لعلها واحدة من سخريات القدر أن يتنطع تشارلز هتلي الناطق الرسمي باسم سلطات الاحتلال ،وهو الغازي المسلح ، القادم من وراء المحيط ،إلى التشكيك في قانونية وشرعية الخطوة السياسية التي أعلن السيد مقتدى الصدر عن اعتزامه بموجبها تشكيل حكومة بديلة لمجلس الحكم المعين من قبل الاحتلال ! الغازي المسلح ،والمدمر لدولة ومجتمع العراق ، يشكك في شرعية أحد أعلام النضال العراقي ضد الفاشية البعثية ، والرافض لأي تعامل أو تعاون مع الاحتلال وسلطاته العملية ! وخلف هذه الصورة الهزلية والهزيلة أعرب عدة أعضاء في مجلس الحكم المعين عن عدم اهتمامهم وازدرائهم وتقليلهم من شأن خطوة الصدر ،بل وسخروا منها بعبارات تعكس انتماءهم للعقلية الشمولية البعثية التي يزعمون العداء لها . وربما شذ عن هذه الكوكبة الردّاحة ذلك التصريح الهادئ و الرصين للسيد عبد العزيز الحكيم والذي ورد فيه قوله ( أن الوضع الجديد في العراق يحتمل تصريحات السيد مقتدى وما شابهها )وفعلا ، فالوضع العراقي الراهن ،والذي احتمل ويحتمل تفكيك المصانع والمعامل وقطع السلاح العراقية الثقيلة وبيعها إلى إيران والكويت والسعودية و"إسرائيل" ،
واحتمل ويحتمل نهب وتدمير الآثار والمتاحف والمكتبات واغتصاب النساء واختطاف الأطفال من قبل فرق من المنحطين الذين أنتجهم حكم البعث ، فرق توجهها قوى إقليمية عميلة في صدارتها نظام آل الصباح و أوساط شوفينية وطائفية سلفية في نظام طهران ،
واحتمل يحتمل بيع الثروات العراقية إلى المستثمرين الأجانب بأسعار رمزية من قبل دمية نصبها الاحتلال ،
واحتمل يحتمل أن تتحول مصروفات وأثمان قنابل ورصاص جيش الاحتلال إلى ديون على العراق كما قرر الكونغرس الأمريكي اليوم 17/10 ،
هذا " العراق الجديد جدا " سيحتمل " أيضا " تصريحات السيد مقتدى كما قال عبد العزيز الحكيم ، ولكن الذين لم يحتملوها، بل وأصيبوا بالرعب منها هم أولئك الطامحون إلى تحول مجلس الحكم المؤقت إلى حكم فعلي لا حكم سواه .
والحقيقة التي تختبئ خلف قشرة السخرية و الازدراء تقول بأن أعضاء مجلس بريمر يحاولون في الواقع التستر على ذعر حقيقي وخوف تصطك له ركبهم من هذا الحدث ، فها هو أحدهم يعبر الحدود إلى حلفاء إمارته في طهران ،فيما طار زميله اللدود إلى القاهرة ، في الوقت الذي يقود رئيس " الدورة الشهرية " للمجلس والجلاد البعثي السابق أياد علاوي وفد مجلسه إلى مؤتمر منظمة الدول الإسلامية في العاصمة الماليزية رفقة وزير خارجيته زيباري .أما ذروة " عدم اهتمام" المجلس فقد كانت في زيارة عاجلة ومدججة بالحراسات المشددة لوفد من أعضائه إلى مدينة النجف ومحاولته القيام بدور الوسيط في حين راح تشارلز هتلي يطلق التهديدات من بغداد المحتلة باعتقال السيد مقتدى الصدر !
