21-10-2003
عندما أصحو من النوم ،أنهض من سريري ، أصبح على أطفالي بعربية صحيحة مطعمة بلهجة فلسطينية ذات طعمة و ريحة ، وأحيانا على زوجتي التي تذهب لعملها باكرا بلغتها أو بلغة الضاد، حسبما تخرج الكلمات.
ثم أجلس مع صغاري أشاهد معهم برامج الأطفال لمدة نصف ساعة، عادة تكون هذه الدقائق من أللحظات الأجمل في يومي، ثم أحضر لهم طعام الإفطار وأجهزهم للمدرسة ، وبعد الانتهاء من كل تحضيرات الصباح ، يذهب الصغار إلى المدرسة عبر الطريق الجميل الممتد من بيتنا ألى مدرستهم، حيث على جانبيه تقع المنازل الجميلة ، ذات الشكل المميز والألوان الأسكندنافية المميزة، وحيث طيور وعصافير الصباح تغرد وتزقزق فوق الجليد الذي بدأ يلون الأرض بالبياض الفضي، وحيث أشعة الشمس التي تعطي الدفء بالرغم من درجات الحرارة التي بدأت تهبط تحت الصفر ليلا وفي الصباح.
أقف خلف زجاج شباك مطبخنا الذي يطل على الطريق المذكور، أراقب الأطفال ومسارهم من البيت الى المدرسة ، أكتشف كم هو عالمهم جميل وبسيط، وأكتشف كم أن عالمنا يوم كنا صغارا كان أيضا جميل ، برغم أنه لم يكن بسيطا أبدا، فنحن عشنا طفولتنا في مخيمات اللجوء والتشرد ، وفي أزمنة الحروب والمعارك ، حيث الرصاص كان بديلا لأقلام الرصاص، والكراسات استبدلت بالكتب الثورية، والحساب بالمنطق ، والألعاب العادية بالألعاب النارية الحقيقية.
كنا نعيش طفولتنا كما كانت وكما كان يجب أن تكون في عصر الحروب الأهلية والاعتداءات الصهيونية،هكذا عشنا وكبرنا ومنا لم يكبر ويحيا حتى يومنا هذا، لأن الحرب اختطفته من بين يدي طفولته.
أما أطفالي الآن ،الذي ولدوا في بلاد أوروبا وفي أكثرها رخاء وديمقراطية وهدوء ، في النرويج النائية،ها هم يعيشون حياتهم بأفضل حال وعلى أحسن ما يرام ، يأكلون جيدا ، يلبسون جيدا ، يحصلون على ما يريدون ، لا يعرفون ما هي الحرب وماذا تعني الحياة تحت حمم القنابل وأزيز الرصاص الدائم، أو بلا حليب وبدون طعام ، أو بلا أهل وبدون أم أو أب أو أخ أو أخت...
أنهم هنا يعيشون برفاهية ورخاء ، لكن فلسطين تبقى معهم ،تعيش فيهم وتحيا طالما هم أحياء ، لأنهم يعرفون أين هو بلدهم الحقيقي ومنزلهم الأول في قرية الصفصاف على سفح جبل الجرمق ، قرب صفد في الجليل الأعلى، حيث كان ينشد المغني الصفصافي محمد المحمود زغموت " أبو جلدي والعرميط ربطوا الدرب تربيط"...
أنهم يعلمون من هم الذين اغتصبوا البيت الفلسطيني واستولوا بالقوة على الحقل الصفصافي والمنزل والمتجر وزيتون وعنب وتين وصبر ورمان وتفاح بلدتنا ووطنا، هم أنفسهم الذين سرقوا الوطن واستولوا على أراضي الآباء والأجداد في الوطن المحتل.
ويعرفون أن حقهم بالعودة لا مجال لمقايضته بأي شيء ، لأنه حق شرعي وممكن وقانوني ومقدس كما جاء في قرارات الشرعية الدولية ، وكما أكده وبينه الدكتور سلمان أبو ستة في كتابه القيم " حق العودة مقدس وقانوني وممكن".
في هذه البلاد حيث نعيش براحة تامة من عذاب الحرب والموت والمذلة والإهانة ، ليس أمامنا سوى المتابعة والعمل من أجل تربية جيل فلسطيني يمكنه الانتماء لوطنه وأمته ، والتمسك بثوابت القضية الفلسطينية ، مع الوفاء والأمانة للبلد التي ولد وعاش فيه وحمل جنسيته وحظي بمواطنته.
