كريم هاشم
الحوار المتمدن-العدد: 2054 - 2007 / 9 / 30 - 12:02
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
منذ بداية تواجد المجتمعات الإنسانية على الأرض فإنها أثارت تساؤلات وجودية واجتماعية حول هذا التواجد, معناه, إسرار هذه الكينونة والظرف الخارجي الذي يحيط بها ومن ثم تكوين تصورات تبنتها (كحقائق). بتكوين التحديدات الإيديولوجية والقانونية والمعرفية للمحافظة على انساق من الأنظمة لتسيير شؤونها العامة والخاصة وضمان استمراريتها . لقد كانت المرحلة الأولى هي صراع المجتمع البدائي مع الطبيعة حيث كانت تكافح فيه بوسائل بدائية في صراعها يسودها التضامن اتجاه تحديات هذا الارتهان . إما المرحلة التالية هي مرحلة السيطرة التدريجية على الطبيعة ونشوء الطبقات الاقتصادية محققة انتصارات ثورية وتقنيات متطورة لتصل قمتها في النظام الرأسمالي ولكنها زادت كل يوم من ارتهان الإنسان للعامل الاقتصادي وما يفرزه من ارتهانات أخرى تحد من حرية الإنسان . إن كفاح الإنسان من اجل الحرية والانعتاق والعدالة الاجتماعية هو كفاح تاريخي نجده في ثنايا صراعاته المختلفة ضد كافة الأرتهانات التي تحد الفرد والنوع الإنساني.
ألارتهان الأول:
هو الارتهان للطبيعة وهي الظرف الخارجي الذي يحدد وجوده ويؤثر عليه ويتأثر به ويشكل هذا الارتهان تحديا يوحد الإنسانية نسبيا ويدفعها باتجاه التطور التكنولوجي لحل التناقضات التي تفرزها الطبيعة باستمرار . إن النظام الرأسمالي قد تعامل مع الطبيعة بمزيد من السيطرة ولكنه اضر بها عندما جير هذا التطور لصالح أولغارشية من الرأسماليين بسبب طبيعته في تحقيق المزيد من الإرباح . إن ظهور تيار من المدافعين عن البيئة يمثل وعيا بمقاومة الشطط التكنولوجي للرأسمالية التي تحل التناقض مع الطبيعية وفقا لمصالحها وهو في الجوهر نضال معادي للرأسمالية وانه لشيء ذو مغزى , إن هذه الحركات النشطة بدأت ونشطت في قلب العالم الرأسمالي المتطور .
ألارتهان الثاني:
هو الارتهان للعوامل الاقتصادية وما ينتج عنه من ارتهانات جانبية . إن النظام الرأسمالي قد جعل من العبودية لرأس المال عبودية أقسى من عبوديته للطبيعة ولم يقدم الحلول المناسبة للمجتمع الإنساني كون أزمته أزمة بنيوية. لذا تأتي هذه الدراسة لمناقشة التجربة الاشتراكية للبحث عن البديل لهذا النظام الذي قفز بالإنسانية إلى مراحل هائلة من التطور الاقتصادي والتكنولوجي وانحدر بها إلى أدنى المستويات على صعيد حقوقها في الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة.
في الايدولوجيا
ليست هناك عقائد خاصة بل إن لهذه العقائد ظرفا تاريخيا واجتماعيا محددا. إن أية أفكار أو عقائد هي تجريد ومن غير الواقعي اعتبارها كونا مستقلا بذاته , إذ إن تاريخها لا ينفصل عن تاريخ المجتمعات وعن تاريخ المؤسسات والوقائع الاقتصادية والصراعات الاجتماعية في ظرفها التاريخي المعين , ولكن هذه التجريدات النظرية تجد بعدها الواقعي في العلاقات الاقتصادية . أي أنها ليست تجريداَ محضاَ وإنما يجب محاكمتها من خلال بعدها (( الواقعي )) أي من خلال تأثيرها في الواقع الاجتماعي وفي ظرفها المحدد . وحيث ( إن الأفكار عندما تتغلغل في صفوف الجماهير فإنها تتحول إلى قوة مادية ) فهي تنتقل من التجريد النظري إلى العلاقات الواقعية , متلونة بتلاوينها المختلفة , فاقدة نقائها العقائدي . كما أن العلاقات الواقعية تتأثر بالعقائد المختلفة , فاقدة واقعيتها (( الصرفة )) لتتلون بتلاوين العقائد المختلفة . ولان العقائد تعبر عن نفسها كتجريد يحاول إن يتعالى على حدود الظرف التاريخي , والعلاقات الواقعية , بسبب إليتها الذاتية ودائرتها المقفلة, فان علينا نقد الأفكار والعقائد مع حذر الوقوع في شرك اعتبارها كوناَ مستقلا بذاته , بل نقدها من خلال علاقتها بالواقع كقوة مادية أي بمعنى أخر من خلال تعبيراتها عن مصالح مجموعة اجتماعية معينة . ومن هنا جاء الميل الاشتراكي بانتقاد العقائد من خلال بعدها الواقعي . إن الاشتراكية عند ماركس هي العلاقات الواقعية التي تحقق الحرية. وبذلك نقل المعركة إلى العلاقات الواقعية في المجتمع والبناء التحتي . فكان نقده ثوريا لكل الأرتهانات التي من شانها جعل الإنسان عبدا لها بدلا من إن يكون سيدا .
