عايد سعيد السراج
الحوار المتمدن-العدد: 2078 - 2007 / 10 / 24 - 08:53
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
بلاغة القرآن -6-
ونستمر مع الكاتب في تحديده للمعاني القرآنية , وهو يفصل الآيات وفق المنهج اللغوي ومعنى الدلالات اللغوية في القرآن , وتحديد المعاني والمباني وفق المنهج السليم 0
(00ومن هذا القبيل ما جاء في سورة التوبة من قوله : ( أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ) (3) 0 معلوم أن لما الجازمة كلمة تختص بالمضارع فتجزمه وتنفيه وتقلبه ماضياً , إلا أن المنفي بلما- مستمر النفي إلى الحال منا- في قوله :
فإن كنت مأكولاً فكن خير آكل وإلا فأدركني ولما أمزق
بخلاف لم فإنها تحتمل اتصال النفي وتحتمل انقطاعه , ولذا جاز أن يقال لم يكن ثم كان , ولم يجز لما يكن ثم كان بل يقال لما يكن وقد يكون , لأن المنفي بلما متوقع الحدوث في المستقبل 0 فمعنى الآية أتطنون أنكم / 960/ تتركون على ما أنتم عليه , وحتى الآن لم يعلم الله المخلصين الذين جاهدوا منكم في سبيل الله وغير المخلصين 0 ومثل هذا لا يليق أن يقول علام الغيوب الذي أحاط علمه بكل ما كان وما يكون0 والزمخشري (4) يقول : إن لما هنا معناها التوقع , ولكن الإشكال يزول بكون معناها التوقع , لأن نفي العلم عن الله مستمر إلى الحال, على أن الأمور المتوقعة أيضاً لا تخفى على علام الغيوب 0 وقد أراد بعضهم رفع الإشكال في هذه الآية وأمثالها بأن المراد بالعلم هنا هو العلم الذي يتعلق به الجزاء , وهو كلام فارغ لأن علم الله كذاته أزلي وأبدي , فهو عالم بكل ما هو كائن وبكل ما سيكون 0 فالعلم الذي يتعلق به الجزاء غير خارج عن علمه أيضاًَ , لأنه يعلم في الأزل من سيكون المجاهد منهم ومن لا يكون ومن يستحق الجزاء ومن لا يستحق 0
ومن هذا القبيل ما جاء في سورة الأعراف من قوله : ( هذه ناقة الله لكم آية ) (5) 0 فيه شيء من سوء التعبير أيضاً , فإن إضافة الناقة إلى الله قول لا يستسيغه الذوق السليم خصوصاً في كتاب معجز القرآن 0 ومن العجيب أن الزمخشري في تفسيره (1) قال: وإنما أضيفت إلى اسم الله تعظيماً لها وتفخيماً لشأنها , وفاته أن في تعظيمها بالإضافة إلى الله ( لا إلى اسم الله كما يقول هو ) استهانة بعظمة الله وخروجاً عن التأدب في الكلام عن الله , وكان يمكنه أن يقول : هذه الناقة لكم آية الله , فيكون بجعلها آية الله قد عظمها وفخم شأنها بعبارة خالية من سوء التعبير0
وبهذه المناسبة نذكر لك على سبيل الاستطراد ما رووه في هذه الناقة من أن عاقرها هو أشقى الأولين لأن قوم صالح عقروها , فذكروها حديثاً افتروه على رسول الله وهو أنه قال لعلي بن أبي طالب : أتدري من أشقى الأولين ومن أشقى الآخرين ؟ فقال : لا , قال: أشقى / 961/ الأولين عاقر ناقة صالح وأشقى الآخرين من يضربك بالسيف على هذا ( وأشار إلى رأسه ) فيخضب بالدم هذه ( وأشار إلى لحيته ) (2) 0 ومما لا ريب فيه أن هذا الحديث اختلقه التحزب السياسي لعلي وأولاده بعدما قتله ابن ملجم بالكوفة0
وهب أن ابن ملجم أشقى الآخرين لأنه قتل خليفة المسلمين , فما بال عاقر الناقة صار أشقى الأولين بعقره ناقة تعطى مائة من أمثالها دية في قتل أقل إنسان 0 فإن قلت َ: إنه صار أشقى الأولين لأنه كفر بالله وعصى أمره لا لأنه عقر الناقة , قلتُ : عن قومه ثمود كلهم كفروا بالله وعصوا أمره , وكان عقر الناقة برضى منهم , فما بال عاقرها وحده صار من بينهم أشقى الأولين0
