أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - صادق إطيمش - الدين والدولة وجدل ألإختيار 1















المزيد.....


الدين والدولة وجدل ألإختيار 1


صادق إطيمش

الحوار المتمدن-العدد: 2063 - 2007 / 10 / 9 - 12:13
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


ألتبجح بالدين والتمشدق بشعاراته وتوضيفه لهذا الغرض السياسي أو ذاك الهدف ألإقتصادي أصبح اليوم ظاهرة من الظواهر التي تنتشر إنعكاساتها على كل المجتمعات بهذه الدرجة أوتلك وبين مختلف ألأديان بهذا الوضوح أو ذاك ,وذلك استنادآ إلى شدة التوظيف وعمق ألإستغلال للتعاليم الدينية وقوة ربطها بهذا الهدف السياسي أو بذلك الغرض ألإقتصادي . أي أن هذه الظاهرة لا تقتصر على دين بحد ذاته ولا تنطلق من مفاهيم وتعاليم طائفة دينية معينة , بل أن أنها أصبحت , وعلى مرور الزمن , ملاصقة لكل توجه لم يستطع أن يتعامل مع الواقع الذي يعيشه بروح وخصائص ومفردات ذلك الواقع على أصعدة الحياة كافة ومحاولة تحليلها بالوسائل العلمية والإمكانات التقنية التي قد تساهم بإيجاد الحلول الناجعة للمعوقات ألإجتماعية والسياسية والإقتصادية والثقافية التي يتعرض لها أي مجتمع على طريق التطور الذي لا بد منه وذلك إنسجامآ مع حركة الحياة وجدلية الربط بين هذه الحركة وآفاق التغيير الذي يسعى إليه كل مجتمع يريد السير ضمن القافلة العالمية المتوجهة إلى ألأمام دومآ , غير ملتفتتة إلى العاجزين المتخلفين على قارعة الطريق .
إن توظيف الدين للتعامل مع مفردات الحياة اليومية له تاريخه الذي يمتد إلى سالف ألأزمان الغابرة من عمر البشرية , وقد مارسته جميع ألأديان , بما فيها ألأديان التي نطلق عليها مصطلح " ألإبراهيمية " نسبة إلى ألنبي إبراهيم (ع) وهي اليهودية والمسيحية والإسلام .

