أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سعد هجرس - برنامج الأخوان:طلب لجوء سياسى جماعى إلى الماضى















المزيد.....


برنامج الأخوان:طلب لجوء سياسى جماعى إلى الماضى


سعد هجرس

الحوار المتمدن-العدد: 2077 - 2007 / 10 / 23 - 10:59
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


عندما وضعت برنامج "حزب الأخوان المسلمين" أمامى، وقبل أن أتصفح أبوابه الخمسة، اجتاحتنى موجة من الذكريات والمشاعر المتباينة.
المشهد الأول فى شريط الذكريات الذى حركه البرنامج الأول لـ "حزب" الاخوان المسلمين هو علاقتى المبكرة بهذه "الجماعة" فى طفولتى بريف المنصورة من خلال شقيقى الأكبر – رحمه الله – الذى كان من أعضائها النشطين والمتحمسين، لدرجة أنه أطلق على إبنه الأول إسم "حسن البنا" تيمناً باسم زعيم الجماعة ومؤسسها منذ قرابة الثمانين عاماً.
ومن خلال هذه البوابة كانت أدبيات "الأخوان" هى أحد المصادر الأولى للثقافة التقليدية التى استولت على عقلى ووجدانى فى طفولتى، فى تلك البيئة الريفية المغلقة التى تقدس "النقل" وتقدمه على "العقل" وتقتات على الخرافات والأساطير وتدور فى فلك التزمت والجمود وتحارب الاجتهاد والتجديد وشتى صور التفكير النقدى.
وعندما جئت إلى القاهرة فى خمسينيات القرن الماضى للالتحاق بمدرسة الابراهيمية الثانوية، التى كان من حسن حظى أن ناظرها هو المعلم العظيم الأستاذ محمود الخفيف مؤلف الكتاب الرائع والمنصف " عرابى المفترى عليه"، وجدت نفسى فى قلب "كوكب" آخر يموج بتيارات ثقافية حداثية ومعارك فكرية حرة وبالغة الحيوية والاثارة لم تستطع ثقافتى التقليدية الزراعية المحافظة والمتعصبة أن تصمد طويلاً أمام تحدياتها وتبصراتها.
المشهد الثانى فى شريط الذكريات الذى حركه الاصدار الأول لبرنامج حزب الاخوان المسلمين فى 25 أغسطس 2007 هو معايشتى لعدد كبير من أعضاء الجماعة ليل نهار، لمدة خمس سنوات متصلة من نهاية الستينيات إلى بدايات السبعينيات، فى معتقل طره السياسى.
فى هذا المعتقل كان للأخوان النصيب الأكبر من العنابر والزنازين بحكم أغلبيتهم العددية. وإلى جوارهم كان يوجد بضعة عشرات من المعتقلين اليساريين، إضافة إلى عدد من المعتقلين الذين لا هم "اخوان" ولا هم "يساريين" فاختارت لهم الإدارة اسم "النشاط المعادى" وتحت هذا الاسم المراوغ كان يوجد وفديون وسياسيون من عصر ما قبل ثورة 23 يوليو وخلافه .. وأخيراً .. مجموعة من "اليهود".
نعم .. مواطنون مصريون تم اعتقالهم بعد هزيمة 5 يونيو 1967، لا لشئ إلا لأنهم يهود بحكم الديانة !!
وداخل الأسوار ... لم يكن الاخوان مجرد " أفكار" مجردة وإنما بشر من لحم ودم تقابلهم وتعيش معهم رغم أنفك ورغم أنوفهم. وكان كثير منهم – هم الغالبية – يرفضون مجرد الحديث معنا – نحن اليساريين والعياذ بالله – ويرفضون حتى رد السلام أو تبادل تحية الصباح ويشيحون بوجوههم عنا، ناهيك عن أنهم كانوا يرفضون مشاركتنا فى أى نشاط "اجتماعى" فى هذه السنوات السوداء التى لا نعرف لها نهاية . حتى أننا فكرنا ذات يوم فى تنظيم مباراة فى كرة القدم لكسر الرتابة والتوتر. فرفضوا بإباء وشمم. وعندما وافق اليهود على اللعب معنا جلسوا هم على مقاعد المتفرجين وقاموا بتشجيع اليهود بحماس غريب!
