في حوار عبر الأثير ، مع إذاعة الشمس التي تبث برامجها من مدينة الناصرة في فلسطين المحتلة ، سألني معد البرنامج السياسي عن معالم العراق الجديد الذي ينشده العراقيون ، فقلت له ، انه عراق خال أولا من الديكتاتورية والنظام الشمولي والحزب القائد والزعيم الأوحد والمقابر الجماعية والانقلابات العسكرية والحروب العبثية وأسلحة الدمار الشامل ، انه عراق الحرية والديمقراطية والتعددية ومبدأ التداول السلمي للسلطة ودولة القانون والدستور والنظام ألتعددي البرلماني ، وحدهم المواطنون هم الذين سيختارون نوع النظام السياسي الذي يرتأونه ، وهم الذين سينتخبون مؤسساته
الدستورية عبر صندوق الاقتراع على قاعدة ـ صوت واحد ، لمواطن واحد ـ .
سألني ، ومن أي جيران العراق أو الدول العربية تخشون على هذا الوليد الجديد ؟ ، أجبته ، نحن لا نخشى أحدا من كل هؤلاء ، وان كنا نتمنى عليهم أن لا يتدخلوا بشؤون العراق الداخلية، ويراقبوا حدودهم حتى لا يتسلل منها إلى العراق تجار الموت والإرهاب والتعصب والمخدرات ، إنما المشكلة ، أن الآخرين يخشون من معالم هذا العراق الجديد الذي سيكون بالتأكيد بدعا من أنظمة البلاد العربية والإسلامية التي تحكم اغلبها أنظمة غير منتخبة من قبل شعوبها ، ولذلك فهي تفتقد إلى الحد الأدنى من المشروعية ، فهي إما أنظمة ملكية بالوراثة أو أنظمة انقلابات عسكرية ـ سرقات مسلحة ـ قيد التحول إلى أنظمة جمهورية بالوراثة ، ولذلك فان قيام نظام ديمقراطي دستوري تعددي برلماني في العراق ، يعتبرونه تهديدا مباشرا ، وان كان على المستوى البعيد ،لأنه ـ حسب زعمهم ـ سيتحول إلى أنموذج يحتذى بالنسبة إلى بقية الشعوب العربية والإسلامية ، ستسعى للإقتداء به وتكراره إن عاجلا أم أجلا .
وأضفت ، انه ليس ذنب الإنسان العراقي إذا طالب بنظام ديمقراطي يضمن له حريته وكرامته ويحقق له النمو الاقتصادي والازدهار المدني والحضاري والتكنولوجي ، ويوفر له الأمن والسلام الداخلي ومع الجيران والعالم ، يصون حقوقه ولا يعتدي عليها احد أو يسحقها ، وكذلك لا يصادر رأيه وإرادته ، كما يحقق له الاستقرار ولا يسوقه إلى حروب عبثية مع جيرانه والمجتمع الدولي ، إنما هو ذنب الأنظمة التي فشلت في تحقيق الحد الأدنى من كل ذلك لشعوبها التي باتت تتطلع وترنو بعيونها إلى يوم التغيير ، ربما بأي ثمن ، كما رأينا ذلك في العراق .
سألني عن رأي العراقيين بتغطية الفضائيات العربية لأخبار وأحداث وتطورات العراق ، قلت له ، إن العراقيين لا يخشون من التغطية السيئة لأخبارهم في هذه الفضائيات ، التي تفقد مصداقيتها لدى الرأي العام العربي والعراقي خاصة، يوما بعد أخر ، ولقد رأينا كيف هاجم المواطنون العراقيون فرق عمل عدة فضائيات عربية ، بتهمة الانحياز إلى فلول النظام السابق والعناصر الإرهابية التي تحاول زرع الخوف والرعب وزعزعة الاستقرار وسلب الأمن من حياة المواطن العراقي المسكين ، من خلال تنفيذ عملياتها الإرهابية التخريبية هنا وهناك من بعض مناطق العراق .