ولكن لماذا – قد يتساءل سائل يحب النكتة – يخاف هؤلاء المسنودون بنصف مليون مقاتل أمريكي من مقتدى الصدر وعباءته العتيقة وآلاف الشباب الموسومين بسوء التغذية والأحلام العراقية الكبيرة والذين لا يخلون من الأوشاب السلفية والأوهام الغريبة عن المجتمع العراقي ؟ الواقع ، هو أن المجالسة وأصدقاء الاحتلال عموما يخافون من الرمزية المستقبلة في الفعلة التي أقدم عليها الصدر وأنصاره . وليس أصعب على أصدقاء الاحتلال – أي احتلال كان - من شرب كأس العلقم سوى الاحتكام إلى الشعب عبر استفتاء بالصناديق أو المظاهرات ! هنا يكمن عقب أخيل و مقتل أصدقاء الاحتلال وليس في عبوات ناسفة غبية يفجرها بعض السلفيين فتقتل العشرات من العراقيين مقابل جريح أمريكي واحد !
يقينا ، سذهب الظن المتسرع من بعض قراء " الطياري " والمعادين عداء " فطريا " ومريبا لفكرة الصدر وأيضا بقراء "الطياري" من المؤيدين تأييدا أعمى لهذه الفكرة وتيارها السياسي من أن كاتب هذه السطور من أنصار ومؤيدي هذه الحكومة أو مشروعها السياسي . إن الحقيقية عكس ذلك تماما ، فكاتب السطور يتحفظ بشدة ولا يتفق مع مفردات هذا المشروع و لكن لأسباب مختلفة جدا وفي الجوهر عن أسباب الراقصين على حبال الاحتلال ومن تلك الأسباب والتحفظات التي يسجلها على قيادة التيار الإسلامي الصدري ما يلي :
- تميز تحرك السيد مقتدى والحوزة الناطقة التي يمثلها بالفردية والارتجال والسرية والغموض في التحرك السياسي ورسم وتنفيذ المشاريع السياسية القصيرة أو البعيدة المدى .
- كما تميز بالسعي الدائم للتَمَيز على حساب حتى الأطراف القريبة منه سياسيا أي المناوئة للاحتلال و بالغ كثيرا في قوته الجماهيرية ، تلك القوة المتأثرة بالواقع الفعلي على الأرض صعودا وهبوطا .
- اعتماده لهجة غامضة وغير حاسمة في مواجهة الاحتلال وتأكيده الضار و المبالغ فيه على وحدانية أسلوب المقاطعة السلمية لمواجهة الاحتلال ولهجة متشنجة بلغت درجة العنف المادي لأنصاره ضد بعض أطراف المرجعية والقوى السياسية الأخرى بعضها حليف موضوعيا ومعارض للاحتلال كالحزب الشيوعي العمالي الذي تعرض أنصاره في مدينة الناصرية قبل بضعة أسابيع لتجاوزات مرفوضة من قبل أنصار التيار الصدري .
- تأثر السيد مقتدى الصدر بالكثير من نصائح وتوجيهات بعض مستشاريه من ذوي الفكر السلفي المتشدد ، وأقدم على الكثير من الخطوات المهددة والمستفزة للنسيج المجتمعي العراقي القائم على التنوع والاختلاف والتعددية المجتمعية . وقد جاءت إشارته الأخيرة حول اتخاذ مدينة "النجف" كعاصمة للعراق بمثابة كبوة مؤسفة وسقطة خطيرة ذات محمولات طائفية مرفوضة بالحساب الوطني والاستقلالي ، ولا يمكن الدفاع عنها أو تبريرها أبدا حتى وإن حاول البعض تلميعها بشرط الموافقة الشعبية . وبصراحة ، نقول أن هذه الكبوة الخطيرة في سبيلها لتدمير نسبة كبيرة من الرصيد الجماهيري الذي يتمتع به الزعيم الشاب والتيار الذي يتزعمه و في جميع أنحاء العراق وفي سبيلها أيضا إلى إحداث شرخ طائفي خطير في النسيج المجتمعي العراق .
