تشرين الأول 2003
إن العراق لديه الإمكانيات الكبيرة جدا من ثروات هيدروكربونية هائلة وطاقات بشرية كبيرة جدا بالإضافة إلى البنى التحتية التي هي بطريقها إلى الإصلاح والترقية والتوسع، والتي جميعها من العوامل الأساسية التي تشجع الاستثمار الأجنبي من الدخول للبلد دخولا حميدا والمساهمة برفع مستوى العراق من كل الجوانب الاقتصادية والاجتماعية. ولكن ما ينقص هو وجود النظام الديمقراطي والوضع الأمني المستقر في العراق والتي بمجملها تشكل معنى الاستقرار السياسي الذي يعتبر الشرط الأساسي والأهم لدخول الرأسمال الأجنبي، الجبان في العادة، أي بدون هذه الحالة المستقرة لا يمكن أن تفكر أي جهة بالدخول للعراق مهما كانت الدوافع والأسباب. خذ مثلا إيران التي تتمتع بما نتمتع به من ميزات ولكن ليس بها نظام ديمقراطي، فلن يفكر رأس المال بها مهما فعلت. وكذا الحال في جميع بلدان العالم التي لا تتمتع بالشفافية الكافية التي هي إحدى مقومات المجتمع المدني الديمقراطي والتي تمثل حجر الأساس للاستقرار السياسي.
إن دخول راس المال سيف ذو حدين، فمن ناحية نسعى له لأنه يرتقي بالبلدان من جميع النواحي، ولكن من الناحية الأخرى يمكن أن يخل بالسيادة الوطنية ويستبيح البلد وثرواته وينهب ما استطاع أن ينهب ويتآمر ما استطاع أن يتآمر ويشتري الذمم ما استطاع أن يشتري من أجل مزيد من الربح والتحكم بمقادير البلد. من هذا الجانب الثاني أصبح رأس المال من الشرور التي تحاول الكثير من الدول الابتعاد عنها لكي تتحاشى الوقوع بشراكها. ولكن لو كان هناك ثوابت يمكن أن تعتبر من الثوابت الوطنية التي لا يمكن التنازل عنها من قبل السلطة الوطنية والمجتمع المدني الذي سيكون رقيبا قويا عليها ولا يسمح لأي جهة من التفريط بها مهما كانت الأسباب، سيكون بهذه الطريقة، الأمر تحت سيطرة العراقي، هكذا يمكن الاطمئنان لدخول الرأس مال من أجل الاستثمار الذي نحن الآن أحوج ما نكون إليه.
في الواقع هذه والورقة هي محاولة مني لتقصي أهم الثوابت الوطنية التي يجب التمسك بها كما التمسك بالدستور من أجل أن نجني الفوائد ونتحاشى السلبيات المتوقعة، وذلك لكي نخرج من حالة التردد التي نحن بها من أجل فتح السوق العراقية للاستثمار في مجال النفط الذي يتطير الكثيرين منه، بل وحتى مجرد الحديث فيه. قد لا تكون هذه كل الثوابت، وقد يكون هناك ما هو أهم منها ولم أستطع أن احدده، وهذ ممكن جدا، ولكن للجميع ممن لديهم علم بهذا الموضوع أن يساهموا به من أجل سد الطريق على كل ما يمكن أن يؤدي بالوطن من سوء.
لكي لا يختلط الحابل بالنابل ونميز بين الغث والسمين علينا أن نتفق على هذه الثوابت الوطنية وبما يتعلق الأمر بهذه الصناعة التي تشكل أهم عنصر من عناصر حياتنا الآن وفي المستقبل، ويمكن أن التوسع بها لتشمل كل مجالات الاستثمار من خلال ورش عمل لمتخصصين في مجالات العلاقات الدولية والاقتصاد والقانون الدولي والعراقي، طبعا بالإضافة إلى المتخصصين بذلك المجال الذي يراد الاستثمار فيه.
الثوابت الوطنية التي تتعلق بهذا الملف من حيث الأساس ذات طبيعة اقتصادية وسياسية واجتماعية وبيئية والتي بمجملها تشكل من ناحية ثوابت وطنية معظمها ملزم، وأن لا يتم تجاوزها، والبعض الآخر غير ملزم ولكن من المستحب، إن صح التعبير، الذي يمكن تجاوزه ولكن من دون أن يكون التجاوز ذو أثر سلبي، وفي النهاية، بمجملها تشكل المعيار الحقيقي للحكم على أي ملف يتعلق بالنفط، من ناحية، ومن ناحية أخرى، يشكل البيئة النظيفة للتحاور من خلالها في كل ما يتعلق بهذا الملف الشائك، وذلك من أجل وضع الحكم الصحيح والمعيار للمحاسبة والشفافية وأخيرا يمكن أن تشكل الآلية لتقييم أي ملف يتعلق بالنفط.
