مقدمة
قبيل الهجوم الأمريكي على العراق، تحدثت الكثير من الصحف الأمريكية عن توقعات بورصة وول ستريت حول نتائج الحرب المحتملة على العراق، وفي هذا الصدد أشارت صحيفة "واشنطن بوست" الصادرة في 13 فبراير 2003 إلى أن الاعتقاد السائد بسيط جدا وهو: "أن الحرب ستكون قصيرة وتأثيرها على سوق المال سيكون حلو المذاق".
الغرض من الإشارة إلى هذه الواقعة هو للتأكيد مرة أخرى على صحة مقولة عالم الحرب "كلوزويتز" التي أعلنها منذ قرنين من الزمن بأن الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى. وليس من العسير على أحد فهم أن الأزمة الاقتصادية تضيق من مجال الإنتاج وإذن تحد من إمكانيات اعتماد سياسات "اجتماعية". وقد أكد ماركس على أنه في حالة الأزمة يتحول الرأسماليون إلى العمال لجعلهم يتحملون عبء إعادة الهيكلة وفي نفس الوقت يدخلون في صراع فيما بينهم لاقتسام الكعكة المتبقية. من هنا يحتد التناقض بين مختلف الطبقات وأيضا في قلب الطبقة الرأسمالية.
ذلك هو ما يقع اليوم، فليس غريبا رؤية القوة العالمية الأولى، الولايات المتحدة الأمريكية، في إطار انشغالها بالحفاظ على هيمنتها على الكوكب بكامله، تبحث عن فرض حلولها على بقية العالم. وبطبيعة الحال فإن كلمة "فرض" تعني "اللجوء إلى القوة"، وإذن إلى الحرب. إن الوصف الوحيد الذي يمكن إطلاقه على العدوان الأمريكي على عدد من مناطق العالم كغريندا وباناما والعراق ويوغوزلافيا وأفغانستان هو أنه عدوان إمبريالي. فلا تستهدف كل هذه الاعتداءات تحقيق سعادة الإنسانية أو القضاء على مجرم خطير أو من أجل قضايا حقوق الإنسان كما تدعي ذلك وسائل الإعلام الأمريكية. بل هي على العكس من ذلك تسعى إلى ضمان أولوية مصالح الشركات متعددة الاستيطان الأمريكية على ملايين العمال والشعوب في دول العالم الثالث.
فالحرب الإمبريالية تمكن إدارة واشنطن ونيويورك من القضاء (أو محاولة القضاء) على كل معارضة لهذه الهيمنة، وبالتالي فرض قوانين وقواعد تقررها المجموعات الصناعية والمالية الأمريكية، وعلى دفع عجلة استراتيجيتها في جميع مناطق العالم، خصوصا في الشرق الأوسط، الغني باحتياطات البترول، والقضاء على منافسة بعض الأسواق... فالحرب بالنسبة لها ضرورية ولازمة خصوصا في زمن الأزمة، لأن المقاومة الشعبية والوطنية تتزايد في هذه الفترات. ولأن نظام الهيمنة يصبح هشا وغير مستقر. ولأن المنافسين الأوروبيين والآسيويين يمكنهم الاستفادة من هذا الضعف لاكتساب امتيازات الاستقلال الذاتي. كذلك بالنسبة "لأسياد العالم" يجب توجيه ضربة لتذكير الجميع بأن سياسة الكوكب تقرر في واشنطن وبأن الثروات تراكم في نيويورك.
تحاول هذه الورقة تأكيد الارتباط القائم بين الأزمة الاقتصادية والحرب الإمبريالية وإمكانية انتصار الثورة البروليتارية بقيادة أحزاب شيوعية مؤمنة برسالتها التاريخية في الاشتراكية والعدالة والمساواة.
أولا: دور الأزمة في ظهور الإمبريالية
تؤكد الدراسات المختلفة أن رأسمالية المنافسة الحرة بين مقاولات صغيرة نسبيا لم تتجاوز عقد السبعينات من القرن التاسع عشر، فانطلاقا من هذا التاريخ بدأت الرأسمالية تتحول من المنافسة إلى الاحتكار. ويقوم تفسير هذا التحول على عدد من المتغيرات أهمها محاولة التغلب على الأزمات الاقتصادية الدورية التي كانت سائدة قبل هذا التاريخ. غير أن هذا التحول كان له وقع أيضا على طبيعة الأزمة نفسها والنتائج المترتبة عنها منها على الخصوص حتمية الحروب الإمبريالية وانفتاح آفاق الثورة أمام الشعوب المضطهدة.
ففي ضل رأسمالية المنافسة الحرة كانت الباطرونا المدفوعة بهاجس الربح، تعمل على إنتاج سلع تتجاوز مما يمكن للناس شرائه، فيتطور الإنتاج في هذه الحالة بمستوى أكبر بكثير من السوق. ولحل هذا التناقض الذي يتسبب في أزمة تصريف المنتجات تلجأ الرأسمالية إلى وسيلتين، حيث تلجأ أولا إلى تحطيم قوى الإنتاج، بشكل يؤدي إلى إرجاع الإنتاج إلى المستوى الذي يتيح للسوق امتصاصه. وتلجأ ثانيا إلى توسيع السوق، إما عبر تكثيف العلاقات التجارية مع الدول الرأسمالية الأخرى، أو عبر إدخال دول جديدة أو جهات جديدة في هذه العلاقات. ويمكن ذلك من رفع مستوى السوق إلى مستوى الإنتاج.
لكن انطلاقا من سنة 1873، انفجرت الأزمة في أغلبية الدول الأوروبية. وبدلا من معالجتها تقليديا من خلال ميكانيزم تقويمي عنيف، فإن هذه الأزمة دامت، وتعمقت، ولم تنتج عنها مرحلة رواج جديدة. إنها بداية ما يسميه المعاصرون لنهاية القرن التاسع عشر بالأزمة الكبرى. هذا التراجع الذي سيمتد يبين بأن الرأسمالية أحدثت تناقضات جديدة، لا يمكن الخروج منها، أو على الأقل لا يمكن الخروج منها سريعا. فقد كتب انجلز من لندن رسالة إلى بابل، أحد مؤسسي الحزب الاجتماعي الديموقراطي الألماني، سنة 1885 بأن أزمة مزمنة لا زالت تخيم في إنجلترا في جميع فروع الإنتاج الأساسية، كما هو الشأن في فرنسا وأمريكا، خصوصا في مجال الحديد والقطن. وقد اعتبرها وضعية غير مسبوقة، رغم كونها منبثقة عن النظام الرأسمالي، فالإفراط في الإنتاج بلغ حجما لا يمكن حتى معالجته عبر الأزمة .
وفي إطار محاولة الرأسماليين إيجاد مخرج كالعادة، عبر تحطيم قوى الإنتاج وعبر توسيع السوق . تسارعت عملية تمركز رأسمالي بشكل غير مسبوق، بينما تم تحطيم الضعفاء من الرأسماليين. فقد دخلت الأبناك بكثافة في رأسمال المقاولات بشكل ما، لدعمها في مواجهة الأزمة. لكنها بهذه الطريقة ضاعفت أكثر من الاحتكارية. وبموازاة مع ذلك، ضاعفت المقاولات تجارتها مع الخارج. كما استثمرت كذلك خارج حدودها الإقليمية. ومن أجل ضمان نمو هذه الأنشطة، انطلقت الدول في عمليات استعمارية مجنونة، حيث أصبحت المستعمرات تضمن للرأسمال الوطني التطور في مأمن من منافسة الدول الرأسمالية الأخرى. وقد مكنت هذه اللعبة بسرعة من اقتسام العالم بين بضعة قوى رأسمالية كبرى.
لقد شكلت أزمة 1873 التي دامت إلى غاية 1895 عاملا مهما في تحول الرأسمالية نحو الإمبريالية، بمعنى في مرحلة، أصبح فيها الصراع الاقتصادي لا يتم فيما بين الرأسماليين الصغار نسبيا، وإنما فيما بين الاحتكارات الكبرى. بطبيعة الحال، فإن هذه العملية لا يمكن تفاديها بالنظر إلى طبيعة الرأسمالية: فالمنافسة الحرة تؤدي إلى تمركز الإنتاج، الذي، عندما يصل درجة معينة من التطور، يؤدي إلى الاحتكار" . لكن الأزمة نفسها تعطي لهذا الاحتكار دفعة مسرعة قوية.
