|
في نقد الردح والردح الذاتي
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 2074 - 2007 / 10 / 20 - 12:42
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
يبدو القول إن أحوالنا العامة لا تسر موضع اتفاق عام. هذا سواء عُرِّفنا كرعايا لهذا البلد أو ذاك، أو كعرب، أو كمسلمين؛ وسواء عرفت الأحوال بلغة الحريات والحقوق أو بلغة الاقتصاد والتنمية والدخل، أو بلغة التفاهم الاجتماعي، أو بلغة الأمن الوطني.
بيد أنه يستثمر هذا الحكم العام خطابان متناقضان. خطاب شائع يدرج هذه الخبرة العامة في سرد عمومي، مستو، يفصل «سوء الأحوال» عن أي تحليل تاريخي أو اجتماعي أو منظومي (متصل بالنظام الدولي أو النظم الدولية الفرعية)؛ يفصله أيضا عن أي تساؤل نقدي بصدد المسؤولية، أو يرده إلى مسؤول وحيد يحتل موقع إبليس: الغرب، الدين، الدولة؛ ويحوله إلى واقعة مطلقة جوهرية. نسمي هذا خطاب الردح الذاتي. وهو شكل منحط من النقد الذاتي، شاع بالتدريج بفعل تمادي التعثر العربي السياسي، وأكثر منه الثقافي.
أما الخطاب الثاني فهو خطاب النقد الذاتي، نجده بدرجات متفاوتة من التمكن والنفاذ لدى شريحة أضيق من المثقفين.
وثمة فروق عديدة بين الخطابين. أولها، أن خطاب الردح الذاتي يلغي مبدأ المسؤولية. فالمسؤول الوحيد الذي يسند إليه هذا الخطاب هو بمثابة مبدأ للشر، يمكن أن تتكون حوله عقيدة دينية وليس تفسيرا علميا. في «الردح القومي» يكف الغرب عن كونه نظام قوى وعلاقات متحول وبالغ التعقيد، ليمسي شخصا مريدا واعيا، مغرضا، متآمرا. والدولة أيضا تظهر في «الردح الديموقراطي» ككائن شيطاني خبيث، «مشخصن» بدوره، لا كعلاقة سياسية تاريخية مركّبة. وفي «الردح العلماني» يكف الدين عن كونه تشكيلا ثقافيا تاريخيا معقدا ومتحولا بدوره ليغدو مبدأ فساد مطلق، أي أن النظرة الدينية إلى الدين (والغرب والدولة) وحدها هي التي تسود في خطاب الردح.
ومن هنا تنبع خاصية ثانية لخطاب الردح الذاتي هي شموليته. فـ»سوء الأحوال» متجانس لا تفاوت فيه، وشامل يستغرق جوانب حياتنا جميعا. وهو مفعول لشمول المبدأ الفاسد وليس نتاج تحليل متنبّه لنظام العلاقات المعني. من أين يأتي «حسن الأحوال» إذاً؟ ليس إلا من انقلاب مطلق، يمسح الراهن تماما ويقيم مكانه خلقا جديدا. هذا تصور شائع، وله نسخ دينية ودنيوية متعددة.
الخاصية الثالثة أن لخطاب الردح البنية ذاتها التي لخطاب التنويه الذاتي الذي يزجيه بعضنا للتكوينات/ القوى المذكورة. فالردح المضاد للغرب أو «تشرير» الغرب يحاكي تماما موقف تبرير الغرب مهما يفعل، واعتباره أصلا مطلقا لكل خير وحق وعلم وجمال. والردح الذي يستهدف الدين هو نسخة مقلوبة طبق الأصل عن موقف المتدينين المتزمتين من دينهم. هؤلاء يعتبرونه خيراً محضا متعاليا على التواريخ والأمكنة والبنى الاجتماعية، وأولئك يرونه مبدأ فساد أو «تخلف» محض، متعال بدوره على تبدلات الزمان والمكان والمجتمعات. وردح الدول أو النظم الحاكمة يحاكي في إطلاقه وعدم تهيبه من المبالغة ثناء النظم هذه على ذاتها، بل تقديسها لذاتها.
الخاصية الرابعة أنه توجّه الردح دوما قيم جزئية، قومية أو قبلية أو طائفية، ولا ينضبط بمعايير عامة لنقده أو يطور موقفا متسقا مما يعترض عليه. هذا واضح بالخصوص في الردح المضاد للدين، فهو يدين الإسلام بطريقة موتورة، بينما قد يجزل ثناء جوهريا ولا تاريخيا في السياق نفسه على المسيحية واليهودية وغيرهما (هو أيضا هنا طباق موقف الأصوليين الإسلاميين). وهو في ذالك نقيض النقد الماركسي (د. صادق جلال العظم مثلا) الذي كان مندرجا في أفق كوني بقيمه ومناهجه وتصوره للمستقبل، وإن يكن أفقا تبسيطيا. على أن ما يشكل الردح المضاد للدين مثاله الأبرز ينطبق أيضا على نقد الغرب. فنحن ننتقد الغرب، أميركا بصورة خاصة، نقدا هو أقرب إلى الأبلسة والتشرير الشامل، بينما قد نسكت أو نجمجم بخصوص قوى أخرى تتصرف بطريقة مماثلة، روسيا أو الصين أو إيران مثلا، وبالطبع نحن. ويحصل كذلك أن ننزلق إلى نقد دولنا نقدا منحازا، بينما نسكت عن ممارسات مشابهة تقوم بها منظمات وأحزاب قد تكون معارضة.
