دروس في النحو الإملاء الدرس الثامن عشر : النحو الساكن في نصوص من التراث العربي

علاء اللامي

الحوار المتمدن-العدد: 630 - 2003 / 10 / 23 - 05:34
المحور: اخر الاخبار, المقالات والبيانات
    

 

  اقتربت  لغة الكتابة من لغة الكلام في عصور التقدم والازدهار وافترقا عن بعضهما  في عصور الاندحار والكسوف الحضاري فتكلست الأولى – لغة الكتابة -في فصحى الإكليروس حيث كل تجديد محرم وكل ابتكار ضلالة  ، وانحدرت الثانية - لغة الكلام – في لهجات مغرقة في الانغلاق والمحدودية . ومن أبرز الأمثلة على ذلك الاقتراب كظاهرة تقدمية ولصالح توحيد اللغتين في لغة حية واحدة نقرأ الأبيات التالية للقطب الصوفي عبد الغني النابلسي وهو من القرن الثاني عشر قال :

 

يا أمةْ العشق فزتْم بالبصرْ والسمعْ

قوموا اتركوا الفرق عنكم واقبلوا للجمع

نور الشموع الذي يلمع عليكم لمع ْ

من حرقة القلبْ قد ذبلت دموع الشمعْ .

 

ويعلق أبو الحسن العلوي على هذه الأبيات بالقول ( وتتمثل في هذا النص الحلقة الوسيطة بين الكتابة  المعربة والكلام الدارج حيث تقطع لغة الكتابة شوطا بعيدا في تقليص الفجوة بين اللهجتين .ص 64 / المقدمة )

- ومن مخطوطة قديمة اطلع عليها أبو الحسن العلوي في مكتبة "لامبروسيانا " في ميلانو ينقل لنا الأبيات التالية لشاعر لم يسمه  :

الزمْ بابْ ربكْ واتركْ كلِّ دون

واسأله السلامة من دار الفتون

لا يضيق صدرك والعالم شئون

والله المقدر والحادث يهون .

 

-      وهذا مثال على العامي الفصيح من أبيات لشاعر من جنوب العراق من أهل القرن التاسع عشر ، قال :

 يا راكباً من فوك تلعة الأبكار

هجهوجةٍ  تنمي سليل النعامات

اكصد لعند بيت الصخا والمروات

أولاد حمير كلهم منوة  الجار .

 

  لاحظ المفردات الفصيحة والتي هي أقرب إلى لغة عصر ما قبل الإسلام مثل :

تلعة = أصلها ما ارتفع من الأرض ويقول العلوي إنها كناية عن الإبل .

الأبكار = الإبل الفتية

هجهوجة = الإبل الشديدة الهديرة

الصخا = السخاء والكرم .

المنوة = المنية / الأمل .

 

-  وللشاعرة "دَنَّة الساعدية " من جنوب العراق هذه الأبيات التي تحمس بها قومها على الحرب وتشيد بقائدهم  "أبو مهودر "،قالت :

     قوم  وشد لبو مهودر على حصانه

     يا حرِّ الكبير   الـ  خزل العانة

     من  كثر الطَبـُر   يمناه خدرانه

    وسيوفه بالجماجم أبد مثنية .

والقاف تلفظ حميرية / جيما قاهرية . والشاعرة الساعدية هنا حذفت الهمزة من أبو . واختزلت اسم الموصول إلى " أل ". وحركت باء طبر وبالضم رغم إنها ساكنة ،وسكنت مفردتي  حصان ،سيوف . وفي هذه الأبيات ذات البنية والمذاق الجاهليين  مفردات من العربية القديمة غير المتداولة في لغة الكتابة الحديثة ولكنها حية في لهجة عرب جنوب العراق كما مر معنا في أمثلة سابقة ، ومن هذه المفرادت الواردة في الأبيات :  خَـزَّل = عوَّق .  العانة = قطعان الظباء وحمير الوحش .

ومن نصوص ألف ليلة وليلة نقرأ في حديث التاجر عبد الرحمن مع ابنه قمر الزمان الفقرة التالية :

( ان تزوجت بها أكون  بريا منك في الدنيا والآخرة واغضب عليك غضبا شديدا . كيف تتزوج بها وهي عملت هذه الفعال مع زوجها ؛ وكما عملتها مع زوجها على شانك تعمل مثلها على شان غيرك فانها خائنة والخائن ليس له أمان )

وهناك أمثلة لا حصر لها من هذا القبيل بل يمكن اعتبار نصوص ألف ليلة وليلة  أو محاولة اقتراب شامل وكبير للغة الكتابة من لغة الكلام أي من الفصحى باتجاه العامية .

وفي كتاب البخلاء للجاحظ أمثلة كثيرة مشابهة يبدو أن النساخ في الأزمان التالية رفعوها وحذفوها ضمن سيرورة التكلس اللغوي وهناك أيضا دعوة الجاحظ إلى كتابة لغة الحوار بحسب ما ينطقه المتحاورون والتي يعتقد بعض الروائيين والمسرحيين العرب المعاصرين أنهم ابتدعوها في هذا العصر في حين سبقهم الجاحظ الى ذلك بأكثر من ألف عام !

ومن القرن الثامن الهجري يأتينا العلوي بمثال من كتاب " عيون الأخبار) لابن شاكر الكتبي وبهذا النص  نختم  درسنا اليوم :

( في منتصف جمادي الآخر ،وصل الخبر من مصر ،ان امرأة عجوز من الحسينية تجيب شباب إلى امرأتين عندها ، وعندها رجال يقتلون ويعطون لوقاد الحمام يحرقونهم في الأتون بالليل . وإذا اجتمع عندهم خمسة أو ستة ، ودوهم إلى ملاح مقابلهم في النيل فيغرقم في البحر .)

فهل هذا من لغة الكتابة الفصحى أم من لغة الكلام العامية ؟

إنه كل بساطة مزيج من هذا وذاك على طريق ردم الهوة بين الاثنتين باتجاه طلوع ورسوخ لغة عربية بسيطة وحية ، لا تعاني هي ولا أهلها من الشيزوفرينيا " الفصام " بين لسان ينطق بلغة ، وقلم يكتب بأخرى .وإلى اللقاء في الدرس القادم / التاسع عشر ونواصل فيه  حديثنا عن النحو الساكن وتطبيقاته وقواعده المبسطة .

#علاء_اللامي (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات