من أهم مظاهر أزمة الحركة الكردية في سوريا الخلل البنيوي الذي يكمن في التناقض بين شكلها الديمقراطي, والمتجسد في مسمياتها أولاً حيث أغلب الأحزاب والأطر الجمعية ذات مسميات ديمقراطية, وفي برامجها ثانياً حيث الأهداف ديمقراطية المضمون وهناك ربط بين الحقوق القومية وموضوعة الديمقراطية, وفي أساليب نضالها المفترضة "السلمية الديمقراطية" ثالثاً, هذا من جهة أولى, وبين المضمون اللاديمقراطي المتجسد في البنية الستالينية العشائرية للحركة من جهة ثانية.
من أين أتى هذا الخلل؟ وما هي أسبابه ومنابعه؟
شهدت فترة أواسط القرن الماضي تغيراً جوهرياً في طبيعة الحركات السياسية العاملة على الساحة السورية, تجلى بتراجع الأحزاب التقليدية "البرجوازية", وبروز الأحزاب الايديولوجية بتنوعاتها الديني والشيوعي والقومي بشقيه السوري والعربي, هذه الأحزاب التي اشتركت رغم اختلافاتها العميقة بسمات جوهرية أهمها غياب الديمقراطية في برامجها ووسائل نضالها, واعتمادها الثورية الانقلابية لتحقيق أهدافها. وأكثر هذه الحركات بروزاً كانت الحركات "القومية الاشتراكية", والتي زاوجت بين نوعين من الايديولوجيا أو الفكر والممارسة السياسيين:
ــ الايديولجية القومية التي بدأت بالتشكل الجنيني أوائل القرن الماضي عند انتهاء الفترة العثمانية, وشبت في أواسط القرن بعد التحرر من الاستعمار الأوروبي وخاصة بعد نكبة فلسطين.
ــ الايدولوجية الاشتراكية ذات الصبغة الستالينية التي وفدت إلى المنطقة بقوة بعيد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية, وبدء الحرب الباردة والتصارع على مناطق النفوذ.
ثمرة هذا التزاوج وجدت تربة خصبة في طبيعة المجتمع السوري الذي تسود فيه علاقات انتاج شبه اقطاعية, وترتكز على موروث ديني وأبوي عريق, طبع الوليد الجديد بطابعها.
وكان على الحركات الوليدة أن تترعرع في ظل أنظمة عسكرية ستقضي على التشكيلات المدنية الجنينينة للبرجوازية اليافعة, وتؤول تدريجيا عبر قفزات انقلابية إلى نظام شمولي يتملك الشرعية الثورية, ويرتكزعلى خليط ايديولوجي من القومية والاشتراكية بعد أن أكسبها مضامين جديدة, فالمضمون التحرري البنائي للقومية تحول إلى مضمون جديد تسلطي يتسم بالعنصرية والشوفينية, والاشتراكية التي كانت تتضمن مفاهيم الإنماء والعدالة الاجتماعية آلت إلى الاقصاء والافساد والاستبداد.
في ظل هذه الظروف نشأت وترعرعت غالبية الحركات السياسية السورية, وفي هذه الظروف أيضاً, بل وفي ظروف أكثر تخلفاً, نشأت الحركة الكردية السورية في مجتمع ريفي أقرب إلى البداوة تسود فيه العلاقات القبلية والعائلية, وفي ظروف أشد قمعاً كان على الوليد الجديد أن يترعرع.
ورغم أن الحركة الكردية الناشئة كانت أكثر القوى طرحاً وتبنيا لمفاهيم الديمقراطية التي تطلبتها خصوصية القضية الكردية, إلا أن ذلك لن يدوم طويلاً, فسرعان ما ستتراجع أمام التأثيرات المختلفة لطبيعة المجتمع وعلاقاته أولاًً, وللايديولجيا المهيمنة ثانيا, ولتأثير السلطات القمعية والنظام الشمولي القادم ثالثاً.
فبعد سنوات قليلة من الأجواء الديمقراطية في خمسينيات القرن الماضي هي الأميز في التاريخ السوري , والتي شهدت أواخرها ولادة الحركة الكردية السورية ممثلة بالبارتي الديمقراطي الكردستاني ( أو الكردي وفقاً لبعض المصادر), جاءت الوحدة مع مصر بسنواتها العجاف التي لن تستمر طويلاً, لكنها ــ وبالإضافة إلى الإنهاء القسري لمرحلة ديمقراطية الخمسينيات ــ ستأسس لمرحلة جديدة تميزت ببروز ظاهرة الزعيم المخلص الأوحد, والحزب الواحد, والحكم الأمني, كما تميزت بالصعود السريع للمد القومي العربي والذي تميز بصبغة عنصرية واضحة تجاه القومية الكردية, تجلى سلطوياً بعمليات القمع والسجن والتعذيب التي تعرض لها رواد الحركة الكردية الوليدة .
