عضو المنبر الديمقراطي التقدمي
كتب: تمام أبو صافي - الوسط
2003- 10 - 20
يسمونه "شيخ المنفيين"، فقد غادر البحرين منفيا في العام 1961 شابا يافعا عمره لا يتجاوز العشرين وعاد إليها في أبريل/نيسان 2002 برفقة عائلة مكونة من زوجته وبنت وولد. كيف يرى وطنه من عاش 41 عاما في المنفى بعيدا عنه كل هذه المدة الطويلة؟
يعقوب جناحي من مواليد المحرق العام 1942 نشأ في أسرة بسيطة كان هو أكبر أبنائها، كان والده يعمل في الغوص كغيره من أبناء البحرين، ونظرا إلى ضيق الحال الذي تعيشه الأسرة تطلع الوالد إلى تحسين أحواله المادية، انتقل إلى العمل في شركة نفط البحرين "بابكو" سائقا لدى مدير الشركة الأميركي الذي كان يدعى "اسكينر" أول مدير للشركة عند افتتاحها.
ألحق الطفل وهو في سن السادسة بالتعليم لدى "المطوع" كما جرت العادة عليه في البحرين آنذاك، وتبعا لعمل الوالد الجديد في شركة النفط انتقل بالأسرة من منطقة المحرق إلى القضيبية، قرب القصر القديم، في هذا الحي البسيط قضى يعقوب جناحي طفولته المتواضعة واستهوته لعبة كرة القدم كما استهوت رفاقه من الحي الفقير.
سألناه في البداية عن طفولته ونشأته...
- يقول جناحي: "أحوال أسرتي المادية الصعبة لم تطل مرحلة الطفولة بالنسبة إلي إذ انخرطت في العمل باكرا لكي أعول أسرتي. لكنني بقيت مصرا على متابعة الدراسة في الفترة المسائية فالتحقت بمدرسة عبدالرسول التاجر".
يضيف: "كنت أعمل في الصباح في شركة للمقاولات تعمل لحساب شركة نفط البحرين "بابكو" وأدرس في المساء. وفي العام 1955 حصلت على فرصة عمل أفضل في شركة بابكو في قسم التكرير، كانت وظيفتي ساعي بريد غير أن التزامي بالدراسة في الفترة المسائية سهل علي الانتقال فيما بعد إلى قسم شئون الموظفين في الشركة".
في ظل هذه الظروف، كيف كانت بداية اهتمامك بالسياسة؟ من أي باب دخلت في العمل السياسي؟
- على رغم أنني نشأت في أسرة لم يكن لديها أي ميول سياسي، فالوالد كان رجلا بسيطا يحمل على كاهله عبء أسرة كبيرة، فإن الطروحات السياسية كانت قادرة على اجتذابي نحو الانخراط شيئا فشيئا في العمل السياسي. هذه الفترة كانت تشهد نموا كبيرا في حركات التحرر إلى جانب عدد من التغيرات الكبيرة في المنطقة. لا شك كان هناك تأثير كبير لثورة مصدق وتأميم النفط وكذلك الثورة في مصر وقدوم جمال عبدالناصر وأيضا انقلاب يوليو/تموز في العراق والوحدة السورية - المصرية. كل هذه التغيرات التي ترافقت مع نهوض قومي كبير أثرت بشكل كبير في الشباب البحريني وخصوصا أننا كنا مازلنا تحت الاستعمار الإنجليزي وطبعا وجود الاستعمار رافقته ظروف اقتصادية صعبة ومطالب عمالية كثيرة إلى جانب ضيق الحال الذي كان يعانيه البحرينيون، هذه العوامل أثرت بشكل كبير.