لقد رافقت هذه الظاهرة تاريخ الدين ألإسلامي منذ أن إنقطعت صلة ألأرض بالسماء بعد وفاة النبي الكريم محمد (ص) حين أصبح المسلمون يعتمدون على فهمهم للنص القرآني ومن ثم تفسيرهم له حسب ما يملي على كل منهم مستوى تفكيره ودرجة فهمه للنص . أي أن التفسير الإلاهي الذي أخذه المسلمون عن النبي (ص) بإعتباره لا ينطق عن الهوى ,أصبح بعد وفاة النبي تفسيرآ بشريآ خاضعآ لكل الصفات التي تطبع شخصية هذا الفرد أو ذاك مهما عظُم شأنه وكثر علمه , فالإنسان لا يرقى إلى صفة العِصمة ألإلاهية بأي حال من ألأحوال . وعلى هذا ألأساس فإن بروز هذه الظاهرة في التاريخ ألإسلامي أصبح إنعكاسآ طبيعيآ للواقع الذي يمر به المجتمع وما يفكر به إنسان ذلك المجتمع . وبما أننا لا يمكن أن نجد مجتمعآ , إسلاميآ أو غير إسلامي , متناسقآ متكاملآ متشابهآ في التفكير والتعليم والثقافة وتوزيع المواقع ألإجتماعية وكل ما يؤثر على نمط التفكير وقدرة الفهم والتحليل , لذلك فلابد من وجود ألإختلاف في التعامل مع النص الديني كتابآ وحديثآ وبالتالي فإن التطبيق العملي لما جاء به هذا النص يصبح أمرآ متعلقآ بالمميزات البشرية ألآنفة الذِكر ومناطق تواجدها . ونظرآ لتعدد ألأنماط وأختلاف السبل التي رافقت هذه الظاهرة في التاريخ ألإسلامي وادعاء كل طائفة أو فرقة أو حتى مجموعة صغيرة أحيانآ بأنها الفرقة الناجية , وبأحقيتها وانفرادها بالفهم الحقيقي لتعاليم ألدين ألإسلامي , فإننا نجد أنفسنا هنا والحالة هذه نستفسر عن ماهية الفكر الديني الحقيقي بين هذه التفسيرات المختلفة وتلك العروض المتباينة ونسأل عن أي دين يتحدث هؤلاء ...؟ وهل أنهم جميعآ يعنون ألدين ألإسلامي حقآ...؟ وإن كان المقصود بذلك ألدين ألإسلامي حقآ , فأي إسلام نريد من هذه العروض ألإسلامية الكثيرة...؟
إن أول جواب على هذه ألأسئلة سنجده حتمآ عند أُولئك الذين سيقولون لك فورآ إن ألإسلام واحد وليس هناك من مجال للخيار بين إسلام وإسلام . ومنهم من يزيد على ذلك فيقول إن هذه البضائع ألإسلامية المعروضة في سوق الدين اليوم لا علاقة لها بالإسلام الحقيقي . وحينما تسأله عن كيفية التعرف ومن ثم الوصول إلى ألإسلام الحقيقي, يجيبك بالقول المعهود : العودة إلى السلف ألصالح . وهنا يتشعب ألطريق إلى السلف الصالح عبر النبي محمد (ص) والخلفاء الراشدين (رض) ليتفرع إلى ألأئمة والصالحين وحتى بعض الخلفاء ألأمويين والعباسيين والفاطميين والعثمانيين أو يتجه نحو مؤسسي المدارس الفقهية والمذاهب ألإسلامية . ولابد لنا من مناقشة مثل هذه الآراء قبل إجابتنا على السؤال المطروح حول ألإسلام الذي نريد .

