|
الشرق الجديد
جهاد علاونه
الحوار المتمدن-العدد: 2066 - 2007 / 10 / 12 - 00:56
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
كانت مدن الشرق القديمة تعتمد على العمل بفعل اليد وكذلك كانت معظم مدن العالم قبل بداية عصر النهضة في أوروبا وكانت الثقافات معزولة عن بعضها البعض نظراً للاستقلالية الاقتصادية لذلك لم تكن الشعوب، القديمة تتأثر ببعضها ثقافياً إلا على المستوى الفردي من هواة أو محترفين. ولكن التأثير الثقافي بدأ ينتشر بين الشعوب لأسباب أهمها الطباعة، ورحلات الاستكشاف، والاستعمار، وتغير طرائق الإنتاج وسرعة الاتصال أمام المد العلمي الأخير أو أمام الثورة العلمية التي حدثت في أوروبا وأمريكا، فقد تحول التجار من تجار محليين إلى تجار شبه الجملة في بداية أواسط القرن السادس عشر الميلادي (1546م) ( ) ففي ذلك التاريخ نقل التجار سماداً جديداً من سواحل البيرو ناتج عن روث الطيور المتجمع على سواحل البيرو، وهو سمادُ غنيُ بالفوسفات والنيتروجين، وهذه الصناعات العلفية عملت على إشباع حاجات الناس الغذائية وزادت من طول عمر الإنسان وانتقلت المزارع من البيوت إلى رؤوس الجبال وعلى أكتاف الوديان وإلى خارج أسوار المدن على الأرض غير السكنية خارج أحواض المدن والقرى وحتى عام 1910م حين أخرج السيد جولاند هوبكنز بحثه عن الفيتامينات وهو بمثابة هدية للجنس البشري ساعدت هذه الأبحاث في تقدم صحة الإنسان ( ) ومن ناحية أخرى تراكمت الثروات والأرباح جراء ازدياد أعداد الطيور اللاحمة والأبقار والحليب والدواجن فبدل أن تكبر الدجاجة في نصف عام أصبحت مع التغيرات الجديدة تكبر في دورة شهرية لا تتجاوز الثلاث شهور لذلك فإن عصر الرأسمالية بدأ مع هذه البدايات، وبمقابل ذلك ازدادت حاجة الدول لبعضها البعض وأصبحت الاستقلالية عن الآخر فيها نوع من الأنانية والتخلف، فكل العالم اليوم مرتبط ببعضه البعض وما زالت الأسواق العربية بحاجة ماسة إلى الأسواق الأجنبية وذلك لتأمين استيراد الصناعات العلفية وغير العلفية لذلك فإن التأثر الثقافي ضروري جداً بسبب قرب المسافة بين القارات وقد أصبحت قريبة نتيجة تطور سرعات النقل، ونتيجة لتطور حركة النقل والاتصالات فقد ضاقت المحيطات بين القارات وأصبح العالم اليوم في قرية صغيرة مكتظة بشبكة معقدة من السكان الأمر الذي سوف يخلق ثقافة جديدة تختلف عن الأيدولوجيات القديمة.
ونتيجة لتحسين الصناعات العلفية فقد تأقلمت بعض بقاع الأرض بحيث أصبحت قادرة على إنتاج مزروعات هجينة عنها، لذلك عرف الأوروبيون البطاطس منذ بداية القرن السادس عشر ودخلت إلى مطابخهم، كذلك انتقل التبغ من المكسيك إلى إسبانيا ومن ثم إلى البلاد العثمانية، وأظهر هذا النبات عادات جديدة في الشرق لم تكن معروفة من قبل.
ولقد تأخر الشرقيون عن المجتمعات الرأسمالية ولم يصلوا عصر الرأسمالية لكونهم تأخروا عن الأوروبيين في تحسين صناعاتهم العلفية وغير العلفية ويكفي أن نقرأ تقريراً صادراً عن الحملة الفرنسية على مصر سنة 1798 حيث جاء به أن عدد سكان مدينة القاهرة في ذلك الوقت كان 300.000 ألف نسمة، منهم 25.000 ألف مهنيين و45.000 ألف عامل و 126.000 ألف امرأة، وهذه النسبة هي نتيجة تأخر دخول الصناعات العلفية وذلك أن الناس كانت تموت من الجوع وسوء الرعاية الصحية وقلة الإنتاج( ).
لقد كانت دول الشرق في وضع صحي أسوء بكثير مما كانت عليه أوروبا رغم تحسن الصناعات العلفية ولنتأمل معاً قبل دخول الحملة الفرنسية كيف كانت الحياة العامة في الدول العربية وكيف أصبحت بعد ذلك.
