأحداث وتطلعات شعبنا، وأن يتم تبادل منتظم للآراء وإجراء حوار صريح حول القضايا التي تواجه راهن بلدنا ومستقبله، في ضوء تضارب مشاريع التغيير، ومناورات القوى الطامحة للسلطة والمراهنة على تحقيق النصر من على ظهر دبابات الولايات المتحدة وعسكرها. ولا ينبغي أن يظل هذا المشروع البديل مجرد شعار، بل ينبغي أن يتحول الى قوة جذب حقيقة.وهذا لن يتحقق إلا بمواصلة بذل الجهود، وإجراء الحوارات، والتقدم بمبادرات جريئة تخرج هذه القوى من حالة الركود والمراوحة، وتنقلها الى وضع جديد تكون فيه قوة جذب حقيقية تحتاج إليها قطاعات واسعة من قوى شعبنا التي تراهن على تحول ديمقراطي حقيقي. إن الحوار وصراع الأفكار داخل هذا التيار هما ضرورة حيوية لتشجيع النقاش والتفكير النقدي ولتطوير التيار ذاته وقواه المحركة شريطة أن لا يؤدي ذلك الى وقف العمل النضالي المستمر، وتجميع القوى المشتتة، بهدف توسيع قاعدة التيار الديمقراطي، برغم تعدد مرجعياته الفكرية والتاريخية. ومن جهة أخرى ينبغي تجنب تحويل الاختلاف في الرؤى الى اختلاف وتعارضات مبلورة، تمنع تبلور خطاب هذا التيار، عبر الاتفاق على قواسم مشتركة وهي كثيرة.
خوض نضال فكري وسياسي لا يكل لتوضيح مخاطر الرهان على المشاريع والطبخات الخارجية، انطلاقا من قناعة قديمة بالتعويل على العامل الخارجي، والذي عمقها الانبهار بالسيناريو الأفغاني، الذي ينتمي إلى تربة أخرى وموازين قوى محلية وإقليمية ودولية أخرى ليست بالضرورة متطابقة مع الواقع السياسي والاستراتيجي لبلادنا. ومن جهة أخرى ينبغي بذل جهود مضاعفة لفضح مناورات النظام الديكتاتوري وألاعيبه لخلط الأوراق، وفضح زيف دعاواه بالربط بينه وبين الوطن. صحيح أن المعارضة وبواقعها الراهن لا تمتلك القدرة على كبح جماح الإدارة الأمريكية إذا قررت مباشرة حملتها العسكرية على بلادنا، ولكن لا ينبغي استخلاص استنتاج خاطئ من هذه الحقيقة، ودفع الأمر الى حد انه يتوجب عليها أن تلعب دور تحالف الشمال الأفغاني ، متحولة الى طليعة للحملة الأمريكية. إن كل ذلك يستحث المساهمة الفعلية في إزالة الغموض الذي يطبع الساحة السياسية الراهنة، من خلال الإقدام على مبادرات جريئة تستحث تحرك قوى المعارضة الوطنية، في اتجاه توحيد جهدها ونشاطها وخطابها الإعلامي، للتعامل بفاعلية ومرونة فائقة مع المستجدات والتطورات المرتقبة.