وعلى الصعيد الداخلي, شهدت المرحلة اللاحقة من طفولة الحركة الكردية على التوالي, حدثين تأسيسيين على درجة كبيرة من الأهمية الدلالية, هما ابعاد رئيس البارتي الدكتور نور الدين ظاظا رجل العقل المدني والفكر المستنير, ولاحقاً ابعاد اوصمان صبري رجل ارادة الفعل الصلبة.
ومع إبعادهما سيصبح غياب الفكر والفعل التقليد والسمة الأبرز للحركة, والتي ستفعل فعلها في مسيرتها القادمة بنبذ كل محاولات الفكر والفعل التي تهدد الزعماء القبليين الجدد, ممثلي الواقع السياسي المتردي والاجتماعي المتخلف, أقزام الأمس الذين خلت لهم الساحة بعد إبعاد العمالقة بطرق رخيصة ( الطرد والتشهير والتهميش ...), فبدأ بينهم الصراع القبلي الرخيص بالتوازي المتآلف مع الصراعات السلطوية المستفحلة آنذاك.
وإن كانت الصراعات السلطوية قد انتهت بالانتصار المظفر للزعيم الأوحد وحزبه القائد ومن التحق بحلفه لاحقاً من جبهة القبائل التقدمية الموالية التي انضوت تحت لوائه, فإن الصراعات داخل الحركة الكردية ذات الطابع القبلي الرخيص, ستستمر استمرار مسلسل مكسيكي طويل يطفح بالمؤامرات, فتتوالى الانشطارات إلى قبائل وأفخاذ متصارعة, يتربع على رأس كل منها زعيم متأبد, يلتف حوله مريدون يسبحون بحمده.
والنظام الشمولي الذي آلت إليه السلطة, والذي امتدت أذرعه الأخطبوطية إلى البنية الداخلية للتكوينات الاجتماعية المدنية والسياسية, لتفرغها من محتواها, وتحيلها إلى كانتونات فارغة المحتوى, ستفعل فعلها مع تكوينات الحركة الكردية, فتحيلها عبر أساليب مختلفة إلى كانتونات هامشية متآلفة مع متطلبات النظام الشمولي, منسجمة مع البنية العشائرية للمجتمع الكردي , وفية لموروثه الديني والأبوي العريق .
وإن كان ما تقدم ينطبق على عموم مكونات الحركة الكردية السورية, يمكننا اعتبار حزب السيد عبد الحميد درويش (الديمقراطي التقدمي) النموذج الأكثر تمثيلاً, ليس فقط لنتاج النظام الشمولي ومجتمع العشيرة والموروث المتخلف, بل وخير نموذج عن ما ذكرناه من خلل بنيوي يتمثل في التناقض بين الشكل الديمقراطي والمضمون العشائري, وهذا ما قد تؤكده الملاحظات والتساؤلات الآتية:
فهو الحزب الديمقراطي الذي يتربع على عرشه القبلي زعيم واحد أحد منذ مدة تقارب الأربعة عقود, هذه الزعامة المتأبدة التي لا تستقيم مع المؤسسة الديمقراطية, بل مع القبيلة وشيخها (طويل العمر), والظاهر أن طويل العمر عبد الحميد درويش, ليس مصراً فقط على التشبث بزعامته لعشيرته الديمقراطية التقدمية, منافساً بذلك أعتى وأعتق زعماء الشرق والعالم, عسى أن يكون أول كردي يدخل اسمه سجل غينيس للأرقام القياسية, بل هو مصر أيضاً على الترشح المتكرر لعضوية ما يسمى بمجلس الشعب, تلك المؤسسة التي تمثل بامتياز, ليس الشعب السوري, بل نتاج النظام الشمولي. وكأن ما حققه خلال سنوات عضويته مع زملائه في تلك الدورة الاستثنائية لمجلس الشعب, من انجازات عظيمة لصالح شعبه وقضيته لا يمكن أن تعد أو تحصى, ولا مجال لمقارنتها مثلاً مع ما حققته ليلى زانا مع زملائها خلال لحظات عضويتهم في البرلمان التركي!!.