أولا: مما لا شك فيه إن أول الثوابت التي لا يجب المساس بها هي مسألة ملكية النفط من قبل الشعب العراقي، وإن أفضل صيغة للتعامل مع الموضوع بها هي قانون رقم 80 بعد وضعه موضع التطبيق ووضع آليات لتفعيله وإغناءه وشرحه شرحا مفصلا وإشراك الشعب بهذه الشروحات من أجل المزيد من الشفافية. السبب في ذلك أقول إن محاولات الالتفاف على هذا القانون قد بدأت منذ العام 1965 حين وضعت أول صيغة لتفريغه من محتواه من قبل سلطة عارف آن ذاك بما عرف بمسودة بغداد، وانتهاءها بمحاولات البعث بتجاوزه في أكثر من مناسبة على هذا القانون. إن القانون لا يمنع ملكية الأرض بما يتعلق بإقامة منشأة أو أبنية سكنية، ولكن يمنع استثمار ما تحت الأرض من خيرات لكونه ملكا للشعب، ولا يمكن لأية جهة التصرف به ما عدا حكومة شرعية، وسوف لن يكون هناك حكومة شرعية إلا بعد إجراء الانتخابات الحرة والديمقراطية. ومن الجدير بالذكر إن قانون رقم 80 العراقي هو نفسه تقريبا قانون رقم 8 في دولة الإمارات العربية المتحدة بعد وجدت هذه الدولة الفتية فيه ضالتها لحماية ثروة شعبها من تلاعب الشركات المتعددة الجنسية وتهيئة البيئة الصحيحة لكل أنواع الاستثمار أو المشاركة بإقامة مشاريع في البلد. ومازال الإماراتي يدين بالعرفان لهذا القانون (رقم 8 الإماراتي) وكونه سببا بحمايته وتطوره وتنمية قدراته، وهو من وراء هذه النهضة العظيمة التي تشهدها هذه الدولة الفتية والحديثة بكل المقاييس.
ثانيا: إن أي تصرف غير صحيح بأي ملف نفطي من شأنه أن يخل بالسيادة الوطنية، مرفوض جملة وتفصيلا. فهناك الكثير من المشاريع النفطية العملاقة، خصوصا تلك التي لا يكون فيها للحكومة المركزية رأيا حتى ولو كان الأمر يتعلق بالسيادة الوطنية أو أمن المواطن، مما يهمش وضع الحكومة ويفقدها السيطرة على أمور البلد، فالعقود مع المستثمرين الأجانب وخصوصا من الدول ذات النفوذ العالمي الواسع من الناحية السياسية أو الاقتصادية، ما يمكن أن تؤدي إلى هذا النوع من التصادم مع المستثمر. لذا يجب أن يكون العقد الاستثماري مدروسا من هذه الناحية وليس فيه ما يمكن أن ينتقص من السيادة الوطنية أو يخل بها.
ثالثا: البيئة والسلامة والصحة وهي من الأمور ذات الطبيعة الملزمة والتي يجب أن تراعى في أي استثمار نفطي أو غير نفطي، وذلك من خلال قوانين ملزمة تنفذ طيلة العقد ولا يمكن التراخي عنها، وذلك من خلال نظام رقابي صارم ومحدد المعايير والثوابت. فالعالم المتقدم يضع تلك القوانين كمرفق يلازم أي عقد من أي نوع كان كي لا يكون هناك التباس في هذا المجال، بحيث يكون قابلا للتحديث من دون أن يكون هناك تعويضات مالية ما لم يكون ما يبرر ذلك وأحيانا من خلال محاكم محلية أو دولية متخصصة يحددها العقد نفسه.