إن القول بوحدة ألإسلام يمكن تعميمه على جانب العبادات فقط وليس على الجوانب ألأخرى وخاصة تلك التي تتعلق بالعلاقات والمعاملات . فالمسلمون , أينما كانوا وخاصة المتعبدون منهم , ينطقون الشهادتين ويؤدون فرائض الصلوات الخمس يوميآ ويصومون شهر رمضان وينفقون الزكاة ويحجون بيت ألله الحرام , إن إستطاعوا لذلك سبيلآ . ولكن هل هذا هو المحتوى الكلي للإسلام...؟ بالتأكيد لا , فالعبادات الآنفة الذكر هي الوسائل الشخصية البحتة التي ينظم فيها ألإنسان المسلم علاقاته مع ربه , وحتى وإن إنعكس تأثير هذه العلاقة الخاصة بين ألإنسان وخالقه على العلاقات ألإجتماعية العامة , فإن طبيعة العبادات تبقى فردية خاصة تترتب عليها نتائج تتعلق بالفرد نفسه . لذلك فإننا لا نجد في النصوص القرآنية أي نص يشير إلى أية عقوبات دنيوية على من لا يطبق العبادات , بعكس التعاليم الإسلامية ذات البعد ألإجتماعي كالسرقة والزنى مثلآ والتي وضع لها القرآن عقوبات دنيوية , بل أن القرآن الكريم ترك أمر العقاب والثواب في أمر العبادات إلى ألله تعالى وحده كجزء من ألإيمان الذي لم يرد ألله إجبار الناس عليه, لا إكراه في ألدين , بل تركه لقناعاتهم بهذا الدين , وقد نهى ألله رسوله بأن يكون وكيلآ على الناس او مُكرِهآ لهم في شؤون دينهم . إذ أن القناعة , حسب المنطوق ألقرآني , هي ألغاية التي يرجوها ألإسلام من المسلمين وليس تبني ألإسلام فقط : " قالت ألأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل ألإيمان في قلوبكم....." (ألحجرات 14) . أي أنه ليس كل من إدعى ألإسلام هو مؤمن بتعاليمه إيمانآ تتجسد فيه القناعة الحقة بكل مفاصل هذا الدين وليس بجزء منها . أما ما يتعلق بجوانب الدين الأخرى في العلاقات والمعاملات فإن تعميمها وبالتالي ربطها بوحدة ألإسلام لا يتعدى الجانب النصي في العقود والتراث العام في العلاقات . ولتوضيح ذلك أكثر لابد من النظر إلى ألأمم والشعوب التي دخلت ألإسلام والمختلفة إختلافآ واضحآ وكبيرآ في تراثها وحضاراتها وتاريخها . لقد دخلت هذه ألأمم والشعوب إلى ألإسلام في حقب تاريخية مختلفة وبأساليب مختلفة أيضآ , حربية وسلمية , إنعكست على ما حملته معها هذه الشعوب من تراثها وحضاراتها إلى مجتمعها ألإسلامي الجديد . لذلك فإننا نرى اليوم إمتدادآ لمثل هذا التراث في حياة هؤلاء المسلمين وفي علاقاتهم ألإجتماعية مع بعضهم البعض . فإجراءات الزواج مثلآ التي تتم حسب عقد الزواج ألإسلامي تختلف في إحياء طقوس هذه المناسبة في اليمن عن مثيلتها في أندنوسيا على سبيل المثال . وحتى عقد ألزواج ألذي يعتبره البعض موجبآ لإعطاء الزيجة صفتها الشرعية والذي يوجب موافقة ولي الزوجة الذكر يُستغنى عنه لدى بعض الطوائف ألإسلامية كالزواج المؤقت ( زواج المتعة ) عند الشيعة ألإثني عشرية , إذ يكتسب هذا النوع من الزواج شرعيته بمجرد موافقة المرأة التي تريد الزواج بالمتعة , حيث يتم عقد الزواج الشفوي من قبل بعض شيوخ الدين . وكذلك القول عن زواج المسيار لدى بعض الطوائف السنية التي تُجيز هذا النوع من الزواج دون ألإجهار به , في حين تعتبر طوائف أخرى ألإجهار بالزواج كأحد الشروط الشرعية لإكمال الزيجة على الطريقة ألإسلامية . وما يقال عن الزواج يقال عن أللباس أيضآ وطبيعة الملابس المستعملة وطريقة أرتداء البرقع والجلباب والنقاب والحجاب, تلك الطرق التي لم تكن موجودة في العصر النبوي , وما يرافقها من لباس عربي كالثوب الطويل العريض أو أللباس غير العربي كالسروال أو غيره ووجهات النظر عما يجب تغطيته عند المرأة العورة أو الزينة , وكذلك حول لباس الرجل وعلاقة أللباس بالتدين , حيث تفضل بعض الفرق ألإسلامية كالأحمدية مثلآ التشبه بالنبي (ص) في لباسها. وهناك الكثير من الفُرَق ألإسلامية التي تُحرِم الغناء والموسيقى في حين تعتبرها فرق أخرى من مقومات العبادة التي يمكن التقرب بها إلى ألله مستشهدين باستقبال النبي الكريم محمد (ص) بالدفوف والغناء من قبل ألأنصار حين وصوله يثرب وهي تغني له : طلع الفجر علينا من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ما دعى لله داع ..... , أو العبادات التي تقوم بها بعض فرق المتصوفة المصحوبة بالموسيقى والرقص والغناء . إن ذلك وغيره ألكثير يشير إلى أثر التراث والتاريخ والعادات والتقاليد على العلاقات ألإجتماعية في المجتمعات ألإسلامية المختلفة حيث تباينت مظاهر هذه العلاقات وأصبحت ممارستها جزءً من الطقوس الدينية بشكل يتنافي والحديث عن وحدة ألإسلام في مثل هذه المجالات والتي تنظر إلى النصوص دون التطبيق . لقد تطرق بعض الباحثين في هذا الشأن إلى مناقشة هذا الموضوع في المجتمعات ألإسلامية المختلفة , ونذكر على سبيل المثال بعض ما تناوله الباحث ألإسلامي قاسم أمين حول تأثير تراث الشعوب التي دخلت ألإسلام على موضوع من أهم المواضيع التي تُناقَش اليوم والذي يوضع ضمن التعاليم الإسلامية , ألا وهو الموقف من المرأة . " لقد حاول قاسم أمين أن يبين أن عزل النساء عن القضايا ألإجتماعية لم يكن من ألإسلام في شيئ وإنما كان يعود إلى عادات دنيوية سادت في أمم فتحها ألإسلام ولم تختف مع ما جاء به من تعاليم . كذلك أكّد أن هذه التقاليد الدنيوية عُززت من قبل ألأنظمة السياسية الرجعية عبر تاريخ ألأمم الإسلامية " ( عن : ما وراء الحجاب , فاطمة المرنيسي , ترجمة أحمذ صالح , الطبعة ألأولى 1997, دار حوران, ص 70 )
أما الجواب الذي يتبناه العلم والذي يتعامل مع الواقع من جميع جوانبه الإجتماعية والثقافية والإقتصادية والسياسية فهو ذلك الذي يجعل علاقة الفرد ومن ثم المجتمع بالدين ترتبط بهدا الواقع ولا تقفز عليه . وحين التعامل مع هذا الواقع لابد لنا من ألإنطلاق من المرحلة التاريخية التي يعيشها ألإنسان المسلم ضمن مجتمعه هو ومن خلال العلاقات ألإجتماعية السائدة في ذلك المجتمع وعدم تكبيله بما لا طاقة له على فهمه واستيعابه من ألأفكار الغريبة عنه سواءً جاءته هذه ألأفكار عبر تراث غير تراثه أو فُرضت عليه كامتداد فكري لوقت غير وقته . وهنا لابد لنا من دراسة ماهية المجتمعات المختلفة التي يعيش فيها المسلمون اليوم وهم ينتشرون على كل قارات ألأرض بعدد تجاوز المليار وربع إنسان وعلاقة هذه المجتمعات بالدين , أي دين .

