|
ذاكرة مكان
محمد عطوان
الحوار المتمدن-العدد: 2044 - 2007 / 9 / 20 - 09:38
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
شارع ضيدان أول المسارات الدارسة لكثرة ما يفِد من الناس إليه، يحبذ الأهالي أن يسمونه شريان خمسميل الأبهر، كما يحبذون تسميته اليوم رغم تعاقب التسميات شارع ضيدان، سُمي الشارع على أسم رجل سكن المكان أول الفأل، ورسم خريطة مجازية له ما كانت مرسومة من قبل، سوى بضع مسارات دارسة من وقع الخطى. الممرات حياة الناس يوزع الشارع ممراته على مشاغل المارة، دامغاً تأشيرات دخولهم وخروجهم منه، ويهديهم إلى أرزاق كانوا يعتقدون بهبوطها من الرب فيلقونها مرمية أمامهم، كَسُرّات العرائس، عند السَحر، تتهادى سهما أو غموسا لليوم، عند جالبي بالات التتن المشحونة من الشمال يروجونها، وعند مساطر العمّالة قليلي الحيلة المُبكرين، المساطر المحايثة لجهة المقهى العتيق للحاج سالم عبد الرضا، الذي كان يعج مذياعه بأغنيات حضيري أبو عزيز وزهور حسين وعزيز علي. كان الممر المؤدي إلى المقهى يهيئ على الدوام فسحة رحبة للحب والغزل الرخيص والمتاح كالرزق. تهدي الممراتُ الناسَ صباحاً إلى معامل الحليب التي يملكها الحاج سرحان سابط، كانت مكائن خض الحليب تبتلع بنعمائها غوث الفتيان والفتيات فاغري الأفواه، وكان أبناء الحاج المالك غارقين بمتع الحياة الأولى، تسميهم الفتيات ـ متوددات ـ ولدان خير ودعة. عند كل صباح كان يمتطي الشبانُ الحمالون حصونهم الحديدية الصفراء ـ وزعها الزعيم الجمهوري لهم للقدوم باكرين ـ متقاطرين من ممرات شارع ضيدان المتعددة، متوجهين نحو أرصفة مراسي المعقل زرافات، يعملون حماّلي حنطة وشعير ورز. كانت أكياس الحنطة والشعير تُرسف على النوالة المربوطة فوق ظهورهم المتخشبة، ويمضون في علاقة امتطاء لا انفكاك من أسارها. يدفعهم إلى ذلك قناعة العمل بالقطعة. يَنفذ شبان آخرون وكبار سن أيضا من ممرات الأحزان الأخرى المتفرعة عن ذلك الشارع إلى باعة العلف والفافون والحبال السوتلي والقطن والقنب والنايلون للانخراط في أعمال الخدمة الرائجة في سوق الحاج سالم عبد الرضا القريب من سكة الحديد، منبت الأرومة الكبير لعشيرة البوسليمي. يترجل الفتيان الأشداء إلى محال القصابين هناك. كان ينظر العوام إلى القصابين بعين المهابة لكثرة ما يكسبون، محَال القصابين مرتع الأولاد عاقري الجواميس، يتباهون بأجسادهم المفتولة أمام تلصص أعين الفتيات المراهقات. خضير السماك النشيط وعلوة السمك المحاذية لكتف السوق الأيمن وأخوته يلفون الدراهم الخردة بالكواغد حتى الليل، يشيدون صورة من حياة يشوبها القلق المقيت والرغبة في المضي نحو حال أفضل.