ويقول (محمد عماره) ( ) أنه منذ سنة (1728-1830م) لم تقدم الدولة العثمانية كتاباً علمياً واحداً على غرار الدول الأوروبية وهو يقول: إلا أربعون كتاباً في الشعوذة والحجب والسحر، ولكن بعد مولد (رفاعه رافع الطهطاوي(1801-1873م) فقد استطاع هذا الكاتب أن يقدم للمكتبة العربية (46) كتاباً علمياً أي أكثر مما قدمته الدولة العثمانية خلال مائة عام أو أكثر. نعم لم تقدم الدولة العثمانية أي حضارة أو ثقافة ولم تحسن الإنتاج الزراعي ولا الإنتاج الفكري أي أنها لم تقدم عملاً فكرياً بل شجعت على التقليد وقتلت روح الإبداع وعملت على طمس الطاقات الشبابية الواعدة، لأن التغيير ليس بمصلحتها بل من مصلحتها التقليد والبقاء على القديم وهنالك ملاحظة جديرة بالاهتمام وهي أن عدد الأطفال في مدينة القاهرة كان 30.000 ألفاً أيام الحملة الفرنسية وهذا دليل قوي على التخلف لأن هذه النسبة هي أكثر من نسبة النمو الاقتصادي علماً أن هذا العدد يموت أكثر من نصفه قبل سن البلوغ، أما النصف الآخر فإن نصفه يموت أيضاً بعد سن البلوغ إما بالجوع وإما بالاقتتال على لقمة العيش، لذلك فمن الممكن القول أن تنظيم النسل كانت تنظمه الطبيعة عشوائياً بفضل الأمراض والجوع وسوء الرعاية الصحية.
ولربما أن سبب إهمال العثمانيين للثقافة العربية راجع بشكل أساسي إلى انشغال العثمانيين بالقضاء النهائي على دولة المماليك، لذلك أهملوا بشكل أساسي الحركة العلمية بعد "ابن إياس" حتى ظهر "الجبرتي" إبان الحملة الفرنسية على مصر ( ) وكانت الامبراطورية العثمانية مشغولة بإخماد الثورات التي كانت تشتعل كل حين لذلك لم تتفرغ للثقافة والفنون، أو أن الموضوع متعلق أصلاً بإهمال الدول والحكومات للثقافة أو أن انتشار الفقر في مصر كان سبباً لإهمال الثقافة فقد فقد التجار المصريون نصيبهم من الرسوم التي كانت تفرض على البضائع الأوروبية في الإسكندرية، بعد أن حولت أوروبا سفنها التجارية من الإسكندرية بسبب الطرق الجديدة التي اكتشفها هنري الملاح، وفاسكو داجاما، وكولمبس، لذلك تراجعت الطبقة التجارية في مصر وحلت محلها طبقة مسحوقة من الفقراء، وبذلك تردى الوضع الصحي العام وتراجعت الثقافة، ولما دخل السلطان سليم العبوس مصر لم يجد إلا مقاومة ضعيفة، وبذلك سقطت آخر مراكز دولة المماليك. وإن البقاء على أنماط قديمة تقليدية جعلت من البناء الاجتماعي نمطاً قديماً حيث عملت هذه الظروف على بقاء القرى كقرى، أما القرى التي حسنت إنتاجها من (زراعة متنقلة) إلى (زراعة كثيفة) فإنها تحولت من القرية إلى المدينة وتحدد شكلها بنوع الأعمال التي تمارسها (Workshop) وكانت الولايات المتحدة الأمريكية في سنة (1900م) تعتبر أن المركز الحضري الذي يزيد عدد سكانه عن 500 نسمة كانت تعتبره (مدينة) أما اليابان فقد كانت تعتبره (30.000نسمة) وكانت الولايات المتحدة الأمريكية سنة (1880م) تعتبر أن المدينة هي التي يشغل عدد سكانها (4000نسمة).
أما في الدول العربية فلم يكن عدد السكان مهماً والمهم هو نوع العمل الإداري الذي تؤديه، أما الأردن وسوريا فقد كانوا يعتبرون أن النسبة السكانية للمدينة هي (10.000) آلاف نسمة، ذلك حتى عام (1960-1966-1976) ولربما أن تحسين الإنتاج هو الذي ساعد على زيادة النمو السكاني في المدن علماً أن سكان المدن لم يساهموا في هذه العملية، وإن أكثر من نصف سكان العالم في المدن المتقدمة يعيشون في المدن والباقي سكان ريف وفي أواخر السبعينات (1978-1980) فإن أكثر من ثلثي سكان العالم في الدول المتقدمة بدأوا يعيشون في المدن( )
أما الدول النامية فما زال ربع السكان يعيشون في المدينة كدليل قوي على التأخر إذ أن 75% من السكان يعيشون في الأرياف على أنماط قديمة من حيث طرق الإنتاج وبذلك فإن العادات والتقاليد ما زالت حتى نهاية الثمانينات على نمطها الزراعي القديم من ناحية البناء العائلي القائم على سلطة الذكر وحده...الخ. إن تطور الحياة لا يأتي على جانب دون الجانب الآخر إنه عملية تراكمية ذات دفعة واحدة وقوية أي أنه (تنمية شاملة) تشمل كل القطاعات وكل الفئات الاجتماعية( ) وبنفس الوقت ساعد التقليد وعدم التقدم وتضخيم الماضي ساعد هذا كله على التطرف في العهد الحالي، إذ أن الناس ما زالوا ينظرون إلى تاريخهم من زاوية أسطورية وليس من زاوية علمية وحول هذه النقطة يقول البروفيسور (بيترهيل: إن التاريخ الذي يدرس في اتجاه معين يصنع المتطرفين والمتعصبين، والتاريخ الذي يدرس على وجهيه يشحذ روح النقد ويجعل المرء أكثر إنسانية وإنصافاً( ).
