عايد سعيد السراج
الحوار المتمدن-العدد: 2062 - 2007 / 10 / 8 - 12:24
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
بلاغة القرآن -2-
ما هي دقة اللغة القرآنية وهل يختلف المعنى في ذلك , وما أهمية هذه اللغة في دقة تحديد المعاني وكيف يُمكننا تحديد ذلك هذا ما سنراه في القسم الثاني من مقالة البلاغة القرآنية ؟
(00(3) وفي سورة النمل قوله : ( لقد آتينا داود وسليمان علماً وقالا الحمد الله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين ) (4) 0 وإنما نتكلم عن هذه الآية من جهة اللفظ دون المعنى لأن البلاغة تشمل اللفظ والمعنى معاً , فنقول من ضروريات البلاغة أن المعطوف إذا كان مسبباً عن المعطوف عليه كان من حق المعنى وتمامه وصحته أن يعطف بالفاء السببية كقولك أعطيته فشكر لأن الشكر مسبب عن العطاء 0 وكذلك حمد الله من داود وسليمان فإنه مسبب عن إيتائهم العلم , فكان من مقتضى البلاغة أن يقول فقالا , ولكنه عطف بالواو وذلك مخالف للبلاغة لأن المعنى / 929/ المقصود ليس هو مجرد الإخبار بحمدهما حتى يصح العطف بالواو , وإنما المقصود الإخبار بحمدهما لأجل أن الله آتاهما علماً وفضلهما به على كثير من عباده المؤمنين 0 وأراد الزمخشري هنا أن يتحمل في توجيه الكلام , مع اعترافه بأن الموضع هو موضع العطف بالفاء , فقال : ولكن عطفه بالواو إشعار بأن ما قالاه بعض ما أحدث فيهما إيتاء العلم وشيء من موجباته , فأضمر ذلك , ثم عطف عليه التحميد كأنه قال ولقد آتيناهما علماً فعملا به وعلماه وعرفا حق النعمة فيه وقالا الحمد لله (1) 000 وأنت ترى أنه كلام فارغ فلنوضحه لك فإن فيه بعض الغموض 0 يقول : إذ الذي يترتب إيتاء العلم ليس هو الحمد وحده بل العمل به وتعليمه للناس , ومعرفة حق النعمة فيه وحمد الله عليه 0 فأضمر ذلك أي العمل به , ثم عطف عليه التحميد بالواو , وعندئذ ٍ يكون تقدير الكلام في الآية هكذا لقد آتينا داود وسليمان علماً فعملا به وقالا الحمد الله 00 وأنت ترى أنه على ما فيه من تكلف كلام فارغ , أولاً : لا نسلم أن في العطف بالواو إشعاراً بأن لمحمد بعض ما يترتب على إيتان العلم , لأن الواو لا معنى لها في كلامهم سوى إفادة مطلق الجمع بين المعطوف والمعطوف عليه , فمن أين جاء هذا الإشعار وكيف حصل , ثانيا : إن هذا الإضمار , أعني حذف المعطوف بالفاء 0 فعملا به وقالا ) مناف للبلاغة كل المنافاة , إذ ليس مجوز ولا مرجح , بل البلاغة تقتضي ذكره لأنه أهم ما يترتب على العلم 0 وقد قلنا , فيما تقدم , إن الأصل في الكلام عدم الحذف , وإنه إذا كان حذف فلا بد من أمرين أحدهما المجوز للحذف أو المرجح له , والثاني وجود قرينة في الكلام تدل عليه 0 أما هنا فلا مجوز له ولا مرجح ولا شيء في الكلام يدل عليه 0 / 930/ ثالثاً : إنه بهذا الحذف قد رقع الخرق بأن عطف المحذوف بالفاء وجعل المعطوف على ذلك المحذوف , ولكنه أوجد خرقاً آخر أوسع من الأول وهو الحذف الذي لا مجوز له ولا دلالة عليه , ولو كان هذا الخرق في غير القرآن لما تكلف الزمخشري في ترقيعه هذا التكلف , ولا استحسنه ولا رضي به , بل أوسعه ثلباً ونقداً 0