فقد تحولت المستعمرات إلى منافذ مهمة بالنسبة لسلع المتربول. فقد امتصت الهند مثلا، 6 % من المنتجات الصناعية القطنية البريطانية في سنة 1815، وارتفعت إلى 22 % سنة 1840، ثم إلى 31% سنة 1850 وبين 40 و45 % في نهاية سنة 1870. ففي بداية القرن التاسع عشر، كانت الهند تتوفر على صناعة قطنية جد متقدمة، الأكثر تطورا في العالم لحد ذلك الحين، لكن المحتلين الإنجليز دمروها لكي يتيحوا للقطن الهندي تزويد صناعة لانكشاير وليس الأنشطة المحلية. وهكذا أصبحت الهند في نهاية القرن المنفذ الرئيسي للصناعة القطنية البريطانية. وقد شكل هذا الاختراق إيجابيات أخرى للرأسماليين الإنجليز.
فسيتم ارساء الخطوط الأولى للسكك الحديدية في آسيا، سنة 1853. وفي سنة 1890، تم بناء 27.000 كلم من خطوط السكك الحديدية . وبصفة عامة فإن بريطانيا القوة العالمية الأولى آنذاك أصبحت توجه تقريبا نصف استثماراتها إلى الخارج، فقد وجهت سنة 1860 تصدير رؤوس أموالها بنسبة 36 % نحو إمبراطوريتها الاستعمارية وبنسبة 10,5 % نحو أمريكا اللاتينية، التي تظهر حاليا كأشباه مستعمرات للاقتصاد الإنجليزي. في سنة 1880، ستبلغ هذه النسب 47 % بالنسبة للإمبراطورية و20 % بالنسبة لأمريكا اللاتينية . وبعبارة أخرى، فإن الدول المرتبطة ببريطانيا تمتص أكثر من ثلثي استثماراتها الخارجية. وقد أتبعت الدول الرأسمالية الأخرى مثل فرنسا وألمانيا، نفس الحركة الاستعمارية.
وسعت هذه الظاهرة السوق بطريقتين. أولا عبر إدماج مناطق جديدة في عملية التبادل التجاري حيث أن مناطق بعيدة مثل وسط إفريقيا، أصبحت منذ ذلك الحين مندمجة في الإنتاج التجاري. وحيث أصبحت جميع مناطق العالم تساهم في التبادل السلعي. ثم ثانيا عبر تصدير رؤوس الأموال. حيث كان هذا التصدير خجولا نوعا ما في السابق، إلا أنه سينتشر بسرعة مع نهاية القرن التاسع عشر. وقد أدى هذا العامل إلى تحويل العلاقات الاجتماعية لمناطق مدمجة حديثا أكثر فأكثر إلى علاقات رأسمالية. ذلك لأن رؤوس الأموال المستثمرة تحتم العمل على أساس هذه العلاقات. في مقابل ذلك تم طرد الفلاحين من أراضيهم لمنعهم من العيش على منتجاتهم الطبيعية (منتجات الأرض). حيث يصبحون مضطرين لبيع الملكية الوحيدة التي لازالوا يتوفرون عليها، وهي قوة عملهم. هؤلاء العمال، المحرومون من مواردهم الطبيعية، سيضطرون لاقتناء السلع المقدمة لهم من طرف الرأسماليين. فبهذه الطريقة أيضا تم توسيع السوق.
في نهاية القرن التاسع عشر أتاح هذا التوسع الاستعماري لمختلف الدول الأوروبية الخروج من الأزمة العامة. حيث عاد النمو إلى الانطلاق. فكانت حالات التوقف عن الإنتاج قصيرة ولم تعرقل بشكل حقيقي التطور الاقتصادي.
ومع ذلك، أفرزت الرأسمالية تناقضات هائلة، كما كان شأنها دائما. فميكانيزمات الأزمة الاقتصادية تضل حاضرة دائما من خلال التراكم الرأسمالي واستغلال عمل العمال والشعوب. ولكن بدلا من أن ينحصر أثرها في الدول الرأسمالية الأصلية (أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية) أصبحت منذ ذلك الحين تمتد على المستوى العالمي.
لقد أصبحت المستعمرات رهانا أساسيا بين الدول الرأسمالية تتسابق كلها إلى حيازة أكبر عدد ممكن منها، لأن ذلك يتيح لها، بفضل سياسة حمائية، ضمان نمو مقاولاتها الوطنية. وقد لاحظ لينين أن امتلاك المستعمرات يخول للاحتكارات ضمانات كافية للنجاح على الرغم من كل معوقات الصراع ضد منافسيها. وكلما تطورت الرأسمالية، كلما تزايد إحساسها بندرة المواد الأولية، واحتد الصراع العنيف للسيطرة على المزيد من المستعمرات .
إن المثل البريطاني يبين أهمية السيطرة الاستعمارية بالنسبة للاقتصاد الأكثر قوة في القرن التاسع عشر: فهذه المستعمرات أتاحت تصريف السلع البريطانية وتحقيق استثمارات مربحة كما هو الشأن بالنسبة للسكك الحديدية وجلب المواد الأولية الأساسية الضرورية لتطور الاحتكار مثل القطن الهندي.وقد أدخل الصراع حول المستعمرات الدول الإمبريالية إلى مرحلة تقسيم العالم.
تطورت التناقضات نتيجة ذلك بين هذه الدول. حيث هيمنت الدول الرأسمالية الأولى مثل بريطانيا وفرنسا وبلجيكا وهولندا، على أهم المستعمرات. أما الرأسماليات الحديثة مثل ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية واليابان فلم تتمكن من الحصول عليها. غير أن الاحتكارات الأمريكية، لم تكن تعاني بشكل كبير من هذه المشكلة، لأنها تتوفر على سوق داخلي كبير كان عليها أن تغزوه.
لكن لم يكن الأمر كذلك بالنسبة للباطرونا الألمانية. فهي لا تستطيع الدخول إلى المناطق الأكثر أهمية وعليها الاكتفاء بما يتبقى. وقد وجدت هذه الباطرونا أن هناك عراقيل مهمة أمام تحقيق تراكمها. فلا يمكن لمقاولاتها أن تتطور بشكل أسرع. كما أن هذه الدول، خصوصا ألمانيا والنمسا وهنغاريا في حاجة لمراقبة مناطق جديدة. والوسيلة الوحيدة المتبقية أمامها هي اغتصابها بالقوة من الدول الرأسمالية القديمة. لكن الرأسماليات القديمة لا يمكنها أن تتنازل عن ما يشكل مجالها المحفوظ. فكيف ستعمل إذن على معالجة هذا التناقض؟ إن المخرج الوحيد المتاح هنا هي الحرب.
على أساس ذلك انفجرت الحرب العالمية الأولى. حيث عرت الرأسمالية منذ ذلك الحين على وجهها الحقيقي البشع: فمن أجل أن يحمي الرأسماليون آفاق الربح والتراكم يدفعون بمواطنيهم نحو مذابح حقيقية عمت مختلف أرجاء العالم. ستفقد ألمانيا نتيجة انهزامها مجمل مستعمراتها القليلة. كما سيفرض عليها أداء تعويضات حرب هائلة. أما الإمبراطورية النمساوية الهنغارية فسيتم تفكيكها. أما بالنسبة للإمبراطورية التركية، المعنية هي الأخرى إلى جانب ألمانيا والنمساويين فسيتم اقتسامها فيما بين فرنسا وبريطانيا، على حساب شعوب الدول العربية التي وعدها الإنجليز بالاستقلال.
ثانيا: ظهور الأزمة الهيكلية في ضل الإمبريالية
أدت الحرب إلى تدمير مكثف لقوى الإنتاج. وعلى عكس ما تفيدنا به نظرية ماركس حول الدورات الاقتصادية، فإن ذلك لم يؤدي إلى مرحلة نمو اقتصادي جديدة. فالمجتمع الرأسمالي أصبح في مرحلة أزمة، بفترات صعود وهبوط ولم يحقق الإنتاج العالمي سنة 1923، وهي أحسن سنة بعد الحرب، مستوى سنة 1913. كما أن البطالة كانت قبل الحرب ظاهرة عابرة، أما بعدها فقد أصبحت دائمة .
وفي سنة 1929 انفجرت أزمة البورصات العالمية، مما أدى إلى انهيار شامل لم يعرف العالم مثله من قبل ولم ينج منها سوى الاتحاد السوفيتي الذي فك ارتباطه بالمنظومة الرأسمالية منذ 1917. رمت أزمة عقد الثلاثينات بالملايين من العمال على قارعة الطريق، بدون موارد تقريبا. بلغ عدد العاطلين في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1933 حوالي 13 مليون وبلغ عددهم في ألمانيا حوالي 6 ملايين وفي فرنسا 2 مليون .
لم تعد الأزمات الاقتصادية على شكل ظواهر معزولة تترتب بشكل دوري، حيث أصبحت ذات طابع مزمن. لقد أصبحت الأزمة إذن هيكلية. إنها لا تظهر فقط في حالة غياب تقويم التراكم وفي ضل التطور الفوضوي للرأسمالية. بل تجعل النظام الرأسمالي يبدو كما لو أنه لا يتيح آفاقا للعمال وللمواطنين، وكنمط إنتاج غير قادر على متابعة تطوير قوى الإنتاج وإشباع الحاجيات.