في العام 1958 كنت وقتها لاأزال موظفا في الشركة وأتابع دراستي في الفترة المسائية. لم يكن لدي أي انتماء حقيقي لكنني بدأت متأثرا بالمد القومي وطروحاته وعندما جاءت الثورة العراقية في يوليو 1958 وقدمت ثورة عبدالكريم قاسم الكثير من الطروحات التي كانت رافضة للاستعمار والقوى المساندة له وبحماس الشباب اتخذت موقفا بين معارضة الاستعمار والمطالبة بالاستقلال".
هل تعتقد أن الشارع البحريني يستقي تشكيلاته السياسية آنذاك بشكل مباشر من مبادئ الثورة في كل من مصر والعراق فيما بعد؟.
- بالتأكيد تأثر الشارع البحريني بما حدث في مصر والعراق، لأن هناك خصائص بحكم أن العراق يشكل مركزا دينيا مهما بالنسبة إلى البحرينيين، والنظام السابق لم يكن مقبولا لأنه كان صديقا للاستعمار وشريكا في حلف بغداد الذي لو استمر لشكل خطورة كبيرة على مشروع عبدالناصر، فمجيء الثورة أجهض هذا الحلف وبالتالي الثورة العراقية كان لها تأثير كبير على الساحة البحرينية.
بالإضافة إلى ذلك الطروحات التي قدمها عبدالناصر والتي أثرت بشكل كبير. إن الثورتين كانتا موجهتين ضد الاستعمار وكان يمكن أن تشكلا ثقلا كبيرا على مجريات الحوادث لكن دخولهما في صراع أضعف من أهميتهما ولما كانت كل الجهود منصبة على محاربة الاستعمار حدثت انشقاقات أضعفت أهمية هذه الجهود.
الشارع البحريني شهد حركة سياسية وطنية مهمة تمثلت في الهيئة الوطنية ما بين العام 1954 والعام ،1956 هل تتذكر شيئا عن هذه الفترة؟ وكيف كنت تتلقى حوادث تلك الفترة؟
- كان هناك تأثير كبير لهذه الهيئة والمطالب التي تبنتها، وحتى بعد أن تمت تصفيتها بقي تأثيرها، فقد استطاعت أن توجد حركة سياسية ومناخا ورؤية موجهة لأهداف مستقبلية.
بالنسبة لي كنت صغير السن ولكن هناك بعض المشاهد التي مازالت عالقة بذهني من تلك المرحلة. أتذكر المظاهرات التي كانت تخرج بين الحين والآخر وتمر بالقرب من المستشفى الأميركي، كنت أشاهد شخصيات كثيرة ولم اكن قادرا على تمييزها أو معرفتها، مثل: المرحوم عبدالعزيز الشملان والمرحوم عبدالرحمن الباكر، كانوا يشاركون في هذه المظاهرات.
أتذكر أيضا مشهد تلك السيدة التي كانت ترتدي بدلة "خاكي" وتلقي خطابات وعرفت فيما بعد أنها السيدة بدرية خلفان. لا شك أن هذا المشهد يدل على أن المرأة كانت تلعب دورا في هذه المرحلة من تاريخ النضال السياسي في البحرين.
هذه المرحلة أيضا كانت حافلة بالإضرابات العمالية احتجاجا على الظروف الاقتصادية الصعبة. أتذكر أيضا حادثة حصلت في المنامة عند باب البحرين عندما قاموا بإحراق محول كهرباء وتبعته حال من منع التجوال فرضها الإنجليز. أيضا هناك حادثة أتذكرها حدثت قبل تشكيل الهيئة.
كنت وقتها أجلس مع مجموعة من الأطفال بالقرب من سور المدرسة الإيرانية وبالقرب من مبنى الإطفائية لمشاهدة موكب العزاء في ذكرى عاشوراء، وفجأة حدثت الصدامات بين مجموعة من المعزين وبعض المتفرجين، هذه الحادثة التي عرفت فيما بعد بحادثة موكب العزاء، لا شك كانت مفتعلة لخلق حال من الفتنة بين الشيعة والسنة.
