أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - صادق إطيمش - الدين والدولة وجدل ألإختيار 2















المزيد.....



الدين والدولة وجدل ألإختيار 2


صادق إطيمش

الحوار المتمدن-العدد: 2064 - 2007 / 10 / 10 - 11:15
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


النوع الثالث هو الدولة العَلمانية : _ بفتح ألعين _ حيث أن هذا المصطلح المترجم عن المصطلح اللاتيني
Saeculum والذي يعني ضمن ما يعني من معان أخرى , عالمي أو دينوي وقد جرى تطبيقه في أوربا في المجال اللاهوتي على تدويل المؤسسات الدينية واستعمالها ضمن القوانين والأنظمة التي تضعها دولة المؤسسات. اي أن ذلك يعني بشكل عام تحقيق المبادئ التي جاءت بها الحركات الإنسانية ألإصلاحية ألأوربية وما رافقها من أفكار تحررية تتعلق بالفرد والمجتمع والتي إنعكست , وبشكل خاص, على المجتمعات ألأوربية التي تبنت فصل سلطة الكنيسة التي كانت تتمتع بها في القرون الوسطى عن سلطة المؤسسات التي حققتها الثورة الفرنسية التي طالبت بامتلاك الدولة للمؤسسات الكنسية خاصة في أوقات الكوارث والمجاعات . إلى جانب هذا التعريف العام هناك بعض الشروحات لهذا المصطلح الذي لا يزال مصطلحآ غامضآ ومشوشآ عند الكثير من المجتمعات الإسلامية التي لم يتسن لها , أو لم يُسمح لها , بالتعرف على تطور الفكر العالمي وذلك بسبب القمع السياسي الذي تعرضت ولا تزال تتعرض له الجماهير الغفيرة في هذه المجتمعات, أو بسبب الفقر الثقافي الذي نشره المتسلطون على شؤونها العامة . فالعَلمانية تُنسب إلى العالَم , إلى الكون الفسيح الذي يعج بالتغيير في كل لحظة من حياته , حيث قاده هذا التغييرإلى أن يعيد النظر في كثير مما كان يُعتبر من المسلمات التي كانت تخلط السياسة بالدين والدين بالسياسة , حتى توصل هذا التطور في حياة بعض الشعوب إلى الإقرار, ومن خلال القوانين والمؤسسات , بعدم ممارسة مؤسسات الدولة لأية سلطة دينية وعدم ممارسة المؤسسات الدينية لأية سلطة سياسية, أي فصل الدين عن الدولة. وحينما نتطرق إلى هذا الموضوع ينبغي لنا وضع التعاريف الدقيقة للمصطلحات التي نتعامل معها في هذا المجال . إن أهم ما ينبغي التطرق إليه هو وضع مفهومآ معينآ عن العناصر المتداخلة في هذا المركب من العناصر الثلاث : الدين والدولة والمجتمع . فالدين , أي دين , والتربية الدينية تشكل في غالب الأحيان القاعدة الأساسية لكل المعتقدات والقناعات الروحية التي يمارسها أفراد المجتمع بشكل فردي او جماعي , بالأكثرية أو ألأقلية إنطلاقآ من ألإيمان الكامل بها على أنها فوق مستوى الطاقة البشرية , وعلى أنها إنعكاسات لما فوق ألإرادة البشرية وإن مضمونها سيكون بالتالي خارج حدود النقاش والجدال وإن ألإيمان بها على هذا ألأساس أصبح نوعآ من التراث الثابت الذي يتناقله ألأبناء عن ألآباء دون تغييرفي ألأسس العامة, وإن حصل بعض التغييرفإنه إما أن يكون عامآ تقتضيه متطلبات التغيير الزمني ,أو أن يكون تغييرآ إصلاحيآ يتناول بعض ألثوابت التي لم تعد تتلائم ومتطلبات العصر. وعلى هذا ألأساس فإن الدين يشكل أحد العوامل التي تدخل في تركيب المجتمع وتكوين بناه الروحية واتجاهاته الفكرية في هذا المجال . فالدين إذن ظاهرة إجتماعية تؤثر في المجتمع وتتأثر فيه وتشكل حاجة روحية أساسية من إحتياجات ألأكثرية أو ألأقلية من أفراد المجتمع . وبالرغم من إجتماعية هذه الظاهرة التي نسميها ألدين , تظل درجة وشدة ألإلتزام بها ذات طابع خاص بكل فرد من أفراد الجماعة التي تتبلور هذه الظاهرة بينها . أي أن عموميتها لا تنفي خصوصية التعامل معها من قبل أي فرد من أفراد المجتمع الذي تنشأ فيه . أما الدولة بمفهومها الحديث فهي النظام ألإجتماعي الذي يأخذ بعين ألإعتبارمقومات المجتمع الحديث بكل مكوناته ألأثنية والدينية ضمن منطقة جغرافية معينة ورعايتها وإدارتها والمحافظة عليها من خلال مؤسسات عامة تخضع لرقابة المجتمع وتتفاعل مع طموحاته ضمن قوانين وتعليمات يضعها هذا المجتمع ويعمل على تطبيقها وتغيرها كلما دعت حاجة تطوره إلى ذلك .
أما المجتمع الذي تتعامل معه هذه الدولة فيتكون من المجاميع البشرية المختلفة ألأجناس والأديان والتي يجمعها التواجد المشترك ضمن الحدود الجغرافية لهذه الدولة والتفاعل المشترك والمتساوي مع مؤسساتها .

