|
سقوط زيتونة !
محمود الباتع
الحوار المتمدن-العدد: 2052 - 2007 / 9 / 28 - 04:22
المحور:
سيرة ذاتية
بعد أن انتصف الليل وبينما كانت القلوب المؤمنة تتوجه بالدعاء والرجاء إلى الرحمن وبينما كانت ألسنة الذاكرين تلهج بآي الذكر الحكيم وبينما ارتفعت أكف المتضرعين إلى الرحمن بالرجاء والأمل في الرحمة والغفران وإصلاح حال العباد الذي يأبى أن ينصلح، وبينما كانت ملائكة السماء تبارك ركوع الراكعين وسجود الساجدين وعبادة العابدين إذ جاء منهم ملاك طاهر ليصحب معه روحاً طاهرة في أرض طاهرة لتلبي نداء رب العرش العظيم الذي قدر لكل أجل كتابه ولكل عملٍ حسابه، ولتصعد إلى باريها روح الدكتور المناضل حيدر عبد الشافي الذي لبى نداء الحق قبيل فجر الثالث عشر من رمضان الموافق الخامس والعشرين من أيلول الجاري في مدينة غزة المنكوبة بعد أن عاش في دنيا الفناء هذه زهاء تسعين عاماً قضاها في خدمة شعبه ووطنه وفي سبيل قضيته مناضلاً من أجل تحصيل الحق الفلسطيني في الحرية والكرامة والاستقلال، باذلاً في سبيل هذا الهدف كل غالٍ ونفيس من جهد ومال وتضحيات ليصبح قصد ولا سعي منه إلى ذلك رمزاً كبيراً وتاريخياً من الرموز الوطنية الفلسطينية التي زخر بها ذلك الوطن الشهيد. ولد القائد الراحل في غزة هاشم الفلسطينية في العام 1919 بعد عامين من الوعد اللعين للإنجليزي بلفور والذي أعطى بموجبه من لايملك لمن لا يستحق وطناً قومياً لليهود في فلسطين، وهكذا أصبحت حياة الدكتور عبدالشافي تجسيدأ للتزاوج بين العذاب الذي حكمت به المقادير بتواطؤ بين الزمان والمكان على كل من تصادف وجوده مواطنا على تلك الأرض في ذلك الوقت وبين الإصرار الفلسطيني الذي أصبح قدراً لا فرار منه ولا بديل عنه على كل من حمل هوية ذلك التراب ليصبح الدكتور عبد الشافي نموذجاً للفلسطيني الأصيل الذي لم يلبس ثوباً غير ثوب وطنه ولم تلوثه انتماءات حزبية أو فصائلية ولم تدنس يديه أموال مشبوهة المصدر أو الهدف ولم يعرف عنه إلا أنه ولد وعاش ومات فلسطينياً ولم تعرف له هوية غير تلك. تلقى حيدر عبد الشافي تعليمه الأساسي في مداؤس غزة ومن ثم درس الطب ليتخرج طبيباً من الجامعة الأميركية في بيروت عام 1943 ليصبح من الأعضاء المؤسسين للمجمع الطبي العربي اعتباراً من العام 1945 وقد مارس الطب في المستشفى الحكومي في يافا وكان رئيساً للقطاع الطبي في غزة بين عامي 1957 و 1960 لم يكن خلالها مجرد طبيب فقد انخرط شأنه شأن سائر الشباب الفلسطيني في ذلك الوقت في العمل السياسي والوطني حيث ترأس أول برلمان فلسطيني في غزة منذ العام 1962 وحتى 1965 والذي كان يطلق عليه آنذاك اسم "المجلس التشريعي" وهي التسمية ذاتها وقد استعيرت لتطلق على برلمان اليوم. اشترك الراحل الكبير مع القائد الفلسطيني الراحل أحمد الشقيري في تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964 وهي الذريعة التي اتخذتها سلطات الاحتلال الإسرائيلي لتبعده بها إلى لبنان عام 1970 بتهمة نشاطه المرتبط بالمنظمة "التخريبية" كما كانت إسرائيل تسميها ليعود إلى غزة ويرأس الهلال الأحمر الفلسطيني فيها منذ العام 1972 جامعاً بين العمل الطبي والنشاط السياسي والخدمة الاجتماعية إلى أن تم اختياره من قبل الولايات المتحدة الأميركية رئيساً للوفد الفلسطيني المفاوض في مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 ومحادثات واشنطن بعدها وقبول إسرائيل بهذا الاختيار وبتشكيلة الوفد الذي ضم ضمن آخرين كلاً من الدكتورة حنان عشراوي والدكتور صائب عريقات باعتبارهم من الشخصيات الفلسطينية الشعبية المحلية والغير منتمية إلى منظمة التحريروقتها نظراً لعدم اعتراف أي من الولايات المتحدة