لم يكن من المستغرب على الإنجليز افتعال هذه الأمور نتيجة تأثير الحركات الوطنية في الشارع العربي على الحس الوطني في البحرين ونتيجة هذه الحادثة أصبحت هناك أجواء يشوبها بعض التطرف لدرجة أن الناس بدأوا يتجنبون المجيء لمنطقة تسكنها غالبية من طائفة لا ينتمون إليها.
لكن مجيء الهيئة بعد فترة بسيطة شكل تصديا لتفاقم مشاعر العداء بين الطائفتين وهذا إنما يدل على وعي الناس وإدراكهم لمخططات الاستعمار، فقد قامت مجموعة من المثقفين والتجار ورجال الدين بلعب دور كبير في التصدي لمثل هذه الأفكار. توحدت رؤيتهم ومشاعرهم الوطنية تحت مظلة الهيئة التي جاءت على أسس وطنية وتبنت مطالب عامة وليس مطالب طائفية. وحتى بعد تصفية الهيئة تجدين التنظيمات التي خرجت لم تكن بالتنظيمات التي بنيت على أساس طائفي بل أتت من الهم الوطني بشكل عام سواء كانت التنظيمات اليسارية او القوميين او البعثيين من دون أي تمييز وهذا كان أمرا في غاية الأهمية وقد منح هذه التنظيمات سر قوتها. وبالتالي نجد أن الأجواء التي تلت تصفية الهيئة كانت أجواء قمع واعتقالات وتحقيقات ما جعل العمل السياسي أكثر التصاقا بالعمل السري.
في فترة نشاط الهيئة كانت جبهة التحرير تعمل ضمن الحركات الوطنية في البحرين والتي تحمل أيضا هما وطنيا رافضا الاستعمار. ومع هذا كان هناك الكثير من المآخذ من قبل الهيئة على جبهة التحرير؟ هل كان هذا الأمر مرتبطا بكون الجبهة تتبنى أفكارا شيوعية؟
- كانت هناك حال من الصراع بين اليساريين وعبدالناصر وانعكس هذا على الشارع البحريني بالإضافة إلى الدعاية الاستعمارية التي كانت تهدف إلى خلق إشكالات بين القوى المعادية لها لكي تخلق حالا من الإضعاف لان التيارات كانت كلها تصب في هدف واحد موجهة ضد الاستعمار وبالتالي إثارة الخلافات أمر مهم. فمرة يجدي اختلاق إشكالات بين الإيرانيين والعرب ومرة بين الشيوعيين والقوميين كان هذا يأخذ جهدا ويخلق بلبلة بين الناس وخصوصا أن الحركة الوطنية كانت فتية في ذلك الوقت والناس مازالوا في البداية ولم يكن هناك وعي كبير لكي تميز بين المصلحة الوطنية والأهداف التي بنيت عليها وبين الاختلافات الفكرية بين تنظيم وآخر. للأسف كان الحماس أحيانا لدى بعض التنظيمات يؤدي إلى الهجوم على التيارات الأخرى. لكن بعد تصفية الهيئة أصبح القمع يشمل الجميع والكل أصبح مستهدفا لأن الاستعمار لا يفرق بين حركة وطنية وأخرى طالما أنها في النهاية موجهة ضده. وهذا خلق شيئا من التعاون بين الحركات في كثير من المراحل.
متى انتظمت في صفوف جبهة التحرير؟
- في العام 1959 إذ كنت أتولى توزيع المنشورات والشعارات والتحدث إلى الناس عبر إقامة حلقات نقاشية، لقد كانت وسائلنا محدودة لكن الجبهة كانت تملك برنامجا محددا يصب في قضية الاستقلال، واجلاء القواعد الأجنبية وتحقيق الديمقراطية والحريات العامة وحق المرأة وإيجاد نقابات عمالية.