تصليب الوضع في كردستان من خلال إبلاء أهمية استثنائية لقضية المصالحة بين الحزبين الرئيسيين حدك وأوك، والاهتمام الجاد بقضية دمقرطة الحياة السياسية هناك، وتفعيل دور القوى الديمقراطية والأحزاب المتواجدة على الساحة، والاقتراب من هموم الجماهير الكادحة، والرهان على قدراتها الخلاقة في تطوير التجربة وتخليصها من عيوبها وثغراتها. إن الدمقرطة الحقيقية والمتواصلة للحياة السياسية في كردستان، وربط تطور هذه العملية بخيار العراق الديمقراطي الفيدرالي الموحد، سيساهم في تقليص التأثيرات الخارجية على الشأن الكردستاني، ويعيد للقضية القومية الكردية حيويتها وجدلية ارتباطها الوثيق بالعملية الديمقراطية في العراق. والاهم من كل ذلك أن ينتهي التذبذب عند العديد القوى الكردية، وخصوصا الأساسية منها والتي ما زالت تناور ولا تتخذ مواقف، في العلن على الأقل، من خيار الحرب الذي تطرحه الولايات المتحدة، ويبدو على الأرض كما لو أنها تراهن عليه. ومع الاحترام لتقديرات الاخوة في الحركة القومية الكردية ومقاربتهم للأمور، فإنه لا بد من الإشارة الى أن الخيار الأمريكي لن يقدم حلا صحيحا للقضية الكردية يتفق وطموحات هذا الشعب الذي قدم التضحيات الكبيرة من اجل قضيته العادلة. ولعل هناك من يتساءل : كيف يمكن ذلك والأمريكان يدعمون قضيتنا ويتعهدون بحماية المنطقة ؟ من المفيد التذكير بالرؤية الأمريكية الراهنة وبالملموس ومن دون رتوش. الأمريكان لحد هذه اللحظة يتعاملون مع القضية الكردية باعتبارها فضية إنسانية وليس قضية سياسية تحتاج الى حل سياسي يتفق وطموحات الشعب الكردي وخياراته السياسية بما فيها حق تأسيس دولته على كامل تراب كردستان. وحين يحقق الأمريكان أهداف حملتهم العسكرية بتنصيب حكومة تخرج من تحت معطفهم سيدعون القوى الكردية الى التفاوض مع السلطة المركزية الجديدة التي لن تمنحهم اكثر من حكم ذاتي لأن المشروع الأمريكي لا يقبل بأكثر من ذلك. وستصطدم التطلعات الكردية والنتائج التي تم تحقيقها في كردستان العراق، وأساسا الفيدرالية، بواقع فهم السلطة الجديدة للأمور وللقضية الكردية عموما. وباختصار شديد فإن الخيارات والتطلعات المشروعة للشعب الكردي، وضمان استمرار الإنجاز الحالي – الفيدرالية – لن تتحقق إلا في ظل بديل وطني وديمقراطي، فهو وحده القادر على تحقيق الربط الجدلي بين الديمقراطية للعراق والفيدرالية لكردستان. ومن هنا يمكن الاستنتاج بأن الحل الديمقراطي للقضية العراقية بمجموعها – تحقيق البديل الديمقراطي – هو وحده الذي يكفل حق الشعب الكردي في تحقيق أهدافه القومية المشروعة، والتوصل الى مساومة تاريخية كبرى بين المركز والإقليم ضمن نظام فيدرالي. إن الرهان على حلول أخرى وخيارات أخرى لن يحقق تطلعات هذا الشعب، بل قد يجلب بعضها مآسي إضافية، وقد تضطره الظروف لحمل السلاح من جديد للكفاح من اجل تحقيق أهدافه. والخلاصة التي نأمل أن تتفهمها القوى السياسية الناشطة في كردستان هي أن المشروع الأمريكي وتطبيقه يستلزم سلطة مركزية، وسيستحث هذا الواقع الجديد إعادة هيكلة للأهداف الأمريكية ومواقفها من القضية الكردية التي كانت تستخدم كورقة في المعادلات الإقليمية لتعود الى مواقعها القديمة كقضية محلية. الأثر المهم لهذا التغيير هو أن القيمة الاستراتيجية للقضية الكردية، بحسب المنظور الأمريكي، ستضعف وسيزداد الرهان على سلطة المركز التي ستتضاعف قيمتها الاستراتيجية، الأمر الذي يضعف من قدرة المفاوض الكردي على المطالبة بذات الشروط التي يقدر على طرحها اليوم، أو في حال تحقيق البديل الديمقراطي. هذه الحقيقة مفقودة للأسف في الكثير من المقاربات السياسية للقضية الكردية من طرف القوى الكردية، وتحديدا الأساسية منها.
