|
قراءة في كتاب عزيز سباهي -عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي- (14)
جاسم الحلوائي
الحوار المتمدن-العدد: 2063 - 2007 / 10 / 9 - 12:09
المحور:
في نقد الشيوعية واليسار واحزابها
قراءة في كتاب عزيز سباهي "عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي" (14) "وحدة فورية أم إتحاد فيدرالي"، هذا هو عنوان الفصل السادس عشر من الجزء الثاني من كتاب سباهي. يستهل الكاتب الفصل بالإشارة الى أن مسألة الوحدة الفورية والإتحاد الفيدرالي نالت من الجدل والصراع ما لم تنله أية مسألة أخرى من المسائل التي واجهت ثورة تموز. وقد أدى الصراع الذي يشير اليه الكاتب الى شطر المجتمع عمودياً الى شطرين. ثم يطرح المؤلف العديد من الأسئلة المشروعة وفي مقدمتها ما يلي: هل كانت حقاً هذه المسألة خطيرة وملحة بهذا القدر؟ وهل كان يتعذر، حقاً، إيجاد حل تجتمع عليه كلمة الشعب؟ وهل كانت الى هذه الدرجة من الإلحاح بحيث لم يعد بالوسع التريث في إعطاء الرأي بشأنها؟ ويجيب الكاتب خلال تناوله الموضوع على هذه الأسئلة وغيرها (1).
يشير سباهي الى إهتمام الشيوعيين العراقيين، منذ زمن بعيد، بقضية الوحدة والإتحاد والمشاريع التي دارت حولها. ويتوقف الكاتب عند الكونفرنس، الذي عقدته الأحزاب الشيوعية في المشرق العربي في عام 1935، والمكرس لدراسة هذه القضية الحيوية. وقد كتب فهد عنه، بعد ثمان سنوات، في جريدة "القاعدة" ما يلي: "لم يكن الشيوعيون أقل حماسة ورغبة صادقة لفكرة التقارب والتعاون فيما بين الأقطار العربية، لذلك إجتمع مندوبون من مختلف الأحزاب الشيوعية العربية في خريف عام 1935، ودرسوا هذه القضية من جميع وجوهها. فتبين للمجتمعين أن شعار الوحدة العربية غير عملي لما بين الأقطار العربية من فروق في التطور وشكل الحكم والظروف الخاصة.. لذا إرتأى مندوبو المؤتمر الشيوعي العربي، عدم الأخذ بشعار الوحدة العربية وإستبداله بشعار عملي ممكن التطبيق ومناسب للظروف التي تجتازها آنذاك البلدان العربية (سنة1935) وهذا الشعار هو (الإتحاد العربي)" (2).
في عام 1956 أشار كونفرنس الحزب الثاني، في تقريره السياسي، الى "أن رغبة شعوب الأمة العربية في التقارب والتعاون، ليست رغبة عرضية أو طارئة، وإنما هي رغبة طبيعية،ووليدة العوامل المادية الموضوعية التي ينبثق عنها ويتوطد على أساسها شعار الوحدة. إن الطريق الى الوحدة العربية ينفتح على أساس زوال الإستعمار عن العالم العربي وتحقيق الإصلاحات الديمقراطية" (3).
وفي التوجيه العام الذي وُزع على الكادر الحزبي قبل ثورة 14 تموز بيومين، والذي سبق ذكره، جرى التأكيد على المطالبة بحكومة تنتهج سياسة وطنية عربية وإقامة إتحاد فيدرالي مع الجمهورية العربية المتحدة. وتكررت المطالبة بالإتحاد الفيدرالي في البيان الذي وزعه الحزب في صباح 14 تموز، وفي المذكرة التي قدمها الى رئيس الحكومة عبد الكريم قاسم، في يوم 15 تموز. من هذا يتضح أن رفع الحزب لهذا الشعار لم يكن طارئاً، أوجاء رداً على شعار رفعه الآخرون، ولم يصدر كرد فعل آني على هذا أو ذاك من الداعين الى الوحدة الفورية كما يذهب الى ذلك بعض المؤرخين (4).