يقول الأستاذ عبد الحميد درويش في الندوة التي أقامها حزبه الديمقراطي التقدمي في القامشلي بتاريخ 16/7/2003 معلقاً على الحديث عن المظاهرات التي بادرت بإقامتها بعض التنظيمات الكردية في دمشق:
(( ... الرفيق .. تحدث حول المظاهرات, نحن لسنا متفقين معهم, نحن نقول أننا لسنا طليعة الحركة الديمقراطية في سوريا, نحن رافد وليس من واجبنا إقامة مظاهرات في دمشق, نحن لسنا نريد تغيير الحكم, فقط نطالب بحقوقنا من خلال وجودنا النسبي, ودورنا أيضاً نسبي مثل وجودنا, لا ندعي أننا طليعة الحركة السياسية السورية بل نحن جزء صغير من الحركة الديمقراطية ولذا نقول لهم أنكم تؤذون الأكراد, دعوا العرب يقودوا المظاهرات .. نحن لا نريد دفع الأكراد بالاتجاه المغامر, لا نخجل من رأينا, قالوا عنا يمينيين, بعثيين, متخاذلين...اليوم توضحت الأمور وتبين أن رأينا هو الصائب ..)) .
كيف توضحت الأمور؟ وكيف تبين أن رأيهم هو الصائب؟ .. أي رأي صائب هذا الذي يرفض ويدين أحد أهم أساليب النضال السلمي الديمقراطي, وهو حق التظاهر الذي تضمنه الدستور السوري ناهيك عن المواثيق الدولية؟ وأي منطق هذا الذي يربط بين التظاهر وتغيير الحكم؟ وأي عقلية هذه التي تقزم الوجود والحق الكردي؟.
ويقول في تلك الندوة أيضا, وتعليقاً على بعض ممارسات الأجهزة الأمنية وعمليات التعذيب التي كانوا يمارسونها: (( ... وللتاريخ والإنصاف توقفت تلك الأعمال المشينة في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد لأنهم حاسبوا مرتكبيها مرة ))!!؟ .
يصل التماهي مع سلطة النظام الشمولي بطويل العمر, ليس فقط إلى تلميع صورة النظام, كما فعل خلال سنوات عضويته لمجلس الشعب, وليس فقط إلى محاولات اجهاض مبادرات تطوير النضال السلمي الديمقراطي, بل يصل إلى حد المساهمة في تبرير وتكريس سياسة التمييز العنصري تجاه الأكراد, واعتبارهم لامواطنين أو مواطنين من الدرجة الثانية, بل وحتى تقديم المسوغ لقمع المتظاهرين واعتقالهم, وتكريس ثقافة الخوف التي بدأت بالتحلل, وذلك بالربط الخطير أمنياً بين التظاهر وتغيير الحكم.
يقول طويل العمر في إجابته على أحد أسئلة الأستاذ روني علي في زاوية (نافذة للتحاور) على موقع (qamislo.com), والتي يتهرب من معظمها كعادة الزعماء حينما يواجهون بمواقف أو أســئلة محرجة : ((في مجال انشقاق الأحزاب الكردية لا يحتاج المرء إلى جهد كبير لمعرفة الأسباب المؤدية إلى ذلك ومن الإنصاف أن نقول بأن الأحزاب الكردية ومنها حزبنا ليس لها دور مطلقاً في هذه الانشقاقات, وإنما هناك عوامل خارجية لعبت دوراً ولازال تلعب دوراً مؤثراً في هذا المضمار..)) .
أي أحجية هذه التي يتحفنا بها طويل العمر؟ وما هي طبيعة هذه الأحزاب التي تنشق وتتشرذم دون أن يكون لها دور مطلقاً في ذلك؟! وأي زعيم تاريخي هذا الذي ينشق حزبه مرات عديدة دون أن يكون له دور مطلقاً في ذلك؟! وإلى أي درجة ينسجم هذا الخطاب ويتماهى مع الخطاب القومي العروبي, الذي يعلق كل انتكاساته وهزائمه وفشله في جميع الميادين على الامبريالية والصهيونية؟.
وإن كان السيد صلاح بدر الدين, التؤام اللدود المنفصل للسيد عبد الحميد درويش قد فاجأ الجميع بخطوته الشجاعة بترك العمل التنظيمي, وأثبت عدم صحة توقع أحد رفاقه: (صلاح بدر الدين إلى يوم الدين), فإن طويل العمر وعبر تشـبثه المسـتميت بأظافره وأســنانه بزعامته القبلية التاريخية, مصر على إثبات توقعنا: (عبد الحميد إلى يوم الوعيد).