أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عايد سعيد السراج - بلاغة القرآن -4-















المزيد.....


بلاغة القرآن -4-


عايد سعيد السراج

الحوار المتمدن-العدد: 2067 - 2007 / 10 / 13 - 12:01
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


بلاغة القرآن -4-

الهداية كما تؤكد الدراسة ليست بسبب الرسل فقط , بل هي من الله , ما هي الآيات التي ذكرت ذلك , وكيف تفهم , وفق المنهج البلاغي , وكيف نقبل بعض الآيات فقط لأنها من القرآن 00 الخ 0
( 00 وأي شطط في قوله لو قال امسحوا أرجلكم إلى الكعبين 0 فالغسل والمسح شيء واحد , وليس المسح سوى غسل خفيف, فلماذا يجب أن يغيا الغسل ولا يجوز / 943/ أن يغيا المسح 0 نعم , أنه في آية الوضوء لم يضرب غاية لمسح الرؤوس لأنه اكتفى بمسح بعضها , ولذا جاء الباء فقال امسحوا برؤوسكم 0 ولكن عدم الغاية في مسح الرؤوس لا يستلزم عدم جوازها في مسح غير الرؤوس0
فإن قلتَ : إن النبي كان يغسل رجليه في الوضوء دائماً إلا إذا لبس الخفين فإنه كان يمسح عليهما في بعض الأحيان , أفلا يدل ذلك على أن الحكم في الأرجل هو الغسل حتى في قراءة الجر, قلتُ إن فعل النبي في الوضوء شيء , وقوله في آية الوضوء شيء آخر 0 ونحن هنا نتكلم عن بلاغة القرآن لا عن أفعال الأنبياء 0 والذي نراه أن قراءة النصب تجعل آية الوضوء خارجة عن حدود البلاغة لأنها تفصل بين معطوفين متحدين في الحكم بمعطوف مخالف لهما في حكمه , فيقع الضعف في التأليف والتشويش في الكلام , وليس هذا من شأن البلاغة 0 ومن ذا الذي يثبت لنا صحة قراءة النصب فإن القراءات ليست بتوقيفية كما يقولون , بل كانوا يقرأون القرآن بالمعنى فيبدلون الألفاظ ويغيرون , وكل ما صح به المعنى فإنه قرآن عندهم كما سيأتيك مفصلاً عند الكلام على تعدد القراءات في القرآن 0
ولله در الشعبي فإنه كان من بين علماء الإسلام برزاً ظاهر البرازة في صواب الرأي فقد قال : إن القرآن نزل بالمسح وإن الغسل سنة (1) 0 وهذا لعمر الله هو القول الفصل 0
والشعبي نسبة إلى شعب , حي من همدان , وهو أبو عمرو عامر بن شرحبيل بن عبدا لله الشعبي الهمداني الكوفي , وهمدان قبيلة باليمن 0 وكان الشعبي هذا من التابعين فهو تابعي جليل القدر 0 / 944/ 0
قال ابن عيينة : مر ابن عمر بالشعبي وهو يحدث بالمغازي فقال شهدت القوم وهو أعلم بهم مني , وقال الزهري : العلماء أربعة : ابن المسيب بالمدينة, والشعبي بالكوفة , والحسن البصري بالبصرة , ومكحول بالشام 0 ولد الشعبي في خلافة عمر , ومات سنة أربع ومائة وله اثنان وستون سنة , كما في كتاب سبل السلام 0
(12) وفي سورة الأنعام : ( ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلهم الموتى وحشرنا إليهم كل شيء قبلاً ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله لكن أكثرهم يجهلون ) (2) 0 إن هذه الآية صريحة بأن الهداية والإيمان لا يحصلان بإرسال الرسل , ولا بإنزال الكتب من السماء , ولا بالخوارق والمعجزات , وإنما يحصلان بشيء واحد وهو مشيئة الله 0 فإذا شاء الله هدايتهم وإيمانهم اهتدوا وآمنوا , وإذا لم يشأ لم يهتدوا ولم يؤمنوا , فعلام َ هذه الدعاوى كلها ؟ هذا ما يقوله هنا 0 ثم أنظر إلى ما يقوله بعد في سورة الأنعام أيضاً قال : ( سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباءنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا ) (1) , فإن هذه الآية تستنكر على المشركين ما يقولونه و تجعله تكذيباً لما أنزل الله0 والقرآن مملوء بالآيات القائلة بصراحة : إن الله لو شاء لهدى الناس جميعاً , وإن الذين لم يشأ الله هداهم لم يؤمنوا وإن أرسلت إليهم الرسل وأنزلت عليهم الملائكة وغيرها من الخوارق والمعجزات 0 فما هذا وما ذاك ؟ ثم انظر إلى ما يقوله بعد في الرد على هؤلاء المشركين القائلين لو شاء الله ما أشركنا , وإفحامهم بالحجة إذ قال : ( قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين ) (2) , فردهم بمثل ما قالوه وجعله حجة عليهم لا لهم 0 وإيضاحاً لذلك نقول : إن روح هذه الجملة البالغة ترتكز في قوله : ( أجمعين ) 0 / 945/ فمعنى الآية أنه أن كان الأمر كما زعمتم إن ما أنتم عليه بمشيئة الله فلله الحجة البالغة عليكم , فلو شاء لهداكم أنتم ومخالفيكم في الدين , فإن تعليقكم دينكم بمشيئة الله يقتضي أن تعلقوا دين من يخالفكم أيضاً بمشيئته , فعلام َ تخالفونهم ولا توافقونهم لأن المشيئة تجمع بين ما أنتم عليه وبين ما هم عليه , هذا ملخص ما قاله الزمخشري في الكشاف في تفسير هذه الآية (3) 0 فتبصر جيداً هل ترى هذه الحجة بالغة , أما يستطيع المشركون أن يقولوا في ردها إن مشيئة الله قد جعلتنا على دين وجعلت غيرنا على دين آخر يخالف ديننا , فكيف نوافقهم ولا نخالفهم 0 نعم أن مشيئة الله قد شملتنا أجمعين كما تقول , ولكن الذي شاءه الله لنا شيء , والذي شاءه لغيرنا شيء آخر يخالف ما شاءه لنا , فكيف لا نخالفهم وقد خالفت مشيئة الله بين ما نحن عليه وبين ما هم عليه 0
فبهذه هي الحجة البالغة وأكثر الحجج القرآنية من هذا القبيل , كحجته في قياس النشأة الأخرى على النشأة الأولى وبينهما بون بعيد جداً ,وكحجة إبراهيم التي بهت بها الذي كفر لما قال له إبراهيم : ( فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر ) (4) , وقد ذكرنا شيئاً من ذلك في أول الكتاب فانظره , وكحجته في الرد على المشركين القائلين بأن الملائكة بنات الله , وعلى أهل الكتابين القائلين ببنوة المسيح وعزيز لله إذ قال : ( أني يكون له ولد ولم تكن له صاحبة ) (5) أي كيف يكون له ولد وليس له زوجة 0 فمن العجيب أنه يخالف الطبيعة التي هي سنة الله في خلق آدم من غير أب ولا أم , وفي خلق المسيح من أم بلا أب , ثم يرجع إلى الطبيعة فيستمسك بها ويجعلها حجة على القائلين بأن لله ولداً , فيقول لهم : ( أني يكون له ولد , ولم تكن له صاحبة ) (1) 0 كأن القادر على خلق / 946/ آدم وعيسى غير قادر على أن يخلق لنفسه ولداً من دون أن تكون له زوجة 0 على أن بنوة الابن لأبيه لا تستلزم أن لا يكون الابن منحدراً من صلب أبيه , بل يجوز أن تكون بنوته حاصلة بالتبني أي بالنبوة المجعولة لا بالنبوة المنسولة, فيجوز أن يقال في الرد على هذه الحجة إن الله اتخذ له ولداً من خلقه ومثل هذا لا حاجة فيه إلى صاحبة 0
إن خلق الكائنات أجل وأعظم من أن يقال هذا الكلام في معرض تنزيهه عن الولد , ولا يقول هذا من يقول في وصف الله إنه : ( لم يلد ولم يولد* ولم يكن له كفواً أحد ) (2) , وأنه : ( هو الأول والآخر والظاهر والباطن) (3) , ويقول في تمثيل قدرته وعظمته : ( والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه ) (4) , فلا ريب أن وورد هذه الحجة على هذا النحو في القرآن لم يكن إلا من قبيل كلم الناس على قدر عقولهم 0