وعلى هذا ألأساس يمكننا التمييز بين الدولة العلمانية والدولة أللادينية على أساس أن الدولة العلمانية تأخذ علاقة المجتمع بالدين بنظر الإعتبار فتحاول تنظيم العلاقة بينها وبين المؤسسات الدينية على أساس القوانين العامة التي وضعها المجتمع والتعامل معها ضمن هذا السياق الذي يجعل المؤسسة الدينية تتحرك ضمن ضوابط معينة تتحكم فيها القوانين العامة طالما تعلق ألأمر بعلاقة هذه المؤسسة الدينية بالنشاط ألإجتماعي العام كالدعوة إلى الدين مثلآ او جعل مادة الدين كمادة مدرسية ضمن البرامج التعليمية للدولة دون إجبار الطلبة على دخول درس الدين وحقهم باختيار درسآ بديلآ في الثقافة العامة إذا إقترن هذا الرفض بموافقة أولياء أمر الطالبة أو الطالب , أو جعل بعض المناسبات الدينية عطلة رسمية لكافة مؤسسات الدولة ألأخرى وغير ذلك من التعامل مع الدين من خلال كثافة تواجده في المجتمع . وبما أن مفهوم الدين لدى هذه الدولة يتصف بالعمومية , فإن مثل هذه ألإجراءات لا تكون مقتصرة على دين معين , بل أنها تشمل جميع الأديان التي تتواجد ضمن الحدود الجغرافية للدولة بكثافة سكانية تؤهلها لأن تشكل ظاهرة إجتماعية واضحة في مجتمع الدولة العلمانية . ففي ألمانيا مثلآ تم وضع تدريس الدين ألإسلامي في المدارس الرسمية ضمن المنهج التعليمي العام في المناطق التي يتواجد فيها عدد كاف من الطالبات والطلاب المسلمين. ولعل ما كتبته الباحثة ألإجتماعية فاطمة المرنيسي في كتابها " ألخوف من الحداثة , ترجمة د. محمد ألدبِّيات , دار الجندي , سوريا " يوضح لنا بجلاء موقف الدولة العلمانية بهذا الخصوص . إذ جاء في كتابها أعلاه ص61_62 ما يلي : " إن الفلسفة ألإنسانية العلمانية, كما يعرفها ألإجتماعي الأمريكي جيمس دافيسون هنتر المتخصص بدراسة ألأديان , هي _ من بين تعريفات أخرى _ تلك التي تدرّس ضمن برنامج المدارس العامةالتي تمولها الدولة . تحاول برامج المدارس العامة أن تركز على قيمة الفرد معتبرة إياها المقياس لأي شيئ وعلى أهمية المبادرة الفردية , والمشاعر والحاجات الشخصية , والقيم الذاتية التي تتولد عنها في حين أن كل ذلك بعيدآ جدآ عن النموذج الإستعلائي الذي يبشر به مذهب ألألوهية . والفلسفة ألإنسانية العلمية , كما يشرحها هنتر جيدآ في حالة أمريكا , لم تتطور ضد الدين بمقدار ما كان تطورها ضد تدخل الدولة في شؤون هذا ألأخير. ولاسيما التلاعب به والدليل على ذلك أن الولايات المتحدة ألأمريكية من أكثر الدول التي يمكن أن نتصورها تدينآ , ليس لأن الديانات لا زالت موجودة فحسب , بل لأنها تنمو بسرعة , فبالإضافة إلى البروتستانتية الموجودة في كل مكان والتي تشكل الثقافة المهيمنة, توجد ديانات أخرى : 28% تقريبآ من ألأمريكان هم كاثوليك, ويمثل اليهود 2,5% تقريبآ , والمورمون 1,6% يشكلون إحدى المجموعات التي تشهد نموآ ديموغرافيآ كبيرآ . وإن المؤشر المهم كذلك هوإمتداد التعددية