يمكننا التمييز اليوم , في القرن الواحد والعشرين , في هذا المجال بين أربعة أنواع من علاقة المجتمع المتمثلة بشكل النظام ألإجتماعي والإقتصادي والسياسي والثقافي , أي علاقة الدولة المؤسساتية , بالدين من خلال المسؤولية العامة التي تتحملها الدولة تجاه جميع مواطنيها على ألإطلاق .

النوع ألأول هو نظام الدولة أللادينية : LAIZISM ألمأخوذ من المصطلح أللاتيني LAICUS والذي يمكن ترجمة مضمونه بما يلي : تقليل أو إبعاد تأثير خصوصية الدين والمؤسسات الدينية الخاصة به على كل ما يتعلق بالطابع العام في المجتمع , أي بالدولة . وابرز مثال يمكن تقديمه في هذا المجال هو النظام القائم حاليآ في فرنسا . إذ يقوم هذا النظام على منع أي مظهر من مظاهر ألإشهار بالدين عبر أللباس أو الطقوس أو أية ممارسات أخرى في المجالات والمؤسسات الخاضعة لإدارة الدولة . فدرس الدين لا يُدرس في المدارس التابعة للدولة ولا تسمح الدولة للعاملين في مؤسساتها بإظهار أية دلالة تشير إلى إنتماءهم إلى دين معين . أي أن الدولة تتصرف مع ألأديان التي يدين بها المجتمع تصرفآ حياديآ بحتآ ولا تزج نفسها بمفردات التدين أو عدم التدين لمواطنيها وتنظر إلى الدين كمسألة شخصية بحتة لا علاقة للدولة بها كمؤسسة عامة لكل مواطنيها . كما يحاول هذا النظام إبعاد أي تأثير ديني , مهما كان نوعه , على الدستور ألأساسي للدولة وعلى القوانين والتعليمات المتعلقة بإدارة شؤون هذه الدولة . بعبارة أخرى يمكن القول أن هذا النوع من الدول لا يعطي أي إهتمام لرعاية ألأمور الدينية التي تخضع للمؤسسات الدينية الخاضعة بدورها إلى رقابة الدولة باعتبارها مؤسسات إجتماعية كأي مؤسسات أخرى رياضية أو علمية أوفنية وغير ذلك . وتتجلى هذه الرقابة على طبيعة ممارسات هذه المؤسسات ماليآ واجتماعيآ بحيث لا تتناقض هذه الممارسات مع دستور الدولة الأساسي والقوانين المنبثقة عنه . كما ان على الدولة هذه أن تقدم الخدمات لهذه المؤسسات الدينية كما تقدمها إلى أية مؤسسة إجتماعية أخرى كالحماية من ألإعتداء عليها أو الخدمات العامة التي تتقاضى عليها الدولة أجورآ على شكل ضرائب أو أسعار لخدمات أخرى . إن السلبيات الموجودة في هذا النظام , من وجهة نظر البعض , إلى جانب الكثير من إيجابياته , هي تخلي الدولة , باعتبارها ترعى جميع المواطنين , عن رعاية المعتقدات الدينية لكثير من مواطنيها الذين يعتبرون الدين والممارسة الدينية عاملآ مؤثرآ في حياتهم الخاصة وعلاقاتهم ألإجتماعية التي يقع على عاتق الدولة رعايتها وتشجيعها والإهتمام بها .