(4) وفي سورة القصص قوله : ( ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين ) (2) 0 قال الزمخشري في الكشاف (3) : لولا الأولى امتناعية وجوابها محذوف , أي هي كالتي في قولنا لولا زيد لهلك عمرو , والثانية تحضيضية أي بمعنى هلا , قال : وإحدى الفائين للعطف , يعني الفاء في قوله : فيقولوا , قال : والأخرى جواب لولا , أي هي الفاء السببية التي ينتصب المضارع بعدها بأن مضمرة إذا وقع بعد نفي أو طلب كالتي في قولنا : هلا أكرمت زيداً فيشكرك , قال : والمعنى لولا أنهم قائلون إذا عوقبوا بما قدموا من الشرك والمعاصي هلا أرسلت إلينا رسولاً محتجين بذلك لما أرسلنا إليهم 0
إذا قرأت الآية بإمعان ثم نظرت فيما صوّره الزمخشري من معناها وجدت بينهما بوناً 0 وملخص المعنى الذي ذكره الزمخشري هو هذا : " لولا قولهم عند معاقبتهم على الشرك : هلا أرسلت إلينا رسولاً لما أرسلنا إليهم رسولا ً " , فعلى هذا المعنى يجب أن يكون متن الآية هكذا , بولا أن يقولوا إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت / 931/ أيديهم لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين , ولكن متن الآية بعكس هذا0 فلولا الامتناعية بالنظر إلى المعنى الذي صوره الزمخشري يجب أن تدخل على القول لا على العقوبة , وهي في الآية داخلة على العقوبة لا على القول 0 فبالنظر إلى عبارة الآية تكون العقوبة هي السبب في إرسال الرسل 0 وبالنظر إلى كلام الزمخشري يكون القول ( أي قولهم لولا أرسلت ) هو السبب في الإرسال , ولا يخفى أنه ما حمل الزمخشري على أن يعكس هذا العكس في تصوير معنى الآية إلا توجيه الكلام في الآية وتخريج معناه على وجه مستقيم 0
ويظهر أن الزمخشري أدرك وقوعه في حيص بيص من هذا التوجيه المعكوس فقال معتذراً ومعللاً : إن القول هو المقصود بأن يكون سبباً لإرسال الرسل , ولكن العقوبة لما كانت هي السبب للقول جعلت كأنها هي سبب الإرسال بواسطة القول 0 ومما لا ريب فيه أن الزمخشري لو رأى هذا الكلام في غير القرآن لما تردد من تفنيده 0 وهذا لم يذكر لنا الزمخشري شيئاً عن حذف جواب لولا الامتناعية فإن الجواب المحذوف وإن كان قوله " لولا أرسلت إلينا رسولاً " يدل عليه إلا أنه ليس هناك ما يجوزه أو يرجحه , وقد علمت أن وجود المجوز أو المرجح للحذف ضروري في فن البلاغة 0
(5) وفي سورة القصص أيضاً قوله : ( أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون * قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ) (1) 0 إن المعنى في هاتين الآيتين غير متجه إلى وجه معقول ومستقيم في الخطاب , وذلك إن جعل الليل سرمداً إلى يوم القيامة لا يكون / 932/ إلا بنقض الشمس وانطفائها , وإذا انتقضت الشمس انتقض العالم الشمسي بأجمعه , فلا تبقى أرضنا ولا غيرها من سائر السيارات , ولا يبقى كافر ولا مؤمن حتى يقال لهم من إله غير الله يأتيكم بضياء 0 وكذلك القول في جعل النهار سرمداً , فإنه لا يكون إلا بوقوف الأرض عن دورانها على محورها وعندئذ ٍ يكون النهار سرمداً في قسم منها , والليل سرمداً في القسم الآخر0 لا ريب أن وقوف الأرض عن دورانها لا معنى له سوى زوالها وفنائها , فما معنى قوله إذن من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه 0 وما الداعي إلى بناء الكلام على أمر محال يفرض فرضاً , وقد علمنا أن قدرة الله لا تتعلق بالمحال وأن سنة الله لا تقبل التبديل والتغيير 0
بقي شيء آخر وهو أنه كان لأولى أن يقول في الآية الأولى من إله غير الله يأتيكم بنهار تتصرفون فيه , ليطابق قوله في الآية الثانية : ( من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه ) , وقد اعتذر الزمخشري في كشاف (2) عن هذا بما لا طائل فيه 0