(13) وفي سورة يس قوله : ( وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين ) (5) 0 إن هذه الآية واردة في قصة النجار الذي آمن بمن أرسلهم المسيح دعاة إلى أهل انطاكية فقتلوه , فأهلكهم الله بصيحة جبريل على ما يقوله المفسرون (6) 0 فالمعنى المراد من الآية هو أن الله كفى أمرهم بصيحة ملك ولم ينزل لإهلاكهم جنداً من السماء كما فعل يوم بدر ويوم حنين0 وقد تكررت من في الآية ثلاث مرات , والثانية زائدة فكان الأولى تركها , ثم إن أول الآية وأخرها بمعنى واحد , فهو تكرار لا داعي إليه 0 ومن هذا القبيل قوله في سورة البقرة : ( فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون ) (7) 0 فقوله : ( على الذين ظلموا ) تكرار وإظهار / 947/ في محل الإضمار ولا داعي إليه 0 فكان الأولى أن يقول فأنزلنا عليهم كما قال في سورة الأعراف : ( فأرسلنا عليهم رجزاً من السماء بما كانوا يظلمون ) (8) , وقد قالوا : الإيجاز حلية القرآن , ولو كان هذا في غير القرآن لما قبلوه ولكنهم في القرآن يقبلونه فتراهم يتأولون ويتمحلون 0
(14) وفي سورة البقرة قوله : ( ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا ) (1) 0 كان أغنياء قريش في الجاهلية مرابين فلما جاء الإسلام أنكر الربا وحرمه عليهم 0 فقالوا احتجاجاً على تحريمه : لو اشترى رجل بدرهمين شيئاً لا يساوي إلا درهماً واحداً جاز ذلك , وكذلك إذ باع درهماً واحداً بدرهمين 0 فهم في قولهم هذا قد شبهوا الربا بالبيع فاستحلوه , والقرآن قد حكى عنهم بهذه الآية إلا أنه عكس التشبيه فقال ( إنما البيع مثل الربا ) و وكان الأولى أن يقول : إنما الربا مثل البيع , لأن الكلام في الربا لا في البيع 0 وأراد الزمخشري في الكشاف (2) أن يوجه الآية فقال : إنه عكس التشبيه على طريق المبالغة , وليس قوله هذا بصحيح 0 نعم قد يعكس التشبيه للمبالغة فيقال مثلاً البدر كوجهك ولكن لا في مثل هذا المقام الذي هو بيان الحلال والحرام 0 ولعل كفار قريش هم الذين قالوا هكذا : ( إنما البيع مثل الربا ) (3) فحكاه القرآن عنهم كما قالوه من دون تصحيح تهكماً بهم 0
أما شبهة كفار قريش في استحلال الربا فلم يتكلم في دفعها احد لا القرآن ولا المفسرون , فنقول في دفعها وإزالتها : إن الدرهم والدينار ليسا من مقومات الحياة أي ليسا من الأشياء التي يحتاج إليها الإنسان في بقاء حياته كالطعام والشراب واللباس وغيرها من حاجات الحياة , وإنما هي واسطة للاستبدال ليس إلا 0 فقد / 948/ كان الناس في الزمان الأول يستبدلون الأشياء بعينها بلا واسطة 0 ولما كانت الحاجة إلى الاستبدال شديدة وكانت على شدتها كثيرة الوقوع , كان في الاستبدال العيني صعوبة قد تؤدي إلى تعذره وامتناعه في بعض الأحيان , فلذا أوجدوا الدرهم والدينار وقوموا الأشياء بهما , واتخذوهما واسطة للاستبدال تسهيلاً للوصول إلى ما يحتاجون إليه من متاع الدنيا , ولا ريب أن الدرهم والدينار ليسا من متاع الحياة حتى أنك لو رميت بهما إلى الكلب ما شمهما بل عرضية حاصلة من كونهما واسطة للاستبدال0
فبهذا تزول شبهة كفار قريش في جعلهم الربا مثل البيع , فالدرهم لا يجوز أن يباع بدرهمين, ولا الدينار بدينارين لأنهما ليسا من متاع الحياة ولا يجري فيهما حكم العرض والطلب , ولكن يجوز أن يشترى بدرهمين شيء من متاع الحياة ولا يساوي إلا درهماً واحداً , لأنه تابع في قيمته لقاعدة العرض والطلب , ولأن العوز إليه ثابت حيوي ذاتي لا عرضي بخلاف الدرهم والدينار 0
