مصير العملاء السريين ـ ترجمة شاهر أحمد نصر
العملاء السريون
كيف أسقطت الولايات المتحدة الأمريكية نظام صدام بهذه السرعة؟ سجلٌ جدير بالملاحظة حول الجهود التي بذلت لتحويل نخبة الجنود في جواسيس لصالح أمريكا. خاص بالـتايم.
ميشيل وور / بغداد ـ السبت 11 أكتوبر (تشرين الأول) 2003
عن موقع:
http://www.time.com/time/magazine/article/0,9171,1101031020-517693,00.html?cnn=yes
ترجمة : شاهر أحمد نصر
(يبين المقال التالي كيف استطاعت المخابرات الأمريكية بسهولة تجنيد العديد من ضباط الحرس الجمهوري لصالحها في الحرب التي شنتها على العراق.. ونقوم بترجمة هذا المقال بغرض إطلاع المهتمين والاستفادة من هذه التجربة، علماً بأنّه من المفيد والضروري دراسة الأسباب التي جعلت عملية تجنيد هؤلاء ممكنة، تلك الأسباب التي ولدتها البنية السياسية لنظام الحكم في العراق، تلك البنية التي يجب تجنبها في البلاد العربية، لتجنب تكرار مأساة سقوط بغداد.. كما نوه الكثيرون من الباحثين على ذلك عند بحث مأساة سقوط بغداد، والتي كنا قد بينا ملاحظاتنا حولها خاصة في المقال الذي نشرناه تحت عنوان "هل هناك من هو أقوى من حكام الولايات المتحدة الأمريكية الحاليين؟" في موقع rezgar.com في شبكة الانترنت . المترجم)
لم يرد ص. حسين أن يصدق ما تقوله شبكات استخباراته. قبل الحرب الأخيرة في الربيع، يقول العقيد السابق في شعبة المخابرات العسكرية، قدم المحللون لصدام تقارير تفصيلية تتوقع انتصاراً أمريكياً حاسماً.
تبين المُسْتَنَدات أنّ قوّات الأمن العراقيّة، التي كانت متفوقة من قبل ، خُرقَتْ نتيجة نجاح واشنطن في تجنيد جواسيس عِرَاقِيّين وتَطْوِيع عملاء مزدوجين. أعلمت المخابرات الداخليّة صدام بأنّ القوات العراقية قد تَنْهَار. " قلنا له بشكل دبلوماسي ، يجب أن لا يبقى هنا"، يقول العقيد، لِأنّنا لم نستطع أن نواجهه بحقيقة أنّ عليه أن يَتَنَحَّى." على الرغم من تَحَرَّكَ الجُنوْد الأمريكان نحو عاصمته، تصنّع صدام الوضعية الاستعراضية، بالظهور على شاشة التِلِفِزْيُون العراقيّ محاط بحشد بغداد المبجل، وهو يُكَشِّرُ ، ويلوحُ بقبضته في الهواء، ويَتَوَقَّفُ ليُقَبِّلَ الأطفال.
بعد خمسة أيّام ، سوف لن يَقْدِرَ القائد العراقيّ أن يُوَاصِلَ وقفاته الاستعراضية. أصبحت أوامره مهملة إلى حد كبير ، لم يرغب الجنود في القتال، خرج صدام يلقي نظرة على سُقُوط العاصمة، كما يتذكر سكرتيره الّذي رَافَقَه. وَقَفَ صدام في شارع الزيتونة، في الجادة المزَخْرفة بتمثال الساعدين القويين اللذين تَعْقِدان سيفين فوق الطريق. عندما التفت مغادراً، تَوَقَّفَ. اِسْتعْمَل تعبيراً بالعربيّة ينم عن التحرر من الوهم المطلق، تَمْتَمَ: "حتى ملابسي خانتني".