ثالثا: خصائص الأزمة الهيكلية
مصدر هذا الانقلاب هو تحول الرأسمالية من المنافسة الحرة إلى الرأسمالية الاحتكارية الإمبريالية . وقد أدى هذا التحول إلى تحول آخر في طبيعة الأزمة. فإضافة إلى طابعها المزمن، تغيرت خاصية الدورات الاقتصادية الظرفية. فمرحلة الرواج التي تعقب مرحلة التراجع، أصبحت لا تخرج الاقتصاد من ركوده العام كما يتأخر الرواج المنتظر، كما حدث في أزمة 1929. فالأزمات الدورية هي أكثر حدة وأكثر عمقا في الرأسمالية الاحتكارية منها في رأسمالية المنافسة الحرة . فماذا يؤدي إلى تعميق هذه الأزمات في ضل الإمبريالية؟ لماذا الأزمات الاقتصادية لم تعد ظرفية فقط وأصبحت هيكلية؟ بمعنى لماذا اكتسبت طابعا مزمنا؟
(1) – تحطيم قوى الإنتاج أصبح صعبا في ضل الاحتكارات:
المقاولات التي أصبحت تدخل في منافسات ضارية لم تبقى عبارة عن شركات متوسطة. بل أصبحت شركات ضخمة. فاللجوء إلى حل تحطيم قوى الإنتاج كوسيلة لمعالجة الأزمة تعني إفلاس الاحتكارات. فاختفاء شركة صغيرة أو متوسطة، لا يطرح العديد من المشاكل على الرأسماليين، حتى وإن كان الأمر يعني رمي العمال إلى الشارع. لكن بالنسبة للاحتكارات، فإن الأمر مختلف تماما.
فالاحتكارات تتوفر على هيمنة حقيقية على السوق. حياة أو موت المقاولات يعتبر أمرا عاديا في الرأسمالية حيث يختفي الضعيف ويبقى القوي، وحيث يحاول كل رأسمالي الحفاظ على وجوده وتراكمه. ويحاول الرأسمالي الصغير الالتفاف على قوانين السوق ومن خلال هذه المنافسة الحرة تولد الاحتكارات.
وبدلا من خضوع الاحتكارات لقواعد السوق، فإنها تستعملها لصالحها وتحاول إلغاء الآثار التي تعرقل أنشطتها، فبهذه الطريقة تحاول الحد من منافسة الاحتكارات الأخرى، التي تهددها بقوة. أو تعمل على تشكيل كارتيلات للحد من الانهيارات الحادة في الأسعار، المرتبط بصعوبات تصريف المنتجات أو تعمل أيضا على خلق سوق داخلية محمية من التدهور.
كما تتوفر الاحتكارات على روابط وثيقة مع السلطات المهيمنة على جهاز الدولة، حيث يصبح دور هؤلاء هو حماية المقاولات الوطنية الكبرى ضد المنافسة الأجنبية. وعند الحاجة، إذا كانت الشركات الوطنية في ضائقة، فإن السلطات العمومية يمكنها إما أن تقديم نقود مقتطعة من العمال من أجل إنقاذها، أو فرض رسوم جمركية من أجل التخفيف مؤقتا من ضغط المنافسين الأجانب.
تتضافر جميع هذه المبادرات لتفادي إقفال الشركات الاحتكارية الكبرى. لكن الخروج من الأزمة في هذه الظروف عبر تحطيم القوى الإنتاجية، أصبح يطرح إشكالية معقدة. ففي فترة الأزمة، تعمل الاحتكارات على تدمير المنتجين الصغار، والإلغاء المكثف للأشكال ما قبل الرأسمالية للإنتاج، وتحطيم منتجي دول العالم الثالث، الخ ... وإذا تعمقت الأزمة أكثر فلا يكفي لعلاج المشكل إقفال بعض الأوراش ولا حتى بعض المعامل. كما أنه في مرحلة معينة، لا يبقى في الساحة سوى عدد قليل من الاحتكارات على المستوى الدولي، المنطق الرأسمالي يفرض تدمير آخر لوسائل الإنتاج ولقوى الإنتاج. ويترتب ذلك بطبيعة الحال من جراء تعميق الأزمة التي حدثت بسبب تعمق تناقضات النظام.
إن عمليات الاندماج بين الشركات الاحتكارية الكبرى باتت تشكل جوابا جزئيا عن هذا المشكل. فمن جهة، يتم إلغاء منافسين من خلال إدماجهم في شركات أكبر، بحيث يصبح احتكارا ذو أهمية أكبر. ثم إن اندماج رأس المال يشجع أيضا، ليس فقط، على عقلنة أكبر للإنتاج، من خلال إلغاء المصانع والورشات، وتركيز الإنتاج على عدد أقل من المصانع، ... الخ، وإنما كذلك عن طريق تسريح أكبر للعمال. ويكرس من جهة أخرى الاحتكار، لأن قدرات الإنتاج لم تختف، وإنما انتقلت نحو وحدات أكبر، وأكثر تنافسية. فضرورة إلغاء أحد هذه الاحتكارات أصبح بذلك أكثر قوة، إلا أنها تتمكن من الهروب بشكل أفضل من قوانين السوق والحصول بالتالي على دعم غير مشروط من طرف سلطات دولها. وبهذه الطريقة يتم نقل تناقضات النظام الرأسمالي نحو مستوى أعلى.
(2) – توسيع السوق أصبح محدودا مع تطور الإمبريالية:
أصبح توسيع السوق أكثر صعوبة في ضل الإمبريالية منه في ضل رأسمالية المنافسة. ففي ضل رأسمالية المنافسة كان من الممكن بالنسبة لدولة في حالة أزمة اللجوء إلى التجارة الخارجية لتصريف منتجاتها، التي لا تجد من يشتريها في نفس البلد. فبهذا الأسلوب توسعت الرأسمالية عبر أوروبا خلال القرن التاسع عشر، ثم عبر العالم مع نهاية هذا القرن. لكن الإمبريالية غيرت إمكانياتها.
فمن جهة أصبحت جميع الدول تشارك في تجارة السلع، مما جعل السوق تصبح عالمية. وهذا يعني أن الصراع من أجل بيع المنتجات الرأسمالية أصبح عالميا أيضا، فحتى دول العالم الثالث أصبحت تنافسية في مجال الصادرات، وقد أدى كل ذلك إلى أن تصبح إمكانية توسيع السوق محدودة واكثر ضيقا.
من جهة أخرى، تحولت علاقات الإنتاج السائدة في جميع الدول إلى علاقات رأسمالية، حتى وإن كانت دول العالم الثالث لا تزال تنطوي على الكثير من الإقطاعيات. فالاحتكارات تدمر بكثافة القوى الإنتاجية الأخرى، سواء تعلقت بالأشكال ما قبل الرأسمالية، أو بمنتجات باطرونا ضعيفة جدا، وهي البرجوازيات المحلية للبلدان الفقيرة. وفي هذا الإطار تتم بلترة العمال الذين يحرمون من وسائل وجودهم، بمعنى عمال لا يملكون سوى قوة عملهم لبيعها. إضافة إلى ذلك، فإن المقاولات الكبرى ترغم العمال على استهلاك منتجاتها. ففي إفريقيا، حيث يصعب إيجاد الماء، ينتشر شرب الكوكا كولا على طول القارة وعرضها.
بهذه الطريقة يتم توسيع السوق، لكن إمكانيات النمو تضل محدودة أكثر فأكثر. بطبيعة الحال، لم يتحقق توسيع السوق دفعة واحدة. وإنما تطور بشكل أساسي في فترة ما بين الحربين في الولايات المتحدة الأمريكية. وفي أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، ثم أخيرا وتدريجيا نحو دول العالم الثالث في ضل تطور قروض الاستهلاك والنهب المتزايد للدول الفقيرة، خصوصا بالنسبة لدول آسيا الشرقية وأمريكا اللاتينية.
فمن خلال زيادة الواردات في دول العالم الثالث حدث الاندماج المتزايد لهذه الدول في السوق العالمي الذي تهيمن عليه الشركات متعددة الاستيطان. فحصة الدول الفقيرة في الواردات العالمية انتقلت من 21,5 % سنة 1973 إلى 35 % سنة 1996. وتبقى البلدان الآسيوية هي التي شهدت التقدم الأكثر قوة. فقد انتقلت حصتها في الواردات من 6,8 % سنة 1973 إلى 14,8 % سنة 1991 ثم إلى 19,3 % سنة 1996. كما ارتفعت حصة المكسيك بقوة من 0,7 % سنة 1973 إلى 1,5 % سنة 1991 و 1,8 % سنة 1996 .