في مجتمع مثل البحرين نسيجه الاجتماعي متنوع وفيه انتماءات عرقية ومذهبية مختلفة، هل اثر هذا التنوع في خلق مناخ مناسب أمام أناس يطالبون بتحقيق العدالة الاجتماعية ويتبنون أفكارا ينادون بها كما حدث معك مثلا؟
- كان لدي إيمان بضرورة وجود عدالة اجتماعية قادرة على إزالة الفوارق بين الناس وعدم النظر إلى انتماءاتهم. هذا الإيمان نشأ نتيجة التعصب الذي كان سائدا لدى الكثير من الناس، مثل التعصب للقومية الفارسية الذي كان يغذيه شاه إيران "محمد رضا بهلوي" أو التعصب للقومية العربية الذين يتعصبون لكل ما هو من جذور عربية أو النظرة القبلية التي تربط الإنسان بانتماءاته القبلية أو النظرة الطائفية. تلك العدالة الاجتماعية التي كنا ننشدها كنا نتطلع من خلالها إلى إزالة كل الفوارق والاختلافات التي ذكرتها، في الوقت نفسه كنت أميل إلى الطروحات الوطنية الرافضة للاستعمار والمطالبة بتحقيق نظام ديمقراطي وإيجاد العدالة الاجتماعية... هذه أمور كانت مهمة بالنسبة لي.
متى اعتقلت للمرة الأولى؟
- في يونيو العام 1961 تم اخذي من مكان عملي في "عوالي" واعتقلت مع خمسة أشخاص من بينهم احمد الذوادي والمرحوم محمد حسن. وفي 16 سبتمبر/أيلول من العام نفسه تقرر نفينا إلى خارج البحرين. نفيت مع المرحوم محمد حسن إلى إيران في حين تم توزيع الباقي على دول مختلفة مثل الكويت والعراق وقطر. وقبل عامين عندما بدأ الانفراج السياسي في البحرين كان المرحوم محمد حسن يجهز نفسه للعودة إلى البحرين لكن المنية لم تمهله فتوفي في المنفى اثر إصابته بالسرطان، لكن أولاده الحمد لله عادوا إلى البحرين وشملتهم المكرمة الملك.
هل تتذكر الكيفية التي تم بها نفيك برفقة المرحوم محمد حسن؟
- أودعنا في قارب، وكان يوما عاصفا والأمواج تتلاطم بشكل سريع، فلم يتمكن "النوخذة" "الربان" من إكمال الرحلة فعاد بنا إلى البحرين. فأخذتنا السلطات واودعتنا في التوقيف في باب البحرين لمدة يومين ثم أعادونا إلى القارب نفسه وقالوا للربان: هذه المرة لا تعد بهم حتى لو حدثت عواصف او أمواج، يجب أن تتصرف ولا تعيدهم إلينا. هذه الصرامة خلقت نوعا من الفضول لدى الربان عن سبب تسفيرنا بهذا الشكل فاضطررنا وقتها إلى الكذب والقول بأننا إيرانيون ولا نحمل اقامات في البحرين لذلك قاموا بتسفيرنا من البلاد وكان هذا أمر شائع الحدوث في البحرين آنذاك. وطبعا كان قد تم سحب جوازات سفرنا وكل الوثائق الرسمية البحرينية التي كنا نحملها عند اعتقالنا.
عند وصولنا إلى "بوشهر" كنا حذرين كل الحذر أن يعلم أحد بأننا منفيون من البحرين على خلفية قضايا سياسية لكي نتجنب ما حدث للذين من قبلنا. ففي العام 1960 تم نفي أشخاص قبلنا إلى إيران وما أن وصلوا هناك حتى تولى جهاز المخابرات الإيراني "السافاك" استجوابهم وتعرضوا للتعذيب والسجن.