النوع الثاني هو نظام الدولة الدينية الثيوقراطية THEOCRACY ألمأخوذ من مزج المصطلحين ألإغريقيين THEOS وتعني ألرب أو ألإله و KRATOS وتعني القوة أوالسطوة , حيث وضع الحاكم نفسه موضع ألأله وجعل من حكمه وسطوته حكمآ وسطوة إلهية . لقد طبقت هذا النوع من كيان الدولة المتمثلة بشخص حاكمها كثير من الشعوب سابقآ وتطبقه أو تحاول تطبيقه بعضها حاليآ . إذ تميزت الحضارات السومرية والبابلية والفرعونية والصينية القديمة بهذا النوع من الكيانات ألإجتماعية التي أسس فيها ألحكام دولآ أو كيانات دول تقوم على تأليه الحاكم الذي وضع نفسه موضع ألإله من خلال تسلط المؤسسات الدينية , التي تخضع له خضوعآ تامآ , على كل مفردات ومفاصل الحياة الإجتماعية . كما ساد النظام الثيوقراطي في أوربا القرون الوسطى بالشكل الذي خضعت فيه الكنيسة خضوعآ مطلقآ للحاكم الذي جعل من مباركة الكنيسة لحكمه مفهومآ مقدسآ لا يجرأ أحد على المساس به نقدآ أو فعلآ , ومن يجرأ على ذلك فمصيره أبشع أنواع العقوبات التي قننها الحاكمون آنذاك كالقتل والحرق والرمي إلى الوحوش الجائعة أو في زنزانات السجون المظلمة . لقد تلاشى هذا النوع من ألأنظمة الثيوقراطية على الساحة المسيحية , وخاصة ألأوربية منها , بعد نضال مرير وطويل خاضته الشعوب التي أبتليت بمثل هؤلاء الحكام . أما في العالم ألإسلامي فقد جرى العمل بهذا النوع من الحكم , أو على ألأقل تفسيره على هذه الشاكلة , في العصور التي كان الحكم فيها للخلفاء والسلاطين الذين جعلوا من أنفسهم ظل ألله على ألأرض , إذ كانت العقوبات الدنيوية الصارمة والشديدة تنتظر كل من أبدى شكآ في صدق هذه العلاقة بين ألله والحاكم . كما برز هذا النوع من علاقة الدولة بالدين على هذا ألأساس الثيوقراطي في بعض الدول التي سيطرت فيها الجماعات ألإسلامية ذات النزعات الطائفية المختلفة على زمام مؤسسات الدولة التي حولتها إلى دولة ثيوقراطية تخضع لخطاب رجل الدين الحاكم , كما رأينا ذلك في أفغانستان أثناء قيام دولة الطالبان أو ما نراه اليوم في إيران مُمثلآ في دولة ولاية الفقيه , او ما تحاول تحقيقه بعض ألأحزاب السياسية الدينية في مناطق مختلفة من العالم ألإسلامي. إن السمة المميزة لهذا النوع من الدول والأنظمة التي تسودها هو تضييق فسحة الإعتراف بالآخر إلى المساحة التي لا يُسمح له بتجاوزها والتي تخضع دومآ لمراقبة السلطة الثيوقراطية وإلى تطبيق قوانينها ألجائرة على هذا الغير في أي وقت تشاء وفي جعبتها دومآ كمآ من الأسباب التي تُبيح لها ذلك . تتبجح بعض هذه الأنظمة الثيوقراطية باحترامها لمبادئ التسامح والحوار مع ألآخر , إلا أن هذه الإدعاءات أثبتت بهتانها في كثير من الظروف التي مرت وتمر بها مثل هذه ألأنظمة .