فإلى غاية سنة 1980، كان هناك تقنين قوي للواردات في هذا البلد (رسوم جمركية مرتفعة، منع استيراد بعض السلع، ... إلخ). لكن مع بداية عقد التسعينات، تم تحرير 90 % من الواردات لصالح الشركات متعددة الاستيطان الأجنبية، وخصوصا الأمريكية نفس الملاحظة يمكن إبدائها بخصوص المغرب حيث تزايدت وارداته بقوة مع الشروع في تطبيق سياسات التقويم الهيكلي سنة 1983 وما واكبها من تفكيك للرسوم الجمركية وإلغاء الترخيص بالاستيراد.
إن هامش تحويل العلاقات ما قبل الرأسمالية إلى علاقات سوقية في خدمة الاحتكارات تقلص بشكل كبير. فقد تحقق هذا الانتقال في الدول الغنية، في إطار "مجتمع الاستهلاك" الذي جعل الناس يخضعون بشكل كامل للمنتجات المصنعة من طرف الاحتكارات. أما في دول العالم الثالث، فقد حدث هذا الانتقال عبر قيام الشركات متعددة الاستيطان بتصريف مكثف لسلعها، على حساب المنتجات المحلية.
لكن هذا الانتقال الأخير لم يحدث بدون مشاكل، لأن عمال دول العالم الثالث لا يمكنهم استهلاك السلع نظرا لضعف قوتهم الشرائية. فمثلا، عملية اللبرلة في المكسيك خلصت إلى خسارات هائلة في مناصب الشغل، حيث انتقل عدد الفقراء من 19 % سنة 1984 إلى 24 % سنة 1989 ثم إلى 30 % سنة 1996. ومع وصول المنتجات الفلاحية للولايات المتحدة، انهارت أسعار الذرة، الشيء الذي هدد معيشة من 700 إلى 800.000 مزارع مكسيكي. ثم إن أزمة البيزو في سنة 1994-1995 كلف أكثر من مليون منصب شغل للبلاد . يمكن الحديث عن نفس الظاهرة في المغرب أمام اكتساح المنتجات الأجنبية لبلادنا منذ أواسط عقد الثمانينات حيث تفاقم عدد الفقراء والعاطلين شملت حتى حاملي الشهادات العليا. ويرتبط هذا البؤس المزمن في العالم الثالث، بشكل وثيق بعملية التراكم الرأسمالي العالمي، وهو يؤدي إلى تراجع كبير في إمكانيات توسيع السوق. لقد أصبح عالم اليوم مقسما إلى مناطق نفوذ. فقد استطاعت الإمبريالية أن تجعل جميع الدول الرأسمالية المتطورة تمتلك أراض أو مناطق نفوذ تتمتع فيها احتكاراتها بمجال أكثر أو أقل حماية. وهكذا، منذ بداية القرن العشرين، لم تعد هناك منطقة لم تبق خاضعة لهيمنة إحدى الإمبرياليات.
إن أي دولة رأسمالية لا يمكنها الخروج من الأزمة إلا عبر تملك مناطق نفوذ جديدة تخولها إمكانية تصريف منتجاتها. ولن تستطيع هذه الدولة القيام بذلك إلا إذا عملت على انتزاع مثل هذه المنطقة من دولة رأسمالية أخرى تعرض إمكانية بيع فوائض سلعها إلى التراجع. إن معالجة الأزمة عبر توسيع السوق أمام مجموعة من احتكارات دولة إمبريالية معينة يؤدي مباشرة إلى تعميق الأزمة لدى مجموعة أخرى من الاحتكارات الكبرى لدولة إمبريالية أخرى.
(3) – الأزمة الهيكلية تقود إلى الحرب:
الأزمة الاقتصادية أصبحت إذن هيكلية، لأن إمكانيات البرجوازية المعتادة لمعالجة تراجعها الاقتصادي أصبحت شديدة الصعوبة. فمن جهة، أصبح تدمير القوى الإنتاجية يصطدم بالتنظيم الاحتكاري للاقتصاد العالمي وأنه، في إطار هذا الكفاح من أجل الزعامة، تتلقى دعما غير مشروط من طرف دولها. في هذه الحالة، فإن إقفال هذه الاحتكارات أصبح شديد التعقيد. فاليابان لن تترك شركات مثل طويوطا وهوندا وسوني وميتسوبيشي تختفي. كما أن الولايات المتحدة ستدافع بكل ما أوتيت من قوة عن شركات مثل جنرال موتورز وفورد وميكروسوفت وإيكسون – موبيل وإيبيم أو أنتيل. كما أن أوروبا ستحمي شركات مثل باسف وشيل والإيرباص. فليس غير الحرب، بمعنى التدمير الإجباري، الذي يمكنه أن يلغي إذن بشكل كامل قوى الإنتاج لكي تتحقق مطابقة وضعية الإنتاج مع وضعية الاستهلاك.
من جهة أخرى، حدثت عرقلة أخرى أمام توسع السوق تمثل في كون العالم أصبح يخضع أكثر فأكثر لقوانين الإنتاج من أجل السوق. فهذه العولمة تقلص بقوة آفاق توسيع السوق. الإمكانية الوحيدة التي تتبقى أمام الرأسماليين هي الاستئثار بالسوق على حساب المتنافسين الآخرين. فمثلا، في ضل أزمة عميقة مستمرة أكثر من سبع سنوات تحاول الشركة متعددة الاستيطان اليابانية Archipel nippon تصريف أكبر جزء من منتجاتها في الولايات المتحدة الأمريكية. لكنها، بهذا الشكل، تحرم الاحتكارات الأمريكية من جزء مهم من سوقها الداخلي. وقد هدد كاتب الدولة الأمريكي في التجارة اليابان بعقوبات اقتصادية. إن هذه الصراعات القائمة بين الولايات المتحدة الأمريكية واليابان وأوروبا والتي تتخذ اليوم منعرجا تجاريا واضحا من شأنها أن تحتد في المستقبل إلى درجة أن تتخذ طابعا مسلحا خصوصا عندما تصبح التناقضات غير قابلة للحل وعندما تتدارك أوروبا واليابان تأخرهما على المستوى العسكري.
وسواء كان الاختيار هو تدمير قوى الإنتاج أو توسيع السوق، فإن حلول الباطرونا لمعالجة الأزمة تنتهي بشكل حتمي إلى الحرب، أي إلى الطريق الأكثر بربرية، واللاإنسانية وغير العادلة وغير الفعالة. الرأسمالية والإمبريالية تحاول بطبيعة الحال أن تصبح مصدرا لمذبحة بدون اسم تدمر ليس فقط البنايات والمصانع والسلع والمنتجات، وهي حصيلة العديد من سنوات العمل، ولكن أيضا وعلى الخصوص ملايين الرجال وعائلاتهم.
خامسا: طبيعة الأزمة الاقتصادية الحالية:
يمكن التمييز في إطار النظام الرأسمالي بين ثلاث أنواع من الأزمة: الأزمات الظرفية والأزمة الهيكلية ثم الأزمة العامة للرأسمالية وفيما ياي لمحة سريعة عن عن هذه الأنواع:
(1) – الأزمة الاقتصادية الظرفية:
هناك حقيقة أكدتها مختلف المدارس الاقتصادية، كالمدرسة الكلاسيكية والمدرسة الماركسية والمدرسة الكينيزية على الرغم من اختلاف منطلقاتها وتوجهاتها، وتتمثل هذه الحقيقة في أن معدل الربح يتجه في النظام الرأسمالي في الأجل الطويل نحو التدهور .
وتؤكد هذه الظاهرة ما يعرف بنظرية الدورة الاقتصادية، سواء القصيرة الأمد المكونة من ثلاث سنوات (دورة كيتشن) أو المتوسطة المتراوحة ما بين سبعة إلى عشر سنوات (دورة جاجلر ) أو الطويلة المكونة من خمسين أو ستين سنة (دورة كوندراتيف)، فنظرية الدورة الاقتصادية تفسر باتجاه معدل الربح نحو التناقص، حيث تبدأ الدورة الاقتصادية عموما بمرحلة قصيرة نسبيا من الإزدهار تم يليها بعد ذلك مرحلة طويلة نسبيا من الأزمة. من هنا صيغت المقولة الشهيرة التي تؤكد على أن تاريخ الرأسمالية عبارة عن سلسلة من الأزمات الدورية الظرفية.
وعلى العموم فإن اتجاه معدل الربح نحو التناقص على المدى الطويل يحدث نتيجة التفاوت بين قدرة النظام الرأسمالي الكبيرة على الإنتاج والتراكم المالي من جهة، وبين التدهور الكبير في القدرة على التصريف والاستهلاك نتيجة سوء توزيع الدخل الوطني وتدهور القدرة الشرائية لدى العمال الذين يشكلون القوة الاستهلاكية الرئيسية للنظام من جهة أخرى. وتتجسد الأزمة في انتشار الكساد وتجميد الأجور وتسريح العمال وتفاقم حدة البطالة وتراجع مستوى الاستثمار وتفاقم معدلات التضخم. من هنا يشرع النظام في البحث عن سبل تدبير أزمته بدلا من علاجها، حيث يكون الهدف هو إنتاج نفس الشروط السابقة للإنتاج والتراكم على الصعيدين الداخلي والخارجي ثم السقوط بعد ذلك في أزمة جديدة.