وهذا لم يمنع بالطبع وجود عناصر قليلة نسبيا من الاخوان تتحدث وتجادل وتحاور وتحاول مد الجسور حتى وإن يكن فى أضيق الحدود. وهذا أمر لا يستهان به إذا وضعنا فى الاعتبار أن هذه الفترة ذاتها هى التى شهدت نشأة جماعات الاسلام السياسى، التى خرجت من معطف جماعة الاخوان المسلمين.
هؤلاء الذين قاموا بتكفير المجتمع، لم يكونوا يتحدثون مع الاخوان ولا الاخوان يتحدثون معهم، ولم يكونوا يصلون خلف آذان واحد. فقد كان هناك آذان الحكومة، ثم أذان الاخوان، وبعد ذلك أذان لكل فرقة من "المكفراتية"، ولا تسمح أى فرقة لأعضائها بالصلاة خلف إمام فرقة أخرى .. فما بالك بالحديث مع العلمانيين اليساريين والعياذ بالله!
الشئ الوحيد الذى اتفق عليه الاخوان والمنشقين عليهم والخارجين من معطفهم .. كان يوم وفاة الرئيس جمال عبدالناصر، حيث دوت الزغاريد فى أرجاء معتقل طره السياسى، وتم توزيع الشربات.
وبعد أقل من عام على رحيل عبد الناصر أصدر خليفته الرئيس أنور السادات قراراً بالإفراج الجماعى عن أعضاء الجماعة الذين قبع بعضهم فى السجون منذ عام 1954 .. ليبدأ شهر عسل بين الأخوان والسادات الذى استعان بالاخوان – ثم بجماعات الاسلام السياسى – لمواجهة صعود المعارضة العلمانية ، يسارية وليبراية ، ودفع حياته ثمناً لهذا التحالف الانتهازى حيث انقلب عليه حلفائه الإسلاميين وقاموا باغتياله فى حادث المنصة الشهير، لتعود ريما إلى عادتها القديمة.
وما بين المشهد الأول والمشهد الثانى، توجد مئات وآلاف الذكريات من التجارب والمعارك الفكرية والسياسية التى نشأت ، ونشبت، بين نشطاء فى جماعة الأخوان المسلمين وبين كاتب هذه السطور داخل المعتقل وخارجه.
وعندما وضعت برنامج حزب الأخوان المسلمين أمامى كانت هذه الذكريات تسبق قراءتى لسطور هذا البرنامج.
الذى لم يعد – بالنسبة لى – مجرد كلمات مكتوبة بالحبر على الورق وإنما هو فصل جديد فى صراع تراجيدى مخضب بالدماء أحياناً، وبالعذابات والدموع والآلام دائماً وأبداً، بدأه الشيخ حسن البنا منذ ثمانين عاماً .. ولا نعرف متى ينزل ستار الختام والفصل الأخير فى هذه الدراما الدامية.
***
والآن .. كيف نقرأ برنامج "الأخوان"؟
أولاً .. مجرد إقدام جماعة الأخوان المسلمين على صياغة برنامج يعتبر تطوراً فى مسيرتها مقارنة بعزوفها فى السابق عن التقدم بمثل هذا البرنامج واكتفائها بشعارات عامة وغامضة. وعلى عكس الأدبيات السابقة جاء البرنامج مفصلاً فى خمسة أبواب بعد المقدمة، حيث يعلن الباب الأول مبادئ وتوجهات "الحزب" فى ثلاثة فصول. ويعرض الباب الثانى رؤية الجماعة للدولة ونظامها الأساسى، ومن بعده يتناول الباب الثالث تصورا للتعليم والتنمية والسياسة الاقتصادية، ويضع الباب الرابع "العدالة الاجتماعية" عنوانا له فى حين يتحدث تحت هذا العنوان عن الشئون الدينية والوحدة الوطنية وقضايا مشكلات المجتمع. أما الباب الخامس والأخير فيتركز على البناء الثقافى والبرنامج الاعلامى.
وهذه – على حد علمنا – هى المرة الأولى التى تطرح فيها أدبيات "الأخوان" برنامجاً بهذا الشمول وذاك التفصيل.
