|
الحكومة الاسرائيلية تسعى لاضعاف المحكمة العليا
يوسي فولفسون
الحوار المتمدن-العدد: 2063 - 2007 / 10 / 9 - 12:09
المحور:
دراسات وابحاث قانونية
المحاكم مصدر قوة منح القضاة امكانية التأثير على شكل المجتمع الاسرائيلي، دون علاقة بقوتهم العددية او الاقتصادية. معظم القضاة يأتون من النخب الاجتماعية المثقفة، الملتزمة بمبادئ الصهيونية الليبرالية. العناصر المعنية بإضعاف المحاكم، هي تلك التي أحكمت سيطرتها مؤخرا على مراكز صنع القرار، اي اصحاب رؤوس الاموال الساعون لازالة العقبة الاخيرة في طريقهم للسيطرة المطلقة. يوسي فولفسون*
مع تسلم ايهود اولمرت رئاسة الحكومة، عيّن حاييم رامون وزيرا للقضاء. وكان المفروض ان ينقل رامون التحول الذي قاده في الهستدروت اواسط التسعينات، الى السلطة القضائية ايضا بهدف إضعاف قوتها. خلال سنوات طويلة اكتسب رؤساء المحكمة العليا مكانة جماهيرية ذات مرجعية ونفوذ مكّنتهم من دعم الجهاز القضائي في وجه الضغوط والحفاظ على استقلاليته. تفكيك مركز قوة رئيس المحكمة العليا، وبالتالي إضعاف السلطة القضائية برمتها، هو الهدف الذي وضعه اولمرت نصب عينيه.
ولاية رامون كما هو معروف انتهت قبل الاوان. اشاعات مختلفة تشير الى ان التحقيق المكثف في قضية التحرش الجنسي التي تورط بها رامون، جاء بهدف ابعاده عن وزارة القضاء ومنعه من ادخال الاصلاحات التي خططها. محل رامون حل في الوظيفة البروفيسور دانيئل فريدمان، الذي اثار الانطباع بانه شخصية مهنية غير ذات مصلحة سياسية، ثم تبين لاحقا انه اشد خطورة حتى من رامون.
الجدل في الرأي العام حول مبادرات فريدمان الاصلاحية يهبط في احيان كثيرة الى مستوى الصحافة الصفراء بشأن دوافع فريدمان، خاصة بما يتعلق بالصراع بينه وبين رئيسة المحكمة العليا، دوريت بينيش. ولكن الحقيقة ان مبادرات فريدمان هي مبادرات اولمرت، وليس لدوافع فريدمان الشخصية اية اهمية. يدور الحديث عن عملية سياسية واضحة هدفها تغيير طريقة توزيع مراكز القوة في المجتمع الاسرائيلي.
الهجمة على المحاكم
بالكاد مضت خمسة اشهر على دخوله منصبه، واذا بفريدمان يسجل لنفسه نجاحا. فقد قرر الكنيست الاسرائيلي تحديد فترة ولاية رئيس المحكمة العليا لمدة سبع سنوات. قد يبدو هذا التغيير فنيا لاول وهلة، الا انه يغير بشكل نوعي ميزان القوى بين سلطات الحكم. رؤساء عليا سابقون من امثال القضاة اجرنات، شمجار وبراك نجحوا في فرض جدول عمل اثّر على شكل المجتمع الاسرائيلي. تحديد فترة الولاية سيصعّب على القضاة الجدد بناء نفس الموقع السياسي، مما قد يحصر دورهم في تنفيذ مهام تتعلق بالجوانب الادارية لعمل المحاكم واقل في الجوانب المبدئية السياسية العامة.
طرح فريدمان فكرة تغيير طريقة تعيين القضاة، على نحو يقلص قوة قضاة المحكمة العليا في لجنة تعيين القضاة ويزيد من قوة السياسيين. كما يسعى فريدمان لتقليص المجال امام المنظمات الاهلية المختلفة، مثل مؤسسات حقوق الانسان، في التوجه للمحاكم، واقتصار هذا الحق على اصحاب المصلحة المباشرة في القضية دون غيرهم. كما يطمح الوزير الفعّال الى الاعلان عن مجالات معينة على انها غير قابلة للمداولة القضائية.
