اللغة العربية حلوة و لطيفة ، عذبة بنطقها و جميلة بكتابة حروفها، التي تزينها زواياها و أقواسها و دوائرها و خطوطها المستقيمة.
في نطقها لدينا الكثير من الأصوات التي يستطيع أن يميزها العارفون بها، فيفرقون بين ما يتشابه منها ، و يزيد عذوبة هذه اللغة صعوبة النطق ببعض أصواتها لدى غير الناطقين بها.
الحاء و الهاء تتشابهان ، و هنا في أسبانيا لا يفرقونهما عن حرف الخاء الموجود لديهم، و نرى شيئا مشابها لدى الفرس و الأتراك. أما الانجليز فإنهم لا يفرقون في لفظهم حرف الحاء والخاء من الهاء في التلفظ.
و الزاء و السين تتشابهان أيضا في النطق.
و الظاء و الزاء ، ايضا ، و هناك الكثير من الشاميين الذين لا يميزون لفظا بين أحد هذين الحرفين و الآخر، و كذلك فهم يلفظون الذال زاء ، فتصبح الإذاعة إزاعة و الذئب زئبا، و قد يؤدي إلتباسهم هذا الى الخطأ بكتابة الظاء و الزاء.
و القاف تلفظ آفا.
و الثاء يلفظها المصريون ثاء، فالليث يلفظ ليسا.
و في بعض مناطق العراق الريفية فإن حرف الجيم ينقلب ياء ، و هكذا في بعض مناطق الخليج.فالدجاجة تُـنطق دياية.
و في العراق لدينا أصوات أخرى نضيفها الى الأصوات العربية الأخرى ، إذ يوجد:
لفظ الـ- ? - التي ينقلب الى -تش - في مناطق عربية أخرى.
و لفظ - ?ـ - الذي به نستعمل كثيرا من الكلمات التي تحتوي على حرف القاف. فالقلب عند العراقيين يقال - ?لٌب - ، ولكن العرب من غير العراقيين يحولون هذه الـ -?ـاف- الى كافا ، و بهذا فيغنَّـى - ?ـلب - ناظم الغزالي بهذا الشكل :
كلي يا حلو منين الله جابك
خزن جرح كلبي من عذابك.
و يوجد أيضا لفظ الـ ـ ? - الذي به نتذكر ال?ا?ــة - العراقية اللذيذة، و كلمة ال?ا?ة هي من أصل تركي. و إن هذا الصوت صعب جدا على غالبية الشاميين.
أما كتابة الحروف العربية فإنها لا تصعب على الأجنبي فقط بل تصعب أيضا على العربي ، بما في ذلك المتعلمين من العرب، و كتابة الهمزة شاهد على ذلك. و تزداد الصعوبة فيها عندما يرتكب خطأ مطبعي في كتابتها :
فقد تكتب -فول- بدلا من - قول -.
أو - قيل- بدلا من -فيل- .
و يمكننا ملاحظة هذه الظاهرة بكثرة عند قراءة الكتب التراثية و مقارنة بعضها ببعضها الآخر. فمثلا يذكر إبن الأثير في تاريخه : "قفلوا الضياع التي على طريقك و قفلوا المقعد الذي على باب المسجد" ، أما الطبري فيذكر في تاريخه: "قتلوا الصباغ الذي على طريقك و قتلوا المقعد الذي على باب المسجد".
و تزداد الصعوبة مرة ثانية عندما نكتب كلماتنا بدون حركات . فالعراق يمكن كتابته بالفتحة و الكسرة و الضمة ، و كل من هذه الحركات تعطي معنى يختلف عما تعطية الحركة الأخرى. و في عدم وجود الحركات تكون الصعوبة أكثر فأكثر، فالحب قد يكون حُبَّا أو حَبَّا أو حِبَّا.
و في العراق لدينا مخزون كبير جدا من الكلمات التي جاءت الينا من مختلف الحضارات التي مرت بنا عبر القرون العديدة من التاريخ ، فتختلط بالكلمات العربية كلمات كردية و آرامية و بابلية و تركية و آشورية و فارسية و إنجيليزية ، الخ … و هذا الأمر يؤكد أن كل حضارة تزيد الأخرى غنى و ثروة، و إن اللغات ، باعتبارها وسيلة تفاهم بين البشر ، تزداد سهولة و سلاسة و تتكامل واحدة مع الأخرى.
و في العراق أيضا يتعايش الكرد مع العرب و قوميات أخرى ، تتبادل في الحضارة و الثقافة و اللغة و الأفراح و المآسي. هذا الأمر الذي أغضب المجرمين الشوفينيين البعثيين فحاولوا تصفية ثقافة و حضارة غير العرب ، و ليس هذا فقط بل أن الشيعي العربي قد نال التصفية، جسدا و ثقافة.
إن الحضارة لا يرغب بها من يعاديها ، و قد مرت بالعراق فترة عانى منها وحشية الهمج البعثيين ، فهم إذ كانوا يغتالون الشعب العراقي ، كانت أيديهم القذرة قد وصلت أيضا الى كل شؤون الحياة العراقية.
*فأصدر البعثيون قرارا بتعريب أسماء عراقية ، لها من القدم قرون يصعب على المرء تحديدها.
*و حاربوا اللهجة العراقية باعتبارها من صنع الاستعمار، على الرغم من أن اللهجة العراقية موجودة من زمن دقيانوس. و الغريب في الأمر أن صدام حسين ، رئيس البعثيين ، هو إنسان فاشل دراسيا و لا يفقه من اللغة العربية شيئا.