ولم ينفرد الحزب الشيوعي العراقي لوحده بالدعوة الى الإتحاد الفيدرالي مع الجمهورية العربية المتحدة. إذ كا ن حزبا الوطني الديمقراطي والإستقلال يدعوان الى ذلك أيضاً قبل الثورة وبعدها. ولم يكن الضباط الأحرار قد درسوا من جانبهم، أمر الوحدة أو الإتحاد لا قبل الثورة ولا بعدها. أما حزب البعث فقد أيد قرار جبهة الإتحاد الوطني، الذي إتحذته في نيسان 1958، والداعي الى الإرتباط بالجمهورية العربية المتحدة بإتحاد فيدرالي (5).
46
في مساء 17 تموز 1958، قرر مجلس الوزراء في العراق إرسال وفد للإلتقاء بجمال عبد الناصر في دمشق برئاسة عبد السلام عارف. وكان عارف يشدد في أحاديثه في دمشق على إنضمام العراق الى الجمهورية العربية المتحدة، وإن عبد الناصر وعد بذلك، وحين تساءل الأخير عن مصير عبد الكريم قاسم في هذه الحال، أجاب عارف في الحال وبحزم سيكون مصيره مصير اللواء محمد نجيب (6).
وعندما عاد عارف الى بغداد شن حملة من الخطابات في عدد من المدن العراقية. وقد إستغلها ليمهد الى الدعوة للوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة. كذلك شنت جريدة الجمهورية الناطقة بإسم حزب البعث حملة هي الأخرى للدعوة الى الوحدة الفورية. وفي 24 تموز 1958، وصل الى بغداد وفد لجنة الإتصال لمؤتمر الشعب العربي. وكان في عداد الوفد ميشيل عفلق. ويذكر هاني الفكيكي، وكان من قادة حزب البعث في العراق وقتذاك، ومن بين الذين زاروه، أن عفلق كان شخصياً هو "من طرح شعار الوحدة الفورية، والح عليه رغم تحفظ فؤاد الركابي وبعض الشخصيات القومية العراقية كصدِّيق شنشل وعبد الرحمن البزاز، هذا حتى لا نشير الى ضعف الحزب (البعث) والتيار القومي عموما، والإعتماد الكامل على ضباط الجيش" (7).
لقد فجّر ميشيل عفلق، كما يذكر محمد جمال باروت (من حركة القوميين العرب) ، ومن ورائه جمال عبد الناصر ورجل مخابراته في سوريا عبد الحميد السراج وأبواق دعايته الكبيرة، وضعاً خطيراً في البلاد والثورة لاتزال في أسابيعها الأولى، ورغم أن رئيس الحكومة، عبد الكريم قاسم، قد أشار بوضوح في 27 تموز 1958 الى أن الوحدة العربية "ليست شيئاً يقرره إنسان بمفرده بل يجب أن تقرره شعوب الدول العربية" (8).
ولقد تحولت مسألة الوحدة الفورية إلى هاجس أولي لدى حزب البعث، ولدى "القوميين العرب" والقوميين الآخرين أيضاً. لقد كان حزب البعث، كما يعكس هاني الفكيكي، يشعر بضعفه في الشارع السياسي، لذلك فضّل أن يحسم الأمر من خلال الوحدة الفورية. إذ أصبحت هذه كما يقول، "بمعزل عن المبررات العقائدية الأخرى، إنقاذ من الضعف في قيادة البلد والتفاف على الخطر الخارجي أو الصعود الشيوعي" (9).
في 5 آب 1958، نظمت القوى السياسية الديمقراطية العربية والكردية مظاهرة هائلة في بغداد تأييداً للإتحاد الفيدرالي، إشترك فيها مئات الآلاف من العراقيات والعراقيين. ويشير المؤرخ بطاطو اليها والى تأثيرها بالقول: "فقد كانت المظاهرة التي شكلت مدخلا الى موجة غليان غير عادية مؤثرة بدرجة هزت أركان البعث وأشباهه من القوميين الى حد كبير. وطبيعي أنه لم يكن كل المتظاهرين من المتأثرين بالنفوذ الشيوعي. ولعب الأكراد الديمقراطيون والوطنيون الديمقراطيون دوراً كذلك. وكان لتأييد قاسم وشعبيته أيضاً تأثيرهما الكبير. ولكن الشيوعيين فاقوا بكثير العناصر الأخرى، على الأقل في قدراتهم التنظيمية، وكانت القيادة المباشرة للمظاهرة في أيديهم بشكل واضح. وكان الشعار الذي سار الشيوعيون في ظله يومها يقول: "إتحاد فيدرالي صداقة سوفيتية"(10) .