وعلى حد علمنا أيضاً فإن هذه المرة الأولى التى تتضمن أدبيات الأخوان مخاطبة "ودية" للشعب، وعلى عكس اللهجة المليئة بالوصاية المتعالية فى معظم الكتابات الأخوانية السابقة نجد فى هذا البرنامج لهجة أكثر تواضعا حيث تتمنى الجماعة أن "يرقى هذا البرنامج إلى طموحات وآمال شعبنا المصرى الحبيب بعلمائه ومفكريه من أصحاب الرأى والأقلام والمخلصين وبكل طوائفه. وألا يبخلوا علينا بمقترحاتهم ونصائحهم وتوجيهاتهم وتصويباتهم. ونسعد بالنقد البناء ولا نغضب ممن لا يتفق معنا أو حتى يهاجمنا طالما أن مصلحة مصرنا الحبيبة هى هدفنا جميعا وأن الحوار البناء هو أسلوبنا وأن العدل والانصاف والموضوعية هو منهجيتنا لتحقيق هذا الهدف".
هذا أسلوب جديد للخطاب الأخوانى.
ثانياً – مجرد حديث البرنامج عن "حزب" الأخوان المسلمين يعتبر – فى رأينا – تطوراُ ثانيا لهذه الجماعة التى ظلت تهاجم فكرة الأحزاب من حيث الأصل باعتبارها "بدعة غربية" منافية لروح الإسلام، شأنها شأن الديموقراطية وغيرها.
الآن .. تخلت الجماعة عن هذه اللغة الخشبية وأصبحت تتحدث عن التعددية الحزبية وتداول السلطة والآمة كمصدر للسلطات والحريات وحقوق الإنسان .. وهذه كلها كانت حتى عهد قريب فى عداد المحرمات فى الخطاب الإخوانى.
ثالثا- رغم الاعتراف بايجابية ما ذكرناه سابقاً، فإن المرء لا يسعه سوى الاستغراب من ركاكة صياغة البرنامج. وكان أغلب الظن أن هذه الجماعة التى تفاخر بأنها تضم عدداً وفيراً من الخبراء والأساتذة فى كافة المجالات قادرة على صياغة برنامج أكثر تماسكاً ورصانة.
رابعاً- ليس المقصود بالتماسك والرصانة الصياغة اللغوية وإنما أيضاً مدى جدية ومصداقية عدد كبير من الشعارات الإنشائية التى تضمنها البرنامج. وعلى سبيل المثال فإن البرنامج يتبنى سياسة اقتصادية "توسعية" تقوم على تشجيع الاستثمار المحلى والأجنبى، فى حين أن السياسة الخارجية التى يتبناها البرنامج ذاته – إذا كان يعنى ما يقول – يمكن أن تؤدى إلى نسف الجسور أو انسداد القنوات على الأقل مع الجهات الدولية التى بيدها مفاتيح صنابير الاستثمارات الأجنبية المباشرة وغير المباشرة، فكيف سيتم تمويل البرنامج الاقتصادى فى ظل هذه التوجهات السياسة؟!
خامساً – عندما تقرأ الكثير من التفاصيل التى يغرقك فيها البرنامج لا تجد فارقاً يذكر بينه وبين برامج بعض الأحزاب السياسية الأخرى، خاصة الحزب الوطنى الحاكم.
سادساً – إفراط البرنامج فى الدخول فى تفاصيل جزئية لا يبدد الغموض الذى يكتنف موقف الجماعة من عدد من الأمور المهمة التى تقلق الرأى العام.
منها مثلا الموقف من الاقباط.
فالبرنامج يتحدث عن "أن الاسلام عقيدة وشريعة، وأنه لا إكراه فى الدين وأن الشريعة الاسلامية تعنى بحقوق جميع المواطنين وتضمن لهم حرياتهم فى الاعتقاد وفى كل أمور الحياة بتوازن تشريعى متكامل.."
وأن "الحرية والعدالة والمساواه منحة من الله للإنسان، لذا فهى حقوق أصيلة لكل مواطن بغير تمييز بسبب المعتقد أو الجنس أو اللون".
وأن "الشريعة الاسلامية قد أقرت حق غير المسلين فى الاحتكام إلى دياناتهم فى أمور العقيدة والشعائر الدينية والأحوال الشخصية المتعلقة بالأسرة وحتى الآحكام التى يوجد فيها اختلاف عن أحكام الشريعة الإسلامية.."