إنهم لا يخشون ذلك ، فلقد تعودوا على ظلم الإعلام العربي لهم ، وهو الذي لم ينصفهم دائما وأبدا ، ولكن في ذات الوقت يتمنى العراقيون اليوم على هذه الفضائيات أن تمسك العصا من الوسط ، أي أن تتحلى ببعض الإنصاف فقط عند تغطيتها لأخبار العراق ، فكما أنها تفرد متسعا كافيا من الوقت لعناصر إرهابية ملثمة ، مجهولة ونكرة ولا يعرف احد ما إذا كان الفيلم المعروض قد سجل فعلا في داخل العراق أم في أستوديو المحطة الفضائية ، تتحدث عن عملياتها الإجرامية وبطولاتها المزعومة في قتل الأبرياء واستهداف المساجد والمراقد المقدسة والأماكن الآهلة بالمدنيين وتهديدها العراقيين بالويل والثبور ، كذلك يلزمها ، إذا أرادت أن تنصف العراقيين ، أن تستعرض مثلا أحاديث لعراقيين يتحدثون عن الحرية التي يتمتعون بها اليوم ، سياسيا وإعلاميا ودينيا واجتماعيا وغير ذلك ، والتي حرموا منها على مدى أكثر من ثلاثة عقود من الزمن ، أو أن تغطي أخبار الخدمات والحقوق الأساسية ، التي يتمتع بها المواطن العراقي اليوم ، والتي كان يحلم بها طوال سني عهد النظام البائد البغيض ، كالماء والكهرباء والهواتف الجوالة وشبكة ومقاهي الانترنيت وحرية الإعلام والصحافة والاتصال واقتناء الصحون اللاقطة وغير ذلك .
كذلك ، فإلى جانب تقاريرها الخبرية عن قتل الجنود الاميركيين ، عليها ـ إذا أرادت أن تثبت إنصافها للعراقيين وعدم انحيازها لأي طرف ،النظام البائد أو الشعب العراقي ـ أن تتحدث عن المقابر الجماعية وردهات السجون وطوامير المعتقلات الرهيبة وانتهاكه للأعراض واغتصابه للحرائر، والدمار الهائل والديون المستحقة على العراق التي خلفها النظام السابق ، وضحايا حروبه العبثية وعمليات الأنفال وقمع الانتفاضة وقصف مدينة حلبجة بالسلاح الكيماوي ، والمستوى المتدني للتعليم والصحة وانعدام الضمان الاجتماعي ، وتدهور العملة العراقية الوطنية التي كانت في السبعينيات من القرن الماضي تعادل 3.7 دولارا اميركيا ، ولما غادر صدام حسين السلطة في نيسان الماضي
، ترك السنت الاميركي الواحد يعادل عشرين دينارا .
إذا تحدثت الفضائيات عن كل ذلك ، وغطت مختلف جوانب ووجوه الأزمة العراقية ، سيتيقن وقتها العراقيون أنها بالفعل بدأت تنصفهم من دون أن تجامل أحدا أو تميل إلى طرف دون آخر ، أما أن تنظر بعين الشفقة على أيتام وفلول النظام البائد ، وتغمض عينها وتصم آذانها وتقطع لسانها ، فلا ترى شعبا كاملا انعتق من ربقة الإرهاب والديكتاتورية والنظام الشمولي ، وهو الآن يشم أولى نسائم الحرية ، فهذا عين الإجحاف والانحياز والظلم .
سألني ، ما رأيكم بقرار الجامعة العربية الذي أدان المقابر الجماعية ، قلت له ، انه قرار صحيح وان جاء متأخرا ، يلزم أن تتبعه خطوة سليمة وضرورية أخرى ، وهي أن تبادر الجامعة إلى إرسال بعثة تقصي الحقائق، للوقوف على كل الجرائم الخطيرة والانتهاكات الفضيعة التي ارتكبها النظام السابق ، لتحفظ ملفاتها وأفلامها في أرشيف الجامعة ، لتكون قوة ردع معنوية للأنظمة الديكتاتورية الشمولية الأخرى ، وعبرة لمن خدعته دعاية النظام المعزول والإعلام العربي المأجور والمطبلين والمزمرين له والمبررين جرائمه ، من مثقفي الكوبونات وإعلاميي وصحفيي الدولار الذين باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم ، وعلى مدى أكثر من ثلاثة عقود من الزمن .
قال لي ، إن الإعلام عرض صورا لمتظاهرين في تكريت وبغداد ، وهم يرفعون صورا للرئيس العراقي السابق صدام حسين ، قلت له ، وهذا اكبر دليل على الحرية التي يعيشها العراقيون بعد سقوط النظام البائد ، ففي عهد الرئيس المخلوع كان النظام يعدم المواطن إذا عثر الجلاوزة بحوزته على منشور سياسي أو صورة لغير القائد الضرورة ، حتى إذا لم يمسك بالجرم المشهود ، فقد أبيد طلاب احد صفوف مدرسة ثانوية في بغداد عن بكرة أبيهم لان احدهم ـ لم تعرف هويته حتى الآن ـ كتب شعار ـ الموت لصدام ـ على لوحة الصف .
