عايد سعيد السراج
الحوار المتمدن-العدد: 2051 - 2007 / 9 / 27 - 11:00
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
كيف نثبت أن القرآن معجز , وما هو التحدي الذي جاء به القرآن ليثبت ذلك 0
(00 إن مسألة إعجاز القرآن من المسائل التي عني بها علماء الإسلام منذ أواخر القرن الثاني للهجرة , حتى أفردوها بالتأليف , وقد ألف فيها جماعة منهم القاضي الباقلاني وكتابه أحسن كتاب ألف فيها كما يقولون 0
وأنت إذا نظرت في كتبهم بإمعان وقرأتها بتدبير رأيتهم يتكلمون عن إيمان واعتقاد لا عن تدبر وتفكير 0 ولا ريب أن الإنسان إذا تكلم في أمر ديني يؤمن به ويعتقد بصحته كان منحازاً إليه في كل ما يقوله عنه , وكان إيمانه به واعتقاده بصحته حجاباً دون كل ما خالفه أو أزرى به , وقد قيل الحب يعمي ويصم , ولا ريب أن الإيمان كالحب يعمي ويصم أيضاً , فكما أن الحب يعمي صاحبه عن معايب الحبيب , وكذلك الإيمان بكمال شيء يعمي صاحبه عن نقائصه 0 ولذا تراهم بما قالوه وادعوه مبالغين في إعظام القرآن ومفرطين فيما يدعون من إعجازه , كما تراهم جعلوا كل / 898/ ما فيه الذروة العليا من البلاغة والفصاحة , واتخذوه المقياس الأعلى الذي تقاس به درجات البلاغة , فلا يرون له عيباً ولا يسمعون عليه من خصومهم حجة , ولا يقبلون منهم برهاناً 0 فبالنظر إلى هذا أصبح موضوع إعجاز القرآن ليس بموضوع فني أدبي , وإنما هو ديني بحت 0 فكل من شذ عنه فهو في نظرهم كافر , وكل من خالفه فهو في رأيهم ملحد0 فمسألة إعجاز القرآن أصبحت من المسائل الدينية التي لا يغني فيها العقل ولا تنفع فيها الحجة , لأن المسائل الدينية ما التقى فيها خصمان إلا افترقا لما التقيا , وكل منهما منشد بلسان حاله قول من قال :
نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض ٍ والرأي مختلف
نقول على فرض أنهم في أقولهم صادقون وفيما يدعونه مخلصون , وإلا فنحن من ذلك في شك مريب , وإن جاز لدينا أن يكون فيهم من هو صادق في قوله ومخلص في دعواه 0 وهذا كتاب القاضي الباقلاني قد قالوا أنه أحسن كتاب ألف في إعجاز القرآن , ولكن كل من طالعه بتروٍ وقرأه بتدبر وإمعان أيقن أن مؤلفه من الرعيل الأول من المرائين , وأنه بتأليفه من طلاب الدنيا لا من طلاب الحقيقة , ولولا الخروج عن صدد ما نحن فيه لأتيت هنا بأدلة وشواهد على ذلك من كتابه المذكور 0
وإنّ مسألة إعجاز القرآن إن اعتبرت مسألة فنية أدبية محضة لكان للمنطق فيها مجال , وللحجج والبراهين فيها حيال ونزال , ولكن كيف والأفكار غير حرة , وأين والعقائد التقليدية دائبة مستمرة 0 وأيضاً إن الذين كتبوا في تفسير القرآن وفي إعجازه لم ينشأوا / 899/ إلا في القرن الثاني , ولم تطلق إذ ذاك للفكر ولا للقول حريته , وغي هذا القرن نشأ الإيمان التقليدي الذي يكون المرء فيه تابعاً لدين أبويه 0 والذي هو أقوى وأرسخ في قلوب أصحابه من الإيمان الناشئ من أسباب غير التقليد 0 وسيأتيك الكلام عن الإيمان وعن ألوانه قريباً 0
وكيف تطلق للناس حرية أفكارهم وأقوالهم في عصر كل ما فيه قائم باسم الدين , فالدولة والحكومة والخليفة والملك والأمير والوزير والقاضي والقائد والجيش , كل ذلك مصبوغ بصبغة الإسلام ومخضوب بخضاب ديني لا نصول له منه 0 فليس من مصلحة أحد من هؤلاء أن تكون الأفكار حرة خصوصاً في الدين وصبغته , بل رجال الحكم كلهم ولا سيما كبيرهم يعملون في جانب هذه الصبغة على بقاء ما كان على ما كان , ويراقبون النصول منها في السواد الأعظم بمكل ما عندهم من حول وطول 0