وأن "مصر دولة لكل المواطنين الذين يتمتعون بجنسيتها وجميع المواطنين يتمتعون بحقوق وواجبات متساوية".
إلا أن البرنامج ذاته يعود إلى التمييز بين المسلمين والأقباط حيث يقول أن "للدولة وظائف دينية أساسية، فهى مسئولة عن حماية وحراسة الدين، والدولة الاسلامية يكون عليها حماية غير المسلم فى عقيدته وعبادته ودور عبادته وغيرها، ويكون عليها حراسة الإسلام وحماية شئونه .. وتلك الوظائف الدينية تتمثل فى رئيس الدولة أو رئيس الوزراء طبقاً للنظام السياسى القائم".
أى أن هؤلاء لا يمكن أن يكونوا من غير المسلمين.
ويستمر البرنامج ليفتح جملة اعتراضية يقول فيها بالنص "يضاف لذلك أهمية التنويه إلى أن قرار الحرب يمثل قراراً شرعياً، أى يجب أن يقوم على المقاصد والأسس التى حددتها الشريعة الاسلامية، مما يجعل رئيس الدولة أو رئيس الوزراء طبقاً للنظام السياسى القائم، إذا اتخذ بنفسه قرار الحرب مسائلاً عن استيفاء الجانب الشرعى لقيام الحرب. وهو بهذا يكون عليه واجب شرعى يلتزم به".
هنا نجد البرنامج يفتح نافذة للتمييز بين المصريين، لا تكفى الشعارات التى أشرنا إليها فى البداية لتهدئة المخاوف من أن تهب منها ريح الفتنة الطائفية والتمييز الطائفى.
خاصة وأن هذه معضلة قديمة فى الفكر الاخوانى التى كثيراً ما وردت تحت عنوان "الولاية العامة" وشككت فى إمكانية تولى المصرى غير المسلم هذه الولاية العامة التى يتوسع البعض فى تحديدها بينما يميل بعضهم الآخر إلى التضييق. فبينما يقصرها بعض "الأخوان" على رئاسة الدولة يوسعها بعضهم الآخر لتشمل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية. وقد رأينا أحد القضاة يقول على الملأ أنه ضد جلوس قبطى على منصة القضاء!
وإلى جانب هذا الغموض المتعلق بموضوع بالغ الحساسية، فإن البرنامج إذا كان يريدنا أن نصدق أن الأخوان المسلمين قد غيروا رؤيتهم التقليدية للمصريين غير المسلمين لكان واجباً عليهم أن يضعوا فى صدر برنامجهم نقداً ذاتياً عن الأدبيات العنصرية التى تزخر بها وثائقهم المنشورة، ومنها بهذا الصدد فتوى الشيخ عبدالله الخطيب، أحد قادة الجماعة، الخاصة بحكم بناء الكنائس فى دار الإسلام، حيث يقول أن الحكم على ثلاثة أقسام: الأول بلاد أحدثها المسلمون وأقاموها كالمعادى والعاشر من رمضان وحلوان. هذه البلاد وأمثالها لا يجوز فيها إحداث كنيسة. والثانى ما فتحه المسلمون من البلاد بالقوة كالإسكندرية بمصر والقسطنطينية بتركيا .. فهذه أيضاً لا يجوز بناء هذه الأشياء فيها، وبعض العلماء المسلمين قال بوجوب الهدم لأنها بلاد مملوكة للمسلمين.. والقسم الثالث ما فتح صلحا بين المسلمين وبين سكانها. والمختار هو إبقاء ما وجد بها من كنائس وبيع على ما هى عليه فى وقت الفتح ومنع بناء وإعادة ما هدم منها".
هذا الكلام قاله أحد زعماء جماعة الآخوان وتم نشره فى مجلة الدعوة، لسان حال الجماعة، فى عدد ديسمبر عام 1980.
ومثل هذا الكلام المتخلف والمضر كثير جدا. وكان من المفترض أن نجد اعتذاراً من برنامج الحزب الأخوانى عن هذا التراث. وبدون هذا النقد الذاتى يصعب شراء البضاعة الجديدة.