ويشكل التفاوت الدائم بين القدرة الهائلة على زيادة حجم الإنتاج وبين القدرة المحدودة على تصريف المنتجات، تناقضا أساسيا يهدد النظام الرأسمالي بعدم التوازن وبصعوبات تكرار الإنتاج الموسع واندلاع الأزمات، لذلك يصبح تصريف فائض الإنتاج داخل الاقتصاد الرأسمالي مع مرور الوقت مستحيل نتيجة هيمنة رأسمالية الاحتكارات فيصعب تدمير قوى الإنتاج. لذا فإن حل هذا التناقض يصبح بالأساس خارجيا، أي توسيع السوق خارج دائرة الاقتصاد الوطني، وفي بيئات غير رأسمالية، أي في مناطق وبلاد لم تتحول بعد إلى النظام الرأسمالي، لأنه لو تمت محاولة التصريف في بيئات رأسمالية مماثلة ، فإن المشكلة تستفحل أكثر.
(2) – الأزمة الاقتصادية الهيكلية:
انطلاقا من سنة 1873، اتخذت الأزمة الاقتصادية طابعا هيكليا، مرتبطة بالتناقضات التي طورتها الرأسمالية. فالمنافسة الحرة أصبحت تنتج احتكارات وتمركز الشركات في وحدات كبرى تقاوم محاولة تدميرها بواسطة ميكانيزمات السوق. كما أن توسيع السوق أصبح كونيا، فلم تعد الأزمة تعالج عبر تحطيم قوى الإنتاج، هنا تحولت الأزمة إلى أزمة اقتصادية هيكلية ذات طابع مستمر ومزمن. وبذلك احتدت تناقضات النظام. وقد شهد التاريخ الاقتصادي الرأسمالي هذه الأزمات فيما بين 1873 و1895، وفي الفترة المتراوحة ما بين الحربين العالميتين ومنذ سنة 1973 الى الآن.
تعمقت التناقضات بسبب الأزمة الاقتصادية الهيكلية وتبين بأن الرأسمالية لم تتمكن من الخروج منها. كما أن الحلول التي لجأت إليها هذه الأخيرة هي الاستغلال على المستوى الكوكبي، وتعميم البؤس والحرب. وانطلاقا من طبيعتها الاقتصادية أصبحت الأزمة سياسية أيضا. حيث شكلت هذه الأزمات أرضية خصبة لانفجار الثورات الجماهيرية، وبالتالي الانقلاب على الأنظمة الرأسمالية واستبدالها بأخرى الاشتراكية.
وقد أكد ماركس، على الارتباط القائم بين الأزمة الاقتصادية والإمكانيات الثورية. فالأزمة الاقتصادية، حتى وإن كانت ظرفية، تتضمن في طياتها بوادر إفلاس الرأسمالية. فهي تبين بأن هذا النظام غير فعال وغير عادل. فهو يدمر قوى الإنتاج، ويرمي إلى الفقر شرائح واسعة من العمال، الذين يفقدون عملهم، ويحرمون من وسائل العيش. فالأزمات أصبحت بذلك مناسبة للثورة المبررة من طرف الطبقة الكادحة.
(3) – الأزمة العامة للرأسمالية:
المقصود بالأزمة العامة للرأسمالية الطابع المستمر والكوني للأزمة في زمن الإمبريالية وثورة البروليتاريا. ويستعمل هذا المفهوم لوصف عملية تفكك النظام الرأسمالي العالمي عندما تنتشر تناقضات الأزمة في مختلف أسس النظام البرجوازي: الاقتصادية والسياسية والإيديولوجية .
في ضل الإمبريالية، تحتد بقوة أربع تناقضات أساسية، مدفوعة أيضا بتفاقم الأزمة الاقتصادية الهيكلية: وهي التناقضات القائمة بين الباطرونا والعمال، وبين الدول الإمبريالية وشعوب العالم الثالث، وبين الرأسمالية والاشتراكية، وأخيرا بين الدول الإمبريالية والاحتكارات. وقد تعمقت هذه التناقضات إلى غاية الحربين العالميتين الإمبرياليتين حيث تم قلب النظام الرأسمالي في بعض الدول التي تفاقمت فيها الأزمة العامة للرأسمالية. حيث ظهرت ضرورة تجاوز الرأسمالية، ذلك لأن عملية معالجة التناقضات في قلب النظام أصبحت عنيفة وقاتلة. وفي مقابل ذلك، برز نمط إنتاج آخر، ومجتمع آخر، هي الاشتراكية، التي يديرها العمال، وقد شكل ذلك نموذجا واضحا لمسار التاريخ الذي سينتهي باقصاء الرأسمالية وسيادة الاشتراكية. فالأزمة العامة للرأسمالية تفتح المجال للثورات.
انفجرت الأزمة الاقتصادية الهيكلية الحالية سنة 1973. ومنذ ذلك الحين، لم تتمكن البرجوازية العالمية من التخلص منها وشيئا فشيئا بدأت تتعمق مظاهر الأزمة العامة للرأسمالية وتطال مختلف مظاهر الحياة المعاصرة. فقد تعاقبت الانهيارات في سنوات 1973 – 1974، و 1979 – 1982، و 1991 – 1993، و1997 – 1998 و 2000 – 2001 حيث احتدت جميع تناقضات النظام الرأسمالي فتعمقت الأزمة العامة للرأسمالية. وفيما يلي مظاهر احتداد التناقضات الأربعة للرأسمالية:
أ – تزايد الاستغلال الرأسمالي للعمال:
كثفت الباطرونا كعادتها، أكثر من استغلال العمال بهدف الزيادة في فائض القيمة المستحوذ عليه. فقد مددت يوم العمل من خلال الساعات الإضافية. كما عملت على تجميد الأجور، وتقليص الجزء غير المباشر منها، كالجزء الموجه إلى تمويل واجبات الضمان الاجتماعي. وهكذا، تعمل البرجوازية بدون توقف على "عقلنة" الإنتاج من أجل زيادة الإنتاجية وتكثيف العمل.
ففي الفترة المتراوحة ما بين 1991 و1997، فقد 832.000 عامل عملهم في 200 مؤسسة من بين أكبر الشركات الصناعية متعددة الاستيطان. كما أتاح ذلك زيادة معدل الربح الذي تراجع سنة 1991 إلى 7,21 % ، نحو 15,51 % سنة 1997. كما كان للاندماجات التي حدثت بين العملاقين البتروليين إيكسون وموبيل مثلا، نفس الهدف. فمن بين 123.000 عامل في هاتين الشركتين تم تسريح 9.000 عامل. كل ذلك من أجل رفع أسعار أسهم المؤسسة الجديدة في البورصات العالمية. كما أنه عقب شراء المجموعة الفرنسية طوطال لشركة "بطروفينا"، تم تسريح 1.000 عامل. وقد انخفضت في سنة 1998، مناصب الشغل بسبب إعادة الهيكلة بحوالي 625.000 منصب في الولايات المتحدة الأمريكية وهو أكثر من الرقم القياسي الذي سجل سنة 1993 .
تتجلى انعكاسات الأزمة الرأسمالية في التدهور الاجتماعي على الصعيد العالمي، فاختيارات الحياة والاستهلاك أصبحت ضيقة بالنسبة للملايين من الأشخاص. والمقصود بمصطلح "الإقصاء" الحرمان الواسع من الاستهلاك والعمل. فإذا كانت مستويات الاستهلاك الغذائي مرتفعة، فهناك كذلك شرائح واسعة من السكان سيئو التغذية ويعانون من مخاطر انعدام الأمان. وتعمل خوصصة المرافق العمومية في الدول الصناعية على مضاعفة هذه الاختلالات العامة.
فنتيجة الاستغلال الرأسمالي والأزمة يعاني 800 مليون من البشر من المجاعة عبر العالم. وكما تشير إلى ذلك تقارير التنمية البشرية يعاني 30 مليون مواطن أمريكي، من بينهم 13 مليون طفل، من صعوبة الحصول على الطعام الذي يحتاجونه. وعلى العموم هناك 34 مليون شخص يعانون من المجاعة في الدول الرأسمالية المتقدمة. وتشير التقارير إلى أن 26 مليون يوجدون في نفس الوضعية يقطنون البلدان المتحولة نحو نظام السوق.