ولعل ما أورده الباحث والمفكر المغربي محمد أركون حول الظروف التي عاشتها الدولة الثيوقراطية في العالم المسيحي والتي ما زالت تعيشها في العالم ألإسلامي , ييبن لنا السبيل لفهم ما يدور حولنا من مخططات بعض المنظمات والأحزاب السياسية الدينية التي لم تتوان حتى عن ألإرهاب بغية تحقيق طموحاتها بتأسيس الدولة الثيوقراطية . يقول الباحث : " فالواقع أن العلمنة التدريجية للمجتمع الغربي ألأوروبي بفضل الصعود المتواصل للحداثة الثقافية والعقلية قد أدى إلى فصل الذرى : ألدينية , والسياسية, والقانونية , وأدى أيضآ , إلى ألإستقلالية المتزايدة لكل من البعد ألإجتماعي, والبعد ألإقتصادي, والبعد الثقافي . وهذه هي الصيرورة التاريخية الضخمة التي درسها ماكس فيبر وأطلق عليها مصطلحه الشهير: " خيبة العالم " . وقد كانت البرجوازية التجارية ثم الرأسمالية هي العنصر التاريخي الحاسم الذي قام بهذا التطور. وكانت الكنيسة تمثل القطب الديالكتيكي المضاد بسبب رفضها المتكرر للخروج من هذا السياج الدوغماتي لأنها كانت تسيطر من خلاله , وبواسطته , على كل ذرى الوجود البشري وأبعاده , بما فيها ذروة الخلاص ألأبدي (بل وأولها ذروة الخلاص ألأبدي والأخروي). ولكن إذا ما نظرنا إلى الناحية ألإسلامية والعربية لاحظنا أولآ غياب الطبقة ألإجتماعية القادرة على لعب دور تاريخي محرِّك وموجِّه يشبه الدور الذي لعبته البرجوازية في الغرب . يضاف إلى ذلك أن السياج الدوغماتي المغلق , الذي رسخته الظاهرة ألإسلامية , لم يكن مضبوطآ أو موَجَّهآ من قبل فئة هرمية مَراتبية على نمط التنظيم الهرمي الكاثوليكي , ألذي أضاف إلى سلطته الروحية سلطة إقتصادية وسياسية ذات فعالية ضخمة . فكما رأينا سابقآ لم يستطع العلماء من رجال الدين أبدآ أن يحصلوا على إستقلالية فعلية بالقياس إلى كل أشكال الحكم والحكومات التي تعاقبت أو ظهرت وتعددت في أرض ألإسلام . بل أنهم لم يستطيعوا ان يبلوروا نظرية نقدية ومتماسكة للروابط ما بين السيادة العليا الروحية ( المشروعية ) , وبين السلطة السياسية التنفيذية . ( ومن المعروف أو المفترض أنهم يمارسون هذه السيادة العليا إستنادآ إلى المبدأ القائل " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" . والذي حصل هو أنه لم يكتف السياج الدوغماتي المغلق بممارسة هيمنة لصالح السلطات العسكرية أو المرابطية بعد القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي وإنما ما إنفك يفتقر ثقافيآ وعقليآ منذ القرن الخامس ايضآ وحتى يومنا هذا .وهذا تطور معاكس أو بالأحرى مصير معاكس لما حصل للساج الدوغماتي المسيحي الذي راح ينفتح , مضطرآ, على الثقافة العلمية منذ القرن السادس عشر. وهذا المصير المترابط والمعاكس , في آن معآ, يتجسد بكل جلاء ووضوح في حدثين تاريخيين ذوي أهمية رمزية كبرى : ألأول هو ان الثوريين الفرنسيين قد ألقوا القبض على الملك لويس السادس عشر عام 1792 وحاكموه ثم أعدموه . وقد وضعوا بذلك حدآ للسلطة الملكية ذات الحق ألإلهي من أجل فرض سيادة الشعب التي يعبر عنها نظام التصويت العام وهكذا حصلت العلمنة الجذرية للسلطة ولكل ذرى إنتاج الوجود التاريخي للبشر. إن ذلك يعني تصفية ألإله القديم وكل أنواع ألإنسيات أللاهوتية . صحيح ان هذه الإنسيات سوف تنبعث فيما بعد بوجوه جديدة , ولكنها ظلت محكومة بالعقل العلمي والتقني والبراغماتي الإيجابي المحسوس , بل وحتى الوضعي . إن ما حصل في أرض ألإسلام يعاكس ذلك تمامآ . فعندما وصل الخميني إلى السلطة في إيران عام 1979 أمر بالقبض على الشاه من أجل محاكمته وتنفيذ حكم ألإعدام به بصفته الفرعون, أو الطاغية الظالم المنقطع عن ألله والطهارة والقداسة التي تضمن مشروعية السلطة. وكان ينبغي أن يضع حدآ, من الناحية ألرمزية, لتحدي الشيطان للإله من أجل إقامة الحكم العادل أخيرآ على هذه ألأرض : أي حكم العالِم الفقيه ألذي يكتفي عقله بالإختيار المستبعد أو المقَّيد , أي ممارسة فعاليته بشكل محصور وحصري داخل جدران السياج الدوغماتي .(وبشكل خاضع للنصوص او لطريقة تاويلها) . ( محمد أركون : الفكر ألإسلامي , نقد واجتهاد , ترجمة هاشم صالح , دار الساقي , الطبعة الثانية 1992 , ص 13/14) . يتبع القسم الثاني



#صادق_إطيمش (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الدين والدولة وجدل ألإختيار 2
- الإسلام السياسي: مشروع أثبت فشله


المزيد.....




- 1 من كل 5 شبان فرنسيين يودون لو يغادر اليهود فرنسا
- أول رد من الإمارات على اختفاء رجل دين يهودي على أراضيها
- غزة.. مستعمرون يقتحمون المقبرة الاسلامية والبلدة القديمة في ...
- بيان للخارجية الإماراتية بشأن الحاخام اليهودي المختفي
- بيان إماراتي بشأن اختفاء الحاخام اليهودي
- قائد الثورة الاسلامية آية الله‌خامنئي يصدر منشورا بالعبرية ع ...
- اختفاء حاخام يهودي في الإمارات.. وإسرائيل تتحرك بعد معلومة ع ...
- إعلام العدو: اختفاء رجل دين اسرائيلي في الامارات والموساد يش ...
- مستوطنون يقتحمون مقبرة إسلامية في الضفة الغربية
- سفير إسرائيل ببرلين: اليهود لا يشعرون بالأمان في ألمانيا


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - صادق إطيمش - الدين والدولة وجدل ألإختيار 1