ومما يدل على أن الدرهم والدينار ليسا من الحاجات الضرورية للحياة بذل القناطير المقنطرة منهما للحصول على أقل شيء من متاع الحياة كما تفعل الناس ذلك في أيام القحط والغلاء 0 ففي سنة 334 هجرية اشتد الغلاء ببغداد حتى بيع العقار بالرغفان , واشتري لمعز الدولة البويهي كر دقيق بعشرين ألف درهم (1) 0 والكر مكيال لأهل العراق 0 وفي سنة 260 وقع غلاء مفرط بالحجاز والعراق وبلغ كر الحنطة في بغداد مائة وخمسين ديناراً (2) , وفي سنة 442 كان الغلاء بمصر حتى بيع رغيف بخمسين ديناراً , وفي مصر أيضاً اشتد الغلاء حتى بلغ الأردب مائة دينار , الأردب / 949/ مكيال لأهل مصر , وإن امرأة خرجت من القاهرة ومعها مد جوهر فقالت : من يأخذه بمد من بر ؟ فلم يلتفت إليها أحد , وفي سنة 465 هجرية اشتد الغلاء بمصر حتى أكلت امرأة رغيفاً بألف دينار كما في تاريخ الخلفاء للسيوطي (3) 0 فمن هذا يظهر لك جلياً بطلان الشبهة التي استحل به كفار قريش الربا في جعلهم الربا كالبيع 0
(15) وفي سورة آل عمران قوله : ( وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين ) (4) 0 إن المعنى واحد في قوله فما وهنوا وما ضعفوا ففي الآية تكرار بالمعنى لا باللفظ , وكان الأولى الاقتصار على أحدهما 0 وأراد الزمخشري (5) إزالة التكرار بتقدير عبارة من عنده فقال: فما وهنوا عند قتل النبي , وما ضعفوا عن الجهاد بعده , فبقول الزمخشري هذا يزول التكرار لاختلاف الزمان , فما وهنوا في زمان , وما ضعفوا في زمان آخر , ولكن التكرار قد زال بكلام الزمخشري لا بكلام القرآن , وليس في عبارة القرآن ما يدل على هذا المحذوف المقدر , فمن أين جاء الزمخشري بقتل النبي , فإن عبارة القرآن تقول " قاتل " وليس كل قاتل بمقتول , وإنما العبارة تنص على أنهم قاتلوا , وأنهم ما وهنوا في قتالهم وما ضعفوا , والحذف في الكلام إذا كان من هذا القبيل لم يكن معناه سوى أن المتكلم به كأنه يقول أيها الناس افهموا ما في ضميري 0 على أنه لو كان في عبارة القرآن ما يدل على أن هذا المحذوف المقدر أيضاً لما كانت الآية بهذا الحذف والتقدير من الرعيل الأول في البلاغة 0 / 950 /
(16) من القصص القرآنية قصة سليمان بن داود أحد ملوك بني إسرائيل , وهو الذي يسميه قومه اليهود بسليمان الملك , ولم يقولوا إنه نبي ولم يذكروه في أنبيائهم 0 ولكن النبي محمداً قد جمع له بين الملك والنبوة كالجمع بين الضدين وجاء عليه منهما بما فيه من العجائب والغرائب ما فيه , وصور في القرآن ملكه تصويراً خيالياً , فسخر له الريح تحمله إلى حيث أراد , وأدخل في طاعته من الجن والشياطين من يعملون له ما شاء , وجنّد له من الإنس والجن والطير جنوداً تقهر عدوه وتظفره بما أحب , وذكر له في القرآن قصة خيالية مع الهدهد جاء فيها أنه تفقّد الطير فلم يرَ طير الهدهد فتوعده لغيابه ثم عفا عنه لما جاءه بخبر بلقيس ملكة سبأ , وأراد أن يختبر صدق خبره فأرسل معه كتاباً إلى بلقيس يدعوها به إلى الطاعة , فأجابته بلقيس بما أراد وأرسلت إليه بهدية أكبرها المفسرون ولفقوا فيها الأقاويل , فقال سليمان يخاطب رسولها أو يخاطب الهدهد على قول بعضهم : ( ارجع إليهم فلنأتيهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون ) (1) , وأنت ترى أن هذا كلام لا يليق أن يقال إلا لعدو أعلن عداوته وأظهر التمرد والعصيان , وبلقيس قد أظهرت الطاعة وأرسلت هدية , فكيف ساغ لسليمان أن يهددها ويوعدها بهذا الكلام الذي لا يصدر إلا من صاخب غصوب , فهل هذا مقتضى البلاغة أم ماذا0