في 3 ايلول 1958، نشر الحزب الشيوعي العراقي بياناً حول الأتحاد الفيدرالي، أشار فيه الى ما يجري من صراع. ولاحظ فيه: "أن دعاة الإنضمام لم يتركوأ دعواهم، بل بالعكس، إستثمروا مشاركتهم في السلطة، وإستخدموا الصحافة والإذاعة وكل الإمكانيات الأخرى للإستمرار في دعوتهم. وتصلنا معلومات مؤكدة، ونسمع تصريحات منوعة، تشير الى أنهم سائرون فعلا في إتخاذ التدابير الممهدة لتحقيق مشروع إنضمام العراق للجمهورية العربية المتحدة رغم عدم وجود قرار أو إتجاه رسمي من حكومة الجمهورية، ومن قادة الجيش... والعمل بمعزل عن الشعب، بغية مفاجأة القوى الوطنية والجماهير، ووضعها أمام الأمر الواقع خلال مدة قصيرة قادمة".
وأشار البيان الى تطلع الشعب الى حرياته الديمقراطية، وإلى أن قواه الوطنية يقلقها أن يوضع مصيرها في "إتحاد قومي" ثبت فشله في إقليمي مصر وسوريا. ونبّه البيان الى أن الشعب الكردي يطمح الى تحويل ما نص عليه الدستور المؤقت من شراكة بين العرب والأكراد الى واقع عملي. وأكد على أن الإنضمام، في ظل التباين الإقتصادي الكبير بين البلدين، لن يوفر للإقتصاد الوطني والرأسمال الوطني العراقي فرصاً كافية للإزدهار والتطور. وأشار أيضاً الى أن العمل على أساس الإتحاد الفيدرالي "لا يحمل معه أية نتائج سلبية مهما كانت، ويخطو بنا خطوة كبرى تفتح آفاقاً أوسع وأرحب نحو إتحاد عربي شامل، من الخليج العربي حتى المحيط الأطلسي في جمهورية عربية إتحادية ديمقراطية...الخ (11).
يشير الحزب في بيانه هذا الى النشاط التآمري الذي يقوم به دعاة الوحدة الفورية عندما يقول: "والعمل بمعزل عن الشعب، بغية مفاجأة القوى الوطنية والجماهير، ووضعها أمام الأمر الواقع خلال مدة قصيرة قادمة". لقد قام الحزب في تلك الفترة بنشاط واسع ومتنوع لتبصير قيادة السلطة بالمخاطر التي تحيط بالجمهورية الفتية وبالسبل الكفيلة لدرئها، وبالطريق الصائب لتحقيق مهامها، من خلال بياناته ومذكراته وصلاته المباشرة، هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى أولى الحزب إهتماماً بالغاً بتوضيح موقفه من الوحدة والإتحاد للجماهير الشعبية من خلال المقالات في الصحف العلنية والمحاضرات. وقد لعب عزيز الحاج والفقيد عامر عبد الله دوراً مشهوداً في هذا المجال. وفضلا عن ذلك نظم الحزب الجماهير وعبأها لدعم الحكم الوطني وإحباط المؤامرات التي يتعرض لها. وكان للحزب دوراً هاماً لإحباط مؤآمرة عبد السلام عارف ورشيد عالي الكيلاني ومؤآمرة الشواف و سنتوقف عند الأخيرة لأهميتها، ولكن ليس قبل مناقشة بعض الآراء التي يطرحها سباهي وبطاطو حول تلك الفترة التي سبقت المؤآمرة المذكورة.
47
يعلق سباهي على تلك الفترة بالقول: "لم تبد الأطراف السياسية المتصارعة على إختلافها المرونة الكافية لتجنب البلاد مخاطر الإصطدام، وغلبت جميعها روح الإستئثار" (12). أعتقد بأن شمول جميع الأطراف السياسية بهذا الحكم أمر غير صحيح. أما إيراده بدون دليل، فهو غير جائز. فبدون الأدلة، يغدو من الصعب مناقشته، مناقشة ملموسة. ومع ذلك سأورد حادثة واحدة تخص القضية (وحدة أم إتحاد) التي سببت الصراع الحاد ، والتي تشير بدون لبس أو غموض الى الجهة التى تتحمل المسؤولية الأكبر في تلك الظروف.