في الحقيقة إنّ ،الإسقاط الأمريكيّ السريع وغير المؤلم نسبياً لنظام صدام لم يتم بواسطة وسائل عسكريّة فقط ، إنما أيضًا بواسطة الخيانة. قبل بدء الحرب، جَنَّدَت الوِلايات المتَّحدة وأَرْسَلَتْ عملاء عراقيّين لكشف خطط صدام وقدرات العراق، لشلها. عقدت الصفقات؛ شنت حرب نفسية؛ دُفِعَت الأموال؛ واُسْتُعْمِلَ الابتزاز . مع تأكد إدارة بوش- من ضعف خطط صدام، رْبَحَت اِستراتيجية واشنطن. عندما عبرت أولى الدبابات الأمريكيّة الحدود الكويتيّة، كانت قد استمالت ضُبَّاط الحرس الجمهوريّ ، و اُخْتُرِقَت الشُرطة السرّيّة. دست جواسيس، و أرْسِلَت مُرَاقِبين لإرشاد القَنَابِل الأمريكيّة. " سوف تُدْهَشُ من إنجازات هؤلاء الشبّان،" قال ممثل البنتاغون في العراق، وهو يُشِيرُ إلى الجواسيس العراقيّين.
حتّى ولَوْ كَانَ صدام آخر من يعلم، فقد فَهِمَ العديد ممن في دائرته الداخليّة مدى عمّق اختراق أجهزة الأمن العراقيّة َ. في جنازة لضابِطين عسكريّين ذوي رتب صغيرة في منتصف الحرب، سأل نادب القادة الحاضرين كيف تسير الأمور. " أَخْبَرُونا أننا سنَخْسَرُ"، يَتَذَكَّرُ أحد النادبين ، "كَانَ هناك نوع من الخيانة في الجيش و الحرس الجمهوريّ".
كَانَ ذلك نتيجة الهروب العراقي نتيجة الاضطراب في نظام صدام. في الأسبوع الماضي رأينا كتلة نار مشوهة . قاد انتحاري سيارة مليئة بالمتفجرات إلى مخفر الشرطة في بغداد، قتل ثمانية أشخاص. قتل دِبْلُوماسِيّ أسباني أمام باب بيته في العاصمة. أودت مُقَاوَمَة الاحتلال بحياة 188 جندياً أمريكيّاً في العراق منذ إعلان الرئيس بوش نهاية الأعمال الحربية الرئيسية في 1 مايو/أيار. مع ذلك، أنقذ إسقاط الوِلايات المتَّحدة السريع لصدام حياة الكثير من العراقيين و الأمريكان معًا. هذه قصة الحملة الأمريكية السرية لتدمير النظام من داخله، وقصة العِرَاقِيِّين الذين هَزُّوه.
ترشيح (فلترة) العراق
تمتع الـجبوري al-jaburi بحقّ الارتباط بالخدمة كجاسوس أمريكيّ. مربوع، مهيأ، في حوالي الأربعين من العمر ، يُفَضِّلُ الجبوري أن ينشر اسمه الأول – والذي خدم لعقد تقريباً في النظام، يخَاف من الوكالة التي خدم فيها ، كان في عداد وحدات الأمن الخاصّة (SSO) حتى عام 1980 ، سرح من SSO بَعْد أن اتّهم صدام رجال عَشِيرَته بالتآمر والانقلاب عليه . في عام 1999 غادر الجبوري إلى الأردن. هناك ارَتبَطَ بمنظمة مُعَارَضَة، الائتلاف الوطنيّ العراقيّ الذي بنى علاقة راسخة مع سي آي أي.
بالاعتماد على إبراهيم جنابي أحد أعضاء الائتلاف الوطني العراقي ذي الارتباط الرئيسيّ مع الـ سي آي أي في عمّان، بَدَأَتْ سي آي تستعد للحرب في 2002 أوكتوبر/تشرين الأوّل. " طلبوا منا أن نقدم بعض الأشخاص الصارمين ، والصُلبين للقيام بمهِمَّات في العراق"، يقول جنابي. "لذلك أَعْطَيْتُهم اسم الجبوري في البداية، قابل الجبوري، في قهوة في عمّان في18 أوكتوبر/تشرين الأوّل. كما يتذكر. يَقُولُ الجبوري أنّ ضُبّاط سي آي أي، استجوبوه لعدة أيام بمساعدة كشّاف الكذب، عن سِلْسِلَة من المواضيع، بما في ذلك إذا ما كَانَ يَتَطَوَّعُ أم هو مجْبَر على هذه العلاقة. سئل سؤال واحد ليجس نبضه: ما قد يَفْعَلُ إذا حاربه أخوه. " أَقْتُلُه،" قال الجبوري . في 22 نوفمبر/تشرين الثاني. قال الجبوري أنّه وقع عقداً يضمن له دَفْعات شهريّة مقدارها 3000 دولار أمريكي مع 9000 دولار أمريكي دفعة مسبقة. بعد يومين ركب سفينة صغيرة متوجهة من الأردن إلى واشنطن.