إن الإنسان من خلال تدخله العملي, في الطبيعة والمجتمع, يرتقي بمسيرته التاريخية, مقتربا تدريجيا نحو هدفه الأساس: تحقيق الحرية. إن شكل الأنظمة بالنسبة لماركس ليست اختراعا لمفكر أو فيلسوف, لذا فان الاشتراكية ليست مخططا أو تصميما هندسيا لنظام اجتماعي معين, بل هي التعبير الأكثر تقدما عن الميل الواقعي للصراع الاجتماعي للطبقة العاملة ضد الاستغلال. أنها البعد النظري للممارسة العملية. أن أي نظرية لاتأخذ بمنهج النفي الجدلي ستميل إلى الادلجة و المحافظة وكبح سيرورة الحركة الاجتماعية . في مطلع فلسفة الحق لهيغل .. ( ألا إن الفلسفة تأتي متأخرة جدا لكي تقدم وصفات حول الكيفية التي يجب إن يكون العالم عليها, أنها تفهم ما هو في الحين الذي يكون فيه شكل الحياة قد شاخ ). لقد اوجد ماركس منهجا لا ينغلق على عقيدة جامدة , مقدسة لا تتنفس سوى الهواء العفن الراكد في دهاليزها . لقد بين العلاقة الجدلية بين الفكر والعلاقات الواقعية للحراك الاجتماعي والتأثير المتبادل بينهما وماركس نفسه , ليس ماركسيا بمعنى العقيدة , الايدولوجيا بل انه جدليا انزل العقائد من دائرة التعالي على الواقع وادعاءات الامتلاك المطلق للحقيقة والميل إلى التكامل . فان أي ايدولوجيا متكاملة أو ساعية للتكامل ستكون غير واقعية لاتعبر عن الحركة الاجتماعية وستميل إلى المحافظة والرجعية . إن هذا الميل إلى الأنساق الثابتة والإطلاق إلية كل أيدلوجيا وبالتالي فان الايدولوجيا تعبر عن مصالح الطبقات المستغلة والمالكة وكما يسميها ماركس بالوعي الزائف , فكانت الفلسفة الماركسية هي النقض لكل العقائد المغلقة لصالح استلهام الجديد , وصولا إلى الحالة الجديدة التي تفرزها الحركة الاجتماعية . وعندما نتفحص التجربة الاشتراكية عبر العالم نرى أنها قد حولت الماركسية إلى عقيدة, أي أنها تبنت ( العقيدة الماركسية_اللينينية_الستالينية .. الخ) التي هي عقيدة نظام ( اشتراكية الدولة البيروقراطية ) والتي هي شكل هجين لمزاوجة نظام رأسمالية الدولة بدون رأسماليين بنظام ( اشتراكية الدولة ) إن هذه النظرة قد توضح لنا جزيئا سبب قيام ( الثورات الاشتراكية ) في الدول المتخلفة اقتصاديا بسبب عجز الرأسمالية في تلك الدول عن تحقيق التقدم الاقتصادي الذي حققته مثيلاتها في الدول المتقدمة اقتصاديا . وبالتالي فان التشويه لحقيقة الماركسية وبالتالي الاشتراكية تنبع من محاولة الوضع المتخلف تجاوز وضعه نحو أفاق متقدمة متبنيا النظرية الثورية مع تحميلها كل آثام عجزه الموضوعي وتخلفه منتجة وليدا هجينا.
الدولة والحرية
السياسة عند هيغل هي علم تحقيق الحرية , تاريخيا , في تجسيداتها المتتالية والمتصارعة من خلال مؤسسات معروفة مثل العائلة والتكتلات المختلفة , والدولة بصفتها المؤسسة الأشمل . وان الإنسان الواقعي لا يرتكز تصرفه حصرا على الاقتناع العفوي لضميره الأخلاقي الفردي , بل يتوجب عليه الخضوع لقوانين العالم الموضوعي خارجا عنه . انه ككائن واقعي مدعوا إلى تجاوز خصوصيته لكي يتوصل إلى تأمل الكلي الكوني. إن الكلي لا يمكن إن تكون له قيمة ولا يمكن إن يتحقق بدون إن يحصل الشخص الفرد على ما يرضيه ويقنعه في حين إن الكلي لا يمكن التوصل إليه بمجرد تراكم وتواجد الإرادات الذاتية والمصالح الخالصة . ولحل هذه المعضلة وإيجاد وسيلة التوافق فقد قرر إن ( الدولة هي حالة التوافق بين الكلي والخاص ) و( الدولة هي واقع الحرية الملموسة المحددة ) وان الدولة ببقائها فوق المصالح الخاصة تجسد هذا الكلي وبذلك تعرض إلى انتقاد حاد من ماركس. لقد أخضع الاجتماعي للسياسي جاعلا الكلي قوة منفصلة عن المجتمع والفرد تنوب وتنفصل عنه. في الوقت الذي قدم فيه تبريرا لأي قمع تتطرف بممارسته الدولة بأنه حرية ملموسة ومحددة . لقد أتى بالدولة ككائن منفصل , فوقي , يرسخ الحرية بدون الأخذ بنظر الاعتبار جذور هذه الدولة الاجتماعية . وبذلك الغي الإنسان الاجتماعي وصيرورته الاجتماعية لصالح الكلي السياسي الذي يمتلك صلاحيات مطلقة أو شبه مطلقة في توجيه مساراته الاجتماعية. لقد انعكس كلي هيغل على أنظمة اشتراكية الدولة حيث مجد دور الدولة وأنيط بها تحقيق الاشتراكية التي أدت إلى تعميم الفقر و تعميم الاستبداد وهو شكل بشع لملكية الدولة الاستبدادية الرأسمالية لوسائل الإنتاج . وبعكس هيغل تكون الدولة هي الاستبداد المعادي للحرية . إن تشجيع الدولة السوفيتية لما أطلق عليه ( الأنظمة اللاراسمالية للإنتاج ) المغرقة في الاستبداد والفاشية والمعادية للحركة العمالية والاشتراكية مما يؤكد طبيعتهما الاجتماعية الواحدة. إن محاولة كل طبقة فرض تصوراتها على عموم المجتمع باعتبارها تصورات الكل الاجتماعي أوجدت بالضرورة سلبا لحرية الوحدات الاجتماعية الأخرى بواسطة سن القوانين وتنفيذها بواسطة قوى الضغط والإكراه. إن استخدام الإكراه من قبل المجتمع السياسي على المجتمع المدني يلغي حالة الفعل الحر للفرد والمجتمع ويجعل من تمثيل الدولة للصالح الاجتماعي باعتبارها الممثل الرسمي للمجتمع مجرد إخفاء لواقع ووظيفة الدولة كأداة للقمع والقهر وليست ( واقع الحرية الملموسة المحددة ) بل هي واقع الاستبداد والإكراه المعادي للحرية , وبذلك يكون القمع معقدا ومقنعا حيث تتضاءل الحرية إلى حد التلاشي . وبهذا كما كتب انجلز : ( لا تكون ملكية الدولة لوسائل الإنتاج حلا للمشكلة .. ) و ( كلما اتجهت الدولة نحو الرأسمالية الجماعية , في الواقع , كلما ازدادت استغلالا للمواطنين ) . لقد ظهرت الدولة للتحكم في الصراعات الاجتماعية وتسيير شؤون المجتمعات بما يمنع الانهيار العام . لذا اكتسبت ( وهم ) وظيفة النيابة عن المجتمع. إن الدولة رغم تمثيلها لمصالح الطبقات المالكة وإجبارها الكل الاجتماعي على ( تقبل ) ذلك لا يعني أنها منفذا ألياَ لتلك المصالح بل إن لها بعض الاستقلالية النسبية الناجمة عن حالة الانفصال عن المجتمع ووهم نيابتها عنه, بقيامها بمهام عامة لتسير وإدارة الحياة واستمرارية وديمومة المجتمع .