وإن هذه الحالة دائمة مستمرة إلى يومنا هذا , بل هي في زمننا أشد وأنكى , فلا يستطيع أحد منا اليوم أن يكتب كل ما كتبه كتاب السيرة النبوية في عصر التدوين , فضلاً عن نقاشهم فيما رووه وذكروه 0 هذه مصر , وفيها من أهل العلم والأدب من فيها , فلا يستطيع أحد منهم أن يكون حراً في أفكاره إذا خطب أو كتب إلا فيما لا يمس الدين , وقد كتب الدكتور حسين هيكل كتاباً في السيرة النبوية لم يأت فيه بأكثر مما قاله الأولون , لأنه غير حر فيما يكتب ويقول , وكيف يكون حراً وهو يرى الجامع الأزهر مطلاً عليه بعمائمه المكورة على اللجاجة ترقبه بعين الغضب إذا حاد عن طريقها لكي تثور عليه وتمور ومن ورائها السواد الأعظم 0
ولا ريب أن هذه الحالة أينما وجدت وجد الرياء فهو معها , / 900/ لا يفارقها في كل زمان ومكان 0 ولله در أبي العلاء إذ قال :
أرائيك فليغفر لي الله زلتي فديني ودين العالمين رياء
والرياء , قبحه الله , من أكبر الرذائل الاجتماعية لأن فيه التمويه والتضليل وكلاهما من سموم السعادة في الحياة الاجتماعية 0
قلنا : إن الذين كتبوا في إعجاز القرآن لم يتكلموا عن تدبر وتفكير (1) 0 ولو يكونوا أحراراً في أفكارهم , وإنما تكلموا عن إيمان واعتقاد , وذلك وحده كاف لانحيازهم إلى القرآن 0 زد على ذلك أن منهم المخلص في إيمانه ومنهم غير المخلص , فيجوز أن يكون غير المخلص مندفعاً إلى كتابة ما كتبه بدافع الرياء إما لنيل منصب يعلو به , وإما لشهرة يكبر بها , أو غير ذلك مما تتطلبه مصلحته الذاتية في محيط كل ما فيه قائم بأسم الدين 0
فإن قلتُ : في الزمان الذي نشأ فيه من ألفوا كتباً في إعجاز القرآن قد نشا أناس من الزنادقة أيضاً وهم أحرار في أفكارهم , فلماذا لم يردوا على هؤلاء ما قالوه في إعجاز القرآن ؟ قلت ُ : نعم قد نشأ معهم أناس من الزنادقة أيضاً , ولكنهم ليسوا بأحرار في أفكارهم كما تقول , بل كانت عقوبة الزندقة القتل إذا تكلم بما يخالف الدين 0 وقد قتل العباسيون كثيراً من الزنادقة , ولم يكتفوا بقتلهم بل محوا كل ما كتبوه وطمسوا كل أثر تركوه , فأين ما كتبه أولئك الزنادقة وأين الدامغ لابن الراوندي 0
وكذلك فعل الرواة الأولون والذين دونوا السيرة النبوية , فإنهم طمسوا كل ما قاله خصوم محمد من الشعراء وغيرهم فلم يصل إلينا / 901/ من أقوالهم إلا النزر اليسير الذي لا يعتد به , ولم يذكروا لنا من شعر أمية بن أبي الصلت إلا شيئاً قليلاً , ولا من قرآن مسيلمة إلا جملة أو جملتين , ولو أنهم ذكروا لنا ذلك لكنا على بصيرة في الحكم بينهم وبين محمد أكثر مما نحن عليه اليوم 0
وإن ابن هشام صاحب السيرة المشهورة قد جنى على العلم والأدب جناية كبرى باختصاره سيرة ابن إسحاق , فإنه لم يختصرها بل قتلها قتلاً وحشياً فلم يبق منها إلا الاسم , ففقدت سيرة ابن إسحاق التي كتبها مطولة والتي اختصرها هو بأمر المنصور, فلا يوجد اليوم لها أثر , فأسفاً على ما أصيب به العلم من فقدها 0
* التحدي والمعارضة