(21) وفي سورة النحل قوله : ( ولقد نعلم أنهم يقولون إنهم يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ) (3) 0 كان بمكة في عهد نبوة محمد غلام رومي لعامر بن الحضرمي اسمه جبر (4) , وكان هذا الغلام صاحب كتب , ويظهر أنه كان له اتصال بمحمد فلذا اتهم كفار قريش محمداً بأن هذا الغلام يعلمه بعض ما يقول من القرآن 0 ففي هذه الآية ذكر تهمتهم وردها عليهم بأن هذا الغلام لسانه أعجمي والقرآن عربي مبين فكيف يعلم محمد القرآن 0 ولا يخفى أن هذا الرد غير منطبق على التهمة لأنهم لم يقولا : إن الغلام ينظم له الآيات القرآنية , وإنما قالوا : إنه يعلمه أموراً فيجعلها هو قرآناً , فالتعليم شيء والنظم شيء آخر , ولا منافاة بين تعليمه وبين كون لسانه أعجمياً 0 ولا شك أن هذا الغلام يعيش بين العرب في مكة , فلا بد أنه يحسن التكلم بالعربية ولو على وجه مشوب بلكنة أعجمية , ففي الإمكان أن يعلم محمداً شيئاً مما في الكتب التي عنده فيصوغه / 962/ محمد قرآناً عربياً 0 وبالنظر إلى هذا يكون الرد منطبقاً على التهمة ولا دافعاً لها , ففي الرد نوع من المغالطة 0
ومن هذا القبيل ما جاء في سورة الرعد من قوله : ( وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ) (1) 0
إن الأشجار النابتة في الأرض لا تتغذى بالماء وحده , وإنما الماء واسطة للامتصاص , فهي بواسطة الماء تمتص المواد المغذية لها من تربة الأرض 0 ولا شك أن الأشجار مختلفة في بزورها وفي طبائعها وخواصها وفي تراكيبها العنصرية , فكل شجرة منها تمتص بواسطة الماء ما يناسبها ويلائمها من المواد المغذية الكائنة في تربة الأرض على اختلاف في المقادير التي تمتص منها0 فبهذا كله يمتاز بعضها من بعض في الجذور والجذوع والأغصان والأوراق والأكل والطعم 0 ثم إن للهواء ونور الشمس علاقة كبرى بنموها وغذائها وتكوينها أكبر من علاقة الماء الذي تسقى به , فلا يلزم من كونها تسقى بماء واحد أن تكون متحدة في الأكل , ففي قوله تسقى بما واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل شيء من المغالطة0
(22) وفي سورة هود قوله : ( واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون * ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه ) (2) 0 إن المتكلم في هذه الآية هو الله , والمخاطب نوح , والمراد إهلاكهم بالطوفان هم الكفار من قوم نوح , فالمقام مقام غضب وعظمة وجبروت , فلا تناسبه عبارة : " فاصنع الفلك بأعيننا" فإنها عبارة مبتذلة / 963/ لا يستسيغها الذوق في مثل هذا المقام , فكان الأنسب أن يقول بحفظنا وكلاءتنا وبأمرنا أو نحو ذلك , أو يكتفي بقوله : " بوحينا" 0 وكذلك قوله بعد : ( ويصنع الفلك وكلما مرّ عليه ملأ من قومه سخروا منه ) 3, فإن السياق يقتضي أن يقول : وصنع الفلك ليطابق قوله : وكلما مرّ , وقوله : وسخروا منه 0 وإن كان أراد بقوله : ( ويصنع ) حكاية الماضية , كما يقول المفسرون , كان من حسن السياق أن يقول : وكلما يمر عليه ملأ من قومه يسخرون منه , على حكاية الحال الماضية أيضاً ليتم التطابق في الكلام 0