هذه المهمة يمكن أن يتصورها البعض على أنها سهلة ، لكني شخصيا أقر بأنها ليست سهلة و بنفس الوقت ليست مستحيلة، لكنها تحتاج لتربية صالحة ولوعي طني وثقافة وطنية واعية وعالية، والحل الأنسب لتجاوز الصعاب التي تعترض البناء الصحيح ، يكون بالتركيز على إقامة الجمعيات والنوادي التي تعنى بالشأن التربوي ، وبالتوعية الوطنية.
فتعليم حب الوطن بشكل عشوائي وغير منظم لا يفي بالحاجة ، لكن عندما يتم تأطير الناس وتجميعها في أندية وجمعيات ثقافية أو رياضية أو تربوية تكون بمجملها الأساس الذي تتم عبره عملية بناء الجالية الفلسطينية بشكلها العام والجامع.
فالجالية الفلسطينية في الشتات والمهجر هي كالوطن الفلسطيني ، يجب أن تجمع بين كل المؤسسات والجمعيات واللجان والنوادي والمنظمات والأفراد كذلك، لتكون البيت الجامع والصوت الصادح في هذه الغربة الصعبة. خاصة أنه على عاتقنا نحن الموجودون في المهجر تقع مسئولية العمل من أجل التمسك بحق العودة وتطبيق هذا الحق الشرعي والفردي والقانوني.
فهل سيعي القائمون على الفلسطينيين في المهجر مدى حاجتنا لتشكيل لجان وجاليات فلسطينية تحتضن كل أبناء الشعب الفلسطيني في أوروبا والمهجرين الشرقي والغربي؟ أعتقد أنه من واجب كل إنسان فلسطيني أن يفكر ويشغل باله بهذه القضية ، لأن الهرب من الواجبات يعتبر عملا جبانا وفيه مهانة لكل عاقل، وترجع عن تطبيق الشعارات التي تعتبر مسلمات وطنية.
عندما أنظر في عيون أطفالي الصغار أرى بريق فلسطين وشمسها تلمع وأشعتها تشع نورا ، وأرى وجوه أطفال فلسطين المعذبون في الأرض، وأرى الأمل والشموخ والصعود من الهاوية نحو النصر الحقيقي، وأتذكر كيف عانى العالم من الحروب العالمية والمذابح والمجازر والويلات، وكيف أن العبء الأخلاقي لازال يقض مضاجع الذين كان لهم علاقة بمآسي تلك الحروب و ويلاتها.
ويزداد الفهم الواعي للحقائق حقيقة عندما أقرأ مع أطفالي في كتبهم المدرسية النرويجية تاريخ الحرب العالمية الثانية ومأساة اليهود فيها وقضية المحرقة والهولوكوست والنازية، ثم آخذ هذه المحرقة عنوانا للحديث عن محرقة الفلسطيني التي يشعل نارها اليهودي الذي هرب من جحيم أوروبا إلى جنة فلسطين ، حيث حصل على السلام والأمان، وأروي لأطفالي بلغة الأب المجروح الفؤاد حكايات الآباء والأجداد عن محارق الفلسطينيين في زمن الإرهاب الصهيوني الذي ولد من رحم المعاناة اليهودية، فبدلا من محاربة الذين ظلموا اليهود وتحريم تلك الأعمال النازية ، يقوم الذين احتلوا بلادنا تحت وطأة المحرقة في الحرب العالمية وبتآمر الدول العظمى والأخرى المجاورة ، بحرق الفلسطينيين والتنكيل بهم واستنباط أحدث أشكال الإرهاب العالمي من أجل المحافظة على كيانهم الدخيل وسرقة وسلب المزيد مما تبقى من أراضي فلسطين.
عندما أنظر في الوضع الحالي وما يحل ببلادي فلسطين من ويلات على أيدي مجرمي الحرب من يهود اسرائيل ، أشعر بالغضب على هذا العالم المنافق ، الذي يقف مع القاتل ضد القتيل ومع الجلاد ضد الضحية ومع القوي ضد الضعيف ومع الاحتلال وضد الذين يقتلون ويقمعون يوميا بنيرانه..
عندما أفكر بهذا كله وأمعن النظر في وجوه أطفالي الصغار ، أعترف بأن الأمانة كبيرة والحمل أكبر من أية أحمال أخرى ، وبأن حرية فلسطين والعودة للبلاد يجب أن تكون مقدسة كما كتب ألله السماوية...