ومهما يكن فإني هنا لا أريد أن أذكر لك شيئاً مما قالوه في إعجاز القرآن اللهم إلا ما مست الحاجة إلى ذكره مما لا بد منه , فإن كتبهم متداولة فارجع إليها إن شئت 0 وإنما أذكر لك ما أراه وأشعر به وما كنت أفكر فيه منذ زمان 0 وقبل الدخول في الموضوع أقول كلمة في معنى التحدي والمعارضة ؛ يقال : تحدى فلان فلاناً إذا نازعه الغلبة ودعاه إلى أن يفعل مثل فعله ليعلم أيهما الغالب , ويقال : عارض فلان فلاناً بمثل صنيعه إذا فعل مثل فعله وأتى إليه بمثل ما أتى به , كما هو مذكور في كتب اللغة 0
هذا , واعلم , وفقك الله , أن أفعال البشر قسمان , جسمانية وروحانية و أو بعبارة أخرى جسمية وقلبية , لأن النحاة قد سموا علم وأخواتها بأفعال القلوب و وعنوا بذلك الأفعال التي تقوم بالنفس لا بالجسم كالعلم والظن والمخالة والحسبان / 902/ ( بكسر الحاء ) , وأن الناس في أفعال القلوب مختلفون كل الاختلاف , وبعيدون عن التساوي فيها كل البعد حتى يكون أحدهم منها في الثريا والآخر في الثرى 0
يجوز أن يساوي أحدهم الآخر كل المساواة ويماثله كل المماثلة في أفعاله الجسمانية , ولكن لن يجوز ذلك في أفعال القلوب , فإن لكل واحد منهم في فعله القلبي درجة خاصة به لا يشاركه ولا يساويه فيها غيره , كما أن لكل واحد منهم في وجهه سحنة وملامح لا يماثله فيها غيره من الناس 0 وما يظهره في وجوه بعض الناس من المشابهة إنما هو تقارب في السحنة وليس هو إذا أنعمت النظر بمشابهة مطلقة 0 قلت َ : لماذا كان الناس هكذا في أفعال قلوبهم ؟ قلتُ : لأن الله كذا خلقهم وعلى هذا جبلهم وأفعال الله لا تعلل 0 وهنا أتذكر ما أجاب به أحد النحاة ( وأظنه الكسائي ) لما سألوه عن وجوه استعمال " أي" وما يعتورها من الإعراب والبناء فقال : أي كذا خلقت 0
ولا ريب أن الكلام الذي يتفاهم به الناس هو المعنى الذي يحيك في القلوب ويجول في النفوس , وما الألفاظ سوى آلة محدودة وواسطة لأدائه , وهي معدودة محدودة , والمعنى واسع بلا حد , وبحر بلا ساحل ولذا قلت في قصيدة :
وفي النفس ما أعيا العبارة كشفه وقصر في تبيانه النظم والنثر
أرى اللفظ معدوداً فكيف أسومه كفاية معنى فاته العد والحصر
فالكلام إذن باعتباره أنه المعنى يعد من أفعال القلوب , بل هو أجلها وأعظمها في الذروة العليا منها , ولذا امتاز به الإنسان على الحيوان الأعجم 0
إذا علمت هذا فاعلم أن معارضة الكلام والإتيان بمثله من كل الوجوه تكاد تكون من المستحيلات 0 نعم , تجوز المقاربة على سبيل التقليد , فقد يوجد في الناس من له قدرة فطرية على تقليد أفعال من شاء من الناس وأقوالهم , فتراه يعمد إلى واحد من الناس فيقلده فيمشي مثل مشيه , ويجلس مثل جلوسه , وينظر مثل نظره , ويتلهج في الكلام مثل لهجته حتى تقول كأنه هو 0 ولكن هذا تقليد , والمقلد في الكلام لا يعد معارضاً لأنه لم يأت بشيء من عنده وإنما هو ناسخ كالذي ينسخ كتاباً من كتاب , كما فعل مسيلمة إذ حاول أن يقلد بكلامه القرآن فلم يأت إلا بسخيف لا طائل فيه كقوله : " لقد أنعم الله على الحبلى , أخرج منها نسمة تسعى , من بين صفاق وحشا " , وكقوله : " والطاحنات طحناً , والعاجنات عجناً , والخابزات خبزاً والثاردات ثرداً , واللاقمات لقماً " , كما في السيرة الحلبية (1) 0 ففي كلامه هذا تقليد لأسلوب القرآن بل هو مسلوخ من القرآن سلخاً 0