خارج إطار التقاليد اليهودية المسيحية , فعلى سبيل المثال يوجد في أمريكا من المسلمين بمقدار ما هو موجود من المورمون , وما هو أكثر من ألأنكليكانيين . وقد تزايد عدد معتنقي الديانتين الهندوسية والبوذية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية . والفلسفة ألإنسانية العلمانية التي تبشر بالتسامح وحرية التفكير ليست هجومآ على ألله بمقدار ما هي هجوم على موظفي الدولة ومنعهم من إستغلال الضرائب والمؤسسات التي تمولها الأموال العامة لهدف الدعاية للدين , أيآ كان . إنها أقل توجهآ لحرمان ألله من ألأموال العامة من توجهها لمنع الدولة وموظفيها من إستغلال ألله ليخدم مصالحهم "
كما يمكننا التمييز بين الدولة العلمانية والدولة ألدينية من خلال عدم تمييز الدولة العلمانية بين دين وآخر من ألأديان التي يدين بها أفراد المجتمع . إن الدولة العلمانية تعتبر نفسها مسؤولة عن حرية وجود وممارسة جميع ألأديان مهما كان عدد المنتمين إلى هذا الدين أو ذاك , إذ لا تلعب ألأكثرية أو ألأقلية هنا أي دور أمام معاملة هذه ألأديان ومنتسبيها معاملة متساوية . الدولة العلمانية , بخلاف الدولة الدينية , لا تتبنى أي دين , إلا أنها تحافظ على كل دين . إن ذلك يعني أن جميع ألأديان تتمتع بنفس الحقوق وعليها نفس الواجبات بغض النظر عن قلة أو كثرة منتسبيها ولا سلطة لدين الأكثرية على أي دين آخر ولا دور لدين الحاكم أو الفئة الحاكمة في تقديم دين على آخر, حيث أن المبدأ العام لهذه الدولة لا يعترف بوجود أفضلية دين على دين آخر. الدولة الدينية تنتمي تاريخيآ إلى العصور الوسطى التي عانت تحت وطأتها أوربا حتى لفظتها ليحل محلها نظام الدولة العلمانية , دولة العصور الحديثة . في الدولة العلمانية لا يفضل المؤمن بدين ما على غير المؤمن ولا الرجل على المرأة , بل أن الكل سواسية أمام القانون الذي تسحقه الدولة الدينية كلما طاب لها ذلك تحت شعار المحافظة على التقاليد والمبادئ الدينية التي تتبناها الطبقة الحاكمة والتي تعكسها على أساس أنها المبادئ الإجتماعية العامة التي يتبناها المجتمع. الدولة الدينية تجعل من تشريعاتها التي يسنها البشر تشريعات إلهية غير قابلة للنقاش والنقض وإنها مجردة عن الزمن وتتمتع بصلاحية الحقيقة المطلقة , بخلاف الدولة العلمانية التي تخضع كل تشريعاتها وقوانينها للمراقبة الشعبية الصارمة التي قد تنقضها يومآ ما لتحل محلها تشريعات تنسجم وروح العصر الذي تعيش فيه , في حين تتمسك الدولة الدينية بالنص الحرفي حتى وإن قيل قبل آلاف السنين . وباختصار شديد يمكن القول دون أي تردد أن الدولة الدينية دولة دكتاتورية في حين تمثل الدولة العلمانية أعلى مراحل الديمقراطية , ( للمزيد في ألإيضاح لا بأس من مراجعة المقالات التي كتبناها في هذا المجال تحت عنوان " ولاية الفقيه وجه آخر للديكتاتورية " )