لحسن الحظ كنا نحمل مبلغا من المال لقاء أتعاب سنوات الخدمة لدى شركة نفط البحرين "بابكو" فاستقللنا سيارة وتنقلنا من مدينة إلى أخرى. كانت رحلة قاسية بكل معنى الكلمة إلى جانب أننا كنا نجهل التحدث بالفارسية. لكن لم يخل الأمر من المفارقات المضحكة بالنسبة إلي وللمرحوم محمد حسن ففي الوقت الذي كنا نعامل به كعرب من قبل الإيرانيين هناك، كان بعض المتعصبين للقومية العربية في البحرين يعاملوننا كإيرانيين، هذه المفارقة كانت تضحكنا .
كيف كان موقف الأهل من كل ما حدث لك؟
- تأثر والدي كثيرا وحاول مرارا أن يزورني قبل النفي لكن من دون جدوى، بعد ذلك حصل الوالد على فرصة عمل في قطر وانتقل بالعائلة إلى هناك، وبالنسبة إلي سافرت من إيران إلى الإمارات وهناك حصلنا على وثائق سفر من السلطات آنذاك وسافرت إلى قطر وأتممت دراستي الثانوية هناك ثم سافرت لدراسة القانون في جامعة الصداقة في موسكو.
ذهابك للدراسة في موسكو في العام 1963 يعني انك كنت ضمن مجموعة تعتبر أول مجموعات الطلاب هناك؟
- نعم. كنا أول مجموعة طلاب بحرينيين هناك وقمنا بتأسيس رابطة للطلاب البحرينيين. أتذكر من هذه المجموعة غالية دويغر، المرحوم احمد علي الشيخ، والمرحوم محمد حسن، كنا ندرس تخصصات مختلفة هناك، الطب والهندسة والزراعة. أيضا كانت هناك مسيرات تخرج في مطلع مايو/ أيار بمناسبة عيد العمال، كنا نخرج بالملابس البحرينية التقليدية والبنات يخرجن بثياب "النشل" البحرينية في مسيرات تجوب الساحة الحمراء وهن يحملن علم البحرين. كان الناس يلتفون حولنا متسائلين عن الثياب التقليدية. كان هناك الكثير من المؤتمرات والحفلات التي تقام بين الحين والآخر للطلاب وكنا نحرص على أن يكون لنا نحن البحرينيين مشاركة فعالة. هذا إلى جانب المعارض التي كنا نتولى إقامتها بغية تعريف الطلاب بالجانب الفلكلوري بالنسبة إلى البحرين.
في هذه الفترة اندلعت انتفاضة مارس/آذار 1965 والكثير من الحوادث، هل كنتم على تواصل مع المسرح السياسي البحريني؟
- طبعا كنا على اتصال دائم مع كل مجريات الحوادث هنا، لم نكن لنفوت فرصة الاستماع إلى إذاعة موسكو القسم العربي، الأهم من هذا أننا كنا نتطلع إلى إيجاد كوادر وطنية واعية ومدركة لمطالبها وحقوقها.
إلى متى بقيت في موسكو؟
- حتى العام ،1976 إذ حصلت على درجة الماجستير في القانون، ونالت رسالتي في الماجستير إعجاب اللجنة فتم ترشيحي لدراسة الدكتوراه، وكنت أول بحريني يحصل على الدبلوم الأحمر من جامعة الصداقة في موسكو. أما رسالة الدكتوراه فقد تم نشرها ككتاب في العام ،1978 إذ كان موضوعها "الإمارات العربية المتحدة" ومتضمنة أيضا تاريخ المنطقة، فتم اعتمادها جزءا من المنهج المقرر لتدريس تاريخ هذا الجزء من العالم في الجامعة.