سابعاً- ينطبق هذا على موضوعات أخرى كثيرة مثل قضية المرأة.
ثامناً- يبقى الأهم من ذلك كله أن كل ما قدمه البرنامج باليمين أخذه بالشمال. فكل المصطلحات والمفاهيم العصرية التى بشرنا البرنامج بأنها لم تعد من المحرمات – مثل الديموقراطية وتداول السلطة والمواطنة والدولة المدنية – كل هذه المفاهيم وضعها البرنامج نفسه بين قوسين غليظين، حيث وضع على رأسها عمامة إسلامية. والبرنامج بهذا الصدد لا يكتفى بالتأكيد على أن مبادئ الشريعة الاسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع، بل يتعهد بـ "إعمال المادة الثانية من الدستور لتشمل كافة مستويات التشريع"، بما يعنى أنه يرى أن المادة الثانية غير معمول بها على "كافة مستويات التشريع".
ولا يكتفى بهذا النص الذى يتميز بالعمومية، بل يتعمد البرنامج النص على "آليات" لاعمال هذا النص، حيث يقول أنه "يجب على السلطة التشريعية أن تطلب رأى هيئة من كبار علماء الدين فى الآمة، على ان تكون منتخبة أيضاً انتخاباً حراً ومباشراً من علماء الدين ومستقلة استقلالاً تاماً وحقيقياً عن السلطة التنفيذية فى كل شئونها الفنية والمالية والإدارية، ويعاونها لجان ومستشارين من ذوى الخبرة وأهل العلم الأكفاء فى سائر التخصصات العلمية الدينوية الموثوق بحيدتهم وأمانتهم. ويسرى ذلك على رئيس الجمهورية عند إصداره قرارات بقوة القانون فى غيبة السلطة التشريعية. ورأى هذه الهيئة يمثل الرأى الراجح المتفق مع المصلحة العامة فى الظروف المحيطة بالموضوع. ويتم بقانون تحديد مواصفات علماء الدين الذين يحق لهم انتخاب هيئة كبار العلماء والشروط التى يجب أن تتوافر فى أعضاء الهيئة".
هنا مربط الفرس .. فهذا النص ينسف كل ما تشدق به البرنامج من حديث معسول عن دولة مدنية وديموقراطية وحقوق إنسان وخلافه. فهو يعنى بدون لف أو دوران تكريس مفهوم الدولة الدينية بصورة واضحة ويعطى لطبقة "رجال الدين" سلطة الوصاية على عقل الأمة ووجدانها وسياساتها بما فى ذلك قرارات رئيس الجمهورية من خلال "الرأى الراجح" لهيئة كبار علماء الدين المشار إليهم، والتى يجب ألا يمر أى قرار " فى سائر التخصصات العلمية الدنيوية" دون موافقتها.
بهذا النص ينسف البرنامج كل الايجابيات التى أشرنا إليها، أو على الأقل فإنه يضعها أمام تساؤلات وشكوك لا حصر لها.
ومن هذه الزاوية فإن البرنامج – فى التحليل النهائى – يمثل صدمة، وبالذات لأولئك الذين راودهم الأمل فى أن يكون قرار جماعة الاخوان المسلمين بتشكيل حزب سياسى خطوة إلى الأمام.
***
وبدون الانسياق وراء شهوة إصدار أحكام مطلقة، لا تقبل النقض والابرام، فإن تناولنا لبرنامج "حزب" الأخوان المسلمين، فى السطور السابقة، فى عجالة، وبالمزج بين الخبرة الذاتية وبين القراءة الموضوعية ربما يفتح الباب أمام عدد من الملاحظات الختامية.
أولها – أن الأخوان المسلمين ليسوا مجرد مجموعة من الأوراق والبرامج والكتابات، الرديئة أو غير الرديئة، الركيكة أو البليغة. بل هم أولاً وقبل كل شئ جزء منا ومن أهلنا ومن نسيج هذا الوطن، وليسوا هابطين علينا من المريخ بل هم أناس من لحم ودم، ينحدرون من طبقات اجتماعية وخلفيات ثقافية مختلفة، وإذا كانوا بهذا المعنى ليسوا من جنس الشياطين فأنهم بالتأكيد ليسوا ملائكة.