ونظرآ لهذه الإختلافات المبدئية بين الدولة الدينية والدولة العلمانية يسعى ألإسلام السياسي إلى لصق صفة ألإلحاد بالدولة العلمانية لأنه لا يستطيع أن يقارع الحجة بالحجة على أرض الواقع المعاش الذي لا يريد أن يعترف به ألإسلام السياسي , وخاصة المتطرف منه , والذي يتجاهل التطور التقني والعلمي والإجتماعي فيسعى إلى ربط المجتمع بنصوص لم تعد تنسجم والواقع الذي يعيشه المجتمع اليوم ومن ضمنه ألإسلام السياسي ومنظروه أنفسهم. إن الدولة العلمانية تحافظ على المقدسات بشكل أوسع وأعمق وأكثر إلتصاقآ بالواقع مما هو عليه في الدولة الدينية التي تتبنى واحدآ فقط من هذه المقدسات لتجعله سائدآ باسم الحقيقة المطلقة التي تتبناها الدولة الدينية, والتاريخ يعلمنا ما قاد إليه تبني فكرة الحقيقة المطلقة في أوروبا العصور الوسطى وما يقودنا إليه تبني هذه الفكرة اليوم , خاصة في بعض المجتمعات ألإسلامية كما في أفغانستان تحت حكم الطالبان أو في السودان أثناء تحالف الترابي_البشير أو في صوماليا المحاكم ألإسلامية أو ما تعيشه الشعوب الإيرانية اليوم تحت سياط ولاية الفقيه . وللإمعان في تأليب الجماهير على الدولة العلمانية يسعى ألإسلام السياسي , بسبب فقره الفكري , إلى طرح الدولة العلمانية وكأنها تسعى إلى فصل الدين عن المجتمع أو عن السياسة وليس عن الدولة . وهنا يجب التأكيد على بعض الحقائق الثابتة التي يجهلها أو يتجاهلها ألإسلام السياسي . أولها أن إعتراف الدولة العلمانية بكل ألأديان يجعلها مؤهلة أكثر من الدولة الدينية على إحترام إرادة وتوجه كل أفراد المجتمع وتحقيق رغباتهم في ألإرتباط بأي دين كان وتسعى إلى تحقيق كل السبل المؤدية إلى ذلك . فالدولة العلمانية إذن لا تسعى إلى فصل الدين عن المجتمع , بل بالعكس فإنها تسعى من خلال قوانينها إلى تحقيق رغبات أفراد المجتمع في ألإرتباط بأي دين مهما صغر أو كبر حجم الفئة الإجتماعية . إذن فالعكس هو الصحيح , اي ان الدولة الدينية هي التي تسعى لعرقلة إرتباط فئات إجتماعية بالدين التي تريد إذا كان هذا الدين غير الدين الذي تتبناه الدولة الدينية والأمثلة على ذلك كثيرة جدآ سواءً في الدول الدينية في القرون الوسطى أو في الوقت الحاضر. وثانيها هو ألإدعاء الذي يتبناه ألإسلام السياسي حول سعي الدولة العلمانية لفصل الدين عن السياسة . إن هذا ألإدعاء هو ألآخر ينم عن الجهل المطبق لمبادئ الدولة العلمانية التي تسعى لمنع المؤسسات الدينية للأديان المتواجدة ضمن حدودها الجغرافية من ألتأثير على التوجه السياسي لمنتسبي هذه ألأديان , أي أن لا تربط توجهاتهم ألإنتخابة مثلآ بالعامل الديني , كما فعلت وتفعل بعض ألأحزاب ألإسلامية التي ربطت إنتخاب أوعدم إنتخاب قوائمها بالثواب والعقاب الرباني . والدولة العلمانية لا تتعامل مع رجل الدين الذي يخوض العمل السياسي من منطلق المقدس الذي لا يتعرض للنقد وتفنيد طروحاته السياسية دون أن يرتبط هذا النقد والتفنيد بالصفة الدينية لرجل