هناك حاجة ماسة لصياغة خطاب خاص بالمؤسسة العسكرية التي تضم " جيوش " عديدة وليس جيش واحد. إن خطاب القوى الديمقراطية تجاه هذه المؤسسة ينبغي أن يساهم في تحقيق إصطفافات وإستقطابات داخلها تؤدي في نهاية المطاف الى أن يصطف القطاع الأكبر من جنودها وضباطها مع الشعب ضد الديكتاتورية. من المؤكد أن قطاعات واسعة من المؤسسة العسكرية قد تضررت من حروب الديكتاتورية وجرائمها ضد شعبنا، وهؤلاء يكنّون مشاعر العداء للديكتاتور ونظام طغمته، ويحمل قطاع عريض منهم مشاعر وطنية وتطلعات للحرية والديمقراطية والكرامة. ومنعا للالتباس فإن الحديث يدور عن العسكريين وليس عن القوات المسلحة كمؤسسة باعتبارها إحدى أدوات إعادة إنتاج النظام. إن الانتصار في الكفاح ضد الديكتاتورية هو، أولا، رهن المشاركة النشيطة والفعالة للجماهير ووحدها قواها المناضلة من اجل التغيير الوطني والديمقراطي، وثانيا، رهن التنظيم والاستعداد لاستخدام أشكال النضال كافة، وإتقان فن المزج الصحيح والسليم لها في اللحظة التاريخية الملموسة، بما في ذلك توظيف القوى الموجودة في الجيش والقوات المسلحة بشكل صحيح في قلب المعادلة السياسية وخلق ميزان قوى جديد قادر ليس على تحقيق النصر على الديكتاتورية بل وتحقيق الخيار الوطني الديمقراطي، خيار السلم والحرية والكرامة والخبز.
أن لوحة بالغة التعقيد تنتصب في هذه اللحظات أمام كل الوطنيين والديمقراطيين والمناهضين للديكتاتورية والمشاريع الأجنبية، وثمة صعوبات وعقبات تتواصل معترضة الطريق أمام وحدة هذه القوى، حيث تتداخل وتتشابك المصالح الإقليمية والدولية، وتتزايد مناورات الإدارة الأمريكية والغموض المتعمد الذي تحيط به خططها ومشاريعها الراهنة والمقبلة تجاه العراق، هذا إضافة الى السياسات الحمقاء للنظام الديكتاتوري الذي يتلاعب بمصائر بلادنا وشعبنا في آن.
ولكن رغم تعقد اللوحة وضبابيتها وتشابك معادلتها، فإن المطلوب اليوم من كل الوطنيين والديمقراطيين وكل المناهضين للديكتاتورية والعدوان، بذل أقصى الجهود والطاقات، من اجل بلورة القوى المشكلة للطريق الثالث، الطريق الذي يراهن على قدرات شعبنا الخلاقة، وبالاستفادة من الدعم الخارجي النزيه وغير المشروط، في تخليص الوطن من الحصار والديكتاتورية ومخاطر الهجمات الخارجية.
إن الطريق الوحيد لإنقاذ شعبنا من كارثة مدمرة ستقع هو رحيل النظام الديكتاتوري. ولاشك أن هذا النظام لن يرحل بملء إرادته بل يتعين إجباره على الرحيل. وينبغي أن يتم ذلك ليس عن طريق خارجي، بل من خلال فعل نضالي ملموس وقوي لشعبنا وقواه الحية، ومن خلال الدعم والمساندة النزيهة لكل القوي الإقليمية والدولية التي يهمها قيام نظام وطني وديمقراطي يكون بديلا حقيقيا للنظام الديكتاتوري الراهن.ولاشك أن إنجاز هذه المهمة النبيلة يستدعي ارتقاء قوى المعارضة العراقية، بمختلف أطيافها وتلاوينها، الى مستوى التحديات الكبيرة التي نعيشها اليوم والتداعيات الخطيرة المحتملة التي ستليها. ولاشك أن ذلك يستدعي توحيد الجهود الكثيرة ولكن المبعثرة، والاتفاق على قواسم مشتركة تفضي الى نشاطات ميدانية فعلية، تشكل بمجموعها الفصل الأخير من معركة الحرية والكرامة والخبز والديمقراطية. وينبغي أن تبذل كل الجهود، وتوحد كل الطاقات، لبلورة خيار تمثله كتلة شعبية/اجتماعية عريضة لا تراهن على النظام الديكتاتوري كحام للوطن، ولا على الولايات المتحدة كمنقذ لبلادنا من هذا النظام، بل نراهن على شعبنا العظيم وهباته التاريخية المعروفة، فهو الذي سينتصر في نهاية المطاف.