أنها تحافظ على جوهر نظام الاستغلال تجاه التحديات العمالية والتحررية لشرائح واسعة من المجتمع , هذا من جهة , ومن جهة أخرى , تجاه ضيق الأفق لأجنة الطبقة المالكة وبالتحليل النهائي تمثل المصالح الحقيقية لمجمل نظام الاستغلال وتسعى لحمايته وصيانته . إن صنمية الدولة هذه في الأنظمة الاستبدادية تجعل من تقديس دور الدولة كارثة على المستوى الفردي والاجتماعي حيث أن تأليه الدولة والزعماء والأحزاب يؤدي إلى النزوع الفاشستي في التعامل مع الظواهر الاجتماعية . إن السلطة والمجتمع المدني هما كفتي الميزان فكلما أزداد دور الدولة في تسيير الحياة الاجتماعية كلما كان ذلك على حساب المبادرة الاجتماعية الحرة للإفراد والمجتمع.
إن مرحلة دكتاتورية البرولتاريا كمرحلة مؤقتة في ظل ملكية الدولة لوسائل الإنتاج جعل من الدولة بديلاً عن المجتمع المدني وتصلبت لديها عقيدة النيابة عن المجتمع لتتحول إلى دكتاتوريه دائمة . إن هذا يفسر لنا شكلية الحزب أو الأحزاب والنقابات ومؤسسات المجتمع المدني كونها ملحقا بالدولة أو أدوات لها دون إن يكون لها تمثيل اجتماعي حقيقي سوى أنها الممثل شبه الرسمي للدولة إمام الشريحة التي تمثلها. إن ما قرأه ماركس هو تحقيق الإدارة الاجتماعية بديلا عن الإدارة السياسية كحل للتشويه الذي ينتج عن هيمنة السياسي على الاجتماعي وما يحدثه من الانفصام والازدواجية في الشخصية الإنسانية ( الإنسان المواطن والإنسان الشخص , العام بأدواره المختلفة والذات المشخصنة ) , ولكي نصل إلى ذلك الهدف , علينا إن نستخدم وسائل وأدوات تهيئ وتمهد لذلك الهدف , لكن التجارب ( الاشتراكية ) عملت على تحقيق العكس , فقد طغى السياسي على وسائلها و عقيدتها ملبيا احتياجات التطور الرأسمالي في الأمم المتخلفة اقتصاديا والذي عجزت عن تحقيقه الطبقة الرأسمالية بالأسلوب الكلاسيكي للتطور الرأسمالي . إما الدولة بتوهمها تمثيل المجتمع تحاول تقنيع تمثيلها لمصالح رأس المال وإشاعة تمثيلها للكل الاجتماعي في مقابل الصراع الطبقي من قبل البرولتاريا والفئات التحررية والكادحة , وبالتالي إظهار الحركة الاجتماعية للقسم الأوسع من المجتمع كحركة ( منشقة ) عن الكل الاجتماعي .
الأدوات السياسية والنقابية العمالية
لقد نشأت التنظيمات السياسية والنقابية العاملة كرد فعل طبيعي اتجاه الاستغلال الرأسمالي البشع الذي تعرضت له . إن فضيلة البرولتاريا ليست نابعة من تمجيد الفقر كما يحلو لبعض التيارات اليسارية التي تتغنى بالمفاليس ترديده ولا من جهة نضريه الإحسان والعطف التي تطرحها الجهات الدينية , إنما تنبع من موقعها في الإنتاج كطبقة غير مستغلة ونافية للمجتمع الطبقي وتفاضل البشر على أساس التقسيم الطبقي . إن فضيلتها الأساسية هي أنها النقيض لعبودية الإنسان للضرورة الاقتصادية وأي ضرورة أخرى تحد من حريته, وما يترتب على ذلك من انقسام الناس. أي نقض سيطرة السياسي على الاجتماعي. لقد نظر إلى الطبقة نظرة صنمية ككائن خرافي سيضرب ضربته على حين غره بحتمية لا تبدو قريبة , وحين لا يتم ذلك , انحاز قسم من هذه القوى لتندرج في حركة البرجوازية الإصلاحية , بينما حاول اتجاه أخر إن ينوب عن الطبقة أو يستخدم طبقات بديلة حيث تنقلب الحتمية إلى ارادوية منفصلة ملقية آثام فشلها في تحقيق الأهداف على أشباح كثيرة حيث تعتبر التجربة الروسية التجربة الرائدة للحركة البرولتارية العالمية . لقد ساد هنالك تياران في الاشتراكية الديمقراطية الروسية : التيار الأول هو تيار المناشفة , وهو تيار يمثل ضيق الأفق الطبقي وانتظار غير ثوري ميكانيكي للحتمية التاريخية . انه نشاط البرولتاريا كطبقة غير متجاوزه للحدود الطبقية باتجاه المجتمع اللاطبقي . إما التيار الثاني فهو البلشفي ونظرته إلى الحزب. لقد كان لينين يريد إن يجعل من الحزب أداة ثورية قوية مؤهلة للتحرك في كافة الظروف انه حزب مؤلف من (( ثوريين محترفين )) متمرسين بكل أساليب العمل , ويحب إن يكون شديد المركزية ومنضبط متهماَ اليساريين الذين انتقدوا هذا الانضباط الصارم وهذا الدور النخبوي للحزب , بأنهم يلتقون مع ألمنشفيك لتجريد الثورة من سلاحها , وان الثوري هو رجل تجرد من أصله لان احترافه الثوري قد استولى عليه تماما . إما المنظمات النقابية فعلى الحزب إن يستخدمها أو ينظمها عند الضرورة , لقد أدى الشكل ألمنشفي للتنظيم الإصلاحي إلى طرح صيغة الحزب البلشفي ذو الطبيعة المنفصلة شبة التآمرية . لقد كان هذا الحزب نتاجا للوضع المعين في روسيا , القمع القيصري الذي لا حدود له ودور أجهزة الأمن الرهيبة في ملاحقة المعارضين , كذلك