ما كان يُدّخر من الأسرار لم يكن ضيدان المرجان غير رجل جاء ليعيش على طريقته، فسكن الشارع أيام كان المكان برمته سبخة جرداء فاقعة الصفار عند الهجير، كالحميم، لا تطاق. لم يُعمِر طويلا، كان قبل ذلك كله بحارا يلاوي الأمواج بساعديه، ويغمره انتشاء لا يوصف حين كان يرتدي بزة البحرية البيضاء، في ريعان العمر، صاحباً معه رفيقه الحميم خريبط العفراوي الساكن جواره، كان بحارا هو الآخر، ليفتحا عالما غريبا من أسفارهما المتكررة. لم يكن في مخيلة أبناء عمومتهما من المعدان قاطني اليابسة الجدد شيئا مما كانا يحكيان عنه، فيرويان قصصهما بتلذذ. لقد فارق ضيدان المرجان الشارع والحياة، ولم يدركه أحد ممن سكن بعده. يعتقد الناس أن (فرحان) شقيقه الذي جاء معه كان أكثر حضورا منه. الملفت أن عادات فرحان وطباعه كانت في غاية التمدن والمسالمة وهو المتحدر من الهور. كانت خدود وجهه الرمانية لا توحي ـ من الأصل ـ بمجيئه من ذينك الأجواء المشمسة المدافة بالماء والطين. لكن حضوره هذا كان لطول عيشه جسديا بينهم. وللحقيقة لم يكن ليستطع أن يدرك رمزية قصير الأجل أخيه، فالاسم كان يديم حضور روح ضيدان الحائمة حول مكانها الأول ويرطب مع مرور الوقت ذاكرة الناس، فبقوا يسمونه شارع ضيدان. أصل المسألة وسرها، أن ثَقَبَ ضيدانُ الأرض بمسماره قبل أن يتعرف الناس على شكله، لقد سفحت البكورة حياته قبل تأثيث المكان واكتمال ملامحه، فورث أخوه بوابة الشارع الأولى. كان ضيدان فطنا إلى الحد الذي جعله يفتح بابا للعيش في سبخة لم يسكنها أحد من الناس بعد، لم يعطِ سكناه في حينه شيئا مقنعا للسائلين سوى أنه كان يحاذي الشارع القديم المؤدي إلى العاصمة وحسب. إلا أن نزوله المكان هذا، شيء عمدي أنشأ ارادة ما، وثمة جهد راح يُبذل دائما لتبريره برمزية ما، تحولت مع مرور الوقت إلى ارادة سلطة على ذاكرة الناس. لم يكن يعيش مع ضيدان ساعتها غير عويل الذئاب وبنات آوى السابتة نهارا في سراديب كانت مقابر أطفال متناثرة جعلت منها بيوتا لها على الجهة الشمالية من سكة الحديد، وقيل إنها المقابر ذاتها كانت مأواها، وكنا نلمح حركات بناة آوى حتى زمن الحرب مع الإيرانيين، تلعب خلف أهوار من القصب أنبتها فيضان البلد العام. سكن المعدانُ النازحون من الأهوار شارعَ ضيدان، وامتدت معالفهم إلى مساحات شاسعة، لم يعد لها وجود اليوم، مع تعشير لمئات من الجواميس وتكديس تلال غير منتهية من الحشيش الجاف مرصوفة عند فناءات بيوتهم الخلفية، كان بيت ضيدان مع بيوت قليلة أخرى، بخلاف بيوت الناس المنسوجة من القصب، كان بيته مبنيا بالآجر، ولعل الآجر أكسبه ذلك الحس المدني في سلوكه، مغايرا لما درج جيرانه عليه.
بيوت موسمية عند الهجير كانت تلتهم ألسنة اللهب على الدوام تلك البيوت المرزومة من القصب فتحيلها في سويعات إلى رماد، بعض قطع كبريت صفراء كان يرميها مجهولون فتشب البيوت، البيت تلو الآخر فتتوالى مثل قطع الدومينو المتساقطة. ويعاود الأهالي بعدها ـ مكبودين ـ نسجها من جديد، مصحوبا ذلك بنصيب من البكاء والعويل على عجول لم يدر حولها، عزيزة كالأبناء نفقت من إثر الحرق، وحسرة النسوة على ذوبان الأواني التي غالبا ما كّن يستعملنها لترويب الحليب وتشييط القيمر، ومن دون أن يسلم من ذلك نضائد العرائس حديثات الزواج، تَعطبَ قطنها ممزوجا بروائح البخور الكشميري، ليتحول المكان برمته ساحة حرب فرغ المتحاربون منها للتو. لقد شاكست السياسة والحرب عالمهم المحترق هذا، ومارست تبدلا في هندسة الحيز الرخو، فتسللت إليه مرة من دخالة محارب ضابط وسيم قيل أنه من العاصمة، لم يعِ الناس السياسة في حينها. كان المعدان يخشون ما يبيته مخلب الغول لهم، أو أنهم كانوا يهابون السلطة من الأصل. لم يتعاملوا