رابعا: كون العراق في الوقت الحالي يحمل إرثا أثقل من كل جبال الأرض، هو إرث الديون والتعويضات التي تسبب بها النظام البعثي المقبور، وعلينا أن نرضى بحمل هذا العبء الثقيل، ولكن بذات الوقت، نعمل ليل نهار من أجل تقليل تلك الديون الكريهة. إن إحدى الوسائل الناجعة في هذا المجال هو استثمار الرغبة الجامحة للعالم الغني الذي يسعى مستميتا للحصول على استثمارات في العراق، حيث إن العراق غني بفرص لتوظيف كل تلك الأموال التي فشل العالم بإيجاد فرص واعدة لتوظيفها. فإن الكثير من تلك الأموال شبه مجمدة في البنوك. فالاستثمار الذي يأتي على أساس إطفاء كلي أو جزئي لتلك الديون، يكون هو صاحب الحظ الأوفر بالحصول على فرصة للعمل في العراق، وربما مع تسهيلات خاصة ولكن ليس على حساب الثوابت الوطنية الأخرى. وهنا لا بد لي من التنويه إلى حقيقة وهي إن معظم أنواع الاستثمار في النفط والصناعات البتروكيماوية تحتاج لتجهيز المادة الخام، وهي النفط أو الغاز، وإيراد هذه المادة يمكن أن يستفاد منه لتسديد ديون مستحقة على العراق. وهكذا يمكن لنا الربط المباشر بين الاستثمار وإطفاء الديون أو التعويضات أو سدادها، وهذه المادة الخام التي تم تقديمها للمستثمر لا تدخل في حصص الأوبك وتعتبر بمثابة استهلاك محلي للنفط. بالرغم من هذه الفائدة التي تعتبر من أكبر هموم الشعب العراقي في الوقت الحاضر، إلا إنه لا يمكنا أن نعتبر هذا الثابت ملزما، خصوصا ونحن في هذه المرحلة التي نطلب فيها ود العالم ونحاول أن نستعيد ثقته بنا كدولة وشعب يحب العيش بسلام.
خامسا: من الثوابت التي يمكن أن تكون كمعيار لمدى أهمية الاستثمار هو ما يضمنه من نقل للتكنولوجيا المتطورة إلى العراق من خلال مدى تطور التكنولوجيا التي سيبنى بها المشروع الاستثماري. فإن التكنولوجيا سريعة التطور بشكل مذهل هذه الأيام بحيث لا يمكن للمتابع أن يعرف كل ما هو جديد فيها وخصوصا تلك المتعلقة بمجال الصناعة النفطية. هذا من ناحية ومن ناحية ثانية إمكانية التحديث للأجهزة والمعدات في المستقبل للارتقاء بها دائما إلى المستويات المطلوبة من التطور. إن هذا من أهم المقاييس من الناحية الفنية لتقييم المشروع الاستثماري. قد يكون هذا الشرط غير ملزما أيضا، لو أن التكنلوجيا المنقولة فيه، مقبول من حيث مستوى التطور، وليس من النوع المتخلف الذي سيزيد من تخلف العراق، وذلك حسب تقدير الفنيين في حينه.
سادسا: نقل قيم العمل المتطورة والإنسانية، من أهم المعايير لدى دول العالم النامي في استقبال المشاريع الاستثمارية سواء كانت في النفط أو في أي مجال آخر. فالإدارة المتطورة التي ترتقي بالعمل وتنقل القيم المتطورة من خلال إدارة حكيمة وعلى أسس علمية، هو في الواقع من أهم ما نحتاجه لبناء البلد، حيث أن العراق مازال في مصاف الدول النامية والنصف متطورة. وعلينا أن نعترف بحقيقة إن من أهم مشاكل العالم النامي في إدارة المشاريع هو الإدارة الفاشلة للمشاريع والتي تؤدي إلى خسارتها في أغلب الأحيان. فأساليب الإدارة المتطورة وقيم العمل الراقية، في كثير من الأحيان أهم من التكنولوجيا ذاتها أو ربما أي معيار آخر. ألا يتفق معي الجميع إن المشاريع التي تدار بأيدينا في بلدان العالم النامي، معظمها لا يحقق الربحية وفيه من الأمراض المستعصية و ما لا يمكن حله على الإطلاق؟ فالإدارة المتطورة ستكون هي الحل الوحيد والتي بدورها ستنقل إلينا تلك القيم التي جعلت من العالم المتحضر يسير بخطى لو نضرنا لها لأصبنا على الفور بالإحباط وشعرنا بالتقزم. إن هذا النوع من الثوابت يجب أن يكون ملزما للجهات التي تستثمر في البلد، بحيث تأتي بإدارة متطورة وعلى أساس المقاييس العالمية المعروفة للجودة.
سابعا: تطوير القوى العراقية المنتجة، هو من الثوابت التي لا يجب التخلي عنها عند إدخال أي استثمار للعراق. فتطوير القوى العاملة العراقية سيكون في نهاية المطاف هدفا أساسيا حتى أكثر أهمية من الربح المادي، فالاستثمار في الإنسان هو من أسمى أنواع الاستثمار على الإطلاق. الاستثمار الذي لا يعطى للعراقي الفرصة بالعمل والتطور من خلال إدارة متطورة وتكنلوجيا متطورة وقيم عمل متطورة وفرصا للتعلم ومواصلة التعلم لا يمكن أن يغني البلد بشيء إلا من بعض النواحي الآنية التي تزول بسرعة بزوال المؤثر. أن اكتساب المهارات العالية في العمل، لا يمكن أن تأتي كإشراقة ربانية عبقرية كإشراقات السهروردي أو كشيطان الشعر، فهذه لها أصولها وقواعدها المادية وضوابطها التي لا يمكن تجاهلها. لذا فبرامج التطوير التي ترافق الاستثمار الأجنبي ينبغي أن تكون معيارا لتقييم أهمية الاستثمار للمواطن العراقي وبالنهاية مستقبل الوطن.