الدين هذا الذي يجري التعامل معه في هذا المجال كأي سياسي آخردون أخذ أي إعتبار لموقعه الديني , وعلى رجل الدين هذا أن يخضع لنفس القوانين التي يخضع لها أي سياسي آخر حينما يقرر ممارسة العمل السياسي . أي أن إزدواج الشخصية الدينية بالشخصية السياسية , هذا ألإزدواج الذي يسعى له ألإسلام السياسي , أمر مرفوض في قوانين الدولة العلمانية . أما الفصل الذي تسعى إليه هذه الدولة فهو , كما أشرنا أعلاه , الذي يتضمن حيادية الدولة , كمؤسسة إجتماعية عامة , تجاه كل الأديان التي يتبناها أفراد مجتمع هذه الدولة دون تمييز أو تفريق بين أي دين أو آخر. أي فصل الدين عن الدولة .
وبالرغم من التناقضات التي يعيشها منظرو ألإسلام السياسي في موقفهم العدائي من الدولة العلمانية التي يلجأون إليها طالبين حمايتها ومنتفعين من مساعداتها المادية ورعايتها ألإجتماعية التي يحظى بها كل من يعيش في كنفها بغض النظر عن دينه أو قوميته أو لون بشرته . وبالرغم من أن كثيرآ من منظري ألإسلام السياسي, خاصة المتطرفين منهم , يقاومون بكل الوسائل الشرعيية واللاشرعية إجراءات تسفيرهم إلى بلدانهم الإسلامية حينما تنتفي أسباب إقامتهم في الدول العلمانية كأوربا أو كندا أو أمريكا أو أستراليا ,هذه الدول التي تغلب فيها الديانة المسيحية التي يضعها ألإسلام السياسي في خانة دار الحرب التي يسكنها الكفرة , حيث لا يتوانى الإسلام السياسي عن التمتع بخيرات ما تجود به أيادي هؤلاء " ألكفرة " على المسلمين وعوائلهم حتى وإن لم يساهموا في العملية ألإنتاجية التي تعتبر أساس إقتصاد مجتمعات الدول العلمانية , نقول بالرغم من كل هذه المواقف ألإنتهازية المتناقضة التي يتخذها ألإسلام السياسي من أنظمة الدول العلمانية فإنه يسعى إلى إعلان الحرب على الدولة العلمانية مستخدمآ كل ما بجعبته من ألأسلحة الدينية والأخلاقية والتراثية والإجتماعية التي لا يجيد إستعمالها جميعآ في معركة كهذه تتطلب السلاح الفكري والخطاب العلمي الذي يفتقرله ألإسلام السياسي . إلا أن أتفه ألأسلحة التي يوظفها ألإسلام السياسي ضد الدولة العلمانية ذلك الذي يدعي أن فصل الدين عن الدولة يعني ضياع الدين في المجتمع . إن هذا المنطق إن دل على شيئ فإنما يدل على ضحالة فهم ألإسلام السياسي لجوهر الدين الذي لا ينبغي له أن يتحقق تحت حراب أجهزة الدولة القمعية, بل من خلال القناعة التامة بمبادءه والإخلاص في تبنيها .
أما النوع الرابع والأخير فهو الهجيني بين الدولة الثيوقراطية والدولة العلمانيه والذي يكاد أن يكون ظاهرة تختص بها المجتمعات الإسلامية على الغالب . ومن الممكن إعتبار هذا النوع الجديد من أنظمة الدولة ظاهرة عالمية تستحق الدراسة والبحث حيث أنه يتواجد بهذا الشكل الهجيني أو ذاك في جميع الدول المنضوية تحت راية المؤتمر ألإسلامي والذي يضم 51 دولة . إن اهم ما يميز هذا النوع من ألدول هو إختلاط الديني بالسياسي بحيث