التخلف الهائل في روسيا اقتصاديا وتقنيا بالنسبة إلى مثيلاتها الأوربيات وبالتالي تخلف الطبقة العاملة وقلة عددها نسبة إلى عدد السكان وشيوع الوعي المشوه لديها . لقد كان الحزب البلشفي الرد الموضوعي على هذه الظروف . بعد نجاح ثورة أكتوبر العظمى وفي ظل الدمار الكبير الذي أصاب روسيا نتيجة للحرب العالمية الأولى والتدخلات الأجنبية والحرب الأهلية ( تعسكر ) الحزب تدريجيا حيث صار ينوب عن الطبقة ويقوم مقامها ويقرر عنها . ( شكلية دور السوفيتيات لصالح الحزب والدولة ) . كما أشيع الإرهاب الفكري والسياسي والتصفيات الجسدية داخل الحزب والمجتمع وتحول الحزب إلى جهاز بيروقراطي يمثل مصالح الطبقة البيروقراطية السائدة وهو ما عبرت عنه المرحلة الستالينية . لقد جرت انتقادات ترقيعية لهذه الظاهرة باعتبارها انحرافا عن اللينينية وأسس التنظيم البلشفي . إن مجمل الظواهر تلك والتي وصلت أوجها في سقوط ما يسمى بالمعسكر الاشتراكي تدل على عقم وقصور هذا التحليل وعدم جذريته بل وطابعه المهلك لحركة الطبقة العاملة ومستقبل الحركة الاشتراكية . إن هذا الانحراف ينبع في جزء منه من المفهوم البلشفي للحزب . لقد وقع هذا الاتجاه في المحصلة النهائية بإعطاء الحزب دورا نخبويا , نيابيا , ارادويا , كنقيض للحتمية الإلية , الانتظارية , للحزب المنشفي . إن تاريخ الحزب البلشفي لا ينفصل عن تأثير الشخصية القوية للينين والتي كانت تمثل _ في ظل الظروف الذاتية والموضوعية _ أكثر السياسات تمثيلا لمصالح جماهير العمال والمحرومين , لكن الطبيعة الاحترافية النخبوية والمركزية الصارمة قد أنتجت الطاغية ستالين , رغم تحذير لينين للحزب منه , لقد جمع في يده سلطة هائلة بصفته سكرتيرا تنظيميا للحزب وصارت المركزية الديمقراطية وسيلة قيادات الأحزاب الشيوعية لفرض خطها على الكوادر والقاعدة وقمع كل مبادرة لها . إن مسألة تحريك الناس كأنهم دمى وقيادتهم كأنهم قطيع هي في الحقيقة من أساليب الطبقات المستغلة وتياراتها الرجعية التي ترجع حركة التاريخ إلى الإفراد والإبطال والى الخطط الذكية لمجاميع من الناس والى افتراض غباء الجماهير واحتقار دورها في صناعة التاريخ . ومن خلال التجربة الثرية للأحزاب العمالية والحركة الاشتراكية فإنها اتجهت اتجاهين أديا إلى انفصالهما عن الطبقة العاملة والجماهير. اتجاه جعل الحزب ( سوبرمان ) الطبقة , غاية بدلا من كونه وسيلة وأداة ينظر إلى الأشياء من خلال منظاره , ويتنفس كل الإحداث من خلال رئتيه , والاتجاه الذي سار في ذيل الإحداث ممثلا المطالب الدنيا ( المطلبية ) للعمال واستمرأ اللعبة البرجوازية . إن كل مؤسسة سياسية هي تعبير عن نظرة معينة إلى العالم وتجسيد لحقيقتها الاجتماعية , وهذا ما ينطبق على الطبقة العاملة بالذات لاختلاف دورها عن كل الطبقات الاجتماعية السابقة لها. لقد أقامت تلك الطبقات المستغلة أنظمتها محافظة على انقسام ألإنسان واستلاب حريته , منتجة شكل أخر يحافظ على تملك طبقة معينة لوسائل الإنتاج مع حرمان الفئات الأوسع من الجماهير وبذلك كانت في جوهرها ثورات سياسية رغم الإبعاد الاجتماعية لها0 إما بالنسبة إلى ثورة الطبقة البرولتارية فإنها ثورة اجتماعية 0 إن الميل الاشتراكي باعتباره الميل الأكثر تقدما ووعيا للطبقة العاملة وليس منفصلا عنها (( يحقن إليها من الخارج بعد أن يصنع في مختبر الحزب)) أو الطليعة أو النخبة بل هو جزء من الحراك الاجتماعي لهذه الطبقة0 انه التعبير النظري الذي (يكتشف) دينامكية الصراع الاجتماعي باتجاه الارتقاء بالكفاح العمالي إلى المستوى الذي يجعل الطبقة العاملة تدرك دورها ورسالتها التحررية 0 إن ذلك يعني إعادة النظر بكثير من المفاهيم النظرية والتنظيمية والعملية التي أفرزتها المفاهيم المعروفة فبدلا من مفهوم الحزب اللينيني ونسخه المختلفة الذي يقطر الطبقة العاملة وجماهير الكادحين والتحرريين باتجاه الهدف أو الحزب الإصلاحي بنسخه المتعددة الذي يتلاشى في الصراع الاجتماعي على حساب الهدف(الحركة كل شيء والهدف النهائي لاشيء)0 فان التنظيم الاشتراكي وأسلوب قيادته للنضال تختلف عن الأساليب المنفصلة0 انه كالمشعل المغروس في عمق الظلام كلما ازداد توهجه ازداد تبديده للظلام. انه يكتسب توهجه النظري من أتون الصراع الاجتماعي الذي يبلوره بنقلة أرقى ( للوعي ) متجاوزا المستوى الراهن. انه لا يسعى إلى جر الطبقة العاملة وراء سياسته وتحديداته وإنما يسعى إلى الارتقاء بها ومن خلال صراعها إلى مستوى مهامها التاريخية. انه لا يعتبر المنظمات المتعددة للعمال والجماهير واجهات شكلية من واجهاته