كانت حجرته رقم 13 تضم عِرَاقِيّين و لبنانيين، من واشنطن توجه إلى مباني منعزلة، تَذَكُّر الجبوري. أُخْبِرُوهم أنّهم كَانُوا في تكساس. تدربوا مدة شهرين مع حوالي 20 مُدَرِّب في اللياقة البد نية، التجسس، كتابة التقرير و المُرَاقَبَة. تعلم استخدام المتفجرات - كيف يُدَمِّرَ المركبات المدرّعة، الخزّانات، خطوط أنابيب النفط، أبراج الكهرباء و السِكَك الحَدِيْدِيَّة.
في فبراير/شباط، يقول الجبوري، طار إلى الكويت، مكث في فيلا مع مدربه من سي آي أي. جَهَّزُوا له مبلغ 50000 دولار أمريكي ، تلفون خليوي (محمول) و هويّة عراقيّة مزوّرة تبين أنّه أنهى الخدمة العسكريّة لِكَي يَقْدِر أن يَتَحَرَّك في العراق. يقول الجبوري أنّه سَافَرَ إلى العراق في 11 مارس/آذار، قطع الحدود من جانب إلى آخَر بواسطة المهربين المُرَتَّبين من قبل الأمن الكويتيّ. " لقد كُنْتُ في وحدات الأمن الخاصة SSO، لذلك كنت أعرف مدى المخاطرة التي أقوم بها" قَالَ الجبوري، لكن عَرَفْتُ أيضًا أنه يجب أن أَفْعَل ذلك".
أعطي مبلغ 50000 دولار أمريكي من السي آي أي للجبوري لشراء عملاء . بدأ مع أحمد (ليس هذا اسمه الحقيقي)، ضابط في المجمع الرئاسي الرئيسي، والذي عرفه الجبوري سابقاً. "أخبرته كل شيء،" قال الجبوري. "قلت له بأنني أدرجت اسمه في سي آس أي، ولدي له 5000 دولار أمريكي." أبدا أحمد استجابة سريعة للبيع. "ما الذي تريده مني؟" شرح رجل القصر الجمهوري أين يتمركز الحرس الجمهوري في بغداد، وأماكن تطويقه لها، وبين أنّه أمر للعودة إلى داخل المدينة إذا هوجم. في الحقيقة ، بعد القصف المبكر في الحرب لمراكز الحرس الجمهوري من قبل القوات الأمريكية، خذل العديد من الضباط رجلهم.. بين أحمد أيضاً مواقع المدفعية الثقيلة، المستودعات والقوى الجوية حول العاصمة، التي استهدفت من قبل الضربات الأمريكية بتأثير فعال خلال الحملة.
حدد أحمد أيضاً موقع المدفعية لثقيلة و بطاريات الصواريخ حول العاصمة، التي اَسْتَهْدِفت من قبل الضربات الأمريكيّة ، وحققت الضربات الجوية لها إصابات مباشرة.
مع التصدي لمهمة استطلاع المواقع نصح أحمد الجبوري أن يلجأ إلى صديق قديم والاتّصال به، كان ذلك مشهداني . جَنَّدَ الجبوري ـ السيد مشهداني، المسؤول الكبير في المخابرات، وحدات الأمن العراقي الرئيسية ، بَعْد ارتباط مشهداني Mashadaniبالائتلاف الوطني العراقي، قدم خلال سنتين معلومات هامة لـ سي آي أي- عبر الجبوري، حول الصواريخ العراقيّة، الأنظمة المضادّة للطّائرات وتنقلات الجنود. وَزَنَ مشهداني المَخاطِر الناجمة عن مُسَاعدة الجبوري الآن. كَانَ قد عايش ما حل بزمِيل متهم بالجاسُوسِيَّة لصالح إيران. " إيران لم تحمِ ذلك الشابّ، أو أيّ شخص،" يَقُولُ. "لكن تجَسَّسْنَا لصالح الوِلايات المتَّحدة قد يساعد في التُخَلَّصَ من صدام".