ولا اقول ان المحكمة العليا هي حارس العدل المثالي. فرغم محاولة المحكمة العليا تصوير نفسها كمن يتبنى توجه التدخل الفعال لفحص اعتبارات السلطة التنفيذية في تفعيلها صلاحياتها (activism)، الا انها في الواقع تردّ معظم الالتماسات المقدمة اليها، خاصة ما يتعلق بما يسمى "الاعتبارات الامنية" التي تتحج بها الحكومة. مثال على ذلك، امتناع محكمة العدل العليا عن الحسم في مسألة مشروعية المستوطنات، وقبولها بموقف الدولة والاعتراف بحقها في بناء الجدار الفاصل "مؤقتا" على اراض بعيدة عن الخط الاخضر. كما ترفض المحكمة معظم الالتماسات المقدمة ضد الاعتقالات الادارية. على الصعيد المحلي، لم تتدخل محكمة العدل ضد عملية تقويض دولة الرفاه.
ومع هذا، فقد شكلت المحكمة منذ الخمسينات حارسا لحرية التعبير لدى الاقليات. قرارات المحاكم مثلا هي التي اقرّت مكانة اللغة العربية في الدولة. كما منعت في السنوات الاخيرة محاولات شطب ترشيح قوائم عربية في انتخابات الكنيست. قرار المحكمة بالنسبة لمنع التعذيب، رغم ثغراته العديدة، الا انه حاول تغيير الواقع في غرف تحقيق المخابرات. في مجال تخصيص الاراضي دعمت المحكمة مبدأ المساواة عندما أقرّت مثلا حق عائلة قعدان بالسكن في كتسير. محاولات المؤسسة السياسية إضعاف المحكمة العليا سيضرّ بالمجموعات التي اعتبرت هذه المحاكم ملجأ اخيرا لتحصيل حقوقها.
الى جانب الهجمة على مؤسسة رئاسة المحكمة العليا، حاول فريدمان تغيير اسلوب تعيين المستشار القضائي للحكومة، على نحو يزيد من سيطرة السياسيين على عملية التعيين، ويفكك المزيد من مصادر قوة الجهاز القضائي الذي ردع في احيان كثيرة غطرسة النظام.
مبادرة فريدمان الاخطر هي محاولة دفع الكنيست لاعادة تشريع قوانين كانت المحاكم قد الغتها بسبب تعارضها مع القوانين الاساسية للدولة، وعلى رأسها القوانين التي تمس بحقوق الانسان بشكل فادح. وبما ان الكنيست الاسرائيلي يمرر بسهولة لا تصدق وباغلبية كبيرة جدا كل مبادرة تشريعية عنصرية وقاهرة، يصبح معنى المبادرة القضاء على اية ضوابط يمكن ان تقيد يدي الاغلبية البرلمانية الطاغية. لم ينتظر فريدمان إتمام صياغة مبادرته هذه، حتى بدأ تشريعا مجددا لآخر قانون الغته المحكمة، والمتعلق بمنع المحاكم في اسرائيل من النظر في قضايا فلسطينيين تعرضوا لاصابات من جانب اسرائيل، ويدّعون ان الاصابة كانت غير قانونية حسب معايير القوانين الاسرائيلية ذاتها.
وكان فريدمان قد صرّح انه ممنوع على المحاكم التدخل في قوانين تخص المواطنة، مثل "قانون الدخول الى اسرائيل" الذي يمنع لم الشمل بين العرب المقيمين في اسرائيل وبين ازواجهم من مواطني المناطق المحتلة. وكانت المحكمة قد رفضت باغلبية ضئيلة جدا التماسا ضد دستورية هذا القانون وضد طابعه المؤقت. تغير القانون مؤخرا بشكل طفيف، وتم تمديده لفترة اضافية، وتم تقديم التماس جديد ضده.
مثال آخر يسعى الوزير للالتفاف عليه هو الادعاءات ضد قانونية القانون الذي يسمح بسجن عدو دون محكمة، ودون تحديد فترة زمنية، وتسميتهم "مقاتلين غير قانونيين". وكذلك القانون الذي يقلص حقوق بعض الخاضعين للتحقيق الامني اثناء التحقيق.