على أن سليمان لم ينتظر وصول الخبر إليها بالتهديد والوعيد ولم يرض من حاجة إلى الزحف والمسير إليها بجيشه العظيم المؤلف من الإنس والجن , بل التفت إلى المللأ حوله فقال: ( أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني / 951/ مسلمين ) (2) فتقدم إليه عفريت من الجن اسمه ذكوان على ما بقول المفسرون (3) وقال: ( أنا أتيك به قبل أن تقوم من مقامك ) (4) 0 ولكن يظهر أن سليمان لم ترضه هذه السرعة بل أراد الإتيان بعرشها بأسرع من ذلك في أقل من هذه المدة , فتقدم إليه رجل من أهل العلم بالكتاب اسمه آصف بن برخيا على ما يقول المفسرون فقال : ( أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك ) (5) , ولم يتم آصف كلامه هذا حتى رأى سليمان عرش بلقيس مستقراً عنده 0
والذي نراه في مغزى هذه القصة الخيالية هو أنها لم تؤلف ولم ترب إلا لأمر واحد هو تصوير ما للعلم من قدرة خارقة للعادة 0 وها نحن اليوم نرى للعلم من المعجزات ما لا يقل عن الإتيان بعرش بلقيس في مدة كلمح البصر , فنسمع المتكلم في لندن ونحن في بغداد , وإذا تم بلوغ التلفزيون رشده نراه أيضاً كما نسمعه إلى غير ذلك من معجزات العلم التي يطول الكلام بتعدادها 0 ولكن المفسرين رحمهم الله لم ينتبهوا إلى هذا , بل وجهوا أفكارهم إلى هدايا بلقيس ما هي وكيف استقبلها سليمان , فلفقوا فيها من الأقاويل ما لفقوا , بل مخرقوا في بيانها مخرقة يهزأ بها العلم ويسخر منها العقل , إذ قالوا : إن بلقيس بعثت خمسمائة غلام عليهم ثياب الجواري , وحليهن الأساور والأطواق والقراطق راكبي خيل مغشاة بالديباج محلاة اللجم والسروج بالذهب المرصع بالجواهر , ومعهم خمسمائة جارية على رماك في زي الغلمان , وأرسلت معهم ألف لبنة من ذهب وفضة وتاجاً مكللاً بالدر والياقوت , وحقاً فيه درة عذراء وجزعة معوجة الثقب , وبعثت بهذه الهدايا رجلين من أشراف قومها وهما المنذر بن عمرو وآخر ذا عقل ورأي 0 / 952/
ولم يكتفوا بذلك بل ذكروا لسليمان ما هو أعظم منه في استقبال الهدايا فقالوا : أقبل الهدهد فأخبر سليمان , فأمر الجن فضربوا لبن الذهب والفضة , وفرشوه في ميدان بين يديه طوله سبع فراسخ , وجعلوا حول الميدان حائطاً شرفه من الذهب والفضة وأمر بأحسن الدواب في البر والبحر فربطوها عن يمين الميدان ويساره من اللبن , وأمر بأولاد الجن وهم خلق كثير فأقيموا عن اليمين وعن اليسار ثم قعد هو على سريره والكراسي من جانبيه , واصطفت الشياطين صفوفاً فراسخ والإنس صفوفاً فراسخ , والوحش والسبع والهوام والطيور كذلك صفوفاً فراسخ , فلما دنا القوم ونظروا بهتوا , ورأوا الدواب تروث على لبن الذهب والفضة المفروش على الأرض , فتقاصرت إليهم نفوسهم ورموا بما معهم (1) إلى غير ذلك من الخيالات والأحلام , ولو أنهم افتكروا في مغزى هذه القصة لكان خيراً لهم من هذا ولعثروا فيها على شيء من الحقيقة 0
وليس سليمان وحده بالذي أعظمه القرآن وأكبره , بل بنو إسرائيل كلهم أركبهم القرآن في غير سروجهم , وأنزلهم في أعلى من منازلهم 0 وتالله إن الإنسان ليحار إذا قرأ في القرآن أخبار بني إسرائيل , فقد أعطاهم الله الأرض المقدسة وكتبها لهم , ثم حرمها عليهم بسبب عصيانهم وتمردهم على موسى نبيهم أربعين سنة حتى تاهوا , وهم في كونهم في أيام التيه من أشد العصاة لله , كان الله يظللهم بالغمام من حر الشمس , ويطلع لهم عموداً من نور بالليل يضيء لهم , وينزل عليهم المن والسلوى 0000 إلى آخر ما هنالك كأنهم من أعز خلق الله على الله 0 ولم يقف عند هذا الحد بل قال: ( يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وإني فضلتكم على العالمين ) (2) 0 ففضلهم على الناس كلهم , والعالم كما يطلق على الخلق كلهم يطلق على كل صنف من أصناف الخلق أيضاً , والعبارة بظاهرها تشمل الناس / 953/ أجمعين , بل إذا توسعنا في معناها تشمل الملائكة أيضاً بل تشمل ما سوى الله من الخلق 0 فعلى حساب من وقع هذا الإكبار والإعظام ؟ هذا ما يجب أن ننظر فيه , وربما كتبنا فيه فصلاً في ما سيأتي 0 0 ) يتبع