لا يستطيع أحدهما التخلي عن ألآخر, بغض النظر عن هذا الآخر إن كان يمثل السياسي التقليدي أو الديني التقليدي. إن الظاهرة الغالبة في مثل هذا النوع من الدول تنعكس من خلال توزيع المهام بين الديني والسياسي بحيث ينسق كل منهما عمله مع الآخر ويستمد شرعية وجوده من إسناد الآخر له . ففي هذا النوع من الدول يتبوأ السياسي قمة السلطة السياسية دون أن يشاركه فيها مباشرة رجل الدين الذي يبدو وكأنه معتكف في مؤسسته الدينية إلا انه يراقب السلطة السياسية عن كثب . يحاول السياسي في مثل هذه الدول أن يعكس للرأي العام إستقلالية قراره , إلا انه لا يضع الخطوط النهائية لهذا القرار قبل أن يكون قد حصل على الضوء الأخضر من المؤسسة الدينية , خاصة إذا ما تعلقت هذه القرارات بإجراءات ذات علاقة بالدين أو بالتراث أو بإطروحات المدرسة الفقهية التي يعلن السياسي عن تمسكه بها دومآ ويعاهد على أن لا يشذ عن تعاليمها فيكون بذلك قد حظى مقدمآ بتأييد المؤسسة الدينية له التي ستشرعن له الحكم السياسي . إذ أننا غالبآ ما نجد هنا فعل التأثير المتبادل بين شرعنة السياسة دينيآ والمحافظة على الموسسة الدينية سياسيآ . إن لإنبثاق هذا النوع من الدول , خاصة بعد الحرب العالمية الثانية , سببآ تاريخيآ يعود إلى موجة ألإستقلال التي تمتعت بها الكثير من الدول ذات المجتمعات ألإسلامية والتي أرادت إعطاء إستقلالها وبالتالي وجودها وزنآ سياسيآ من خلال إنضمامها إلى الأمم المتحدة والإلتزام بميثاقها وتمثيلها جنبآ إلى جنب مع الدول المستقلة ألأخرى في كافة محافلها والهيئات المنبثقة عنها . إلا أن ألإنضمام إلى هذا التنظيم العالمي لم يتم جزافآ , إذ وجب على المتقدم للإنضمام أن يتقدم بطلب خطي مُلزِم يتعهد فيه طالب ألإنضمام الإلتزام بميثاق ألأمم المتحدة وأولية تطبيق بنوده حتى على بنود الدساتير المحلية إن ثبت هناك بعض التعارض بين ميثاق الأمم المتحدة والدساتير المحلية للأعضاء . فالمادة 18 مثلآ من ميثاق الأمم المتحدة تنص على : " كل شخص يملك الحق في حرية التفكير والعقيدة والدين . ويتضمن هذا الحق حرية تغيير الدين أو المعتقد إضافة إلى حرية إظهار الدين او المعتقد بمفرده أو بصورة جماعية , خفية أو علانية . " لقد وقَّعت الدول ألإسلامية التي إنضمت إلى الأمم المتحدة على هذه الوثيقة فأصبحت بذلك ملزمة بتطبيقها . واستنادآ إلى ذلك وضعت دساتير حاولت دبلجة نصوصها وكأنها توحي بضمان تحقيق هذه المبادئ ألأممية , إلا انها وجدت نفسها أمام المؤسسة الدينية الإسلامية التي لا تعترف بهذه المبادئ وترفضها رفضآ باتآ , فحصل أشبه ما يوصف بغض النظر من الجانبين . إذ عملت المؤسسة السياسية على ألإيحاء للمؤسسة الدينية على جعل هذه النصوص حبرآ على ورق , وعملت المؤسسة الدينية على تأويل هذه النصوص بالشكل الذي توحي به ببراءة المؤسسة السياسية من الشذوذ عن القواعد الدينية والإلتزامات الشرعية .