يذكر سباهي في كتابه ما رواه الفقيد عامر عبد الله والذي نشر في أكثر من مطبوع ما يلي: "في خريف 1958 وصل الى بغداد من القاهرة السيد فائق السامرائي (سفير العراق يوم ذاك في القاهرة)، فطلب من حزبنا والأحزاب الوطنية الأخرى إجراء لقاء مشترك، وقد تم هذا اللقاء عصراً في حديقة داره في (شارع طه) ببغداد، بحضور الشيخ محمد مهدي كبة، وصديق شنشل (عن حزب الإستقلال) والمرحوم كامل الجادرجي ومحمد حديد (عن الحزب الوطني الديمقراطي) والسيد فؤاد الركابي وأحد زملائه القياديين (عن حزب اليعث) وكنت أمثل (الحزب الشيوعي العراقي) في هذا اللقاء مع رفيق آخر. إفتتح فائق السامرائي الحديث بأن ذكر أنه التقى الرئيس جمال عبد الناصر عشية قدومه الى العراق وبحث معه مسألة العلاقة بين العراق ومصر، فأعرب عبد الناصر عن إستعداده لقبول أية علاقة مع الجمهورية العربية المتحدة تتفق عليها الأحزاب السياسية في العراق ويوافق عليها عبد الكريم قاسم.
"فأعرب قادة الحزب الوطني الديمقراطي وحزب الإستقلال عن التزامهم بميدأ (الإتحاد)...ومن جانبي أكدت على موقف حزبنا. إن ثلاثة من الأحزاب الرئيسية في العراق ــ فضلا عن الحزب الديمقراطي الكردي الموحد ــ تتخذ موقفا واحداً من مشروع الإتحاد مع الجمهورية العربية المتحدة، ولم يبق إلا أن يتخذ حزب البعث موقفاً مماثلاً كي نخرج بمشروع مشترك نعرضه على عبد الكريم قاسم (الذي لم يعارضه بالتأكيد) ثم نسافر جميعاً الى القاهرة لعرضه على عبد الناصر (الذي لم يعارضه هو الآخر مادام قد أعرب عن موافقته المسبقة كما أكد فائق السامرائي)... إتجهت الأنظار بعد ذلك الى فؤاد الركابي الذي شعر بالحرج الشديد، وإكتفى بالوعد بأنه سيعرض هذا الأمر على قيادة حزبه! وبذلك إنتهى اللقاء بخيبة أمل بدت واضحة للجميع." (13).
واضح هنا أن الذي يتحّمل المسؤولية الكاملة هو حزب البعث الذي "خيّب أمل الجميع" وميشيل عفلق، عراب الوحدة الفورية. كان بإمكان إجماع الأحزاب السياسية العراقية، مدعوماً من قبل عبد الكريم قاسم، أن يضع جمال عبد الناصر أمام الأمر الواقع ويوافق على الإتحاد، وذلك خلافاً لرغبته حيث كان إعلامه والذي يشرف عليه هو شخصياً يطبّل ويزمّر للوحدة الفورية الإندماجية ويدين مخالفيها، ويتهّجم على الشيوعية والشيوعيين السوريين ليثير ضدهم القوميين المتعصبين في العراق أيضاً. وكانت هناك مساعي جدية، في ذلك الوقت بالذات، لإحياء جبهة الإتحاد الوطني. وقد تم الإتفاق على صيغة معينة لميثاق وطني في 19 تشرين الثاني، وجرى التوقيع عليه من جانب الأطراف الأربعة،كما وقع عليه أيضا ممثل الحزب الديمقراطي الكردي الموّحد.
48
يثير المؤرخ حنا بطاطو ظلالاً من الشك على مصداقية الشيوعيين العراقيين من شعار الإتحاد الفيدرالي ويصفهم بالإقليميين وإنهم كذلك بالأساس، وقد أصبح ذلك واضحاً منذ الإسبوع الثاني من تشرين الأول (اكتوبر) 1958، عندما تبنوا الصيحة المعادية للوحدة (زعيم أوحد).