وشانهم شأن غيرهم من الأحزاب والجماعات فيهم "الشخص" الصالح والشخص الطالح. وتجربتى الشخصية – خاصة المستوحاة من تجارب الاعتقال – ان الأساس هو نوعية الإنسان. فالإنسان الجيد يمكن أن يكون يساريا جيداً أو يمينياً جيداً. والإنسان السئ يكون شيوعيا سيئاً وإخوانيا رديئاً. وهو ما ينطبق عليه المأثور الإسلامى "خيركم فى الجاهلية خيركم فى الإسلام".
وهذا معناه ألا نتعامل مع جماعة كبيرة مثل الأخوان المسلمين على أنها كتلة صماء، بل إنها تتوزع بالضرورة بين اتجاهات وجماعات فرعية متنوعة فيها المتطرف وفيها المعتدل، فيها المتحجر وفيها المرن، والعمل السياسى يجب أن يقوم على رصد هذه الفروق مهما كانت طفيفة والتعامل وفقاً لها من أجل تحييد البعض وكسب البعض الآخر.. وهكذا.
كما أنه لا يجب النظر إلى جماعة مثل الأخوان المسلمين بصورة تجريدية، أى بوضعها خارج الزمان والمكان. فلاشك أن وضع هذه الجماعة فى ظل انقسام العالم إلى معسكرين ووجود الاتحاد السوفيتى على رأس أحد هذه المعسكرين شئ، ووضعها فى ظل العولمة وهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على النظام العالمى شئ آخر. ففى الوضع الأول كانت السياسة الأمريكية تفسح مجالاً واسعا نسبياً لكل التنظيمات الدينية من أجل مساعدتها بصورة مباشرة أو غير مباشرة فى الحرب على "الشيوعية الملحدة" حسب التعبيرات الأمريكية التى رددتها أجهزة الإعلام العربية كالببغاوات. أما فى الوضع الثانى، خاصة بعد انهيار الإمبراطورية السوفيتية ثم أحداث 11 سبتمبر، فإن أمريكا أصبحت بحاجة إلى خلق "عدو" جديد، قدمته لها الأصولية الإسلامية على طبق من فضة.
ثانياً- جربت الأنظمة المتعاقبة الحل الأمنى مع هذه الجماعة، سواء قبل ثورة 23 يوليو 1952 أو بعدها، والنتيجة التى نراها بأعيننا أن هذا التعامل الأمنى لم يحقق نجاحاً يعتد به. وهذا طبيعى لأن ملف "الأخوان" ملف سياسى وفكرى بالدرجة الأولى.
صحيح أن سياسة الاعتقالات والانهاك الأمنى تؤدى إلى انهيار بعض الأشخاص، وقد رأيت ذلك شخصياً حيث لم يكن يمر شهر دون أن يخرج عدد يزيد أو يقل من الأخوان رافعين شعارات مكتوبة على البطاطين تقول "لا رجعية ولا اخوان .. ولا تجارة بالأديان"، لكن فى مقابل هؤلاء كانت "التائبين" المعتقلات تنجب مزيداً من العناصر الأكثر تطرفاً، كما أن سياسة الاستبداد التى كثيرا ما تتساند وظيفيا مع الفساد لا تتوقف عن تزويد مثل هذه الجماعات بأعضاء جدد وأرضية جديدة.
ناهيك عن أن نظام التعليم، والدور الذى تلعبه المؤسسة الدينية الاسلامية الرسمية، فضلاً عن الإعلام فى كثير من الأحوال .. تلعب كلها أدواراً مهمة فى خلق الأرضية الفكرية الصديقة لايديولوجية الاخوان على عكس ما يبدو فى الظاهر.
أضف إلى ذلك أن الحكومات المتعاقبة قدمت بأياديها أكبر الخدمات لجماعة الاخوان المسلمين.
فعلت ذلك عندما صادرت السياسة بعد أن أممت الاقتصاد، وباحتكار الحكومة للسياسية فأنها قتلتها وخلقت فراغاً فى المجتمع لم يملاًه سوى المال والدين.
فعلت ذلك عندما عملت – بغباء وقصر نظر – على التحالف سراً وعلناً مع جماعات الإسلام السياسى لضرب الأحزاب والتيارات العلمانية، ليبرالية أو يسارية، فأفسحت المجال للأصوليين من جميع ألوان الطيف.