(23) وفي سورة يوسف قوله : ( وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه ) (4) 0 القائل في الآية هو يوسف والمقولّ له هو الشرابي الذي كان يصنع الشراب للملك فإنه هو وخباز الملك كانا مسجونين مع يوسف , والذي ظنه يوسف ناجياً منهما هو الشرابي فقال له عندما عبر له رؤياه : إنك تخرج من السجن وتعود إلى ما كنت عليه عند الملك , ثم قال له : ( اذكرني عند ربك ) (1) أي صفني للملك بصفتي وقص عليه قصتي لعله يرحمني وينتاشني من هذه الورطة , ( فأنساه الشيطان ذكر ربه ) (2) , والضمير في قوله : ( فأنساه) يعود إلى الشرابي , فإنه بعدما خرج من السجن نسي أن يذكر يوسف عند الملك 0 فبسياق الكلام يقتضي أن يقول فأنساه الشيطان ذكره عند ربه , أي أنساه ذكر يوسف عند الملك , وأما قوله : ذكر ربه فمخالف للمعنى المراد , وخارج عنه إلى معنى آخر لا يلائم سياق القصة 0
وأراد بعض المفسرين (3) تخريج هذه العبارة على وجه مقبول فقال إن الضمير في قوله : " فأنساه الشيطان " لا يعود إلى الذي ظنه / 964/ ناجياً إي لا يعود إلى الشرابي بل يعود إلى يوسف فيكون المعنى أن الشيطان أنسى يوسف ذكر ربه حين وكل أمره إلى الشرابي وطلب منه أن يذكره عند ربه 0 وأنت ترى أن هذا التفسير لا يلائم سياق القصة وإنما الذي يلائمه أكثر من هذا القول الأول لأن هذه العبارة سوقة لبيان السبب الذي أدى إلى مكث يوسف في السجن مدة طويلة بضع سنين0 وهب الضمير يعود إلى يوسف , والمعنى كما يقول هذا المفسر الثاني , فهل من البلاغة سبك العبارة على هذا النحو الذي يجعلك تفتش عن المعنى المراد فلا تدري ما هو أهذا أم ذاك ؟
ومن هذا القبيل ما جاء في سورة الجن من قوله : ( وألَّو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً * لنفتنهم فيه ) (4) 0 جاء في ابتداء سورة الجن : ( قل أوحى إلى أنه استمع نفر من الجن 000) (5) , فالكلام في هذه الآية من جملة أوحى إلي النبي محمد ليلة استمع إليه الجن 0 " وأن" مخففة من الثقيلة , والمعنى المراد من الآية غير واضح , فإن قوله : ( لآسقيناهم ماءً غداقاً ) يقتضي بأن المراد بالطريقة طريقة الإيمان والطاعة لله , وقوله : ( لنفتنهم ) يقتضي أن المراد بها طريقة الكفر والعصيان , لأن الفتنة كما تكون بمعنى الخبرة والابتلاء تكون بمعنى العذاب وبمعنى الفضيحة والمحنة , وكل بلاء يسمى فتنة , فيجوز أن يكون قوله : لنفتنهم بمعنى لنختبرهم , كما يجوز أن يكون بمعنى لنعذبهم أو لنفضحهم ونوقعهم في الفتنة 0 فإلى أي المعنيين يميل الذهن وفي أيهما يستقر الفهم 0 وإليك ما ذكره الزمخشري (6) في تفسير الآية , قال: لو استقاموا على الطريقة المثلى أي لو ثبت أبوهم الجان ( يعني إبليس) على ما كان عليه من عبادة الله والطاعة ولم يستكبر عن السجود / 965/ لآدم ولم يكفر وتبعه ولده على الإسلام لأنعمنا عليهم ولو سعنا رزقهم 0 لنفتنهم في أي لنخبرهم فيه كيف يشكرون ما خولا منه , قال ويجوز أن يكون معناه لو استقام الجن الذين استمعوا إلى القرآن على طريقتهم التي كانوا عليها قبل الاستماع ولم ينتقلوا عنها على الإسلام لوسعنا عليهم الرزق استدراجاً لهم لنفتنهم فيه أي لتكون النعمة سبباً لاتباعهم شهواتهم ووقوعهم في الفتنة أو لنعذبهم في كفران النعمة 0