بعد العام 1968 بدأ يطرح موضوع استقلال البحرين بقوة تبعا للكثير من التغيرات في المنطقة، هذه المرحلة تلاها الاستقلال والكثير من التغيرات السياسية في البحرين، كيف كنتم تنظرون إلى هذا التغيرات؟
- رحبنا كثيرا بالانسحاب البريطاني واحتفلنا بهذا الانتصار في موسكو باعتباره انتصارا لنضال الشعب البحريني وكذلك استمرت مطالبنا بالنهج الديمقراطي، وعلى رغم المواقف المختلفة التي حدثت بين القوى السياسية فإننا رحبنا بهذه النقلة. حاولت العودة وخصوصا بعد تشكيل كتلة الشعب في المجلس الوطني لكن البعض طلب منا الانتظار لكي يتم طرح مشروع العفو العام ولكن للأسف جاءت حوادث العام 1975 وحل البرلمان وهكذا ذهب الأمل في العودة إلى البحرين.
على الصعيد الأسري، كيف تمكنت من تشكيل أسرة وأنت في المنفى؟
- في العام 1976 تعرفت على زوجتي ثريا عبدالكريم، كانت لا تزال طالبة تدرس التاريخ في الجامعة نفسها وتزوجنا هناك. كانت ثريا هي من يساندي ويدفع بي إلى الأمام في غربتي، لقد تحملت الكثير من المتاعب التي لم تكن لتحدث لها لولا ارتباطها بي. لكنها صبرت وحافظت على تماسك هذه الأسرة وهذا أمر يجعلني أشعر بأنني كنت محظوظا بالزواج بها.
الإقدام على الزواج برجل منفي أمر صعب، كيف سارت حياتكما في هذه الظروف؟
- بالتأكيد كانت ثريا تملك الكثير من الشجاعة لاتخاذ قرار زواجنا، فقد حكم عليها بالنفي والملاحقة الأمنية بين الحين والآخر، بعد ارتباطنا انتقلنا إلى العراق إذ لم يكن هناك أي بلد بديل أمامنا، وفي بغداد استقبلنا أول مولود لنا وهي ابنتي لطيفة. وبقينا هناك عاما واحدا وانتقلنا بعد ذلك إلى لبنان وإذ كانت الساحة اللبنانية تشهد حوادث الحرب الأهلية لم نستطع الاستمرار هناك فعادت زوجتي مع طفلتي لطيفة إلى البحرين وذهبت إلى سورية وفور وصولها إلى البحرين خضعت للاستجواب من قبل الأمن هنا ومنعت من السفر لمدة 3 سنوات وبعد ذلك منعت 5 سنوات.
وفي إحدى المرات سافرت إلى قطر لكي تضع طفلتي برفقة جدتها هناك وتعود إلى البحرين لتتفرغ لفترة الامتحانات بحكم عملها كمدرسة تاريخ في البحرين ولكن المفاجأة القاسية أن السلطات قامت بشطب الطفلة من جواز سفرها، كان قرار نفي صدر بحق طفلة لم تتجاوز السادسة من العمر وهكذا اصبح كل منا منفيا عن الآخر.
كيف تصرفتم حيال هذا القرار؟
- حصلت هناك محاولات من قبل محامين إلى أن سمح لها بالسفر واصطحاب الطفلة والعودة بها إلى البحرين. وما إن جاء العام 1986 وسمح لها بالسفر قامت بتقديم استقالتها من عملها ولحقت بي في سورية وانتقلنا من هناك للعيش في اليمن، إذ رزقنا بمولودنا الثاني "محمد". كنت اعمل في مجال تخصصي القانوني إلى جانب العمل السياسي. وفي مطلع التسعينات عدنا إلى سورية وبقينا فيها حتى العام .2001
عدتم إلى البحرين مع بداية مشروع إصلاحي، كيف استقبلتم هذه النقلة في تاريخ البحرين؟
- لا شك في أن مشروع الإصلاح لاقى ترحيبا وارتياحا كبيرين، وان حدث جدل بشأن الميثاق والتمثيل ولكننا شعرنا أن جلالة الملك يتطلع بخطوات جادة نحو الإصلاح وبالتالي يجب علينا دعم هذه الخطوات. فالميثاق بمحتواه يحمل مشروعا إصلاحيا كبيرا. نعم كانت هناك تحفظات في البداية على بعض النقاط ولكن كانت هناك استجابة وهذا يدل على أن مشروع الإصلاح ليس فقط مرحلة تنفيس من وضع محتقن. وهذا ما يجعلنا ندرك أن البحرين أمام تغيرات كبيرة في السنوات المقبلة.