- تردد السيد مقتدى الصدر وقيادة تياره في حسم موضوع الكيفية أو الأرضية السياسية التي يتحرك عليها. فلا هو طرح نفسه كرجل سياسة ،يقود تيارا إسلاميا وطنيا ، له برنامجه وجمهوره، فيقطع بالتالي مع مفردات موضوع المرجعية الفقهية الدينية ، ولا هو طرح نفسه كطالب علوم دينية أو حامل لدرجة حجة الإسلام والمسلمين ، يطمح إلى موقع ديني وعلمي ما ، ليمثل من خلاله مرجعية علمية دينية للشيعة العرب العراقيين في مواجهة المراجع المقيمين في العراق من ذوي الأصول الفارسية فيقطع بالتالي مع الاحتراف السياسي أو يفصل بين الاثنين فصلا عمليا وفكريا يسمح له بالتحرك على نسقَين لا يتقاطعان . وقد ترك هذا التردد تأثيرا سلبيا على مجمل الحركة السياسية التي قادها الصدر ، و هذا ما تسبب في جعله يتراجع عن حسم أية عملية في المجال السياسي أو تحت العنوان المرجعي . وقد بلغ ذلك التراجع ذروته في نكوصه عن مشروع الحكومة البديلة كما سبق له وأن تراجع عن إتمام المواجهة غير المبررة مع الوجود الفارسي في المرجعية الحوزوية في النجف الأشرف .
لقد سبق أن كتبنا قبل أيام قليلة ، عن مشروع سياسي آخر يقوده أحد الأطراف الهامشية والمقصاة من طبخة مجلس إدارة الاحتلال ، ألا وهو "المؤتمر العراقي" الذي يموله ويروج له السيد علي بن حسين صاحب "الحركة الدستورية الملكية " وقلنا حينها أن العلاقة بين هذا المؤتمر وبين مجلس "بريمر" هي علاقة تنازع غير مبدئية على "اللاشرعية" لسبب مهم هو أن الطرفين يزعمان شرعية غير حقيقية يستمدها أحدهما من تعاونه مع الاحتلال وتصفيقه لخيار الحرب ، والثاني من الأموال الطائلة التي ينفقها على بضع مئات من الشخصيات المعزولة والمنظمات والأحزاب الوهمية .
واليوم ، تأتي مبادرة السيد مقتدى الصدر لتضيف طرفا آخر، يريد أن يفرض نفسه على السياق فيستولي على كعكة الشرعية بكاملها مقابل ثمن وهمي هو الآخر ومازال معلقا في مظاهرات شعبية ستعلن تأييدها لهذه المبادرة ، عوضا عن الاندراج في مشروع سياسي مقاوم للاحتلال يرتكز على تجميع و تحشيد القوى السياسية العراقية الاستقلالية وغير الملوثة بالتعاون مع الاحتلال ، مشروع شامل يدعو إلى بناء تلك الشرعية الشعبية قطعة قطعة ، و تكون بدايته من تجسيد فكرة عقد المؤتمر التأسيس الوطني العام المستقل عن الاحتلال تماما ،والهادف إلى ملء الفراغ السياسي والظفر بالاستقلال وسيادة العراق عبر انتخابات عامة . و لا نكشف سرا حين نقول أن هذه الفكرة حول المؤتمر التأسيسي الوطني العام والتي طرحها التيار الوطني الديموقراطي العراقي وينشط الآن هو وحلفاؤه السياسيون من أجل تجسيدها قد طرحت على قيادة التيار الإسلامي الصدري قبل فترة قصيرة من قبل وفد من التيار زار النجف الأشرف والتقى بالسيد مقتدى الصدر شخصيا ، كما وجهت لهم الدعوة للمشاركة في تلك الجهود أ إضافة إلى إنهم بادروا قبل بضعة أيام فقط وأعلنوا عن رغبتهم في المشاركة في لقاء القاهرة الوشيك .