من الطبيعي أن لا تكون المؤسسة الدينية بمختلف فصائلها على خط واحد من العمل المشترك مع المؤسسة السياسية في مثل هذه الدول . إلا ان ذلك لا يمنع من توجه المؤسسة السياسية في هذه الدول من تبني هذا الجناح أو ذاك من المؤسسة الدينية التي تشرعن لها سياستها امام الجماهير المتعلقة بتراثها الديني تعلقآ فطريآ . وعلى هذا ألأساس نجد المؤسسات الدينية المرتبطة مباشرة بالدولة على شكل وزارات للأوقاف أو للشؤون الدينية او غيرها من التسميات التي يوحي بهذا هذا الخليط الهجيني بين الديني والسياسي في مثل هذه الدول .

أمامنا ألآن اريعة نماذج تكاد تكون واضحة المعالم بالنسبة لعلاقتها بالدين . فاي من هذه النماذج نرجوه لعراقنا الجديد...؟ وأي ممارسة للدين يمكن أن تتبناها الدولة العراقية الجديدة...؟ وما الذي نرجو تحقيقه من كل ذلك...؟

ألدولة أللادينية لا يمكن ألإقتداء بها , في مجتمع كمجتمعنا الذي تتعلق شرائح كبيرة منه تعلقآ فطريآ بالتعاليم الدينية , وبالرغم من الصفة أللادينية لهذا النوع من الدول والتي تناولنا فرنسا كمثال لها , نجد أن كثيرآ من المسلمين يحاولون وبشتى الطرق الوصول إلى هذه الدولة هربآ من الجحيم الذي يلاقونه في دولهم التي تسمي نفسها إسلامية . لقد دلت كثير من ألدراسات التي قامت بها مؤسسات عالمية مختلفة بين المسلمين على تفضيل فرنسا كبلد لجوء او عمل على كثير من الدول , خاصة ألإسلامية منها . ومعروف تمامآ ان ألإمام الخميني وجميع أفراد عائلته وحاشيته ومرافقوه قد لجأوا إلى فرنسا وقضوا فيها طيلة السنين التي سبقت مجيئهم إلى إيران بعد سقوط النظام ألشاهنشاهي . ومعروف أيضآ أن الجالية ألإسلامية في فرنسا والتي يشكل الأفارقة غالبيتها العظمى تحظى بمعاملة من قبل هذه الدولة أللادينية لا تحلم بجزء بسيط منها في أي دولة من الدول الإسلامية التي هربت منها .
أن التعلق ألإجتماعي بالقيم الروحية في المجتمعات ألإسلامية مشوب , في كثير من ألأحيان , بالتشويش المصلحي ألذي تمارسه بعض المؤسسات الدينية التي تستغل المشاعر الدينية للجماهير التي عملت ألأنظمة القمعية المختلفة على حرمانها من أبسط وسائل التعليم والثقافة التي تتيح لها الفرز بين التعاليم الدينية الحقة والمصالح ألذاتية لبعض الفئات التي جعلت من نفسها فيصلآ بين ألديني واللاديني , وذلك حسب ما تقتضيه مصالحها الذاتية وطموحاتها المرحلية . لذلك فإن الدولة ستتحمل مسؤوليتها في هذا المجال لتوعية الجماهير من خلال البرامج التعليمية والثقافة العامة بالمحتوى الإنساني للدين والبعيد عن ألإستغلال الشخصي والتطرف المذهبي والعداء للآخر الذي بلوره الإسلام السياسي في العراق , خاصة في السنين الماضية التي تلت سقوط البعثفاشية . إن المطلوب من الدولة العراقية الجديدة ومؤسساتها العلمية والثقافية أن تعي مسؤوليتها تجاه مواطنيها بتبني التعليم الديني البعيد عن النهج الذي سارت عليه أحزاب الإسلام السياسي , التعليم الذي يركز على المبادئ الحقة التي يدعو لها الدين الإسلامي والمتمثلة بالأخوة والتسامح والمساواة . وإن الدولة الوحيدة المؤهلة لتحقيق هذه المبادئ هي الدولة العلمانية .
أما الدولة الدينية سواءً التي عشنا أمثلتها في دولة الطالبان المقبورة في أفغانستان أو في تحالف البشير الترابي في السودان أو غيرها او التي نعيش مثلها اليوم في إيران , فلا أعتقد بوجود عراقي واع لما يدور في وطنه ألآن أوعاش حقب القمع الديكتاتورية أن يرضى بعودة هذه الحقب على شكل ديكتاتورية دينية هذه المرة . لقد اثبت هذا النوع من الدول التي حاولت تسويق الدين ألإسلامي على طريقتها البدائية في عالم اليوم على أنها غير قادرة على تحقيق طموحات شعوبها التي جعلتها تتخلف عن الركب العالمي في جميع مجالات الحياة . ومن الجدير بالذكر هنا هو رد الفعل تجاه الدولة الدينية ألإيرانية الذي ظهر لدى كثير من العراقيين الذين لجأوا إلى هذه الدولة إبان التسلط البعثفاشي على العراق والذين يتعاطفون فكريآ مع هذه الدولة , إن كثيرآ من هؤلاء العراقيين أخذوا يقدمون النصائخ لمن يعرفونهم من طالبي أللجوء من العراقيين أن يذهبوا إلى أية دولة من دول " ألكفر " ولا يحاولون أللجوء إلى إيران .
أما دول الهجين الثيوقراطي العلماني فهي التجربة التي نعيشها منذ ما يسمى بالإستقلال الوطني وحتى اليوم على جميع بقاع المجتمعات ألإسلامية . ولا ضرورة تدعونا الآن لشرح المآسي والنكبات والكوارث والهزائم والإحباطات والتخلف والفساد الذي رافق هذا النوع من الدول منذ وجودها ولحد ألآن , إذ أن كل شيئ بات معروفآ حتى لأبسط الناس في هذه المجتمعات . لذلك فإن المجتمعات ألإسلامية التي تعيش كل ذلك اليوم , ومجتمعنا العراقي , تنتظر التغيير الذي يقودها إلى غدها الواعد بكل شيئ , وإن هذا الغد لا يمكن أن يتحقق إلا ضمن أُطر الدولة العلمانية .