وللإنصاف لنا أكثر أقول: أن الطباعة توصل لها المسلمون قبل الألمان في (تبريز) عام 1294م وفي مصر عام 1300م ولكن المسلمين كانوا يقدسون الماضي ويقضون نصف أعمارهم وهم يحلمون بسحر الماضي ففضلوا النسخ بخط اليد على الطباعة، وكانوا وما زالوا يتبارون على تقليد الخطوط. ولا يوجد تعليل دقيق لأسباب النهضة كما لا توجد تعريفات دقيقة لأسباب سقوط الدول والحضارات فمثلاً يرى كثيرون من العرب أن أسباب تخلفنا راجعة لأسباب تتعلق بضعف علاقتنا مع الدين وكذلك كان ينظر إلى أسباب سقوط الدولة الرومانية وهذه كلها نظرات كلاسيكية تقليدية لم تكن تضع ميزاناً دقيقاً لعلاقة الإنسان بالإنتاج إلا في الآونة الأخيرة بعد أن تحسنت أدوات الإنتاج من القرن السادس عشر الميلادي عندها فقط لاحظ علماء الاجتماع كيف تؤثر علاقة الإنتاج وتغير الطبقات الاجتماعية، لذلك لم يعد ممكناً أن ننسب الحظ والتوفيق (...) لكثير من النجاحات ويكفي أن نلاحظ كيف أن اليونانيين بعد سقوط حضارتهم كانوا ينظرون إلى حضارة روما على أنها محظوظة، ولم يعيروا اهتمامهم إلى مزاياها الجمهورية والجغرافية( ).
#جهاد_علاونه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التحول في التركيبة الإجتماعية
-
الإسلام هوالجناح العسكري اليميني للزعماء العرب
-
حياتنا في رمضان
-
الشيوعية قادمة
-
الزعماء العرب في مواجهة الديمقراطية
-
سعر التكلفة +الربح الوسطي في السوق الماركسي
-
العلمانية هي الحل :في العراق ولبنان وفلسطين !
-
الرحالة كارل ماركس
-
حياة الناس تتجه للتغيير والحكام والملوك العرب يقمعون التغيير
-
المرأة مثل الإعلان تجدد نفسها بالتكرار
-
البروتستنت والكاثوليك 1
-
مأساة برونو : الدين للناس والإلحاد للعلماء 1548-1600م
-
حياتنا كعرب
-
المرأة تعادي المرأة
-
مدينة بلا حب
-
الحب النقدي
-
رسالة من إمرأة مثلها مثله1
-
الملك حسين رجل كبير في بلد صغير
-
حياتنا العامة أحيانا ليس لها علاقة بالسياسة
-
العلمانية والداروينية هي الحل
المزيد.....
-
أين بوعلام صنصال؟.. اختفاء كاتب جزائري مؤيد لإسرائيل ومعاد ل
...
-
في خطوة تثير التساؤلات.. أمين عام الناتو يزور ترامب في فلوري
...
-
ألم الظهر - قلق صامت يؤثر على حياتك اليومية
-
كاميرا مراقبة توثق لقطة درامية لأم تطلق كلبها نحو لصوص حاولو
...
-
هَنا وسرور.. مبادرة لتوثيق التراث الترفيهي في مصر
-
خبير عسكري: اعتماد الاحتلال إستراتيجية -التدمير والسحق- يسته
...
-
عاجل | نيويورك تايمز: بدء تبلور ملامح اتفاق محتمل بين إسرائي
...
-
الطريقة المثلى لتنظيف الأحذية الرياضية بـ3 مكونات منزلية
-
حزب الله يبث مشاهد استهداف قاعدة عسكرية إسرائيلية بصواريخ -ن
...
-
أفغانستان بوتين.. لماذا يريد الروس حسم الحرب هذا العام؟
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|