يقودها ويستخدمها بل على العكس انه يسعى إلى جعلها منظمات حقيقية , مستقلة , تعبر عن جزء من الحركة العامة للبرولتاريا والفئات الواسعة التي تقترب منها من نقابات واتحادات وأي منظمة أخرى من منظمات المجتمع المدني للنساء والفلاحين والشباب والطلبة وغيرها. إن أي حركة تسعى إلى نقض الرأسمالية والتفاضل الطبقي وإقامة مجتمع الحرية والمساواة لا بد إن تجسد في ممارساتها ونظريتها البديل المطلوب. إن إقامة البديل يجب إن تتحقق في النظام الداخلي للحزب الاشتراكي وفي علاقاته بالمجتمع, إن ذلك ليس ضرورة فنية فقط بل هو تدريب وخبرة ضرورية لإقامة السلطة الاشتراكية. ومن جهة أخرى فان البديل الذي تنشاه من خلال ممارساته يقرب الفئات الشعبية التي لها مصلحة في الاشتراكية إلى الاطمئنان والاندماج في مسيرة النضال التحرري بعد إن أشاعت التطبيقات المزورة الرعب في صفوف الفئات المثقفة وشرائح شعبية أخرى أدت إلى العزلة عن جماهير واسعة . إن التناقض بين الإلية الذاتية للتنظيم العمالي وطبيعته كمؤسسة وبين الحركة العامة للعمال والجماهير هو تناقض حقيقي. انه المحور الأساسي الذي يجب النظر إليه باستمرار حيث انه احد المحاور المهمة التي تكرس له البرجوازية الجهد لتخريب حركة الطبقة العاملة. أنها تحاول جعله مؤسسة منفصلة عن الحركة العامة للطبقة العاملة وبالتالي يكون تنظيم لا يمثل العمال في الثورة الاجتماعية. إن من الوسائل المهمة لمنع ذلك هو إدراك التنظيم إن الصراعات الاجتماعية هي صراعات موضوعية ناتجة عن الطبيعة الاستغلالية للاقتصاد الرأسمالي . أي إن الحركة الاحتجاجية هي حركة متنوعة تتخذ إشكال عديدة واعية وغير واعية. إن على التنظيم رصدها بدقه والاشتراك فيها بنشاط ومن خلال ذلك يحاول الميل الاشتراكي قيادة هذه الحركة ليس من خلال إلقاء التعليمات عليها بل من خلال استثمارها وما ينتج عنها من قصور مبين موقف هذا الميل واقتراحاته لمعالجته والتحاور مع العمال المحتجين حول مدى هذه النضالات وبيان المديات الأفضل مع إدراكه انه من غير الممكن إن تكون الطبقة العاملة والجماهير متطابقة مع فكره وإستراتيجيته مادامت السلطة العامة سياسيه. انه لا يطلب من كل عامل محتج إن يكون ماركسيا أو اشتراكيا بل إن كل عامل محتج بهذا الشكل أو ذاك يعتبر ضمن الحركة العامة للطبقة العاملة . إن على الميل الاشتراكي إن يتواجد في أي تجمع مهم للحركة العمالية يحقق جزأ من المصالح الآنية أو الإستراتيجية طارحا بدليه ومتحاورا مع الجماهير وبذلك يمنع من انعزاله وانفصاله عن عموم الحركة الجماهيرية . إن ذلك التماس يجعل تأثير الميل العمالي التحرري اقرب إلى الارتقاء بالحركة وبالتالي عدم ترك الساحة للميول المعادية التي تحاول عزل الميل العمالي وتصويره كشيطان لا يجوز الاقتراب منه. إن الميل العمالي الاشتراكي يناضل من اجل إن تكون التجمعات والمنظمات الجماهيرية منظمات حقيقية مستقلة فاعلة وهو ما ينسجم مع نظريته في إن الثورة الاجتماعية هي حركة اجتماعية وليست ( ثورة ) أحزاب أو نخب معينة. هذه أمور أساسية في حل إشكالية الشكل المؤسساتي للتنظيم وانفصاله عن الحركة العامة للجماهير وفي نفس الوقت يحقق له قيادة هذه الحركة بالشكل الذي يرتقي بها إلى أهدافها . انه يجسد الاختيار الحر والواعي للإنسانية ويؤسس الخبرة اللازمة للحل الاشتراكي, مما يحد من فرص البرجوازية لاحتواء وإسقاط النظام الاشتراكي كما حدث لثورة أكتوبر في الاتحاد السوفيتي . قبل موته بقليل طلب من ماركس إن يجيب عن السؤال التالي : ( ما هي القوانين التي يجب إتباعها والقوانين الواجبة الإلغاء بسرعة سواء على الصعيد السياسي أو في المجال الاقتصادي من اجل تحقيق الاشتراكية إذا توصل الاشتراكيين بوسيلة من الوسائل إلى الحكم ) ؟ أجاب ماركس ( إن السؤال يقع بين الغيوم والجواب الوحيد لا يمكن إن يكون إلا بانتقاد السؤال بالذات وأضاف إن التنسيق العقائدي والمذهل حتما لبرنامج العمل لثورة مقبلة ليس من شانه إلا الانحراف عن المعركة العامة) كما احتج أنجلس ضد ولع الاشتراكيين الديمقراطيين الألمان في وضع مسائل سياسية عامة وتجريديه في المرتبة الأولى الذي هو إخفاء لمسائل محدده وهي الأكثر إلحاحا تفرض نفسها على جدول الإعمال عن حدوث أول إحداث مهمة وعند أول أزمة سياسية. إن الوسائط السياسية لا يمكن إلغائها في ضل مجتمع سياسي لذا فان الحزب العمالي سيكون ضروريا باعتبارها الميل الأكثر وعيا وتقدما ولكن عمله يختلف عن الصيغة التي كانت سائدة حيث يلقي الحزب سياسته بل بصفته ميل مناضل وليس ميلا يخضع الجماهير لرؤيته الخاصة.