كيف تتطلعون إلى التعامل مع المعطيات السياسية في المرحلة المقبلة؟
- بالتأكيد نحن مع تعزيز المشروع الإصلاحي. مع تطبيق الميثاق بشكل كامل وان كانت هناك تحفظات فيما يخص السلطة التشريعية إذ لا يوجد توازن في صالح السلطة التشريعية المنتخبة ولكننا اتخذنا موقفا بوجوب الإصلاح من خلال المطالبة والعمل العلني الديمقراطي الذي يعتمد الحوار مع السلطة. لا شك في أننا نريد الإصلاح وليس فقط تعديل الدستور ولا يمكن تقديم أولويات على أخرى فهناك قضايا كثيرة مثل ملف البطالة والفساد والتجنيس العشوائي، جميعها ملفات يتم طرحها وفي الوقت نفسه العمل على إيجاد سلطة تشريعية منتخبة بكامل الصلاحية.
نعم كنا نطالب بدستور 1973 في فترة قانون أمن الدولة وكنا نشعر انه كان مكسبا أساسيا حصلنا عليه بعد الاستقلال، لكن عندما طرح الميثاق كان فيه قضايا اكثر شمولا من دستور .1973 فهناك بعض القضايا التي كانت مبهمة في دستور 1973 مثل قضية المرأة، لكن الميثاق قدم هذه القضايا بطرح اكثر وضوحا وشمولا من دستور العام .1973
أيضا قضية الحريات العامة وحقوق الإنسان أدخلت إلى الميثاق بشكل اكثر وضوحا من دستور ،1973 وبالتالي الميثاق كان الأرضية الأساسية لجميع القوى سواء المعارضة او الحكم إذ وضعها على أرضية واسعة من مشروع الإصلاح. الإشكال فقط هو التعديلات الدستور، لذلك عندما نعترض على موضوع الصلاحيات نكون قد تلمسنا النقاط الإيجابية في الدستور وبالتالي نطالب بتعديل الصلاحيات بناء على الميثاق لان الميثاق هو المرجع لمبدأ فصل السلطة. لان الميثاق قدم هذه النقطة بشكل واضح، ويقول السلطة التشريعية منتخبة بكامل الصلاحيات، وهناك مجلس معين استشاري فقط وهذا أمر واضح وبالتالي الخلل الموجود في دستور العام 2002 يجعل من دستور العام 1973 افضل، بل هناك تراجع في بعض النقاط التي لم يشملها ولكن الميثاق شملها وقدمها بوضوح. لذلك نريد التصحيح عبر الميثاق. وان يتم التعديل الدستوري بناء على الميثاق.
في رأيك، هل القوى التي قاطعت العملية الانتخابية هي الآن في وضع يجعلها تعيد النظر في قراراتها وخصوصا أنها عملت خارج مظلة البرلمان؟
- الديمقراطية تعطي الحق لمن يريد المشاركة أو الامتناع، وبالتالي هم اختاروا المقاطعة وليس هناك خطأ في ذلك إذا نظرنا من منظار ديمقراطي. لكن لا يجوز أن يوصف المشاركون بالسلطويين أو المتخاذلين، فيجب احترام قرارات بعضنا بعضا. بالنسبة إلى رأيي الشخصي فهو إن الاخوة الذين قاطعوا لو كانوا اختاروا المشاركة لكان وضع المجلس افضل بكثير من وضعه الآن.