باستخدام سيارة المخابرات الّتي كان لديه كضابِط في الأمن زار مشهداني والجبوري العديد من المواقع التي كان أحمد قد حددها ، قدر استطاعتهم. يَقِفُ الجبوري بحذر في الموقع، الّذي تَبْحَثُ عنه الأقمار الصناعيّة في السماء لتحديد الإحداثيات.
وفي الساعة المحددة من كل ليلة، عليه أن يستخدم جهازه الخليوي (الموبايل ـ هاتف محمول) للاتصال مع الـ سي آي أي وإيصال ما وجده هناك. إنّه عمل حذر. مجرد استخدام الهاتف الخليوي يمكن أن يسبب الموت في ظل نظام صدام.
منذ البِدَايَة، كَانَتْ مُهِمَّة الجبوري رصد مطار صدام الدُوَلِيَّ، أحد المفاتيح للسيطرة على بغداد. كان لدى أحمد مدخلاً إليه. كان لديه صَدِيق اسمه محمود "Mahmoud، الّذي يَقُود كتيبة شحن، وكَانَ مكلّف بأمن مطار. عَرَفَ أحمد أنّ محموداً كَانَ يمقت صداماً بشكل خاص، لذلك اصطحبه لتناول المشروبات. كَانَ قائد المطار سلبيّاً إلى قدر كبير بالنسبة لصدام، مما ضْمَنَ ثلاث مرات من عمليات الشرب- في المرة الثالثة دعا الجبوري القائد محموداً أن يَتَعَاوَنَ و قَدَّمَ له $15,000. ، وَافَقَ القائد على المساعدة.
مع غروب شمس 23 مارس/آذار، ومع ازدياد حدة الحرب في الجنوب ، وعندما كانت بغداد تحت القصف الليليّ، ساق قائد المطار الجبوري في زي رسمي عسكريّ، مع مشهداني Mashadani،إلى مجمع المطار. وفي سيارة المخابرات جال الثلاثي عبر شوارع المطار ورسموا خارطة لكلّ بناء و سرداب، وأحصوا عدد الجنود والسلاح وكل ما استطاعوا معاينته. مطبقين تعليمات سي آي أي، كَرَّرُوا العملية ثلاث مرات خلال ثلاث ليالي ليتأكدوا من دقة مُخَطَّطَاتهم. مع انتهائهم من عملهم كان المخططون الأمريكان للمعركة، قد أنجزوا وضع صورة مفصّلة عن المطار، بدءاً من تحديد النقاط الضعيفة في الحماية العراقيّة إلى الهبوط الآمن للطائرات العمودية الأمريكية.
في 26 مارس/آذار قرر الجبوري المنهَك أن يأَخَذَ عطلة ليَزُورَ عائلته في مدينتيه بالقرب من تكريت. في اليوم التالي أستدعي أَخاه، الذي عمل مُهندِساً في معمل تكرير نفط Bayji، اُسْتُدْعِيَ إلى العمل لنقل مُسْتَنَدات قبل أن يصل الأمريكان. قرر الجبوري ، الموجود هناك، الذهاب أيضاً آملاً في الحصول على أوراق قد تكون مفيدة للوِلايات المتَّحدة. كَانَ ذلك فخّاً. أَحَاطَتْ شُرطة صدام السرّيّة بالسيّارة. عَلمَ الجبوري في ما بعد أنّه كَانُوا قد لقطوا طرف خيط من أحد أَقَارِبه المُتَلهِّف للحصول على مُكَافأة. نقل إلى سجن أبو غريب في بغداد سيّء السمعة، المحطّة الأخيرة للعديد من خُصُوم النظام، كان الجبوري سيَمُوتُ. وضع سَجَّانوه قلنسوّة فوق رأسه ، كما يقول، و عَلَّقَوه إلى السقف من يديه ، الّلتين رُبِطَتا وراء ظهره. ضَرَبُوه مراراً بالحبال والأسلاك و الهِرَاوَات، التي حَطِّمت أقدامه.