الاستنكافية السياسية
أولاَ: العلاقة بين الكم والكيف
إن الطفرة هي اللحظة التاريخية للتحول الكيفي من حاله إلى حاله أخرى نقيضه, لكنها تأتي نتيجة لتراكمات كمية تخضع لمجمل الظروف الذاتية والموضوعية أي أنها تعتمد على كيفية وحجم التراكمات والتحولات الكمية. إن موازنة دقيقة لطرفي المعادلة ضروري جدا لبناء نضري واقعي للعلاقة بين الكم والكيف . إن الأخذ بأحد طرفي المعادلة على حساب الطرف الأخر لا بد إن يخل بأحد طرفي المعادلة. لقد ركز الثوريون على الطفرة بينما ذهب الاصلاحيون على التركيز على الكم حيث كان الشيء الوحيد المشترك بين الطرفين إنهما حولا الثورة الاجتماعية إلى خرافة . بانتظار الطفرة صار الثوريون المنقذ المنتظر ينظر الناس لهم بإعجاب وتقديس , يمتدحون مثاليتهم الثورية وبطولاتهم كأنهم كائنات فضائية غريبة , حالمين بهذه السوبر مانات الطيبة لتأتي ذات يوم مع طفرتها فتنقذهم ليعيشوا في العالم هؤلاء الثوريين الجميل وبذلك ساهموا في تعزيز الاستنكافية السياسية بين الجماهير وابعدوا هذه الطفرة التي كرسوا مصيرهم وحياتهم من اجلها إلى ما لا نهاية. إما الاصلاحيون فقد اندمجوا في النظام القائم وباتوا يحلمون مع القديسين في إصلاح هذا العالم . إن الطفرة لا يمكن إن تأتي من فراغ لذا فان عدم الاستعداد المسبق سيجعل من السهل للرأسمالية بكل إمكانيتها على المستوى العالمي احتواء التجربة ومن ثم إسقاطها لذا علينا إن نوضح ماهية ذلك الاستعداد. إن ذلك يتعلق بمسألة العلاقة بين الإصلاح والثورة والتي هي في جوهرها العلاقة بين التغيرات الكمية والكيفية ومن خلال التجربة التاريخية الهائلة تكون لدينا خزين كبير من اجل إيجاد بناء متوازن لحل هذه الإشكالية إذا إن مصير الثورة الاجتماعية يتوقف على إيجاد هذا الحل . إن الإصلاح ولغرض تعريفه تعريفا دقيقا , هو انتزاع ما يمكن انتزاعه وبمختلف الأساليب الممكنة والملائمة لصالح العمال والكادحين وسائر شرائح المجتمع الذين تضطهدهم السلطة الرأسمالية بما يخدم وضع آليات تجبر هذه السلطة على التنازل عن جزء من امتيازاتها وبكافة الاتجاهات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية . إن مسالة الإصلاح تعني الانغمار في مجمل الهموم والتطلعات الحياتية وبذلك نكون جزءا من حركة اجتماعية واسعة بغض النظر عن مستوى تطورها الأيدلوجي , أي التواجد الفعال في أي تجمع مهم للحركة الجماهيرية مع العمل التدريجي والصبور للارتقاء بذلك التجمع إلى مستوى ارقي . إن الابتعاد عن التجمعات المهمة للعمال والشرائح التي لها مصلحة موضوعية في النضال ضد الرأسمالية يبتعد عن الفهم الصحيح. إن الابتعاد يعني الهروب من الواجب الحقيقي تاركين الساحة لقوى الظلام لتزرع أفكارها وأوهامها في صفوف الجماهير. إن ذلك هو احد السبل المهمة لتمكينها من التخلص من استنكافيتها السياسية وضمان حضورها وتدخلها القوي في العملية السياسية . إن العلاقة بين الإصلاح والثورة هي كالعلاقة بين إلام والجنين فكما إن الجنين يحتاج إلى رحم أمه ومن ثم رعايتها حتى يبلغ أشده كذلك هي العلاقة بين البرجوازية و البرولتاريا فقد تكونت البرولتاريا في رحم البرجوازية لذا فان عليها إن تبني هيكلها العظمي وتكسوه باللحم وبناء الأجهزة الضرورية لديمومتها . إن هذا الفهم ليس عملا شعاريا يرفع في لافته كبيرة , كما انه ليس شعارا ديماغوجيا يجعل من الجماهير كائنا خرافيا يسحق الرأسمالية وكافة الشياطين البشرية بقدرة خارقة , لقد استخدم هذا الفهم بكثافة في العمل الثوري , ولكن الذي جرى هو سحق الجماهير باسمها وتغييبها لصالح أيديولوجيا معينة أو قائد ملهم أو دكتاتور مبعوث من العناية الإلهية أو حزب ذو ميول فاشية . لقد نظر ماركس إلى الجماهير نظرة تاريخية, ككائن يصاب بالمرض أحيانا ويتأثر بالمؤثرات الموضوعية وعلى حركته الذاتية والاتجاهات التي تأخذها تكون النتائج وبذلك لا نقع في الإحباط واليأس. لو وضعنا الحركة الجماهيرية تحت المجهر لوجدنا الكثير من التعبيرات التي تعبر عن احتجاج ومقاومة جماهير الكادحين والتحرريين للأوضاع السائدة والتي يجب اكتشافها وبنائها والسير بها إلى أفاق أرحب. إن كل وسيلة نضالية أو تنظيمية يؤديان إلى التدخل العمالي والجماهيري المباشر إضافة إلى الإشكال المعروفة يجب إن يؤديا إلى خلق حركة جماهيرية واسعة تستطيع إن تفرض على النظام الرأسمالي متطلباتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية فارضة مرجعيتها وهيبتها وهي شرط ضروري لإيجاد ( السلطة الموازية ) وبناء أدواتها في ظل النظام الرأسمالي . إن السلطة الموازية هي التعبير عن التحولات الكمية والاستعداد للتحول الكيفي باتجاه مجتمع الاشتراكية والحرية . أنها سلطة المجتمع المدني في موازاة سلطة الدولة. إن فرض هيمنة وتدخل الجماهير الواسع في مرحلة التحولات الكمية وبناء أدواتها النضالية والنظرية سيساعد على تجنب الانتكاسة للثورة الاجتماعية كما حدث لثورة أكتوبر حيث ابتدعت المجالس العمالية كشكل أكثر ديمقراطية من أي شكل من إشكال الحكم السائدة عالميا , لكنها انتكست ولم تتجذر لأنها لم تبني تجربتها وترسخها في مرحلة التحولات الكمية بل ترافقت مع الطفرة الثورية والإلغاء المؤقت لاستنكافية الجماهير السياسية التي انخرطت بأكثريتها في النشاط الاجتماعي والسياسي مما أدى إلى محاصرتها وتراجعها ومن ثم انتكاستها مع الفترة الستالينية التي حولت السوفيتيات إلى مجرد مصدق على قرارات الدولة والحزب.