بهذين المعنيين فسر الزمخشري الآية في كشافه فهو في المعنى الأول جعل الطريقة طريقة طاعة وإيمان بالله , وجعل الفتنة بمعنى الاختبار , وفي المعنى الثاني جعل الطريقة طريقة كفر وعصيان , وجعل الفتنة بمعنى الفضيحة أو بمعنى العذاب , وذلك ضد المعنى الأول 0 ومعلوم أن لو إذا دخلت على مثبت جعلته منفياً وإذا دخلت على منفي جعلته مثبتاً , فعلى المعنى الأول أنهم ما استقاموا على طاعة الله والإيمان بل عصوا وكفروا , وعلى المعنى الثاني أنهم ما استقاموا على العصيان والكفر بل أطاعوا وآمنوا 0 فالمعنيان متضادان , ولا شك أن الكلام الذي يحتمل بألفاظه معنيين متضادين لا يكون من البلاغة في شيء0
(24) وفي سورة الواقعة قوله : ( فلولا إذا بلغت الحلقوم * وأنتم حينئذ ٍ تنظرون * ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون * فلولا إن كنتم غير مدينين * ترجعونها إن كنتم صادقين ) (1) 0 إن هذه الآية من أغرب الكلام وأعجبه , ولو أراد أحد البلغاء أن يصوغ كلاماً معقداً غير مفهوم وفعل ذلك عن عمد وتصميم لما قدر أن يأتي الكلام مرتبك أكثر من هذه الآية 0 / 966/ الخطاب في الآية للكفار المنكرين أن يدينهم الله إلى يوم الدين , فهي تحاول تصوير عجزهم تجاه المحتضر الذي هو في حالة النزع , والضمير في قوله : ( بلغت الحلقوم ) , وفي قوله : ( ترجعونها) يعود إلى الروح , والضمير الذي في قوله : ( أقرب إليه ) يعود إلى المحتضر , وكلا الضميرين المؤنث والمذكر من الإضمار قبل الذكر , إذ لم يسبق في الكلام ذكر شيء يفسرهما , ولولا الأولى تحضيضية بمعنى هلا , والثانية زائدة مكررة للتوكيد , والأصل في ترتيب الآية بعد إسقاط لولا المكررة هكذا : ( إن كنتم صادقين ) أي في تعطيلكم وكفركم بالمحيي المميت والمبدئ المعيد ( فلولا ) أي فهلا ( ترجعونها) أي الروح ( إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مدينين ) أي تنكرون أن يدينكم الله يوم الدين , ( وأنتم حينئذ ٍ تنظرون ) إلى المحتضر ( ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون ) 0
هذا ما قاله الزمخشري (2) في تفسير الآية لخصناه لك بشيء من التصرف لمزيد الإيضاح , فانظر يا رعاك الله أين ترتيب الآية من أصل ترتيبها بحسب المعنى المراد , فقوله : ( إذا بلغت) متعلق بترجعونها المتأخرة التي يلزم تقديمها وذكرها بعد فلولا , أهذا من البلاغة أيضاً أم ماذا 0 / 967/ 0
- (1) سورة النور , الآية : 15 – (2) سورة الأنعام , الآية : 100 – (3) سورة التوبة , الآية : 16 – (4) الكشاف , تفسير الآية 16 من سورة التوبة – (5) سورة الأعراف , الآية : 73 – (1) الكشاف , تفسير الآية : 73 من سورة الأعراف – (2) السيرة الحلبية , 3/19 – 02 – (3) سورة النحل , الآية : 103 – (4) أنظر تفسير القرطبي لآية 103 من سورة النحل , وانظر تفسير ابن كثير والكشاف أيضاً - _ (1) سورة الرعد , الآية : 4 – (2) سورة هود , الآيتان : 37 – 38 – (3) سورة هود , الآية : 38 – (4) سورة يوسف , الآية : 42 – (1) سورة يوسف , الآية : 42 – (2) سورة يوسف , الآية : 42 – (3) أنظر الكشاف , تفسير الآية , 42 من سورة يوسف , وانظر تفسير القرطبي , وتفسير ابن كثير – (4) سورة الجن , الآية : 1 – (6) الكشاف , تفسير الآيتين 16-17 من سورة الجن – (1) سورة الواقعة , الآية : 83 – 87 – (2) الكاف , تفسير الآية 87 من سورة الواقعة 0
* من كتاب الشخصية المحمدية للكاتب والشاعر العراقي معروف الرصافي 0
#عايد_سعيد_السراج (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