كما كان السجن المؤبد بانتظار من يسب ـ هبة السماء إلى الأرض ـ ولكل من يذكر اسمه من دون أن يتبعه بعبارة ـ حفظه الله ورعاه ـ ، أما اليوم فان من حق المواطن العراقي أن يتظاهر ويعبر عن رأيه ويعرب عن حبه أو بغضه لمن يشاء ، فيرفع مثلا صور الرئيس المخلوع أو أية صورة أخرى ، وله كامل الحرية والأمان ، وسوف لن يلاحقه جلاوزة وزارة الداخلية وأجهزة الأمن والمخابرات ، كما أن مجلس الحكم الانتقالي سوف لن يصدر بحقه مذكرة اعتقال مثلا أو قرارا يصادر بموجبه كافة أمواله المنقولة وغير المنقولة ، كما انه سوف لن يغيب في طوامير السجون المظلمة أو في المقابر الجماعية .
أخيرا ، سألني ، إن العرب يتهمون العراقيين بالتامرك والولاء لأميركا عندما يطالبون بالديمقراطية ، فقلت مستغربا ، وهل أن كل من يطالب بحقوقه وحريته وكرامته ، يتهم بالعمالة لأميركا ؟ أم أن من يطالب بممارسة حقه في الاختيار عند صندوق الاقتراع ، يوصم بالأمركة ، وكان الحرية قيمة اميركية أو أن الديمقراطية التي تعني المساواة والمشاركة إلى جانب الحرية ، مشروع اميركي ؟ .
إن كل العراقيين تواقون لرؤية نظام سياسي ديمقراطي في العراق ، وكلهم متشوقون لرؤية الفرقاء السياسيون وهم يتنافسون عند صندوق الاقتراع ، فلا يحتكمون إلى السلاح أو إلى منطق القوة والعنف ، إنما يتنافسون على برامجهم السياسية ومشاريعهم التنموية الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية والصحية وغير ذلك .
وأضفت ، أن قيام نظام ديمقراطي تعددي في العراق هو لصالح الشعب العراقي أولا ، قبل أن يكون لصالح الاميركيين ، وان تمتع المواطن العراقي بحريته وحقوقه هو مطلب عراقي قبل أن يكون مطلبا اميركيا ، ولذلك ضحى العراقيون بأرواحهم ودمائهم وبكل ما يملكون وعلى مدى أكثر من ثلاثة عقود عجاف ، قبل أن تكتحل عيونهم برؤية عراق خال من اخطر أسلحة الدمار الشامل واعني بها الديكتاتور صدام حسين الذي سخر كل شئ من اجل تحقيق أحلام مستحيلة وطموحات مريضة .
ولا تنسى ، أضفت ، أن العراقيين ظلوا يواجهون النظام المقبور ويضحوا في سبيل نيل حريتهم ، يوم كانت أميركا وكل دول العالم الشرقي والغربي ودول العالمين العربي والإسلامي ، تقدم له كل أنواع الدعم ، وتتستر على جرائمه وتبرر له انتهاكاته الخطيرة لحقوق الإنسان ، ما يعني أن الديمقراطية مطلب عراقي أولا وأخيرا .
إن من مصلحة العراق كبلد وكشعب ، أن يستقر ويتصالح مع نفسه ويتعايش مع جيرانه والعالم ، ليشهد نموا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ومدنيا وعمرانيا ، قبل أن يكون ذلك مصلحة اميركية ، فكيف نتهم العراقيين بالتامرك والعمالة وما إلى ذلك من النعوت غير الواقعية والتي لا أساس لها من الصحة ، عندما يرفعون شعارات حضارية كالحرية والمساواة والمشاركة والكرامة والتنمية وحقوق الإنسان والتعددية والنظام الدستوري والانتخابات ، والتي هي في الأساس قيم دينية شرعها الخالق عز وجل لعباده من اجل تحقيق العدل والإنصاف والإحسان ، وهو القائل في محكم كتابه ـ إن الله يأمر بالعدل والإحسان ـ ، وهل يمكن أن نتصور العدل والإحسان التي أمر بهما الله تعالى من دون هذه القيم الحضارية ؟ فنتصور العدل في ظل النظام الديكتاتوري ، أو الإحسان عند المقابر الجماعية ؟ أو الإنصاف في ظل النظام الشمولي الذي يقتل على الشبهة ويعدم على الظنة ؟.
إن العدل توأم الحرية والإحسان صنو الكرامة والإنصاف يلازم المشاركة ، ولذلك يلزم أن تتحقق في آن واحد، لان المتناقضات لا تجتمع إلى بعضها ، فكيف يمكن أن نجمع العبودية والذل والاستبداد إلى جانب العدل والإحسان والإنصاف ؟.