يقول بطاطو بالنص ما يلي: "وكان الشعار الذي سار الشيوعيون في ظله يومها يقول: "إتحاد فيدرالي وصداقة سوفيتية". وفي الجزء الأول منه إنسجم الشعار ــ خلافاً لصيحة "الوحدة، الوحدة" التي أطلقها البعث ــ مع الهدف الذي رسمته الجبهة الوطنية لنفسها. ولكن فيدرالية الشيوعية كانت في الواقع مجرد قضية شكلية. بينما حافظوا على الكلمة، فإنهم رفضوا الفكرة من أساسها، على الأقل في المستقبل الفوري" (14).
ويحدد بطاطو تاريخ هذا المستقبل القريب (الفوري) عندما يعلق على محاضرة الفقيد عامر عبد الله المعنونة "الطريق التاريخي لوحدة الأمة العربية"، التي عمّق فيها نظرياً موقف الحزب من الوحدة العربية وسبل تحقيقها، فيقول بطاطو: "ولم يشّكل هذا كله إلا جانباً واحداً من موقف الشيوعيين، وهو الجانب اللفضي ، أما عملياً، فإنهم كانوا يتحولون الى مسار إقليمي محض. وأصبح هذا واضحاً بما لايرقى اليه الشك منذ الإسبوع الثاني من تشرين الأول (اكتوبر) 1958، عندما تبنوا الصيحة المعادية للوحدة (زعيم أوحد) ورسموا لأنفسهم مهمة تحويلها الى شعار شعبي حتى أقصى الحدود. وأدى النزاع بين القوميين والإقليميين، الذي وجد له تعبيراً بشكل إشتباكات بين البعث والحزب الشيوعي في أكثر من مرة، وخلال وقت قصير".
لم يشرح بطاطو الظروف والأسباب التي دعت الحزب لتمرير وتبني شعار(زعيم أوحد). لقد رفع هذا الشعار في مظاهرة 5 تشرين الأول، أي بعد إكتشاف النشاط التآمري لعبد السلام عارف وتنسيقه مع جمال عبد الناصر للقضاء على عبد الكريم قاسم وإعلان ضم العراق للجمهورية العربية المتحدة من وراء ظهر الشعب العراقي. ولم تكن الجمهورية العربية الإندماجية نموذجاً يحتذى به في نظر الشعب العراقي جراء سيطرة عقلية الوصاية على الشعب في قيادة الجمهورية العربية المتحدة واسلوب الحكم البيروقراطي المركزي المطلق بواسطة جهاز المباحث وتصفية الحريات السياسية المحدودة التي كان يتمتع بها الشعب السوري قبل الوحدة في حين كان الشعب العراقي يتذوّق لأول مرة طعم الحريات الديمقراطية التي إكتسبها بكفاحه في ثورة 14 تموز مما جعل الوحدة الإندماجية غير مقبولة من قبل غالبية الشعب العراقي.
وقد نحي عارف من جميع مراكزه في 30 ايلول فنظمت تلك المظاهرة ورفع ذلك الشعار للوقوف بشكل حاسم مع عبد الكريم قاسم في صراعه مع عبد السلام عارف من ناحية، ولرفض الوحدة الإندماجية التي مر وصفها، وليس مبدأ الوحدة أو الإتحاد، من الناحية الأخرى. وهذ الموقف صحيح وهناك شعارات تعّبر عنه بشكل أوضح وأصرخ مثل (شيلوا سفارتكم، منريد وحدتكم)، ولكن بطاطو إستشهد بشعار (الزعيم الأوحد) والذي كان خطأ، في نظري، لا لأنه إقليمي، بل لأنه أسهم في خلق عائق جدي أمام تطور الثورة. وسبق وأن حذر الحزب في توجيهاته للكادر الحزبي يوم 12 تموز 1958 من "الشعارات التي تمجد هذا الزعيم أوذاك"، كما مر بنا. ومع الأسف وقع الحزب، في خضم صراع حاد ومصيري، في قصر نظر سبق وأن حذر منه.
إن الجمهوريتين العربية المتحدة والعراقية سعتا الى تطوير العلاقات فيما بينهما، ونجحتا في عقد إتفاقيات عديدة للوحدة الثقافية والتكامل الإقتصادي والتعاون التجاري والتعاون الفني في الميدان الإقتصادي. وكان الأفق مفتوحاً على خطوات أبعد في إتجاه الإتحاد فيما بينهما أكثر فأكثر. وكان كل ذلك موضع دعم وترحيب الحزب الشيوعي العراقي. لم يعرض الإتحاد على الحزب الشيوعي يوما ورفضه لكي يتهم بأنه بالأساس ضده. وإن موافقته على تقديم مشروع مشترك بالإتحاد الفيدرالي الى قاسم ومن ثم الى عبد الناصر في إجتماع الجبهة الذي رواه لنا عامر عبد الله دليل آخر على مصداقيته العملية وليست اللفظية فقط، كما يحاول بطاطو تصويرها.