إن فرصة تاريخية حقيقية تنتصب اليوم، فلا ينبغي التفريط بها، وسيحاسب التاريخ أولئك الذين سيفرطون بهذه الفرصة النادرة، مثلما سيحاسب أولئك الذي يقامرون بمصير الوطن، والذين يدعمون بمناوراتهم استمرار الديكتاتورية وليس رحيلها، كما يدعون.
21/03/2002
#سيف_صادق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ما هكذا تورد الإبل يا أستاذ مكرم !
-
!!!"بعد11 عاما من الحصار الظالم يتحدثون عن " الانتصار الاقتص
...
-
الطريق الثالث ….. فرصة نادرة يجب أن لا تهدر
-
مناورة في موعدها المناسب… أم بعد فوات الأوان ؟
-
حين يدافع الصحفي عن الجلاد ويصمت صمت القبور تجاه الضحية !
-
ينبغي الرهان على شعبنا العظيم وليس على العدوان أوالديكتاتوري
...
-
هل للشعب الكردي مصلحة في - الحوار غير المقطوع ولكن غير النشي
...
المزيد.....
-
-أخبرتني والدتي أنها عاشت ما يكفي، والآن جاء دوري لأعيش-
-
لماذا اعتقلت السلطات الجزائرية بوعلام صنصال، وتلاحق كمال داو
...
-
كيم جونغ أون يعرض أقوى أسلحته ويهاجم واشنطن: -لا تزال مصرة ع
...
-
-دي جي سنيك- يرفض طلب ماكرون بحذف تغريدته عن غزة ويرد: -قضية
...
-
قضية توريد الأسلحة لإسرائيل أمام القضاء الهولندي: تطور قانون
...
-
حادث مروع في بولندا: تصادم 7 مركبات مع أول تساقط للثلوج
-
بعد ضربة -أوريشنيك-.. ردع صاروخي روسي يثير ذعر الغرب
-
ولي العهد المغربي يستقبل الرئيس الصيني لدى وصوله إلى الدار ا
...
-
مدفيديف: ترامب قادر على إنهاء الصراع الأوكراني
-
أوكرانيا: أي رد فعل غربي على رسائل بوتين؟
المزيد.....
-
فيما السلطة مستمرة بإصدار مراسيم عفو وهمية للتخلص من قضية ال
...
/ المجلس الوطني للحقيقة والعدالة والمصالحة في سورية
-
الخيار الوطني الديمقراطي .... طبيعته التاريخية وحدوده النظري
...
/ صالح ياسر
-
نشرة اخبارية العدد 27
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
مبروك عاشور نصر الورفلي : آملين من السلطات الليبية أن تكون ح
...
/ أحمد سليمان
-
السلطات الليبيه تمارس ارهاب الدوله على مواطنيها / بصدد قضية
...
/ أحمد سليمان
-
صرحت مسؤولة القسم الأوربي في ائتلاف السلم والحرية فيوليتا زل
...
/ أحمد سليمان
-
الدولة العربية لا تتغير..ضحايا العنف ..مناشدة اقليم كوردستان
...
/ مركز الآن للثقافة والإعلام
-
المصير المشترك .. لبنان... معارضاً.. عودة التحالف الفرنسي ال
...
/ مركز الآن للثقافة والإعلام
-
نحو الوضوح....انسحاب الجيش السوري.. زائر غير منتظر ..دعاة ال
...
/ مركز الآن للثقافة والإعلام
-
جمعية تارودانت الإجتماعية و الثقافية: محنة تماسينت الصامدة م
...
/ امال الحسين
المزيد.....
|