نظام ألدولة العلمانية , لمزاياه أعلاه , هو نظام الدولة ألأمثل للمجتمعات الإسلامية وللمجتمع العراقي الذي يتألف من طوائف وأديان وقوميات مختلفة يجمعها الإنتماء للوطن الذي يجب ان يظل وطنآ للجميع لا يُفَضَل فيه دين على دين ولا قومية على قومية. الهوية الوطنية هي الفيصل في معاملة الدولة لمواطنيها , وليس أي شيئ آخر غير المواطنة وما يترتب عليها من حقوق وواجبات . هذه العلاقة الإنسانية الحرة المتفاعلة مع روح العصر هي العلاقة التي نرجوها بين الدين والدولة في عراق اليوم , العراق الخالي من الطائفية والطائفيين , العراق الذي يتطلع إلى ألأمام دومآ مواكبآ مسيرة البشرية في قرنها الحادي والعشرين .

الدكتور صادق إطيمش





#صادق_إطيمش (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإسلام السياسي: مشروع أثبت فشله


المزيد.....




- 1 من كل 5 شبان فرنسيين يودون لو يغادر اليهود فرنسا
- أول رد من الإمارات على اختفاء رجل دين يهودي على أراضيها
- غزة.. مستعمرون يقتحمون المقبرة الاسلامية والبلدة القديمة في ...
- بيان للخارجية الإماراتية بشأن الحاخام اليهودي المختفي
- بيان إماراتي بشأن اختفاء الحاخام اليهودي
- قائد الثورة الاسلامية آية الله‌خامنئي يصدر منشورا بالعبرية ع ...
- اختفاء حاخام يهودي في الإمارات.. وإسرائيل تتحرك بعد معلومة ع ...
- إعلام العدو: اختفاء رجل دين اسرائيلي في الامارات والموساد يش ...
- مستوطنون يقتحمون مقبرة إسلامية في الضفة الغربية
- سفير إسرائيل ببرلين: اليهود لا يشعرون بالأمان في ألمانيا


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - صادق إطيمش - الدين والدولة وجدل ألإختيار 2