قضية اخرى تزعج الحكومة هي قضية القانون الذي يتيح خصخصة السجون في اسرائيل، والذي من المفروض ان تنظر فيه المحكمة قريبا. في اطار النقاش حول هذا القانون ستضطر المحكمة لتحديد المسموح والممنوع بشأن نقل صلاحيات حكومية لاصحاب رؤوس الاموال الذين سيتولّون ادارة هذه السجون. في الماضي نظرت محكمة العدل في قوانين مسّت بمخصصات الرفاه في اطار السياسة الاقتصادية. ومع ان المحكمة لم تتدخل في هذه القوانين، الا انها لم تلغ امكانية التدخل في قوانين شبيهة مستقبلا.
النخب الحديثة مقابل القديمة
المحاكم كمصدر قوة تمنح القضاة امكانية تشكيل الرأي العام، دون علاقة بقوتهم العددية او الاقتصادية. معظم القضاة يأتون من النخب الاجتماعية اليهودية الاشكنازية، من مواليد الدولة او من مؤسسيها، معظمهم ينتمي لشريحة مثقفة نسبيا وملتزمة بمبادئ الصهيونية الليبرالية او الاشتراكية-الديمقراطية. تشبّع هؤلاء بالمُثُل العليا التي يطوّرها الجهاز القضائي: الرسالة الاجتماعية، الاستقامة، العدالة، التوازن بين حقوق الانسان والمهام الوطنية. يهمهم جدا شكلهم في نظر اجهزة القضاء العالمية. كما ان نصف القضاة في المحكمة العليا هم من النساء، اكثر بكثير من وزنهن النسبي في الكنيست او الحكومة.
اضافة الى ذلك، فان السيرة العملية لمعظم هؤلاء كانت في السلك الحكومي كمدّعين عامين او قضاة. ويمكن الافتراض ان معظمهم لم يحتكوا بشكل شخصي بعالم المال والاعمال، وليس بالضرورة ان يكون اصدقاؤهم من مقاولي البناء، المضاربين في البورصة او تجار السلاح والماس. خلافا للسياسيين، القضاة غير متعلقين بشكل مباشر باصحاب رؤوس الاموال بهدف تحقيق التقدم الشخصي. لا غرابة اذن ان المحكمة تشكل عاملا لاجما في العلاقة بين الحكومة ورأس المال.
العناصر المعنية بإضعاف المحاكم، هي تلك التي أحكمت سيطرتها مؤخرا على مراكز القوة في المجتمع، اي اصحاب رؤوس الاموال الساعون لازالة العقبة الاخيرة في طريقهم الى السيطرة المطلقة. ليس صدفة ان فريدمان يطمح لتعيين قضاة من محامي القطاع الخاص.
حتى لو لم يتمكن فريدمان من تمرير كامل الاصلاحات التي يريد، الا انه نجح في إضعاف المحكمة وادخال الجهاز القضائي برمته في دوامة، واستنفر قضاة وحقوقيون من داخل الجهاز وخارجه لمعركة الدفاع عن الوضع الموجود. ما حدث مع صندوق المرضى والهستدروت يحدث اليوم مع المحاكم التي باتت توصَف بانها مؤسسات مهترئة تخلق معاناة للاطراف نظرا لطول الاجراءات، بدل ان تحقق العدالة. قوة المحاكم نابعة من هيبة ووقار وتقديمها نفسها كهيئة موضوعية ومحايدة، يزيد في وقار السلطة القضائية هندسة مبانيها، الطقوس الرسمية المختلفة، وحتى الازياء الرسمية. وها هو الآن ينهار على مرأى منا.
التعرض لقوة المحكمة العليا ومصداقيتها الجماهيرية يدق مسمارا آخر في نعش ثقة الجمهور بمؤسسات النظام. الكنيست والحكومة وادواتها الاجتماعية تعتبر منذ مدة طويلة مؤسسات فاسدة. حتى الانتخابات للكنيست فقدت سحرها. لم يعد هناك فرق حقيقي بين الاحزاب، جميعها خيّبت الآمال، والسياسيون في نظر الشعب باتوا فاسدين وخُدّاما لرأس المال. رئيس الدولة متهم بالاغتصاب، والجيش لم يتنزّه عن عدم ثقة الشعب، حتى رئيس الاركان السابق الذي سارع لبيع اسهمه عشية الحرب الثانية على لبنان، فقد اسهمه في نظر الرأي العام.