*و سحب البعثيون من المكتبات كل كتب التراث التي يشكون في أن مؤلفوها لهم أصل فارسي، فمنعوا بيعها و أتلفوها، (و استثنوا من ذلك المؤلفين الأتراك ، لسبب في قلب يعقوب).
*و نسبوا كل من هو شيعي الى الفرس و بدأ البعث في إغتيال الشيعة أو تهجيرهم الى ما وراء الحدود. و أشعلوا حربا مع الجارة إيران راح ضحيتها مئات الآلاف من الشيعة، استخدمهم البعث ليكونوا حطبا لإبقاء نيران هذه الحرب مشتعلة.
*وأصبح الشوفينيون البعثيون يعادون كل من يذكر إبن سينا و الرازي و أمثالهم من العظماء.
*ووصل الأمر بداود سلوم ( التكريتي أو السامرائي أو …) أن ينشر في الصحف العراقية مطالبا إقصاء الباحثين و الكتاب من الجامعات العراقية ، إذا هم من الذين كتبوا عن أبي نؤاس. و المعروف أن أبا نؤاس هو شاعر عراقي عباسي كبير قدَّم للمكتبة العربية و تراثها أشعارا يغنى بها و يذكرها كل العرب لحد اليوم و يطربون لها. لكن المشكلة بالنسبة للبعثيين العنصريين الجهلة أن إبا نؤاس هو أهوازي المولد.
و إذا كان بإمكان البعثيين محو أي حرف يشكون بأن الفرس يتلفظونه لمحوه ، ليأكدو بذلك شوفينيتهم و فهمهم الإجرامي للحضارة و الثقافة و التاريخ.
و لنعود الى التلابس و الإشكال الذي يحصل للقارئ عندما يقرأ كلمة عربية غير مكتوبة بشكل واضح ، فقد يقرأ الشخص كلمة المفتي بشكل يفهمها على أنه مغني . هذا ما حصل لسكرتير الشيخ خزعل ، شيخ الأهواز ، إذ يذكر سليمان فيضي في مذكراته و تحت عنوان ( إلتباس )، أنه قد:
" قصد الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين و أحد أعوانه مدينة الأهواز ، للحصول على هبة من الشيخ خزعل لترميم المسجد الأقصى. و شاءت الصدف أن أكون متغيبا عن المدينة لقضاء أيام العيد في البصرة. فلما سأل المفتي عني قيل له أني متغيب ، و كان يحمل رسالة اليَّ من البلاط الملكي لتسهيل مهمته لدى الشيخ. فاضطر إذ ذاك أن يطلب مقابلة الشيخ نفسه، و ساق الحظ له موظفا في القصر أدمن على تناول الأفيون، فسأل المفتي عن هويته ، فأبرز له بطاقته ، و قرأها الموظف ، ثم دسَّها في جيبه كأنه استوعب اسم صاحبها.. ثم ذهب الى الشيخ ، و أخبره بأن رجلين ملتحيين ، يتزينان بالعمامة و الجبة قد حلاّ ضيفين في القصر، و أن أحدهما يـَدَّعي أنه مٌغنِّي فلسطين .. فضحك الشيخ و قال:
-بلِّغ هذا المغني أننا تركنا المطربات و الغانيات منذ زمن بعيد.. ادفع لهما ألف روبية و اعتذر عن المقابلة.
عاد الحشاش الى المفتي، و قدم المبلغ ، و بلغَّه اعتذار الشيخ عن مقابلتهما. فاستشاط المفتي غيظا و القى الدراهم على الأرض قائلا: ما جئنا متسولين. و حمل هو و رفيقه أمتعتهما و غادرا القصر مسرعين.
التقيت بالمفتي في البصرة، بعد عودته من الأهواز، فأخبرني بالحكاية و هو منزعج غاضب، و سلمني الكتاب الذي أرسله إليَّ رستم حيدر رئيس الديوان الملكي و بداخله كتاب من جلالة الملك فيصل الى الشيخ خزعل راجيا منه أن يحظى الوفد بمعونته و عطفه. فطمنته الى أن الشيخ لو علم باسمه و عرف مكانته لاحتفل بمقدمه و لأكرمه. و أكدت له أن في الأمر التباس ، و أنه لا يعدو أن يكون سوء فهم.
فلما عدت الى الأهواز، قدمت رسالة جلالة الملك الى الشيخ، و أبديت استغرابي من تلك المقابلة. فتألم الشيخ حين علم بحقيقة الأمر و قال:
-هل تصدق أني أقابل هذا الرجل بالاستخفاف المشين لو كنت عالما بحقيقته؟.. لعن الله الحشيش..
و تدارك الشيخ الأمر، فأعطاني تسعة آلاف روبية لأرسلها الى المفتي، و كلفني بكتابة رسالة اعتذار إليه عن لساني، و كتابا وديا عن لسانه الى جلالة الملك، و كتاب توصية الى الشيخ مبارك الصباح أمير الكويت ليقوم بدوره بمساعدة المفتي و إكرامه"
و سليمان فيضي اشغل منصب معتمد إمارة عربستان الذي أحدثه الشيخ خزعل ليكون صلة الوصل بين ملك العراق و ابن سعود و أمراء العرب الآخرين.
محيي هادي - أسبانيا
20/10/2003