ومع تعمق الأزمة وأمام الوضعية غير العادلة وغير الإنسانية التي أصبحت الجماهير والعمال تعيشها في كل مكان بدأت تبرز بقوة مظاهر جديدة للمقاومة والثورة انطلقت منذ أواسط عقد التسعينات من القرن الماضي. فالعمال يناضلون ضد انعدام العدالة التي يتعرضون لها، و الجماهير التي تعيش نفس الوضعية المتدهورة في كل مكان، تنتفض على تفاحش استغلال الشركات متعددة الاستيطان.
ب – تزايد نهب العالم الثالث:
كما هو شأنها دائما تضل البرجوازية العالمية في حاجة دائمة للاستحواذ على فوائض القيمة المتولدة في دول العالم الثالث لتغذية تراكمها. ويتحقق ذلك بفعل الاستغلال المتزايد والنهب الواسع للموارد. حيث تم خنق جميع بلدان العالم الثالث تقريبا بواسطة المديونية. وشرعت المؤسسات الدولية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والمنظمة الدولية للتجارة، بمطالبتها، بفتح حدودها أمام رأس المال متعدد الاستيطان، وإلغاء الإنفاق الاجتماعي الذي كان يخفف شيء ما من بؤس العمال ودفعها إلى خوصصة مرافقها العمومية لفائدة البرجوازية العالمية. ورغم الانتخابات التي تقام لاختيار البرلمانات والحكومات في العديد من هذه البلدان، فإن المؤسسات المالية الدولية هي التي تدير فعليا، باسم الأبناك والشركات متعددة الاستيطان وحكومات الدول الغربية واليابان، سياسة هذه الدول، كما أن المساعدات الحالية، التي يتم الادعاء بأنها من أجل انقاد الدول الأكثر مديونية مثل التايلاند واندنوسيا وكوريا الجنوبية وروسيا والبرازيل، والتي ترمي أكثر بالعمال في مجاهل الفقر، تستهدف في الواقع حماية النظام المالي الدولي والدول الإمبريالية من الأزمة.
تطور إجمالي الدين الخارجي لبلدان العالم الثالث
بالمليار دولار والنسب المئوية
2000 1990 1980 1970 السنوات
2.492,0 1.458,4 609,4 72,8 إجمالي الدين الخارجي
398,9 163,8 93,4 9,2 حصة خدمة الدين
39,1 34,1 21,0 10,91 نسبة الدين إلى الدخل الوطني
18,1 18,1 13,5 نسبة خدمة الدين إلى الصادرات
Source : World, Global Development Finance, différentes années.
تعمل البرجوازية العالمية أيضا على القضاء على أي منافسة ممكنة تنشأ في بلدان العالم الثالث. ونتيجة لذلك أصبحت الباطرونا في آسيا الشرقية تؤدي تكاليف برامج صندوق النقد الدولي التي فرضت عليها عقب الأزمة الآسيوية. فمجموعات "الشايبول" الكورية الجنوبية مثل "هونداي" وسامسونغ" و"دايو" أو "ل ج" والتي تطورت سريعا لكي تصبح شبه متساوية مع الشركات متعددة الاستيطان الغربية واليابانية، أصبحت مجبرة على التخلي عن جزء من أنشطتها. وقد كانت هناك خمس مجموعات لصناعة السيارات في كوريا الجنوبية فلم يتبقى منها سوى اثنان: "هونداي" و"دايو". كذلك تقلصت المصانع الإلكترونية إلى ثلاثة: "هونداي"، "سامسونغ" و"ل ج" فنصف فروع مجموعات الشايبول إما تم بيعها أو إقفالها..
نفس الشيء حدث في اندنوسيا حيث تم القضاء على مشروع صناعة سيارة وطنية بكل بساطة بقرار من صندوق النقد الدولي تحت أوامر الأبناك الغربية. فقد عملت هذه الأخيرة على تدمير القاعدة الاقتصادية للدكتاتور سوهارتو، التي نصبته المخابرات الأمريكية المركزية (السيا) سنة 1965 تصفية نصف مليون على الأقل من التقدميين والشيوعيين. وقد استطاعت عائلة سوهارتو من خلال تواجدها في السلطة، تأسيس إمبراطورية تمتد إلى جميع دوائر الحياة الاقتصادية الاندنوسية. وتمكنت نسبيا من التخفيف على المواطنين، عبر توفيرها للأرز للسكان بأسعار رخيصة بفضل إعانات الدولة. لكن صندوق النقد الدولي طالب بإلغاء هذه المساعدات. الشيء الذي جعل العمال يفقدون هذا المصدر الغذائي. وقد انتقل عدد الفقراء في هذه البلاد من 20 إلى 80 مليون نسمة.
وتعمل الإمبرياليات جادة حاليا للقضاء على كل مظاهر الاحتجاج في العالم الثالث، بشكل يؤدي إلى تفادي كل مقاومة لإرادتها لزيادة تحويل الثروات نحو الدول الغنية. لأجل ذلك. فالإمبريالية تعمل بشكل مستمر للمحافظة على أسعار المواد الأولية في مستوى منخفض جدا، وذلك هو ما يفسر الاجتياح العسكري الأمريكي البريطاني للعراق، أهم بلد في مجال إنتاج البترول، وحيث كان من شأن هذا البلد أن يشكل نموذجا للتنمية المستقلة في نفس الوقت الذي كانت فيه الإمبريالية تسعى إلى إخضاعه الثالث لإرادتها.
وتعمل الإمبريالية على القضاء أيضا على حركات التحرر الوطني في دول العالم الثالث، كتدخلها لمواجهة المتمردون في المكسيك وكولومبيا والبيرو وتركيا والهند والفلبين. ويبين هذا الواقع بأن مصالح الإمبرياليات تأتي لتصطدم بقوة مع حاجيات السكان، وهو ما يؤجج حدة التناقضات بين الدول الفقيرة والإمبرياليات، ويعتبر هذا هو المستوى الثاني من التناقضات الذي لا يمكنه إلا أن يتزايد.
(3) –تطلع الإمبريالية في القضاء نهائيا على الاشتراكية:
يعتبر من المنطقي جدا أن تسعى البرجوازية إلى القضاء على التجارب الاشتراكية القائمة، من جهة للقضاء على النموذج الإنساني المناقض والمزعج لها ومن جهة أخرى لتحويل البلدان الاشتراكية إلى أسواق للمنتجات الرأسمالية. وقد سبق للباطرونا أن نجحت في قلب الاتحاد السوفيتي ودول أوروبا الوسطى. وتلجأ في هذا الصدد إلى تاكتيكين اثنين حيث تعمل من جهة على التغلغل في الدول الاشتراكية لإدماجها في السوق العالمي، وتعمل من جهة ثانية على عزل وتهميش إن لم نقل الإبادة العسكرية، لبعضها الآخر.
وتتبع السياسة الأولى في الصين، التي تشكل سوقا مغرية تضم أكثر من مليار مستهلك. لكن العراقيل الموضوعية التي تحد من اختراق الرأسمالية للصين تشكل فرامل قوية أمام التراكم الرأسمالي للبرجوازيات الغربية. فالصين تشكل بالنسبة لأغلبية المقاولات الكبرى، أحد الأسواق المستقبلية المهمة. وقد استطاعت أغلبية هذه المقاولات أن تتوفر على موطأ قدم في هذا البلد. لكن الكثير منها عبر عن تدمره أمام صعوبات تحقيق أرباح غزيرة في الصين والعراقيل التي تقف أمام إعادة توطينها لفائدة مالكي رأس المال.
أما فيما يتعلق بكوبا وكوريا الشمالية، فتحاول الإمبريالية التخلص منها بسرعة، لذلك نشاهدها تعزز حصارها وعزلها والتهديد باجتياحها، أملا في التوصل إلى خنقها بشكل نهائي.
يبدو أن هذا التناقض الثالث القائم بين الرأسمالية والاشتراكية، آخذ في الاحتقان مع اشتداد الأزمة. فالرأسمالية تطمح للقضاء على الاشتراكية نهائيا، بينما تطمح الجماهير في كل مكان إلى عودة الاشتراكية للحلول محل الرأسمالية. ورغم ذلك لا يمكن تجاهل رواسب انهيار سور برلين وأثره على الحركة الثورية في العالم.
(4) – احتدام الصراع بين الإمبرياليات:
التناقضات القائمة بين الإمبرياليات هي الأخرى في تزايد مستمر. فإذا كانت البرجوازية العالمية متفقة على طريقة معالجة التناقضات الثلاثة الأولى، حول تشديد استغلال العمال، وانتزاع فائض قيمة دائما أكبر من بلدان العالم الثالث، وحول التخلص من التجربة الاشتراكية، إلا أنها لم تحدد لصالح من سيحسم كل ذلك؟ هاهنا يحتد الصراع فيما بين الاحتكارات وفيما بين القوى التي تدعمها. وفي مواجهة الكعكة التي تتقلص أكثر مع الأزمة الاقتصادية، يسعى الرأسماليون إلى الحصول على أكبر حصة، وذلك على حساب منافسيهم الآخرين. ومن شأن هذا الصراع أن يصبح عنيفا بحيث يتم اللجوء إلى القوة كما حدث خلال الحربين العالميتين الأخيرتين.