في نفس الوقت دعي مشهدانيMashadani من قبل رؤسائه بحجة وجود مهمة خاصة به .. في المكان المحدد من قبل المخابرات ،يقول، "وجدت المهمة التي تنتظرني وجدت كثيراً من اللكمات بالأيدي والبنادق تنهال علي" عذب مشهداني لمدة ست ساعات وسئل عن عَلاقاته المُتَبَادَلَة مع الجبوري. "كَانَ كلّ الرُؤساء الأعلى رتبة يأتون لاستجوابي،" يَقُولُ الجميع "من هذا المجنون، ضابط مخابرات ويتعامل مع جاسوس." في ضوء النهار، أَخَذَه سَجَّانوه لمقابلة الجبوري الذي ضرب كثيراً. لم يعترفا بأي شيء.
لمدة أربعة أيّام، يقول الجبوري ، عَذَّبَه سَجَّانوه: كانوا يَضْرِبُونَه ، يصدمونه، يُحَطِّمُونَ يده. تعرض مشهداني لنفس المصير. في لحظة ما، جَرَّ محقق أمّ الجبوري وزَوْجَته إلى السجن للاِسْتِجْواب. كان باستطاعته أن يَسْمَعَهما تبكيان خلف باب الزنزانة . دامت العملية لأكثر من ستّ إلى ثمان ساعات متواصلة. يقول الجبوري أنّه عذّب عن أعمال تجسسية أخرى، ومعلومات كَانَ قد قدمها قبل أسره، وقبل اللمعلومات الأخيرة التي كان قد بَعَثَ بها. يَقُولُ أنّ تَدْريب سي آي أي له مكنه أن لا يعر أهميّة لشيء . لكنه خَافَ من أنّ الوقت في الخارج كَانَ يَرْكُضُ. مع نظام يَنْهَارُ، كَانَتْ فرق صدام تَعْمَلُ بشكل مضاعف، يقتلعون من خمسة إلى 10 رِجَال من زنزاناتهم كلّ ساعة. " كان السجن كالمسلخ،" يقول الجبوري .
مع تغير جبهة الحرب، نقل الجبوري ومشهداني من سجن أبي غريب إلى السجن في الفلوجة ثم الرمادي . في 11 أبريل/نيسان فر الحارس الأخير في سجن الرمادي أمام تقدم الأمريكان. خرج السجناء مترنحين نصف مشلولين يلوحون بعلم أبيض أمام الوحدة الأمريكية. " أَخْبَرْتُهم أنّنا قد خرجنا للتو من السجن وأننا عملنا لصالح السي آي أي،" يقول الجبوري . أخذهم الجيش الأمريكي إلى مطار بغداد، الّذي كان تحت قيادة أمريكيّة . ظَهَرَ ضابِط سي آي أي فاتحاً ذراعيه. " لا تَلْمِس ظهري،" عَوَى الجبوري، الجروح الناجمة عن الاستجواب مازالت طريّة. يَتَذَكَّرُ قول الضابِط، "أنتَ من (أبطال) المطار، المفتاح إلى بغداد. مستقبلكَ مضمون".
إغراء المُقامِرين
كعضو في المُعَارَضَة السرية العراقية، الائتلاف الوطني العراقي قضى أبو التيمان al-Timman سنوات متخفياً عن أتباع صدام. الآن، مع اقتراب الحرب أخذ التيمان يُجَنِّدُهم .كانت التعليمات الصادرة من الائتلاف الوطني العراقي الذي عمل عن قرب مع الوِلايات المتَّحدة قبل وأثناء الحرب، تقضي بإيجاد أشخاص لا يرغبون فقط بإيصال المعلومات عن وسائل الدفاع العراقية ، بل يرغبون في إضعاف وشل مقدرة القوّات العراقيّة على القتال. بما أنّه عمل نقيباً في الحرس الجمهوريّ،والذي كان أصلاً في المناطق الكردية وسافر مراراً إلى بغداد فقد لجأ التيمان إلى رفاقه القديمين. دُهِشَ من عدد الذين يودون تغيير ولائهم. "عَرَفُوا أنّها فرصتهم الأخيرة (أن يَرْتبِطَوا بالفَائِزين المحتملين)،" يَتَذَكَّرُ." سَمَّيْنَاهم المُقامِرين".