وكان من الممكن طرح أمور بشكل افضل وخصوصا أننا متفقون على الكثير من الأمور فيما يخص التعديلات الدستورية لكن الخلاف أن نشارك عبر الإصلاح، والمشاركة في المشروع الإصلاحي يعني ألا نعزل أنفسنا عنه، فلو شارك الإخوان كان يمكن تحقيق الكثير من الأمور بشكل افضل ولكن للأسف آثروا المقاطعة وهذا بالتالي أضعف المجلس وأضعف القوى، نحن بلا شك مع السعي نحو تحقيق المطالب من داخل المشروع الإصلاحي.
عدت إلى البحرين في 4 أبريل/نيسان ،2001 هذا يعني انك قضيت 41 عاما في المنفى، زمن ليس بالقصير، هل احدث توجهك إلى العمل السياسي تغييرا كبيرا في مجرى حياتك؟
- كان من الممكن أن أكون اليوم مديرا مرموقا لإحدى الشركات الكبرى كما هو الحال بالنسبة إلى الذين كانوا معي يعملون في بداية حياتي في بابكو، لكنني بالتأكيد غير آسف على أي شيء.
ألا تعتقد أنك دفعت ثمنا باهظا لاختيارك؟
- نعم لكنني أنعم براحة نفسية كبيرة وما كنت أطالب به في نهاية الخمسينات هاهو الآن يتحقق. قد أشعر بالأسف على ما عانته أسرتي، فقد كنت أتقبل أن ادفع ثمن انخراطي في قوى معارضة ولكن أولادي وأسرتي لم يكن لهم ذنب في ذلك. وألا يستطيع أبنائي في تلك الفترة المجيء لزيارة وطنهم البحرين، كان أمرا صعبا. كانت الأمور تسير على شكل عقاب جماعي.
لذلك اشعر أن أبنائي عاشوا في أجواء منفى، وحرموا من الوسط العائلي الذي يمثل بالنسبة إليهم الجد والجدة والأقارب والجيران كما هو الحال بالنسبة إلى أي أسرة. لكن الوضع كان مختلفا بالنسبة إلى محمد ولطيفة. لذلك أجد أطفالي حرموا من الصور الجمالية التي تعلق بذهن الطفل عن بيئته والحي "الفريق" الذي ينشأ فيه، فهي أمر مغيب من ذاكرة أولادي نتيجة المنفى الذي وجدوا أنفسهم فيه على رغمهم.
إلى ماذا تطلعتم للقيام به بعد العودة من المنفى؟
- بعد عودتنا أسسنا المنبر الديمقراطي التقدمي وعملت في الإدارة عاما واحدا وفضلت بعد ذلك أن أفسح المجال أمام الشباب لتولي هذه المهمات حاولنا في الوقت نفسه أن نكون قوة واحدة باعتبارنا من المؤسسين ولكن للأسف كنا نتمنى أن نشكل قاعدة ديمقراطية واسعة في البلد من كل القوى الديمقراطية وما زلنا نسعى لذلك وان ينظر إلى الإشكالات الموجودة ضمن إطار الوطن.
ويجب ألا تبعد الخلافات الناس عن بعضهم بعضا بل تقربهم اكثر للعمل من اجل تذليل الصعاب واعتقد أن ما مررنا به كان كافيا لكي نتعلم كيف نتعامل مع المستقبل. لا شك في أن هناك الكثير من القضايا المهمة على الساحة كقضية البطالة ونحن نعي تماما انه لا توجد هناك حلول فورية لكن هذا لا يمنع من إيجاد استراتيجية مستقبلية يتم وفقها استيعاب العاطلين عن العمل في وظائف مناسبة في المستقبل.
كيف يقضي يعقوب جناحي أوقاته الآن بعد العودة من منفى استمر 41 عاما؟
- أعمل صباحا في مهنتي استشاريا في دائرة الشئون القانونية التابعة لمجلس الوزراء. وفي المساء أحرص على حضور أنشطة المنبر والندوات وورش العمل. ولدي أنا وزوجتي عمل وواجب لا يقل أهمية عما ذكر وهو تعريف أولادي بأهلهم ووطنهم الأصلي