وبالرغم من تصدّع العلاقات بين الجمهورية العراقية و الجمهورية العربية المتحدة جراء تآمر الأخيرة لفرض الوحدة الإندماجية مثل مؤامرة الشواف،كما سيأتي بيانها، فقد ظل الحزب ثابتاً على نهجه. ومما يؤكد ذلك تصريح سلام عادل لجريدة "إتحاد الشعب" في 30 آذار 1959 والذي قال فيه: " إن سياستنا العربية تنهض على أساس أن العراق جزء لا يتجزأ من البلدان العربية التي تربطها الآن وحدة الكفاح ضد الإستعمار وأعوانه وضد الرجعية وهي الآن في سبيل صنع مستقبلها الموّحد أيضاً، الذي تبني كياناً متحرراً ديمقراطياً متحداً. فهذه مسألة تاريخية موضوعية حتمية غير متعلقة بالأوضاع الطارئة وبإرادة هذا الشخص أوذاك ممن ينحدرون الى الوقوف بوجه عجلة التاريخ غير أن الطريق لتحقيق أهداف الأمة العربية في الوحدة المنشودة سيأخذ سبلا متباينة ويجري وفق خطوات مختلفة المهم فيها إنها ستعزز حركة التحرر الوطني العربية وتخطو بها نحو وحدة ديمقراطية سليمة" (15).
يعلق الباحث بطاطو على محاضرة الفقيد عامر عبد الله بالقول: "ومن الواضح أن عامر عبد الله إفترض أن من المسلم به أن البلدان العربية ستميل، في المدى الطويل، بإتجاه نقطة واحدة مشتركة ــ هي الوحدة ــ ولم يفكر على الإطلاق بإحتمال بديل أو إنعكاس الإتجاهات".
والإفتراض الذي ينتقده بطاطوهو إفتراض الحزب وليس إفتراض عامر وحده. ونجده بوضوح اكبر في تصريح سلام عادل الذي ذكرناه للتو، والذي إعتبر ، نزوع البلدان العربية نحو الإتحاد والوحدة، "مسألة تاريخية موضوعية حتمية". ولكن واقع العلاقات بين البلدان العربية وإتجاه تطورها في العقود الأخيرة، لم يؤكد ذلك، بل يؤكد صواب رأي بطاطو، الذي أشار الى ضرورة الإلتفات أيضاً الى إحتمال الإتجاه المعاكس للوحدة. وإعتبر،وهو على حق، بأن إهمال الإحتمال الأخير، في محاضرة عامر عبد الله، لأسباب سياسية بحتة، هو ضرب من الميل الى هيجل، أكثر مما هو الى ماركس في معالجة المسألة ديالكتيكياً (16). ________________________________________ (1) راجع سباهي. المصدر السابق، ص333. (2) فهد. "كتابات الرفيق فهد". دار الفارابي ـ بيروت. الطريق الجديد ـ بغداد، ص337. راجع كذلك سباهي. مصدر سابق،،ص334 وما يليها. (3) سباهي. مصدر سابق،،ص336. راجع هامش رقم 3. (4) راجع سباهي. مصدر سابق، 337. راجع كذلك الهامش رقم 7 . (5) راجع بطاطو. مصدر سابق، ص139 وهامش رقم 50. راجع كذلك سباهي. مصدر سابق، ص343. (6) راجع سباهي. مصدر سابق، ص340، هامش رقم 14. جدير بالإشارة الى أن اللواء محمد نجيب (1901 - 1984) هو أول رئيس جمهورية مصري (1952 - 1954)، وقد عزله جمال عبد الناصر ووضعه تحت الإقامة الجبرية حتى وفاته. (7) راجع سباهي. مصدر سابق، ص341. راجع كذلك الهامش المرقم 16. (8) محمد جمال باروت، حركة القوميين العرب، ص131 و134. إستشهد به سباهي. مصدر سابق،ص344. (9) راجع سباهي. مصدر سابق، ص342. راجع هامش رقم 18. (10) راجع بطاطو. مصدر سابق، ص139 وما يليها. (11) راجع سباهي. مصدر سابق، ص345 وما يليها. (12) راجع سباهي. مصدر سابق، ص349. (13) راجع سباهي. مصدر سابق، ص347 وما يليها. (14) راجع بطاطو. مصدر سابق، ص140. (15) زكي وسعاد خيري. مصدر سابق، ص287. (16) راجع بطاطو. مصدر سابق، ص142. راجع كذلك سباهي. مصدر سابق، ص357. يتبع
#جاسم_الحلوائي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قراءة في كتاب عزيز سباهي -عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراق
...