ذات مرّة عندما بَدَأَتْ الوِلايات المتَّحدة تقصف بغداد بِالقَنَابِل، تَغَيَّرَتْ مُهِمَّة التيمان، ركض من موقع قصف لآخر ، يُلَاحِظُ مدى الضرر المادّيّ ويَقْيّم الخَسائر، ساهراً على معرفة الشخصيات القيادية الموجودة بين الجرحى والقتلى. وفي الموعد المحدد من كلّ ليلة، اِسْتِخْدام تلفونه النقال (الخليوي) لينقلَ تخميناته إلى الائتلاف الوطني العراقي ، الذي يرسلها بدوره إلى الأمريكان ، الّذين بإمكانهم عندها أن يُقَرِّروا ما إذا كانوا سيعيدون ضرب الأهداف القديمة ثانية أم ينتقلون إلى أهداف أخرى. " اِعْتَبَرْتُ ذلك أهم شيء أَقْدِرُ أن أَفْعَلَه لِأنّ ذلك يقود إلى نهاية الحرب عاجلا،" قال التيمان. في 7 أبريل/نيسان كان بين المتفرجين على انتشال الضحايا من تحت أنقاض العديد من المنازل التي دمرت في حي المنصور ببغداد. اعتقد البنتاغون أنّ صدام كان في الداخل، فقصف المباني. إلاّ أنّ المنقذون أعلموا التيمان أنّ صدام تفقد المكان وقَدِّم التَعَازي للضحايا. تَأَكَّْدَ التيمان أنّ جسم الصدام لم يَكُنْ بين الجثث المنتشلة، ثمّ خبَّرَ بما علم، وأن مهمة البحث عن صدام يمكن أن تَسْتَمِرَّ.
بطاقة الابتزاز
عرف مسؤول الائتلاف الوطني العراقي I.C.N باسم أبو رنين Ranin . كانت مهمته قبل الحرب أن يخترق المخابرات . قام الائتلاف الوطني العراقي بمراقبة المُهِمَّات العراقيّة حول العالَم، ليتعرف على عناصر الأمن. من هذه القوائم الضيقة اختيرت الأهداف. "اِخْتَرْنَاهم لضعفهم، نعرض عليهم أن نَقَدَّمَ شيئاً، ومن ثم نجندهم للعمل معنا،" قال أبو رنين الذي استقر في الأردن.
في عاصمة أوروبيّة غربيّة، قال أبو رنين، أنّه جمع أدلة حول قيام رجل قيادي في المخابرات يبيع مواد حكومية في السوق السوداء. عندما هَدَّدَه أبو رننين بأنّه سيخبر بغداد، يَقُولُ، اِنْقَلَبَ الضابط. لن يتحدث أبو رنين عن المعلومات التي أمده بها الضابط . يقول أبو رنين أن الانقلاب الكبير حصل في رومانيا Romania كما يروي القصة ، فقد اكتشف ضابط مخابرات في بوخارست يملك خصلتين مفيدتين: كان يشْرَف على عَنَاصِر مخابرات النظام في أوروبا الَشْرقية، و كان لديه ضعف نحو العَاهِرَات. يَدَّعِي أنّه رجل أعمال غنيّ يعمل في أوروبا، صَادَقَ أبو رنين الضابط. اِسْتَأْجَرَ فيلا و رتب حفلة خاصّة مع خمس عَاهِرَات وكمية كافية من الخمر . أَحْضَرَ ضابِط المخابرات أربعة من زُمَلائه. أخذ أبو رنين صوراً لهم وهم يتباهون بسكرهم مع بضع لَقْطَات مع النساء. ومع ذلك بدا الابتزاز غير ضروريّ. عندما وصل الضيوف إلى درجة الخبل (من السكر) ، اِنْتَزَعَ أبو رنين خلية هاتف الضابط وأعاد نسخ (حَمَّلَ) كتابة العناوين.
خلال أسابيع، اتصل أبو رنين بالعناوين، واِسْتَنْتَجَ أَنّ لديه هويّات 65 عميلاً ـ إما من وظفه العراقيون في الخارج أو ممن يتصلون به من دوائر المخابرات الأجنبيّة، خاصّة الفلسطينيين والسوريّين. وارتحل حول الشرق الأوسط، يرتب لقاءات مع العملاء العراقيّين بذرائع مختلفة. ذات مرّة، على سبيل المثال، اِدَّعَى أنّه تاجر ألماس يهتمّ ببيع المجوهرات. كان يخفي آلة تصوير يُصَوِّرُ بها العملاء . عندما يصبح الملَفّ كاملاً، يرسله إلى قيادة الائتلاف الوطني العراقي. لم يكن أبو رنين يعلم ما الفائدة بالضبط من هذا العمل ، لكن هذه المعلومات قدمت الفائدة الكبيرة لعمل الأمريكيين في التعامل مع العملاء العراقيين. وكما تبين قصة الجبوري ، و أحمد ومحمود ، فجاسوس واحد يُنْجِبُ آخر، وآخر وهكذا...