(1) الكشاف , تفسير الآية : 6 من سورة المائدة – (2) سورة الأنعام , الآية : 111- (1) سورة الأنعام , الآية : 148 – (2) سورة الأنعام , الآية : 149 – (3) الكشاف , تفسير الآيتين 148 – 149 من سورة الأنعام – (4) سورة البقر’ , الآية : 258 – (5) سورة الأنعام , الآية : 101 – (1) سورة الأنعام , الآية : 101 – (2) سورة الإخلاص , الآيتان 3-4 – (3) سورة الحديد , الآية : 3 – (4) سورة الزمر , الآية : 67 – (5) سورة يس , الآية : 28 – (6) تفسير القرطبي , تفسير الآية : 28 من سورة يس ؛ الكشاف و تفسير الآية ذاتها 0 – (7) سورة البقرة , الآية : 59 – (8) سورة الأعراف و الآية : 162 – (1) سورة البقرة , الآية: 275 – (2) الكشاف , تفسير الآية : 275 من سورة البقرة – (3) سورة البقرة , الآية : 275 – (1) تاريخ الخلفاء للسيوطي ( المطيع لله ) ص 4280 – (2) ن 0 م 0 ص 388 – (3) ن0 م0 ص 451 – 453 – (4) سورة آل عمران ,الآية : 146 – (5) الكشاف , تفسير الآية : 146 من آل عمران – (1) سورة النمل , الآية : 37 – (2) سورة النمل , الآية : 38 – (3) أنظر الكشاف , تفسير الآيات , 34 – 39 – من سورة النحل , والقرطبي وابن كثير في تفسير هذه الآيات – (4) سورة النمل , الآية : 39 – (5) سورة النمل , الآية : 40 – (1) أنظر تفسير الآية 35 من سورة النمل في القرطبي , وابن كثير والكشاف – (2) سورة البقرة ’ الآية : 47 ؛ والآية : 122 0
* من كتاب الشخصية المحمدية للكاتب العراقي – معروف الرصافي 0



#عايد_سعيد_السراج (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- غيفارا يحلم من جديد0
- الكوكب المضيء
- قلبي للنرجس ولأعقاب السجائر دمي
- بلاغة القرآن -3-
- بلاغة القرآن -2-
- الدعوة الإسلامية وإعجاز القرآن
- بلاغة القرآن -1-
- آيات التحدي في القرآن
- ذئاب الدماء , ونوح الصحارى
- هل القرآن معجز؟
- يغتصب المئات من الفتيات ويظل طليقاً
- فراغ شكّل الفراغ
- عندما يتحول الدستور إلى لعبة
- القرآن واللوح المحفوظ
- هل القرآن منزل من السماء!
- سور القرآن وكم هي, وفواتح السور
- كم عدد السور0 هل سقط شيء من القرآن عند جمعه 0
- مراعاة الفواصل في القرآن
- أحذروا الطائفية
- الفواصل قلقة ومتمكنة


المزيد.....




- أبرزهم القرضاوي وغنيم ونجل مرسي.. تفاصيل قرار السيسي بشأن ال ...
- كلمة قائد الثورة الاسلامية آية الله السيد علي خامنئي بمناسبة ...
- قائد الثورة الاسلامية: التعبئة لا تقتصر على البعد العسكري رغ ...
- قائد الثورة الاسلامية: ركيزتان اساسيتان للتعبئة هما الايمان ...
- قائد الثورة الاسلامية: كل خصوصيات التعبئة تعود الى هاتين الر ...
- قائد الثورة الاسلامية: شهدنا العون الالهي في القضايا التي تب ...
- قائد الثورة الاسلامية: تتضائل قوة الاعداء امام قوتنا مع وجود ...
- قائد الثورة الإسلامية: الثورة الاسلامية جاءت لتعيد الثقة الى ...
- قائد الثورة الاسلامية: العدو لم ولن ينتصر في غزة ولبنان وما ...
- قائد الثورة الاسلامية: لا يكفي صدور احكام اعتقال قيادات الكي ...


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عايد سعيد السراج - بلاغة القرآن -4-