في ظل هذه الفوضى نجحت المحكمة في الحفاظ على نوع معين من الشرعية، واخذت على عاتقها وظيفة انقاذ المجتمع الاسرائيلي من نفسه: محكمة العدل العليا تمنع الفساد، تلزم الرئيس بالمثول امام القضاء، تهتم بالتحقيق في الفشل العسكري في لبنان، تهتم بتحصين المدارس في سديروت، توسيع سلة الادوية... الاجراءات التي يقودها اولمرت وفريدمان يهددان بتقويض هذه الاركان.
الوضع الذي يفقد فيه نظام الحكم الشرعية في نظر قسم كبير من الجمهور، يخلق حالة خطيرة من عدم الاستقرار. بالامكان ان يقود هذا الحال الى انهيار اجتماعي او حتى الى اختفاء المجتمع كوحدة سياسية مستقلة؛ بامكانه ان يقود الى ثورة تبث الامل بنظام افضل واعدل؛ ولكنه يمكن ان يؤدي لنشوء قوة دكتاتورية او فاشية، تعتلي موجة عطش الجماهير الى قيادة مستقيمة وامينة تُدخل بعض النظام في وضع الفوضى.
كل هذه التقديرات تثير فيّ مشاعر متناقضة. من جهة، شماتة بالمحكمة التي خانت في احيان كثيرة دورها الاساسي وهو الدفاع عن حقوق الانسان؛ من جهة ثانية، قلق من تدهور النظام بعد ان قضى على الفرامل الوحيدة التي كان دورها الحفاظ علينا منه؛ من جهة، شماتة بالديمقراطية البرجوازية التي تقوّض نفسها بنفسها؛ ومن جهة ثانية، قلق مما سيحل محلها. السؤال الهام بالفعل هو، كيف سيبدو المجتمع الاسرائيلي بعد ان يترك فريدمان الجهاز القضائي. في هذا الصراع بين السيئ والشرير، آمل ان يكون فريدمان الطرف الخاسر.
* يوسي فولفسون محامي "هاموكيد- مركز الدفاع عن الفرد" في القدس الشرقية
#يوسي_فولفسون (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الاونروا: ظروف البقاء على قيد الحياة تتضاءل لنحو 75 ألف شخص
...
-
دول التعاون الإسلامي توقع اتفاقية لمكافحة الفساد
-
هيئة الأسرى: إدارة سجن الدامون تعامل الأسيرات بطريقة وحشية
-
الأمم المتحدة: نتواصل مع جميع الأطراف بشأن وقف إطلاق النار ف
...
-
شؤون اللاجئين الفلسطينية تسلّم مساهمات مالية لأصحاب المنازل
...
-
الرئيس الفلسطيني يستقبل مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة لعم
...
-
الجزائر: الأمم المتحدة بالتعاون مع سفارة فلسطين تحيي اليوم ا
...
-
منظمة التحرير الفلسطينية تحذر من قرار إسرائيل حظر عمل الأونر
...
-
الصليب الأحمر: الوضع الإنساني في قطاع غزة غير مقبول
-
هل سيتم اعتقال بنيامين نتنياهو إذا قدم إلى فرنسا؟
المزيد.....
-
التنمر: من المهم التوقف عن التنمر مبكرًا حتى لا يعاني كل من
...
/ هيثم الفقى
-
محاضرات في الترجمة القانونية
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
قراءة في آليات إعادة الإدماج الاجتماعي للمحبوسين وفق الأنظمة
...
/ سعيد زيوش
-
قراءة في كتاب -الروبوتات: نظرة صارمة في ضوء العلوم القانونية
...
/ محمد أوبالاك
-
الغول الاقتصادي المسمى -GAFA- أو الشركات العاملة على دعامات
...
/ محمد أوبالاك
-
أثر الإتجاهات الفكرية في الحقوق السياسية و أصول نظام الحكم ف
...
/ نجم الدين فارس
-
قرار محكمة الانفال - وثيقة قانونيه و تاريخيه و سياسيه
/ القاضي محمد عريبي والمحامي بهزاد علي ادم
-
المعين القضائي في قضاء الأحداث العراقي
/ اكرم زاده الكوردي
-
المعين القضائي في قضاء الأحداث العراقي
/ أكرم زاده الكوردي
-
حكام الكفالة الجزائية دراسة مقارنة بين قانون الأصول المحاكما
...
/ اكرم زاده الكوردي
المزيد.....
|