سَفِينَة الغرق
مع بدء الحرب كثف الجواسيس العراقيون نشاطهم، وبدأت أركان نظام صدام تهتز بوضوح جلي. في مكاتب قصي بن صدام، قائد الحرس الجمهوريّ، قال عضو النظام السابق الذي طلب أن يسمى محمد: "أفادنا العديد من الضباط أن قوات التحالف اتصلت بهم، طلبوا منهم الاستسلام، ووعدوهم بالمال". ونفس الشيء حصل في المخابرات." أخبرنا العديدون أنّهم وعدوا بالأموال، أو الضمانات بالأمان والوعود بمناصب في سلطة الحكومة الجديدة"، قال عدد من أعضاء مكاتب مخابرات الدكتاتور. كان عدد الشخصيات الرسمية التي تم الاتصال بها والتي لم تقدم تقارير بذلك كبيراً. "نحن نعلم أنّ الأمريكان اتصلوا عملياً بالعديد من السادة الضباط الكبار، والعديد من الضباط من الرتب الأدنى، ولكن العديد منهم لم يأتِ ويخبرنا"، قال محمد.
عند بدء الحرب، كان العديد من أفراد جيوش صدام إما قرر الفرار من الحرب، أو حيّد من قبل القادة الذين وافقوا على تسوية مع التحالف. لم يكن جعفر حسن الدوري واحداً منهم ، لكن الأعلى منه كان. ذات مرّة وكَانَ القتال قد بَدَأَ ،استلم جيش القدس ، الميليشيا العراقية النظامية، الذي كان تحت إمرة حسين ما سماه "بالأمر المدهش" أمر إرسال نصف عدد الرجال إلى بيوتهم في إجازة مغادرة. حاول الاعتراض على الأمر مع قادة جيشه الذين كانوا مذهولين تماماً. حاول التثبت من صحة الأوامر إلاّ أنّ الاتصالات كانت مقطوعة. هكذا أزاحوا نصف الجيش وراقبوا عملية هروب نصفه الآخر. كان باستطاعة قائد أعلى واحد ، خائن، أن يجعل نصف الجيش العراقي يختفي"، قال حسين خجلاً من أداء رفاقه. مع تغلغل الوِلايات المتَّحدة في العديد من مواقع قوّات صدام، اِبْتَكَرَ الأمريكان وسائل حديثة تُرْهِبَ الجنود الّذين ربّما قد يكونون بقوا في مواقعهم. " دخلوا في مجال إذاعتنا (الراديو) وأَخْبَرُونا أنّهم يعرفون مواقعنا بدقة،" قال ضابِط في الحرس الجمهوريّ من الرتب الدنيا .
في بغداد، أمر مُحَمَّد من مكتب قصي حسين لعدة أيام قبل سقوط العاصمة، بنقل البطاريات المضادة للطائرات إلى مجال يجعلها تقف عن إطلاق النار. عندما سأل مُحَمَّد الجُنود المتحصنين في ملاجئهم لماذا صمتت مدافعهم ، أجابوه " أمرنا جنرالنا أن لا نَنْطَلِق النار." أَخْبَرَهم مُحَمَّد أنّ صداماً كَانَ قد أَمَرَ بأنّ أيّ طاقم يتوقف عن إطلاق النار في تلك الليلة سيعدم. عاد في الصباح يجأر على الوحدات طالباً منها تفسير، لماذا لم يطلقوا النار على الأهداف الأمريكية. "لأنّه، ما أن غادرتنا البارحة، حتى عاد الجنرال" أجاب أحد الرحال. "أمرنا أن لا نستمع إليكم".