زبدة الكلام هي أن الخطوات التي أقدم عليها السيد مقتدى الصدر والخط السياسي العام الذي تتحرك بموجه قيادة التيار الصدري تدفع الحريصين على القوى الاستقلالية الوطنية إلى طرح الكثير من الأسئلة والتساؤلات الحقيقة التي ينبغي الإجابة عنها من قبل ذوي العلاقة مهما كانت حادة ومحرجة خدمة لقضية استقلال العراق وحرية وسيادة شعبه ومن تلك الأسئلة :
- هل سيحسم خروج مليون أو مليوني متظاهر- إن حصل ذلك فعلا - موضوع الشرعية والتمثيل الشعبي ؟ وماذا بخصوص الملايين الأخرى من العراقيين المتحفظين أو الصامتين أو الرافضين لمشروع الحكومة البديلة ؟
- لماذا لا يكون المشروع الأساسي الآن هو تفعيل مقاطعة الاحتلال ومقاومته وبناء جبهة سياسية شعبية من جميع القوى العراقية الرافضة له ولإفرازاته كما نقترح نحن في التيار الوطني الديموقراطي عوضا عن مشاريع ارتجالية وفردية وغير واقعية ؟
- إذا كان تحرك السيد مقتدى الصدر قد بدأ بصادم مع أطراف المرجعية الشيعية ذاتها ، فكيف يمكن أن تكون آفاقه مع أطراف عراقية أخرى حتى لو صدقت النوايا ؟
- أيهما أصوب وأنفع للشعب العراقي وقضية تحريره من الاحتلال : الشفافية والعقلانية والعمل السياسي المقاوم الصبور والمدروس وفق خطة واقعية أم الانزلاق في إطلاق مشاريع مرتجلة قصيرة النفس ؟
وختاما فإن التأييد الأعمى ،ومهما كانت نوايا أصحابه حسنة ، لفكرة تشكيل حكومة بديلة ،من قبل طرف سياسي واحد ، وفي غياب التعبير الصحيح والعملي عبر صناديق الانتخابات عن إرادة الشعب ، يلتقي موضوعيا برفض الفكرة المطلق والمتشنج الذي يأخذ به أصدقاء الاحتلال الأجنبي خوفا على مصالحهم الجديدة والمرتبطة بوجود قوات الاحتلال والذين سيرفضون ليس فكرة الصدر عن الحكومة البديلة بل وسيرفضون حتى إجراء الانتخابات والإحصاء السكاني النزيهة لأنهم يعرفون انهم مفلسون وممقوتون من قبل الشعب العراقي الذي لا يتساهل في أمور الوطن والاستقلال والسيادة .. هل تريدون دليلا على أن أعضاء مجلس "بريمر" لا يريدون أصلا إجراء الانتخابات والإحصاء و إنجاز الدستور ؟ هاكم الدليل : إنهم يتحججون بألف حجة وحجة لعدم الإسراع في إجراء الإحصاء السكاني والدستور والانتخابات مع إنهم في "الحكم " منذ نصف عام تقريبا ، في حين أن الانتخابات التي جرت قبل عدة أعوام في شمال العراق "إقليم كردستان "خلال أسابيع قليلة ودون إجراء إحصاء وباستعمال الحبر الثابت والذي لا يزول بسهولة الذي استعمل لختم أيدي المشاركين في التصويت من الأخوة الأكراد .. وبالمناسبة فقد ظهر فيما بعد أن ذلك الحبر لم يكن صعب الإزالة أو ثابتا .. ثبتَ اللهُ علينا العقل والدين ! وأجريت الانتخابات وقام البرلمان الكردي وصدرت القوانين وتم كل ذلك في فترة قياسية لا يستغرقها سلق بيضة فلماذا يتأخر سلق البيض نفسه في بغداد لعدة أشهر ؟ سؤال آخر وأخير : هل سيجرؤ فعلا على إجراء الانتخابات من يسكنون في فنادق محصنة وينتقلون من شارع إلى آخر في بغداد بمصفحات الاحتلال خوفا من أصحاب الحق في التصويت ؟