وإسرائيل بالمنظمة حتى تاريخه، ويذكر أن الوفد الفلسطيني كان قد جرى إلحاقه بالوفد الأردني الذي كان يمثل المملكة الأردنية في تلك الاجتماعات، غير أن السلوك المستقل للوفد الفلسطيني وإصرار المفاوضين المستقلين على المرور على تونس على طريق عودتهم إلى أرض الوطن لإعطاء تقاريرهم عن كل جولة مفاوضات إلى الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات والقيادة الفلسطينية والتأكيد في كل مرة على تلقي التعليمات المناسبة من تلك القيادة قد أرغم الإسرائيليين والأميركان على التسليم في آخر الأمر بمشروعية منظمة التحرير ورئيسها في تمثيل الشعب الفلسطيني بعد أن وضعتهم تلك الشخصيات التي اختيرت بعناية لتكون بديلاً محلياً عن منظمة التحرير أمام حقيقة أبوا طويلاً إلا أن يتعاموا عنها. ليس سوى الانتماء الوطني هو ما حدا بالدكتور حيدر عبد الشافي إلى التصرف بمثل هذه الطريقة وليس سوى نكران الذات هو ما دفعه إلى فرض القيادة الشرعية للشعب على طاولة التفاوض وقد كان بإمكانه لو أنه فعل كما فعل بعض الانتهازيين لاحقاً أن يقبل الخيار الأميركي وأن يدير ظهره لشعبه وقيادته الشرعية وأن يأكل ومن معه وحدهم ثمرة الوطن المحرمة، ولكنه نبل الهدف ونقاء الوسيلة وصفاء النوايا ولا شيء غير ذلك هو ما دفع بهؤلاء إلى تسليم الأمانة إلى أصحابها وتحميل كل ذي حمل حمله، وهو أمر لا يمكن إلا أن يحسب للدكتور حيدر ومن كانوا معه على الرغم مما كان من أمر بعد ذلك. ولأن الوطنية طهر والسياسة عهر فإن رومانسية الحالمين لا بد أن تتصادم مع ألاعيب الساسة، وهكذا كان فبعد أن ترأس حيدر عبد الشافي المفاوضات عن الجانب الفلسطيني لمد عامين ذاق فيهما الأمرين من تلاعب الطرف الآخر ومراوغته وتسويفه وكان مصدر ضيق شديد لكل من الطرفين الأمريكي والإسرائيلي بمواقفه المتمسكة بالحق الفلسطيني وبالثوابت الوطنية الفلسطينية ما حدا بالأميركان والإسرائيليين إلى المطالبة باستبداله بوجوه أكثر مرونة بما يعني أكثر قدرة على التنازل والتفريط، وفي ظل هذه الأجواء كشف النقاب عن وجود قناة تفاوض سرية بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية تجري وقائعها تحت طي الكتمان في أوسلو عاصمة النرويج، الأمر الذي اعتبره الدكتور عبد الشافي بمثابة طعنة غادرة في الظهر لا يستحقها من القيادة التي وثق بها وعمل مع رفاقه على دعم شرعيتها وفرضها على المسرح التفاوضي لتبادله الصنيع بالإهانة التي لم يتقبلها فما كان منه إلا أن قدم استقالته المسببة من رئاسة الوفد المفاوض وعاد إلى غزة ليشرح لأنصاره أبعاد ما جرى بشفافية القائد وإباء المناضل الكبير وليعلن رفضه لذلك الأسلوب الذي اتخذ من التفاوض على استرجاع الحقوق المشروعة وكأنه مؤامرة تدبر بليل وتحاك خيوطها تحت جنح الظلام تماما كما يفعل اللصوص، فالحق من السطوع والشرعية بحيث لا ينبغي استعادته إلا جهاراً وعلى رؤوس الأشهاد حتى وإن كان ذلك عن طريق التفاوض. ولأن الرجل كان كبيراً وبحجم الوطن فقد تسامى على جرحه ومضى في سبيل خدمة بلده وأهله من أبنائها ورغم رفضه لأسلوب أوسلو فإنه لم يأنف من التعامل مع نتائجها حيث أبى أن يكون أقصر قامة من نفسه فقد رشح نفسه لعضوية المجلس التشريعي عن دائرة غزة في أول انتخابات تشريعية أجريت بعد عودة القيادة الفلسطينية إلى أرض فلسطين في العام 1993 ليفوز بعضوية ذلك المجلس بعد أن نال أكبر عدد من الأصوات يحصل عليها مرشح واحد حتى اليوم، لكنه سرعان ما استقال من المجلس التشريعي إثر ملاسنة جرت بينه وبين الرئيس ياسر عرفات احتج فيها على حضور الرئيس لجلسات المجلس ومشاركته في مناقشاته حيث شرح موقفه قانونياً بأن من حق الرئيس الحضور كرئيس