يوم ـ بعد التذمر
ليس كل العملاء السريين يرسلون لأعمال التدمير. قال "سُلْطَان،" النقيب في وحدات الأمن الخاصة أنّه أخذ يرتاب من رجل ادعى أنّه يعمل في المخابرات، والذي أخذ يُخْبِرُ زُمَلاءه أنّ الجيش العراقيّ يَخْسَرُ وأنَّ الأمريكان في كلّ مكان. قرر سُلْطَان أنّ يستدعي الرجل إلى وَحدته ويكلمه. " أَخَذْنَاه إلى ضُبَّاط مخابرات حقيقيّين. اِكْتَشَفُوه فورا و أَخَذُوه،" قال سُلْطَان بفخر، وهو يَرْتشِفُ الشاي في مقهى الشارع في تكريت.
نفس الشيء قد يكون حصل مع الجاسوس التابع للائتلاف الوطني العراقي واسمه الملازم علي، الصديق الشخصي للتيمان. قبض عليه عندما باعه، للنظام ، الرجل الذي هربه إلى بغداد من كردستان. بعد الحرب علم التيمان أنّ علي سجن لأسابيع قبل أخذ الرمادي . صلب إلى حائط وأعدم رمياً بالرصاص في 9 أبريل / نيسان، في اليوم الذي سبق سقوط تمثال صدام في ساحة الفردوس في بغداد.
بعض العملاء السريين الذين ساعدوا الولايات المتحدة كانوا مستاءين من المكافآت التي حصلوا عليها. مع تحررهم من الوهم حول مستقبلهم في العراق الجديد ، هذا التحرر من الوهم الذي عززه تنامي حركات المقاومة، فوجدوا أنفسهم معزولين ومهجورين من الأمريكان الذين خاطروا بحياتهم في سبيلهم، وخانوا وطنهم. نقيب المخابرات الذي تجسس لصالح الائتلاف الوطني العراقي يجلس عار الآن في المقهى. لديه منصب اسمي مع أدنى دخل من دون أية سلطة. يشعر بالمرارة، يطالب بالكثير الذي وعد به. " إذا لم يعطوا السلطة للمجموعات العراقية، نستطيع تحرير أنفسنا من الأمريكان، ونلهب العراق بالنار،" توعد.
لدى الجبوري ومشهداني العملاء (الأبطال) لـ سي آي أي في معركة المطار، إحساس بأنهم تركوا في البرد. قال الجبوري بأنّه حصل على 75000 دولار أمريكي على عمالته، ومشهداني 60000 دولار أمريكي ـ مبلغ جيد في بلاد متوسط الدخل السنوي فيها 2500 دولار أمريكي. علماً بأنّه في الولايات المتحدة يصل إلى 23000 دولار أمريكي . ومع ذلك يشعر الرجلان أنّهما مكشوفان تماماً وأنّ الولايات المتحدة لم تفعل ما يكفي لحمايتهما. لقد ظَهَرَ اسم الجبوري في قائمة المطلوبين للموت ـ التي حصلت عليها التايم ـ والتي نشرت من قبل مليشيا فدائيي صدام. وكان اثنان من أقاربه قد قتلا بعد إطلاق النار عليهما وهما يقودان سيارته. ويتذمر من أنّ الولايات المتحدة لم تعطه رخصة حمل سلاح لحماية نفسه. ويتم اعتقال العراقيين الذين يحملون سلاح من دون إذن على الحواجز الأمريكية.
"الأمريكان طيبو القلب، عندما يحبونك يحبونك حقاً"، يقول الجبوري. "ولكن ما أن ينتهي دورك حتى ينسوك". رد ضابط الـ سي آي أي الذي لم يعلق على الإسهامات الخاصة لأي عراقي: "الناس الذين عملوا لصالحنا (عولجوا) عوملوا بشكل جيد. إذا وجدت بعض الأمور التعيسة، فأشك أنها إما بسبب الناس الذين يضخمون دورهم، أو يختلقون وعوداً لم تعط أبداً". الثمرة العظيمة التي قدمتها الولايات المتحدة لهؤلاء الناس، طبعاً، هي إسقاط صدام. وتحقق ذلك مع جهودهم الجديرة بالاعتبار.
ـ تقرير تيموثي ج. برجر / واشنطن
ـ طبعة مجلة التايم 20 أكتوبر ـ تشرين أول 2003