ثانيا: معوق رئيسي للحرية
إن الاستنكافية السياسية للجماهير والحالة النشطة للنخب تناقضا يؤدي إلى الانفصال حيث تعمل النخب على برمجة أفكارها وإقامة مؤسساتها باعتبارها (( تمثل )) مصالح طبقة اجتماعية معينة أو تمثل المجتمع . إن الحالة الديناميكية للمؤسسات النخبوية وحالة الاستنكافية السياسية النسبية للجماهير عامل مهم لإنتاج أنظمة الاستبداد والقهر بشكل دوري وإدامة هيمنة وسلطة الرأسمال. إن الطبيعة الاستبدادية للرأسمالية في مرحلة العولمة تتزايد كلما تزايد تركيز الهيمنة الرأسمالية وكلما تزايد هذا التركيز كلما ضاق هامش الحرية للغالبية العظمى من الناس معمقا انفصال المؤسسات عن المصالح الاجتماعية لجماهير العمال والكادحين وشرائح واسعة من المجتمع وبالتالي زيادة الأهرامات التي تجثم على صدر المجتمع . بمعنى أخر إن الانفصال يؤدي إلى (( استقلال )) نسبي ذو مصالح مؤسساتية خاصة للأحزاب والتجمعات المختلفة مكونا طبقة انتهازية تتطفل على امتهان العمل السياسي وأي عمل عام رغم ارتباطها في النهاية بالمصالح الخاصة لنظام الاستغلال . إن حالة ( الاستقلال النسبي ) ونزعة الولاء للمؤسسة هو جزء من الأزمة البنيوية لأنظمة الاستغلال حيث تعمل هذه المؤسسات دورا مهما في الاستلاب الاجتماعي والفردي لصالح التوجه البربري للحضارة البرجوازية المعولمة . إن الاستنكافية السياسية هي عبارة عن ( تفويض ) الجماهير أمورها ومصائرها لنخب وأحزاب أو قائد أو زعيم ملهم وفق إلية معقدة تعطي ألانطباع بأن هذه الجماهير تسيطر على صناعة القرار. في الأنظمة الاستبدادية تكون الوشائج بين الزعيم الملهم أو الحزب الفاشي والجماهير وشائج مبهمة وصوفية تملاها الأساطير مثل هوس عبادة الزعيم أو الحزب أو الأمة أو الأيدلوجية. وفي ظل هذه الأنظمة والحركات تساق الجماهير كالقطعان وتذبح على مذبح مصالح غريبة وبعيدة عنها ويمكن إن يطلق على ذلك ( التفويض اللاعقلاني ) ويشكل ذلك خطورة عظمى على الثورة الاجتماعية وعلى الإنسانية لذلك يكون التنظيم وقيادته وزعيمه وعقيدته ضرورة تاريخية يجب التضحية بكل شيء من اجل الحفاظ عليها وبالتالي يفصل المجتمع على أساس الجسد الحزبي والعقائدي ولا باس ببتر أجزاء واسعة من المجتمع ليلاءم هذا القياس وبذلك يكون المواطن متهما ومعرضا إلى شتى صنوف القمع ومصادرة الحريات والحياة. وفي ظل أنظمة وأحزاب كهذه تلغى الحرية تماما ويشيع النفاق الفكري والسياسي والاجتماعي. إن هذه الأنظمة تمثل الهيمنة المطلقة للمجتمع السياسي على المجتمع المدني مما يضيق من هامش الحركة الاجتماعية المناضلة ويعزلها عن الفعل السياسي والتدخل الحقيقي في الشأن العام. إما في الأنظمة الليبرالية فان الجماهير تنتخب ( ممثليها ) كل عدد من السنين وفق وعود انتخابية لا تنفذ لتعود إلى سباتها . إن الطابع لهذه الأنظمة طابع مزيف حيث إن صنع القرار في أيدي حلقات ضيقة في أجهزة الدولة تسيرها مصالح القوى المتنفذة في الطبقة السائدة غير إن هامش الحريات يكون أفضل بالنسبة إلى الحركة الاجتماعية المناضلة ومصالح الكادحين . كتب القاضي الأمريكي ( برنانديز ) إن ( اكبر خطر على الحرية هو سلبية الشعب ) وفي رأي ( برنانديز ) ليست الحرية السياسية في ذاتها ضمانا للحرية الكاملة فالفرد لا يمكن إن يعتبر حرا تماما حتى لو تمتع بكل ما ينطوي عليه ( صك الحقوق ) من حقوق . والمشكلة تنبثق بان الفرد ليس حرا اقتصاديا. إن تحرر الإنسان لا يمكن إن يتهم إلا بإنهاء ارتهان الإنسان إلى العوامل الاقتصادية. لكي نتخلص من هذه الأرتهانات لابد من وضع الأسس الفكرية والتنظيمية لإنهاء الاستنكافية السياسية للجماهير . إن أسلوب التفويض يجعل من الثورة الاجتماعية ثورة الطليعة ( المسندة ) من الجماهير و عندما ( لا ترتفع ) الجماهير إلى مستواها تتكون من الطليعة طبقة بيروقراطية ذات مصالح ( خاصة ). إن أي ترقيع لهذه الإشكالية يكون عبثا فليس من الممكن إن ( يتطابق ) الوعي بين طبقة واسعة وطليعة ضيقة منظمة على جملة من العقائد بسبب الإلية الذاتية لكل ايدولوجيا وسعيها إلى التكامل وتقديم حلول نهائية بل إن المطلوب نقض التنظيرات وأساليب العمل القديمة جديا وليس ترقيعها .