فعلت ذلك عندما دأبت على ضرب جماعة الاخوان أمنياً باليد اليمنى، وتبنى أفكارها باليد اليسرى. والأمثلة على ذلك أكثر من أن تعد أو تحصى. ففى الانتخابات البرلمانية الأخيرة رأينا مرشحين عن الحزب الوطنى ينافسون مرشحى الأخوان فى رفع الشعارات الدينية من قبيل "القرآن هو الحل" فى مواجهة "الإسلام هو الحل". وتحت قبة البرلمان كان من المستحيل ان تميز بين النواب المنتمين للحزب الوطنى وبين النواب المنتمين للجماعة المحظورة أثناء مناقشة تصريحات وزير الثقافة عن الحجاب.
فعلت ذلك عندما غازلت الأخوان، بل قامت نيابة عنهم بعملهم فى مصادرة الكتب والمطبوعات التى لا تروق لهم، برغم ما انطوى عليه ذلك من انتهاك لحرية الابداع وحرية الاعتقاد وحرية الرأى.
فعلت ذلك بسماحها بإغراق المجتمع فى موجة من الدروشة والتزمت والتعصب.
والأهم من هذا كله أنها فعلت ذلك – ومازالت تفعله – بتمسكها بالمادة الثانية من الدستور رغم أن هذه المادة هى طوق النجاة للجماعة "المحظورة" والقشة التى تتعلق بها، والمسوغ "الشرعى" لتقدمها ببرنامجها الذى نتحدث عنه، حيث قالت فى ديباجته أنها تتقدم بهذا البرنامج "استناداً إلى المادة الثانية من دستورنا المصرى، التى تنص على أن دين الدولة الرسمى هو الإسلام، وأن مبادئ الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع".
وإذا كان البعض يرى أن تعديل المادة الخامسة بصورة تمنع قيام أحزاب ذات مرجعية دينية، يوازن ذلك ويضع عقبة أمام قيام حزب للأخوان المسلمين، فإن هذا لا يحل مشكلة تردد الدولة المصرية قبل ثورة 23 يوليو 1952 وبعدها أمام حسم العلاقة بين السياسة والدين. فلها دائماً عين فى الجنة وعين فى النار. قدم فى الدولة المدنية والقدم الأخرى فى الدولة الدينية.
وتاريخ نشأة جماعة الاخوان المسلمين هو فى حد ذاته أمر بالغ الدلالة، فهذه الجماعة التى رفعت لواء إقامة دولة الخلافة الإسلامية ظهرت إلى الوجود عام 1928 أى فى مواجهة المد الوطنى الديموقراطى لثورة 1919 الذى يعلى من شأن المواطنة ويسعى إلى إقامة دولة مدنية حديثة.
ومنذ ظهرت الجماعة حتى الآن.. فإن الحكومات المتعاقبة، بما فى ذلك الحكومات التى اصطدمت بها وألقت بها فى غياهب السجون، قامت بعملها ونشرت أفكارها وترددت عن اتخاذ موقف حاسم يفصل ما هو مقدس عما هو دنيوى، وما هو مطلق عما هو نسبى وما هو لله عما هو لقيصر. ومازال ذلك حتى اليوم!
ثالثاً- الملفت للنظر كذلك أن الفروق بين جماعة الاخوان المسلمين وبين المؤسسة الدينية الإسلامية الرسمية قد تقلصت كثيراً فى الآونة الأخيرة. وآخر الأمثلة على ذلك تصريح لفضيلة مفتى الديار المصرية الدكتور على جمعة يقول فيه أن الاختلاف بينه وبين الاخوان هو فقط على "شكلة" توضع على رأس حرف، وأوضح نظريته بقوله "نحن فى الأزهر نوافق على أن نحكم بالإسلام (بضم النون) بينما يقول الاخوان نريد أن نحكم بالإسلام (بفتح النون).
وعندما يكون كل الاختلاف بين الأزهر الشريف وجماعة الأخوان على "شكلة" فوق حرف النون.. فإن لنا أن نتصور مغزى ذلك وكيف أن آلاف المساجد يتم تزويدها بخريجين من هذه المؤسسة الرسمية يقبضون رواتبهم من الحكومة لكنهم ينطقون باسم الأخوان ويحولون مساجد الأوقاف إلى مقار للجماعة المحظورة.