نقول هذا بالنظر إلى هذا الذي وصل إلينا من كلامه , ولو أنهم ذكروا لنا كل ما قاله لجاز أن نحكم غير هذا الحكم , على أن محمداً لم يتحدَّ الناس بآية أو آيتين , وإنما تحداهم بسورة ولم يذكر الرواة لنا سورة من قرآن مسيلمة 0
ولكن مسيلمة على علاته وعلى خلوه من كل صفة تأهله للنبوة قد آمن به كثير من الناس فاعتز بهم , حتى إن جيشه لما قاتل المسلمين في حروب الردة كان أكثر من عشرة آلاف مقاتل , وقد هزم / 904/ جيشين للمسلمين , فجاءه خالد بن الوليد بجيش ثالث لا يزيد على أربعة آلاف من المسلمين , فالتقى بهم خالد في عقرباء ( منزل من أرض اليمامة ) فوقعت بين الفريقين يوم عقرباء ملحمة كبرى سالت فيها الدماء , وكاد جيش خالد ينهزم لولا أن تداركه قائده البطل المغوار بهمته العالية وبطولته الفذة , ثم انجلت المعركة عن قتل مسيلمة وتمزيق جيشه شر ممزق بعدما خسر أكثر من ثلاثة آلاف قتيل , كما خسر خالد أيضاً من جيشه ما يزيد على ألف قتيل (1) 0 ولولا قوة عزم أبي بكر وعلة همة خالد لكان مسيلمة شأن غير شأنه اليوم 0
على أن مسيلمة مهما كان فسلاً من الفسول فهو خير من طليحة الأسدي والأسود العنسي ومن سجاح التي ادعت النبوة في عهده , وكل هؤلاء وجدوا لهم اتباعاً آمنوا بهم وصدقوهم , ولله در أبي العلاء إذ قال في لزومياته :
إني رأيت بني الزمان لجهلهم بالدين أمثال النعام أو النعم
لو قال سيد غضا بعثت بملة من عند ربي قال بعضهم نعم
لقد أخرجنا شؤم مسيلمة عن صدد الكلام , فلنرجع إلى ما نحن فيه 0 إذا كان الكلام من أفعال القلوب , وكانت المعارضة فيه من المتعذرات إن لم نقل من المستحيلات , فقد علمنا شأن المعارضة وعلمنا مبلغها من النجاح , ولو أن المتنبي مثلاً أراد أن يعارض قصيدة من شعر غيره لما جاز أن يأتي بمثلها من كل الوجوه 0 ومن العبث دخول الشاعر أو الكاتب في المعارضة لأنها تؤول إلى نقصه على كل حال , وهذا الشاعر المصري شوقي عارض ميمية البوصيري / 905/ المسماة بالبردة فلم يأت بمثلها , وإنما أتى بما هو دونها عدا ما هو ظاهر في قصيدته من التكلف 0 ولشوقي شعر لا تطمع فيه نفس البوصيري , وما ذاك إلا أن لشوقي روحاً غير روح البوصيري , والكلام فعل روحاني كما قلنا , فلا يستطيع شوقي أن يلقي على قصيدته روحاً مثل روح البوصيري في ميميته 0
وهذا المعري قيل إنه عارض القرآن في كتابه المسمى بالفصول والغايات , وقد طبع حديثاً في مصر من هذا الكتاب , فلما اطلعت عليه قلت : وأين الثريا من يد المتناول 0
وقبل كل شيء إن أسلوب المعري في كتابه هذا أسلوب عامي مبتذل , وأسلوب القرآن أسلوب خاص مبتكر , فكيف يعارض القرآن بكتاب جلّ ما فيه أن كاتبه جمع في عباراته شيئاً من غريب اللغة , وطرفاً من أخبار العرب ومن أشتهر منهم بما يزين أم بما يشين , وما اشتهر من خيولهم ونوقهم , وشيئاً من أقوال النحاة ومصطلحاتهم في الشعر وأوزانه وقوافيه , إلى غير ذلك من الأمور التي يجدها في الكتب من أرادها على وجه أوسع وأنفع مما جاء به المعري في الفصول والغايات 0