للسلطة لكن ما ليس من حقه هو المشاركة في النقاشات التي يجريها ناهيك عن أن يوجهها، وقد ضّمن استقالته احتجاجاً علنياً على استشراء الفساد في أجهزة السلطة وبين رموزها الذين اتهمهم بالتقاعس عن مواجهته فضلاً عن التورط فيه. وطالما كان يقول لمقربيه "لا يمكن أن أعيش في بيئة مملوءة بالهواء الفاسد" مؤكداً إنه لم ولن ينزع عباءته الوطنية ولم ولن يتغنى إلا باسم فلسطين ولن يرفع غير علمها وحده رغم كثرة الأعلام والشعارات التي يزدحم بها الوطن. بعد تركه المجلس التشريعي أسس الراحل الكبير بالاشتراك مع كل من د.مصطفى البرغوتي وابراهيم الدقاق المبادرة الوطنية الفلسطينية في حزيران من عام 2002 التي تهدف كما جاء في إعلانها التأسيسي إلى "النهوض بالشعب الفلسطيني نحو الحرية والاستقلال ومن أجل العدالة والنزاهة والعيش الكريم وحماية القرار الفلسطيني المستقل وتحقيق السلام العادل" وتدعو المبادرة كذلك إلى التصدي للضغوط الإسرائيلية والخارجية والعمل على استمرار الكفاح الوطني من اجل إنهاء الاحتلال والاستيطان وإقامة دولة فلسطين لديمقراطية المستقلة على كامل الأراضي المحتلة عام 1967 وحماية حقوق اللاجئين الفلسطينيين في العودة، والعمل على كسر الحصار الاحتلالي وإفشاله. كما تطالب بإصلاح جذري حقيقي وشامل يتجنب إنصاف حلول، ويتم برؤية فلسطينية كفاحية متفائلة بهدف تعزيز الصمود الوطني والوحدة وإعادة الثقة للمواطنين والمناضلين الفلسطينيين وأبناء الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات. وتقديراً لدوره في خدمة وطنه وشعبه الرئيس الفلسطيني تكريماً يستحقه في حزيران الماضي بتقليده وسام نجمة الشرف، كما سوف يكرمه التاريخ باعتباره رمزاً صلباً من رموز الوطنية الفلسطينية وستذكره أرض فلسطين كزيتونة عتيقة وإن كانت قد هوت كآلاف غيرها فإن الأرض لن تعجز عن إنبات المزيد والمزيد بعد أن قضى الراحل الكبير كمداً وحسرة على ما أفنى عمره في سبيل خدمته، له ولأمثاله وهم كثيرون الرحمة والخلود ولأهله ومحبيه الصبر والسلوان، ولكم خالص مودتي !
#محمود_الباتع (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل كان يجب أن تموت بدور؟
-
الإنسان والغريزة والأخلاق
-
نحو فلسفة أخلاقية للاختلاف
-
أحداث نهر البارد .. من المسؤول؟
-
عاشقة الليل تستأذن بالرحيل
-
نحن وعصر المابعديات
-
رعاةُ البشر .. فرقوا ولم يسودوا
-
ماذا نريد من العلمانية ؟
-
الأكراد والعرب .. أية علاقة؟
-
التطرف ومنهجية التقديس
-
قراءة في إعلامنا الأصفر
-
عيدٌ للحب .. ما المانع ؟
-
قلبي للبيع
-
فلسطين .. بين الموت والحياة
-
إعدام صدام .. إحياء ميت
-
تهويمة العيد والعام الجديد
-
المرأة المفترية .. والرجل المفترى عليه
-
ربوني .. وبعرف أهلي
-
الرجل متوحش ولكن .. لماذا تتوحش المرأة ؟
-
شرَّعتُ قلبي
المزيد.....
-
هل يعارض ماسك الدستور بسبب حملة ميزانية الحكومة التي يقودها
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وأخرى تستهدف للمرة الأولى-..-حزب
...
-
حافلة تسقط من ارتفاع 12 مترا في حادث مروع ومميت في فلاديفو
...
-
بوتين يتوعد.. سنضرب داعمي أوكرانيا بالسلاح
-
الكشف عن التاكسي الطائر الكهربائي في معرض أبوظبي للطيران
-
مسيرات روسية اختبارية تدمر مركبات مدرعة أوكرانية في اتجاه كو
...
-
مات غيتز يتخلى عن ترشحه لمنصب وزير العدل في إدارة ترامب المق
...
-
أوكامبو: على العرب الضغط على واشنطن لعدم تعطيل عمل الجنائية
...
-
حاكم تكساس يوجه وكالات الولاية لسحب الاستثمارات من الصين
-
تونس.. عبير موسي تواجه تهما تصل عقوبتها للإعدام
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|