على طريق مجتمع الحرية والعدالة
من خلال هذه الرؤية للتجربة الاشتراكية نرى إن الماركسية قد جزئت لتتحول تارة إلى نظرية اقتصادية أو نسق عقائدي جامد أو نظرية طبقية ضيقة . لقد ساعد على هذا الفهم الصراعات التي خاضها مؤسسوها وفق الظرف التاريخي المحدد وطبيعة الصراعات التي رافقت نشوء النظام الرأسمالي و طبيعة الأنظمة السائدة والفلسفات العديدة حيث كان ذلك العصر بحق عصر الفلسفة, ساعد ذلك على النظر إلى الماركسية نظرة مجزئة حيث فهمت هذه النظرية كمخطط جاهز للتطبيق وعقيدة جامدة وسيطرت على قياداتها مفاهيم شمولية واستبدادية . إن الماركسية قد عنت بالأساس بإلغاء كل الأرتهانات التي تستلب وتشيء الإنسان وفق منظور تاريخي ومنهج علمي وصولا إلى الحرية الكاملة حيث ( إن كل إنسان يصبح اجتماعيا تماما حيث يكون النمو الحر لكل فرد الشرط في النمو الحر للجميع ) . إن علينا أن نفهم إن كل ما يبدو في الأدبيات الماركسية ( كدوغما ) هو جزء من متطلبات الصراع الفكري المعين تاريخيا والمتأثر والمتحدد بالإيديولوجيات السائدة وقتها وليس كعقائد مقدسة نتعكز عليها لنطلق النعوت السيئة على الآخرين بل نعتمد على منهجها التحليلي لفهم الظواهر الاجتماعية والسياسية .. الخ . كفلسفة للبراكسس المتجدد. إن علينا إن نعيش عصرنا ونخوض صراعاته . عندما كتب ماركس رأس المال لم يكن يضع عقيدة اقتصادية بقدر ما كان يريد إن يثبت إن الرأسمالية تشيأ العمال جاعلة العلاقات بين الناس علاقات سلعية ربحية تسرق حقوق العمال وبالتالي إلغاء الطبيعة الإنسانية والاجتماعية في العلاقات بين الناس . وعندما هاجم الدولة وحلل جذورها الاجتماعية لم يكن يضع عقيدة في الدولة بقدر ما أراد إن يثبت أنها أداة للقمع والإكراه تحافظ على مصالح الطبقة السائدة . ويمكن النظر إلى جميع الصراعات الماركسية الفكرية على هذا الأساس إن ما حدث اثبت إن أي تراجع عن النقد الماركسي للنظام الرأسمالي كونه كلا مترابطا يربط بمفهوم أساس هو إن جوهر الماركسية هو فلسفة الحرية وان هذه الفلسفة ليست خيارا فلسفيا فقط بل هي تتويج لسعي الإنسانية عبر التاريخ نحو الحرية. أنها التعبير الاجتماعي الواقعي الذي نضج موضوعيا بفعل النظام الرأسمالي الذي أنتج البرولتاريا . إن هذه الرؤية المتواضعة هي مساهمة للإجابة على السؤال الكبير هل إن حلم البشرية في إقامة العدالة الاجتماعية وتحقيق الحرية مجرد حلم لم يتحقق ؟ من السذاجة بمكان التصور إن الإجابة على سؤال كهذا سيكون سهلا ومدرسيا وإذا تجاوزنا الفلسفات المعادية للإنسان فان الكرة ستقع في ملعب الحركة العمالية والتحررية فهي الوحيدة المؤهلة للإجابة. إن الإجابة على ذلك هي جهد نظري _ عملي يجد نفسه انتقاديا للتجربة السابقة للعمل الاشتراكي إضافة إلى صراعه مع الفلسفات المعادية للإنسان . إن مفهوم ماركس للحرية يعبر عنه بتحليل الإبعاد الاقتصادية الاجتماعية لجذور الاستبداد والاستغلال وسبل تجاوزهما. إن استعادة الماركسية كنظرية للبراكسس مسالة ملحة ليس للعمال فقط وإنما للشرائح الواسعة للمجتمعات الإنسانية . إن البديل الذي نطرحه كيسار جديد يتميز بنظرية لا تبتر جزءا من القدم الاجتماعي الواقعي من أجل أن يتلاءم مع مقياس الحذاء الأيديولوجي , كما أنها لا تعتبر الصراع الاجتماعي نتاجا لتخطيط أيدلوجي خالص كما أنها ليست انعكاسا ميكانيكيا للواقع الاقتصادي. أنها نظرية مضادة للأرادوية بقدر ما هي مضادة للجبرية أي إن الإرادة ليست مستقلة عن الشروط الواقعية والموضوعية للصراع الاجتماعي وان الحتمية ليست قدرا حتميا مفروغا من حدوثه بل يرتبط بالنشاط الذاتي والمسارات التي يتخذها سلبا أو ايجابيا . إن ( حتمية ) النظام الاشتراكي هي أمكان بمعنى إن الشروط الموضوعية لتحقيق نظام اشتراكي متوفرة. فالنظام الرأسمالي يسير في نفق مسدود . إن تمركز رأس المال يتجه نحو تكوين اوليغارشية ضيقة معادية لبحر كبير من المجتمعات الإنسانية وما يترتب على ذلك من استبداد وطغيان يجعل من معركة الحرية بالمفهوم الماركسي ليست معركة طبقية ضيقة وان كان عمادها الكادحين وإنما معركة أغلبية المجتمعات ضد هذا التمركز وما يفرزه من ماس . إننا اليوم نرى الإمكانية الاشتراكية أكثر قربا من التحقق رغم الانحسار الظاهر للحركة الاشتراكية والذي هو انحسار مؤقت . إن ( الإمكانية الاشتراكية ) هي النضال من اجل التحرر والعدالة . إن هذا التصور يمثل جوهر الماركسية الحية ونقدها لأسس والية النظام الرأسمالي. إن سيطرة تيار ( اشتراكية الدولة ) طيلة عقود قد استبعد في حينه ظهور الاشتراكية التحررية حيث اعتبر الحرية كأفكار برجوازية وان الاستبداد الذي شاع باسم الاشتراكية هو من طبيعة الاشتراكية وبذلك غيبت حركة الطبقة العاملة لصالح آيدولوجية رأسمالية الدولة وسببت تغييب ( الحقيقة ) الاشتراكية . إن الميل نحو الديمقراطية والحرية ليس ميلا برجوازيا كما يبدو بل هو ميل عمالي بحاجة إلى التبلور والتأسيس النظري, أذا ما تسالمنا على أن الرأسمالية معادية للديمقراطية والحرية لسبب بنيوي بل أنها غير مخلصة حتى لمثلها اللبرالية التي كثيراَ ما تتجاوزها وتركنها على الرف أذا ما تعرضت مصالحها للخطر والشواهد على ذلك كثيرة , سواء في سياستها الداخلية أو الخارجية .
#كريم_هاشم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