(6) وفي سورة العنكبوت قوله : ( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير ) (1) 0 إن العبارة في الآية غير مستقيمة المعنى , وذلك أن بدء الخلق النشأة الأولى , فأن أراد بها كيف بدأ خلقهم فلهذا لا حاجة في معرفته إلى السير في الأرض , فإنهم يرون أنهم خلقوا من مني عيني في الأرحام على الوجه الذي ذكره القرآن نفسه في تكوين الجنين بجعل النطفة علقة والعلقة مضغة , وخلق المضغة عظاماً وكسو العظام لحماً 0 وأن أراد بها كيف بدأ خلق أبيهم آدم , فهذا أيضاً لا حاجة في معرفته إلى السياحة والضرب في الأرض بل الذي يهدي إليه / 933/ علم المستحاثات , وهي الآثار العضوية القديمة المستخرجة من الأرض فهو يحتاج إلى استحاثة الأرض والبحث والتنقيب فيها 0 على أن الكتب السماوية قد كفتهم هذا العناء بقولها : إن آدم خلق من طين قد صب في قالب البشرية صباً كما يصب التمثال من النحاس أو الشبه , ثم نفخ فيه الروح فاستوى قائماً على قدميه بشراً سوياً كما يقول القرآن أيضاً 0 وإن أراد بقوله كيف بدأ الخلق خلق الكائنات بما فيها من سماوات وأرضين فهذا أيضاً لا يهتدي الإنسان إلى معرفته بالسير في الأرض , فلو قال : قل تأملوا كيف بدأ الله الخلق بدل قوله قل سيروا لكان أنسب وأبلغ 0
ثم إن بدء خلق الكائنات مما لا يعلمه إلا الله , ولكنا مع ذلك إذا نظرنا فيما قرره العلم في تكوين بعض الكائنات كالأرض مثلاً رأيناها في تكوينها جارية على نواميس طبيعية ثابتة غير متبدلة 0 أما النشأة الأخرى فهي على ما يقوله القرآن خارجة في تكوينها عن حدود سنة الله في الخلق , لأن الناس يوم البعث يقومون من الأجداث سراعاً شعثاً ينفضون التراب عن رؤوسهم , فقياسها على النشأة الأولى لا يكون عاجزاً عن الأخرى , فقول مصدره سذاجة في النظر وبساطة في التفكير , لأن قدرة الله لا تتعلق بالمحال , وليس المحال إلا كل ما هو خارج عن حدود سنة الله في الخلق , وسنة الله لا تقبل التبديل والتغيير 0
(7) وفي سورة العنكبوت أيضاً : ( وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ) (2) 0 إن هذه الآية تحتاج عبارتها إلى شيء من الإصلاح 0 وذلك أنه / 934/ يخاطب أناساً يحيون في الأرض ويموتون فيها , فما معنى قوله : ( ولا في السماء ) , فكان يلزم أن يقول : ولا من في السماء , أي ما أنتم ولا من في السماء بمعجزين ربكم , أي لا تفوتونه إن هربتم من حكمه وقضائه 0 نعم , يستقيم المعنى بشيء من الفرض والتقدير بأن يقال : إن المراد ولا في السماء لو فرضنا أنكم فيها , أو يقال : إن المراد بالسماء هنا البروج العالية والحصون الذاهبة في السماء 0 وكل هذه التقارير والفروض تنبو عنها البلاغة والفصاحة , فالأولى أن يقول ولا من في السماء , فهذا هو وجه الكلام 0 00) يتبع
(1) سورة الفرقان ,الآية : 45 – (2) سورة الأحزاب , الآية : 62 ؛ سورة الفتح , الآية : 23 – (3) سورة الفرقان , الآية : 45 – (4) سورة النمل , الآية : 15 – (1) الكشاف , تفسير الآية : 15 من سورة النمل – (2) سورة القصص , الآية : 37 – (3) الكشاف , تفسير الآية : 47 من سورة القصص0 – (1) سورة القصص , الآيتان : 71 – 72 0 ( 2) الكشاف , تفسير الآيتين 71 – 72 من سورة القصص 0 (1) سورة العنكبوت , الآية : 20 – (2) سورة العنكبوت , الآية : 22 0
* من كتاب الشخصية المحمدية للكاتب العراقي معروف الرصافي 0
#عايد_سعيد_السراج (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