لقد شكلت حالة العراق مثالا لاحتداد التناقض بين الإمبرياليات. فإذا لم تبدي الإمبرياليات الأوروبية أي اعتراض على غزو أفغانستان فإنها لم تكن متفقة كلها على غزو العراق والاستحواذ على مصادره النفطية من طرف الولايات المتحدة وبريطانيا وحدهما.. وفي المقابل، فإن الامبرياليتين الفرنسية والألمانية تنتقدان تدخل الولايات المتحدة الأمريكية ومحاولتها فرض نظرتها الهيمنية على الكوكب كله، وفي نفس الوقت تحاولان انتزاع حق حصول شركاتها متعددة الاستيطان على حقوق مماثلة لمكتسبات الشركات متعددة الاستيطان الأنغلوا أمريكية. لأجل ذلك لم تدعم هاتين الامبرياليتين، كمبدأ عام، استعمال القوة من طرف جورج بوش الابن بينما تضل تساومه في الكواليس من أجل التنازل لشركاتها متعددة الإستيطان عن بعض المكتسبات مقابل شرعنه التواجد الأمريكي في العراق. وعبر هذا الموقف، فإنها تعلن، من جهة، عن موقفها المعارض للهيمنة وتقدم نفسها كبديل ممكن، كإمبريالية أخف، أقل عدوانية (وهو أمر غير صحيح، لأن الدول الأوروبية هي التي استعمرت العالم). من جهة أخرى، فإنها تمهد الطريق للعودة إلى السوق البترولية الشرق أوسطية. فالشركة متعددة الاستيطان الفرنسية طوطال حاصلة على امتياز في إيران وكانت تتوفر على اتفاقية نفطية مع العراق. بهذه الطريقة، فإن أوروبا يمكنها أن تأمل في أن تشركها واشنطن في مراقبة هذه المنطقة. إلا أن التناقضات بين الدول الإمبريالية عامة لن تتوقف عن الاحتداد مع استمرار الأزمة الاقتصادية.
سادسا: مخاطر حرب إمبريالية عالمية ثالثة:
إذا كانت الحرب هي استمرار للسياسة، فيجب الانكباب على دراسة السياسة التي تسبق الحرب، ومعلوم أن السياسة إذا كانت إمبريالية، بمعنى إذا كانت تدافع عن مصالح الرأسمال المالي (أو الاحتكارات)، عبر نهب وقمع الشعوب والمستعمرات والدول المنافسة، فإنها تؤدي حتما إلى الحرب، فالحرب المترتبة هنا تعتبر حربا إمبريالية. وإذا كانت سياسة المقاومة والتحرر الوطني، القائمة على حركة جماهيرية واسعة ضد القمع السائد، فإن الحرب المتولدة عنها تعتبر حرب تحرير شعبية . وهكذا فإن الحرب بين الدول الإمبريالية أو حرب دولة رأسمالية للسيطرة على ثروات شعوب أخرى تعتبر إمبريالية. أما الحرب التي تعترض على هذه السياسة فتعتبر حرب تحرير شعبية.
إمكانية حدوث حرب إمبريالية عالمية، ستكون نتيجة لاحتداد التناقضات في قلب النظام، وترتبط بشكل وثيق بالأزمة العامة للرأسمالية. ومن شأن هذه الحرب تسريع تطور وعي العمال والشعوب بحقيقة أن هذا النظام لا مستقبل له. كما تضعف هذه الحرب، في نفس الوقت، الرأسمالية، وتتيح للطبقة العاملة الفرصة التاريخية للثورة المضفرة لقلب الدولة الرأسمالية. من هنا يجب أن تفهم الثورة الاشتراكية على مستوى عالمي: حيث يتحول كل نضال بروليتاري إلى ضربة إلى البرجوازية، ويحقق كل انتصار يستفيد من ضعف الرأسمالية إلى قوة إضافية للطبقة العاملة. وحيث يشكل كل انتصار للعمال الأزمة العامة للرأسمالية.
لقد شكلت الحروب الإمبريالية العالمية السابقة فرصة تاريخية لانتقال الشعوب نحو الاشتراكية. فخلال الحرب العالمية الأولى، ولد الاتحاد السوفيتي، وقد لعبت خيانة الساسة الديموقراطيين الاجتماعيين دورا في عدم التحاق هنغاريا وألمانيا بالدول الاشتراكية في ذلك الحين. كذلك استطاعت أوروبا الشرقية والصين وكوريا والفيتنام، خلال الحرب العالمية الثانية، فك الارتباط مع النظام الرأسمالي. من أجل ذلك يجب الاستعداد لاحتمالات انفجار حرب إمبريالية جديدة. فالحرب الامبريالية تبدوا حتمية مع احتداد الأزمة العامة للرأسمالية وهذا مناقض تماما لما تدعيه البرجوازية بأنه مع نهاية الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي فإن مخاطر الحرب ستلغى نهائيا.
(1) – قد تقود الأزمة الهيكلية إلى حرب عالمية ثالثا بين الإمبرياليات:
الأزمة الاقتصادية تعمق جميع التناقضات على المستوى العالمي. وهو يعني أيضا احتداد التناقض بين الإمبرياليات. فالكعكة تتقلص، والصراع من أجل الحصول على حصة يتفاقم، وتؤكد ذلك النزاعات التجارية بين الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا واليابان. ذلك هو الأساس الذي يدفع العالم نحو نزاع جديد عالمي. فمعالجة الأزمة بالنسبة للاحتكارات الوطنية لدولة ما لا يتم إلا على حساب احتكارات وطنية لدول أخرى. وفي النهاية، فإن هذا لا يمكنه أن يؤدي سوى إلى حرب إمبريالية عالمية جديدة.
لكن هذا الانفجار لا يبدوا على المدى القصير، فهناك عددا من العناصر لا زالت تحول دون ذلك:
أولا، التناقض فيما بين الإمبرياليات لم يصبح بعد عميقا جدا. فحتى وإن استمرت الأزمة الهيكلية، فهي لم تتسبب بعد في هزات في التراكم الرأسمالي للباطرونا مشابهة لأزمة عقد الثلاثينات. فقد تمكنت الباطرونا من تشديد استغلال العمال، بتواطؤ مع الأحزاب الديموقراطية الاجتماعية المتواجدة بكثافة في التنظيمات النقابية. كما استطاعت بتواطؤ مع الكومبرادوريات اقتطاع فائض قيمة أكبر من دول العالم الثالث. كما قلصت مساحة الشعوب الاشتراكية على الصعيد العالمي. كما خلقت الأسواق المالية ثروات اصطناعية بطبيعة الحال، لكنها تتيح لمن يعيشون فيها، من الاستهلاك والاستثمار والنمو. الكعكة التي تتنازعها الاحتكارات لم تتقلص بشكل كبير بعد.
لكن هذه الوضعية يمكنها أن تتغير بسرعة مع الأزمة الهيكلية الحالية. فانهيار الإنتاج يمكنه أن يفاقم من حدة النزاعات بين الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا واليابان، أولا، على المستوى التجاري، تم بعد ذلك على مستوى السياسي والعسكري.
ثانيا، ، توفر واشنطن حاليا على امتياز مطلق في الميادين السياسية والعسكرية. فمنذ 1945، تفرض الفدرالية الأمريكية إرادتها على العالم. فالولايات المتحدة الأمريكية تسمح لنفسها بخرق كل القواعد الدولية التي تمليها بنفسها على الآخرين حتى في حالة احتلال دول من حجم أفغانستان والعراق. على المستوى التجاري، استطاعت فرض منظمة جديدة للتجارة الدولية لتدبير المبادلات على أساس المنافسة الحرة. لكنها تستطيع أن تتخذ بشكل أحادي إجراءات عقابية ضد كل دولة، تعتبرها قد خرقت مصالح الشركات الأمريكية من خلال تدفق وارداتها جد نحو الولايات المتحدة. فقد لوحت هذه الأخيرة دائما بالفصل 301 المشهور ضد اليابان والصين والبرازيل والهند وروسيا. فلا اليابان أو أوروبا، أو أحد مكوناتها استطاع بلوغ هذا المستوى من القوة، كما أن تناقضات كثيرة بين دول الإتحاد الأوروبي لكي يشكل حاليا قوة حقيقية موازنة للقوة الأمريكية.