نعم , إن المعري في كل ما قاله في كتابه هذا يرمي إلى تنزيه الله وتقديسه وبيان ما له من عظمة وجبروت , وما له من رحمة واسعة وغفران , وما له من قدرة عظيمة لا يعجزها المحال ولا تؤودها الثقال , ولكنه يأتيك بهذا في مواضيع لا تناسبه ولا تلائمه , وإليك فصلاً منه قال في سعة رحمة الله وعفوه وغفرانه : / 906/
"" لا أيس من رحمة الله , ولو نظمت ذنوباً مثل الجبال سوداً كأنهن بنات جمير , ووضعتهن في عنقي الضعيفة كما ينظم صغار اللؤلؤ فيما طال من العقود 0 ولو بنيت بيتاً من الجرائم أسود كبيت الشعر يلحق بأعنان السماء , ويستقل عموده كاستقلال عمود الوضح , ويمتد إطنابه في السها والجبل كامتداد حبال الشمس , لهدمه عفو الله حتى لا يوجد له ظل من غير لباث " 0 فأين هذا مما جاء في القرآن من قوله : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله , إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم ) (1) 0 فالمعري مسف في كثير من كلامه الذي ضمنه هذا الكتاب , وليس هو كذلك في لزومياته التي كتبها بعد هذا الكتاب , فإنك تراه فيها محلقاً في تفكيره إلى ذرى لا يصل إليها إلا الأفذاذ من المفكرين 0 وإني أستبعد كل الاستبعاد أن يكون المعري قصد بكتابته هذا معارضة القرآن 0
وخلاصة القول إن إتيان المعارض بمثل ما عارضه من الكلام متعذر , وأن محمداً يعلم هذا حق العلم فلذا تراه بكل سكينة واطمئنان وبكل جراءة واستبسال يتحدى قومه قائلاً : ( فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ) (2) 0 ولم يبلغنا أن أحداً بسورة قصد معارضة القرآن , وإن كان القرآن يحكي شيئاً كثيراً من كلامهم 0 ولو أن أحدهم قصد ذلك لما كان إلا مغلوباً , لأن الذي يعارض القرآن يجب قبل كل شيء أن يكون ذا روحانية كروحانية محمد , وذا ذكاء كذكائه وخيال كخياله ومعرفة بالله كمعرفته , وعلم بأخبار الماضين من الأمم وأنبيائهم كعلمه , ويجب بعد هذا كله أن يكون ذا عارضة كعارضة محمد , ولم يكن فيهم من هو كذلك سوى محمد , فلا يستطيع / 907/ أن يعارض القرآن ويأتي مثله إلا محمد نفسه 0 زد على ذلك أن أسلوب القرآن مما لم تألفه العرب ولم تعرفه بل هو أول من ابتدعه كما مر 0
هذا في عهد محمد 0 وأما في الزمان الذي بعده فلأن الذي يعارض القرآن إن أتى بمثله من كل الوجوه كان مقلداً لا معارضاً , كما هو ظاهر في كلام مسيلمة الذي ذكرناه آنفاً , وعندئذ ٍ يقال له يا هذا إنك تقلد القرآن تقليداً وتسلخ كلامك منه سلخاً , وليس هذا بمعارضة , فأتنا بشيء من عندك إن كنت قادراً 0 والمعارض إن لم يقلد القرآن ولم يماثله بل جاء بما يغايره كان مغلوبا لا محالة لأن القرآن كله عندهم في الذروة العليا من البلاغة والفصاحة , ولأنه المقياس الأعلى الذي لا تقاس بلاغة الكلام إلا به , فكل ما غايره وخالفه لا يمكن أن يكون بليغاً في رأيهم 0 عندئذ ٍ يقال له قبحت من معارض , أين كلامك هذا من القرآن 0 هذا إذا لم يريدوا أن يضربوه أو يقتلوه كفراً 0 ) يتبع 0
(1) سورة الشعراء , الآيتان : 193 – 194 0(2) اعتمد المؤلف في هذا الفصل على الإتقان , 1/ 39 – 44- (1) السيرة الحلبية , 3/ 224 – (1) تاريخ الطبري , 3/ 141- 150 – (1) سورة الزمر , الآية 530 – (2) سورة البقرة الآية : 23 0
* من كتاب الشخصية المحمدية للكاتب العراقي – معروف الرصافي 0
#عايد_سعيد_السراج (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