الخاصية الخامسة تتمثل في الطابع الشعوري لخطاب الردح، أي الانفعالي والمختلط وغير المنظم. هنا يطغى الشعور بالنقص (أو التفوق) أو بالذنب (أو بالمظلومية) على وعي النواقص وتمييز المسؤولية الواقعية، وتبرز مشاعر الكراهية والعرفان، ويغلب الهوى، على حساب الإدراك المتجرد والمعرفة المنضبطة.
ومن المفهوم أن «سوء الحال» سيبدو في العين الرادحة جوهريا، متأصلا في ذات الحال، أي في «المجتمع» أو «الثقافة» أو «الهوية». وتاليا سيغني رفض الحال عن معرفته، وتدمير الجوهر الفاسد عن إصلاحه.
وقد نلاحظ أن وسائط تداول النقد، الرادح والعقلاني معا، تختلف باختلاف المنقود. فالتلفزيون يبدو الجهاز الأنسب لنقد الغرب، أو بالأحرى الردح ضده. هذا ربما لأن التلفزيون جهاز «وطني» مضاد للانشقاق وللمناقشة العقلانية. وتبدو الجريدة والمجلة، والكتاب، الوسائط الأنسب للردح المضاد للدولة كما لنقدها. فهي وسائط أكثر استقلالا وأوثق ارتباطا بالكلمة المكتوبة و»العقل». أما نقد الدين والردح المضاد للدين فوسيطهما شبكة الانترنت. فهذه وسيط طليعي، وعمرها لدينا من عمر الموجة الراهنة من نقد الدين.
مقابل الردح والردح الذاتي نفترض أن النقد العقلاني متحرر من إغراء الشمولية، جزئي دوما، علائقي، محتكم إلى معايير عامة، متجرد ومتحرر من المشاعرية، يستند إلى رصيد معرفي أغنى. نفترض أيضا أن من شان نقد الردح أن يحرر النقد ويفتحه على أفق معرفة أكثر امتناعا على المذهبة وقيم أكثر امتناعا على الاحتكار ومعايير أكثر عمومية.
ولا يقود نقد الردح إلى الاستسلام للواقع بل إلى «الاستسلام» لمعرفة متعددة الأبعاد للواقع، ما يساعد على تجاوز المقاربة المعيارية له نحو مقاربة معرفية أبرد أعصابا وأهدأ نبرة، ما يساعد أيضا على التحرر من الجزع والبؤس وشقاء الوعي. وسيبدو الحال في ضوء مختلف، لن يغدو أفضل، لكن «سوءه» سيتحدد وينضبط ويمسي شأنا عمليا ونسبيا، يستجيب للجهد البشري. نقد الردح يحرر أيضا الالتزام من القبلية (التعصب لبني قومنا) والقبلية المعكوسة (التعصب ضد بني قومنا)، لمصلحة مفهوم أكثر تركيبا للالتزام، يستوعب نقد الالتزام القبلي.
وفي المجمل تلح الحاجة إلى انتقال ثقافي من نظام الشعور والمشكلات (أوضاع متعسرة لا شكل لها) والردح و»الأحوال السيئة»، إلى نظام الوعي والمسائل (صعوبات منظمة إدراكيا) والنقد والانضباط النفسي والفكري. أحوالنا ليست سيئة، السيّء هو انفعالنا بها وتفاعلنا معها. أحوالنا هي أحوالنا، ما نستحق!
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حوار شخصي وصريح مع إسلامي سوري في شؤون الإسلام والحرية والعق
...
-
في النموذج الإخواني وتناقض الإسلامية المعاصرة
-
نحو إعادة هيكلة الدور الإقليمي لسورية
-
خواطر مرسلة في شأن السياسة والثقافة
-
في أن الليبرالية الاقتصادية سياسة الجيل البعثي الثالث
-
في أصول المشكلة الثقافية العربية وجوهرها
-
في أزمة الهيمنة ومصير العروبة في سورية
-
قضية محمد حجازي وحرية الاعتقاد الديني
-
صراع مطلق فصنع طوائف فتقسيم دول..
-
تأمل في شأن الحرية ونقد الدين
-
العلمانية أهم من أن تترك للعلمانويين!
-
العرب أمام المشكلة الغربية
-
سورية والدول العربية بين ما دون الدولة وما فوقها
-
-أمتان-: حكم ذاتي إسلامي في ظل دولة علمانية، أو العكس!
-
في أصل خراب الديمقراطية والوطنية في المشرق
-
تقييم ائتلاف -إعلان دمشق-
-
في شأن النقد والتضامن ودور المثقفين
-
هل نعرف الطائفية؟ تعقيب على ملف الآداب عن -الطائفية في الوطن
...
-
بعد قرن السياسة، أقرن للثقافة والدين في عالم العرب؟
-
علمانيون، ديمقراطيون، وإسلاميون؛ لكن أين الأمة؟!
المزيد.....
-
الجمهوريون يحذرون.. جلسات استماع مات غيتز قد تكون أسوأ من -ج
...
-
روسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ ب
...
-
للمرة السابعة في عام.. ثوران بركان في شبه جزيرة ريكيانيس بآي
...
-
ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال
-
الدفاع الروسية تعلن القضاء على 150 عسكريا أوكرانيا في كورسك
...
-
السيسي يوجه رسالة من مقر القيادة الاستراتجية للجيش
-
موسكو تعلن انتهاء موسم الملاحة النهرية لهذا العام
-
هنغاريا تنشر نظام دفاع جوي على الحدود مع أوكرانيا بعد قرار ب
...
-
سوريا .. علماء الآثار يكتشفون أقدم أبجدية في مقبرة قديمة (صو
...
-
إسرائيل.. إصدار لائحة اتهام ضد المتحدث باسم مكتب نتنياهو بتس
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|