رابعاً – إذا لم يكن الصراع مع جماعة الاخوان صراعاً بين مشروع الدولة المدنية العلمانية الديموقراطية العصرية القائمة على "القانون" وبين مشروع الدولة الدينية، القائمة على "الفتوى" ووصاية "هيئة كبار رجال الدين"، فعلى ماذا يكون؟ واذا كان الأزهر الشريف يتبنى الايديولوجية الاخوانية على النحو الذى يتحدث عنه برنامج الجماعة وبين دولة غير اخوانية لكنها تنشر الثقافة والتعاليم الاخوانية فما الفرق؟
واذا كانت هذه الملاحظات الأربعة السريعة تعنى شيئاً فإن هذا الشئ هو أن برنامج الاخوان المسلمين يمثل نكسة على الأقل بالنسبة للتيار "الاصلاحى" المعتدل داخل هذه الجماعة، كما يمثل خيبة أمل وصدمة لمن راهنوا على هذا التيار الافتراضى المعتدل، خاصة مع توجهه الواضح والصريح لإرساء دعائم دولة دينية على النحو المشار إليه.
لكن إضعاف هذا الاتجاه لا يكون بمجرد نقده وإظهار نقائصه وتناقضاته، وإنما بتقديم البديل الموضوعى. وبديهى أنه لا يمكن محاربة مشروع الدولة الدينية على نفس الأرضية.
وهذا يعيدنا إلى المربع رقم واحد وهو ضرورة أن تنبذ النخبة المصرية ترددها التاريخى فيما يتعلق بالعلاقة بين الدين والسياسة وأن تعلن انحيازها بوضوح وشجاعة لخيار الدولة المدنية العلمانية العصرية.
حينها فقط .. وفى ظل وجود هذا الاتجاه المقابل يمكن إعادة ترتيب الأوراق، وإعادة بناء التحالفات، بل وإمكانية الاستفادة من التمايزات القائمة بين أجنحة الجماعة الأخوانية ذاتها، والتى لا يجب التوقف عن الحوار معها فى كل الظروف فمن غير المعقول أن تفرض علينا ضرورات السياسة الخارجية أن نتفاوض مع الإسرائيليين، ثم نستنكف الحوار مع مصريين حتى لو كانوا من فصيلة الأخوان.
أما الرقص على ايقاع الجماعة المحظورة .. حتى لو ترافق مع اعتصارهاً أمنياً، فلن يؤدى إلى شئ سوى إعادة إنتاج الأزمة المستحكمة منذ ثمانين عاماً.



#سعد_هجرس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تصريحات ساويروس .. المهذبة
- رسالة أمل .. من نوبل
- الملك فاروق الأول .. والأخير!
- فواتير الصيام -المضروبة- فى بنك تنمية الصادرات
- النوبة تصرخ يا ناس!!
- قرار شجاع .. حتى لو جاء متأخرا
- بلد شهادات !
- ثمانون جلدة للصحفيين .. وثمانون مليون جلدة للدولة المدنية ال ...
- حتى فى إندونيسيا: الأصوليون يستغلون الديموقراطية .. لذبحها!
- حرب الاستنزاف
- -سر- ماهر أباظة
- الصحافة .. فى مرمى النيران المعادية والصديقة!
- هؤلاء الصغار الذين يشعلون الحرائق أليس لهم كبير؟!
- الحكومة ترفض البيع.. للمصريين!
- حبس الصحفيين.. تاني!!
- رسالة تنبيه من إندونيسيا للنائمين في العسل:الدور المصري ينحس ...
- مجموعة الخمس عشرة.. هل تذكرونها؟!
- هل مازالت مصر أم الدنيا؟!
- الصحفيون ليسوا شتامين.. والصحافة ليست وشاية
- التلاسن لا يحل مشاكل الوطن


المزيد.....




- طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال ...
- آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
- دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه ...
- في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا ...
- المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه ...
- عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
- مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال ...
- الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي ...
- ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات ...
- الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي


المزيد.....

- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سعد هجرس - برنامج الأخوان:طلب لجوء سياسى جماعى إلى الماضى