نفس الشيء ينطبق على الوضعية العسكرية، فالولايات المتحدة تتوفر على ترسانة عسكرية مهيمنة وعلى احتكار نووي مطلق. فبفضل هذه القوة يمكنها أن تتدخل في أية نقطة من العالم، كما تؤكد على ذلك ضرباتها السابقة الموجهة للعراق والسودان وأفغانستان واحتلالها الحالي لكل من أفغانستان والعراق. في مواجهة ذلك تعتبر القدرات الألمانية واليابانية ضعيفة. إلا أن تكوين الجيوش يمكن انجازه بسرعة. إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية تتوفر مع ذلك على امتياز تشكيل قواتها العسكرية منذ سنوات عديدة وجعلها تخوض العديد من النزاعات التي توفر لها تجارب كافية.
(2) – مخاطر قيام حرب إمبريالية على المدى القصير:
من أجل ما سبق يظهر أن حربا عالمية جديدة تتواجه فيها الإمبرياليات ليست قريبة. لكن، من كان يتوقع في سنة 1929، بأن حربا عالمية ستتواجه فيها الإمبرياليات الألمانية والإيطالية واليابانية الجديدة، مع الإمبرياليات الفرنسة والبريطانية والأمريكية القديمة؟ إن أسباب حدوث مثل هذه الحرب فيما بين الإمبرياليات في المستقبل القريب تضل موجودة اليوم بكل قوة، نتيجة استمرار الأزمة الاقتصادية الهيكلية. كما تبرز بوضوح كذلك شروط قيام حركة ثورية جديدة سواء في بلدان العالم الثالث وفي الدول الغنية.
فمخاطر انفجار حرب إمبريالية جديدة على المدى القصير جدا، تكمن في أربع نقاط كما يلي:
أولا، هناك إرادة لدى البرجوازية العالمية ولدى برجوازية الولايات المتحدة الأمريكية على الخصوص، للقضاء على جميع الدول المعارضة، سواء تعلق الأمر بكوبا أو كوريا الشمالية أو سوريا أو إيران. بطبيعة الحال ليس الخيار العسكري هو الأسلوب الوحيد المستعمل هنا، لكنها يبقى أهم أسلوب في سياسة واشنطن.
ثانيا، الحفاظ على المناطق الاستراتيجية في العالم، خصوصا تلك التي تتوفر على المواد الأولية الحاسمة مثل البترول، أصبح يشكل أهم الأجندة العسكرية للولايات المتحدة الأمريكية. ونلاحظ كيفية ترجمة هذه الأجندة في منطقة آسيا الوسطى وفي الجمهوريات السوفيتية القديمة. وقد سبق لبرجيزنسكي المستشار السابق للرئيس الأمريكي كارثر، أن جعل من هذه المنطقة الأكثر سخونة في العالم، حيث أسماها بالبلقان الأوراسية تشبيها بمعارك البلقان في أوروبا قبل الحرب العالمية الأولى. كما سجل بأن هذا الجزء من العالم يعتبر غنيا بالبترول والغاز، والمعادن من كل نوع، وتضم خليطا من القوميات بينما تضل حدود الدول غير مسطرة بدقة. وعلاوة على ذلك، فإنها تسيل لعاب القوى الجهوية، حسب تعبير برجيزنسكي، مثل روسيا وإيران وتركيا والصين. فهذه الوضعية لا ينظر إليها بعين الرضى من طرف واشنطن التي تريد أن تمنع ظهور دولة منافسة قوية في المنطقة مثل روسيا والصين وتخشى أن تستعمل البلقان الأوراسية في تكريس التناقضات.
ثالثا، فقدت روسيا بريقها منذ أن انهيار سور برلين سنة 1989. ومع ذلك لا زالت روسيا تحتفظ بإمكانيات اقتصادية وأخرى عسكرية هائلة. وليس من المستحيل على البرجوازية الروسية الجديدة أن تختار الارتكاز على هذا الاختيار بدلا من الارتكاز على الأنشطة المالية المافيوية الحالية التي تؤدي إلى إفقار البلاد بأكملها. فيمكنها أن تجيش البلاد على أوسع نطاق، من خلال التطلع إلى استعادة أمجاد القياصرة، وإعادة غزو الأراضي التي انفصلت عنها عقب انهيار الاشتراكية حيث يمكنها أن تسير على نفس الطريق التي سارت عليها الباطرونا الألمانية في عقد الثلاثينات. سيضل إذن شبح حرب عالمية جديدة مخيما باستمرار، ذلك لأن مصالح الإمبرياليات الأخرى ستصطدم بمصالح البرجوازية الروسية التي تريد تحتاج لمنابع المواد الأولية بمنطقة القوقاز وسيبيريا).
رابعا، تضل الصين سوقا منغلقة نسبيا أمام المنتجات الغربية واليابانية. وتعمل الولايات المتحدة الأمريكية على نقلها إلى المعسكر الرأسمالي من خلال إدماجها في الاقتصاد العالمي عبر منظمة التجارة العالمية . ويمكن أن تعمل واشنطن على تغيير استراتيجيتها وبالتالي تسريع العملية عبر تدخل عسكري حاسم. ولا تنعدم هنا التبريرات. فيمكن للدعاية الغربية أن تركز مثلا على ما يسمى باحترام حقوق الإنسان لتبرير هجوم عسكري غربي. فالنزاعات القابلة للانفجار متوفرة بكثرة إذن. وليس من المستحيل طرح عددا من حلول في نفس الوقت. فحرب إمبريالية يمكنها أن تنطلق من البلقان الأوراسية. ويمكن للولايات المتحدة الأمريكية أن تتدخل لمنع روسيا والصين من أن احتكار مواردها الطاقية. في هذه الحالة، وعلى الرغم من حجم هذه الدول ستكون هناك حرب عالمية، تتواجه فيها الصين وروسيا، ومن جهة أخرى الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، مثلا، بينما تحافظ اليابان على الحياد . لقد تخوف برجيزنسكي من احتمال عقد تحالف بين روسيا والصين وإيران على الخصوص. فهذا التحالف يمكنه أن يصبح معارضا لتطلع الولايات المتحدة الأمريكية للهيمنة على العالم، وهو ما أراد أن يتفاداه برجيزنسكي قبل كل شيء وهو ما تفعله الولايات المتحدة اليوم من خلال اجتياح كل من أفغانستان والعراق.
نحن إذن أبعد ما نكون عن تأكيد البرجوازية على أنه بعد انهيار الاشتراكية، ستنتهي الحروب في العالم. ويبين ذلك بأن الإمبريالية هي مصدر الحروب، وليس وجود نظامين متعارضين. "الحرب هي استمرار السياسة بوسائل أخرى" كما أكد ذلك عالم الحرب فون كلوسويتز (Von Clausewitz) منذ قرنين من الزمن. فالرأسمالية تسعى إلى معالجة تناقضاتها، وأزماتها عبر توسيع السوق، فلأجل تحقيق ذلك تصبح عدوانية وتفجر الحروب الأكثر رعبا وتدميرا للإنسانية.
سابعا: الاشتراكية: البديل الوحيد للعمال:
أكد لينين على أن الإمبريالية هي مقدمة الثورة الاجتماعية للبروليتاريا . لأنها تقود إلى اشتراكية غير مسبوقة للإنتاج. فتطور سعادة العمال يرتبط بقوة بإنتاج باقي العمال. فالسيارة مثلا هي إبداع لمئات الآلاف من العمال، إن لم نقل الملايين منهم. لكن هذه الثروة الناشئة هيمنت عليها حفنة من الرأسماليين الذين استعملوها من أجل تراكمهم الرأسمالي وليس من أجل إشباع حاجيات الجماهير في العالم. لذلك فإن قلب هذه الملكية الخاصة والدولة المدافعة عنها تصبح ضرورة اجتماعية مبررة، حتى تعود آلة الإنتاج بيد العمال. لقد أصبح النظام الرأسمالي يشكل فرملة لنمو قوى الإنتاج وتعتبر الأزمة الاقتصادية أحد تمظهراتها. من أجل ذلك أيضا، يجب أن يتم استبدال الرأسمالية بنظام قائم على الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج كالمعامل والأراضي والآلات والمواد الأولية والكهرباء...
الاشتراكية يمكنها أن تخرج إذن الإنسانية من أزمة الرأسمالية. فمن خلال إقامتها على أساس الملكية الجماعية، لن يصبح الهدف هو تحقيق أرباح الرأسماليين، وإنما، إشباع حاجيات السكان. فالاشتراكية تضع السلع الأساسية في متناول جميع العمال حيث تعود كل المنتجات بطبيعة الحال إلى الجماهير الكادحة، إما على شكل فردي يمكنه من العيش، وإما على شكل جماعي يضمن له سعادته الاجتماعية. يمكن من خلال التخطيط تفادي التناوب الظرفي بين فترة الرواج وفترة الأزمة التي يتأسس عليها النمو الرأسمالي. كما يمكن للتخطيط الاشتراكي أن يطور قوى الإنتاج بشكل منسجم، وبوثيرة أسرع من الاقتصاديات الرأسمالية.