-
قراءة في كتاب عزيز سباهي -عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراق
...
-
قراءة في كتاب عزيز سباهي -عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراق
...
-
قراءة في كتاب عزيز سباهي -عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراق
...
-
قراءة في كتاب عزيز سباهي -عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراق
...
-
قراءة في كتاب عزيز سباهي -عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراق
...
-
قراءة في كتاب عزيز سباهي -عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراق
...
-
قراءة في كتاب عزيزسباهي -عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراق-
...
-
قراءة في كتاب عزيز سباهي -عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراق
...
-
قراءة في كتاب عزيز سباهي -عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراق
...
-
قراءة في كتاب عزيز سباهي -عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراق
...
-
قراءة في كتاب عزيز سباهي -عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراق
...
-
قراءة في كتاب عزيزسباهي -عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراق-
...
-
تعليق على مقال - كيف عشت الحقيقة -
-
هل كانت تحالفات الحزب الشيوعي العراقي كارثية؟
-
حسن عوينة مناضل .. يُقتدى
-
كتاب - لحقيقة كما عشتها
-
التراث الإشتراكي في مشروع برنامج الحزب الشيوعي العراقي
-
حول تغيير إسم الحزب الشيوعي العراقي
-
ملاحظات على مشروع برنامج الحزب الشيوعي العراقي
المزيد.....
-
رقمٌ قياسيّ لعملة فضية نادرة سُكَّت قبل الثورة الأمريكية بمز
...
-
أهمية صاروخ -MIRV- الروسي ورسالة بوتين من استخدامه.. عقيد أم
...
-
البرازيل.. اتهام الرئيس السابق جايير بولسونارو بالضلوع في مح
...
-
اكتشاف عمل موسيقي مفقود لشوبان في مكتبة بنيويورك
-
وزيرة خارجية النمسا السابقة: اليوم ردت روسيا على استفزازات -
...
-
الجيش الإسرائيلي يوجه إنذارا إلى سكان الحدث وحارة حريك في ال
...
-
أين اختفى دماغ الرئيس وكيف ذابت الرصاصة القاتلة في جسده كقطع
...
-
شركة -رايان- للطيران الإيرلندية تمدد تعليق الرحلات الجوية إل
...
-
-التايمز-: الغرب يقدم لأوكرانيا حقنة مهدئة قبل السقوط في اله
...
-
من قوته إلى قدرة التصدي له.. تفاصيل -صاروخ MIRV- الروسي بعد
...
المزيد.....
-
عندما تنقلب السلحفاة على ظهرها
/ عبدالرزاق دحنون
-
إعادة بناء المادية التاريخية - جورج لارين ( الكتاب كاملا )
/ ترجمة سعيد العليمى
-
معركة من أجل الدولة ومحاولة الانقلاب على جورج حاوي
/ محمد علي مقلد
-
الحزب الشيوعي العراقي... وأزمة الهوية الايديولوجية..! مقاربة
...
/ فارس كمال نظمي
-
التوتاليتاريا مرض الأحزاب العربية
/ محمد علي مقلد
-
الطريق الروسى الى الاشتراكية
/ يوجين فارغا
-
الشيوعيون في مصر المعاصرة
/ طارق المهدوي
-
الطبقة الجديدة – ميلوفان ديلاس , مهداة إلى -روح- -الرفيق- في
...
/ مازن كم الماز
-
نحو أساس فلسفي للنظام الاقتصادي الإسلامي
/ د.عمار مجيد كاظم
-
في نقد الحاجة الى ماركس
/ دكتور سالم حميش
المزيد.....
|