ثامنا: الشفافية بالتعامل مع أي ملف نفطي سيجعل من الهاجس حقيقة وتكشف كل ما هو مستور في الحال، لأن الشفافية من سمات المجتمع الديمقراطي، وبدون هذه الشفافية سيكون الأمر مريبا برمته.
تاسعا: الإيراد المالي والربحية كان له النصيب الأدنى عندي بالرغم من أهميته وحتى أولويته، فالاستثمار الذي لا يدر أرباحا على العراق، لا يمكن أن يأخذ بنظر الاعتبار،لأن في نهاية المطاف، نحن نسعى لرفاه العراقي ولكن بتلك الضوابط. فهذا العامل سيبقى له السبق وملزما في كل الأحوال شرط مراعاة الجوانب الأخرى.
عاشرا: يكون دائما هناك عوامل جيوستراتيجية أو سياسية مهمة يجب أن تأخذ بنظر الاعتبار لتعطي للبلد دعما سياسيا أو دعما لمكانته على مستويات مختلفة. فلو كان الاستثمار من النوع الذي يضعف هذا الدور أو المكانة فإنه ينبغي معالجة الأمر في مراحله الأولى قبل الدخول في أي عقد من العقود.
أحد عشر: إن جميع الاستثمارات في مجال النفط والغاز وفي كل مراحلها وكذلك الصناعات البتروكيماوية تحتاج إلى رؤوس أموال كبيرة جدا، عشرات، بل مئات المليارات، والتي لا قبل للعراق بها خصوصا في هذه المرحلة. حتى ولو كان العراق لديه رؤوس الأموال هذه، فإنه من الأفضل أن تكون أجنبية لأنها ستضيف للعراق ولن تنقص منه مادمنا نتمسك بهذه الثوابت الوطنية. فالرأسمال في العادة يحصن نفسه من أي نوع من أنواع الخسارة، لذا يترتب عليه أن يدخل وهو محصن باستعماله أرقى أنواع التكنولوجيا والإدارة الحكيمة والأسواق المفتوحة في بلدانه ولا يسمح بأي نوع من أنواع التسيب أو الإهمال أو التضخم الوظيفي وإلى آخره من أمراض المشاريع الاستثمارية التي تدار وطنيا والتي تسبب في معظم الأحوال خسارة تلك المشاريع. فدخول رؤوس الأموال في الاستثمار في العراق هي ما يجب أن نبحث عنه ونسعى إليه كما تسعى له جميع دول العالم، لأن تعلم إدارة المشاريع بشكل سليم أهم بكثير من باقي عناصر الموضوع، إضافة إلى إنه يمنحنا الفرصة لتوظيف الأموال التي لدينا في مجالات التنمية البشرية والعمرانية والتخلص من الديون المتراكمة على العراق. في الواقع، ما كان علي أن أضيق هذه النقطة إلى الثوابت لولا حاجة العراق إلى هذه الأموال الضخمة، فإنه بدونها سيبقى النفط والغاز تحت الأرض ولا نستطيع أن نستفيد منه إلا بحدود ما تسمح الأوبك به، وهو قليل نسبة لما لدينا من ثروات نفطية. فالعراق باستطاعته أن ينتج أكثر من عشرين مليون برميل يوميا من النفط الخام، ولكن لا يستطيع بيعها، فما الفائدة إذا من زيادة الإنتاج إذا لم تكن هناك مشاريع استثمارية أجنبية تصنع هذه الكميات في العراق وتكون خارجة عن حصص الأوبك، والتي بدورها ستضيف أشياء أخرى كنا قد تحدثنا عنها في السياق؟
إذا فالاستثمار الذي لا يدفع بع العراق شيئا من رأس المال يكون أفضل بكثير من ذلك الذي يأتي على أساس المشاركة.
إن التمسك بهذه الثوابت الوطنية من شأنه أن ينقل العراق إلى مستوى من التطور والرفاه الاجتماعي ما لا يمكن تصوره، والتخلي عنها أو تجاوزها فإننا يجب أن نتوقع ما لا تحمد عقباه.
أكرر مرة أخرى، إن ما أذكره من ثوابت في هذه المقالة ليس هو النهائي ويجب أن يشارك به المتخصصون في ورش عمل واستخلاص ما هو أهم وأكثر دقة مما استطعت أن أستعرضه أمامكم من ثوابت.