معها من قبل ذلك. كانوا مسكونين بالروح الجماعية والألفة المكانية والقرابية الموحدة، أكثر من كونهم أفرادا متوحدين، عيشهم غير محدد بتخم، لكنه عيش منغلق نسبويا بأية حال، فالمكانيات ـ بنظرهم ـ نفسها وسط خفي ومُقَنِع لعلاقات غير متكافئة من السلطة، والسلطة تبقى محتاجة إلى إقامة الحدود والتخوم حتى يمكنها أن تردع. باتوا يخافون منها إلى الحد الذي يتكفل سالم عبد الرضا وحده بتدوين أسمائهم في السجلات المدنية، ومنحهم الهويات، أخوهم أشطر النازحين وأول مختاري المكان. لم يجرؤ أيا منهم أن يخطو إلى مركز للشرطة أو دائرة مدنية لحسم مسألة ما بسيطة، إلا وأوكل أمرها لسالم. يروى أن الضابط الشريد كان ذا إهاب ومُطاردا من السلطة الحاكمة حينها بتهمة انتمائه إلى أحد التنظيمات الشيوعية التي كانت منتشرة كحشائش الثيل بين أبناء القرى والمدن على السواء، كان من النادر أن يحدث ذلك مع السلطة، ومن الخطر أيضا ان تسمع عن ضابط وشيوعي في نفس الوقت، لقد نشر الضابط عدواه بين الناس كالإثلين. كانت العدوى خبرا ليس إلا.. فانزوى بين الناس أياما، وبعدها شد رحاله متخفيا بعباءة كهل عند الفجر فاستأجر سيارة من كراج العمارة القريب من مقهى (حجي محمد) للسفر إلى أهله. أشيع عنه فيما بعد إلقاء القبض عليه عند قرية علي الغربي، وأودِع سجينا في نقرة السلمان. دفع الناس البسطاء أن تتساءل بعده؛ ترى ما الذي يعني أن يكون الإنسان (شيوعي)؟
سياسيون من ذات الشارع لم يكن الحوزوي عبود مال الله ساكن الشارع وأول الشيوخ الدينيين أقل حضورا من ذلك الشيوعي الدخيل، لم يكن ليدخر وسعا في أن يخاتل السلطة القائمة هو الآخر غير مرة، فيعلن في خطاباته عن مناهضتها، رافعا لافتات تنافحها وتطالب بتغيير الأوضاع السائدة، كان يحرك (الشيخ) الشاب عبود المتدينينَ التقليديين من المعدان بمظاهرات سياسية كانوا لا يعون خواتيمها، منتهزا ذلك في أيام عاشوراء، لتصبح المظاهرة عندهم موضوعا دينيا وثوريا ساخنا في أوانها، مؤججا العواطف بين الناس، فطاب له أن يكرر مثل ذلك موسميا معهم، وعند كل مناسبة، حتى دخل السياسةَ أخيرا فتيةُ معه، كان أشدهم حماسة الشاب زعيم هنون، وأكثرهم صلابة عطية ناصر، فتشربوا بعضا من مداخلها، متزودين من المكتبة الدينية للسيد محسن الحكيم المشادة قرب الشارع. كانت المكتبة تحوي، فضلا عن المطبوعات الدينية، كتبا علمانية مترجمة كثيرة، كان من بينها رأس المال والأيديولوجية الألمانية والوجود والعدم وأصل الأنواع ورواية الأم لمكسيم غوركي وغيرها. ربما يحلو للآتي من جهة المكتبة أن يقلب رأسه على عقبه ويدخل الشارع من الجهة الخلفية له وسيلاقي بوابته الثانية وقد أحاطتها معالف مُشكِل البجاي وأخيه ناصر البجاي وعمهما مشالي العلوان قرب سور الطين العائد إلى جبارة العبسي ورسن العبسي حيث ينتهي الشارع عندهما، متمما دورته الحياتية مانحا المكان رائحة البيت الواحد. كان مشالي العلوان يتشكى دائما بمقولته: إننا نهدر حياتنا على سطح الاسماء بسرائر ليست من صنعنا، كان يشعر دائما بالهظم من استلاب المكان وافتضاض السور. من منا لم يسمع بساعة أعاد الاعتبار للناس المعدان اللائذين من السلطة، مواجها سيارات الحكومة الجامحة بصدره نافرا من جندرمتها المتبجحين، ليجبرهم على الفرار، السيارات التي عادة ما كانت تباغت العصاة عند معالف الجواميس غير مرة، بحثا عن هاربين او مثيري ضغائن السلطة. كان موقف مشالي العلوان يكشف عن بداية مؤثرة في وعي السلطة واستبدادها وقمعها للهامشيين، كان يعي مشالي العلوان ان الذوات الاشد تفردا هي تلك الذوات التي توضع على الهامش الاجتماعي، الذي ولّد في ذهن السلطة ـ بعد ذلك ـ مجتمعا انضباطيا قائما على السيطرة وروح التحكم والضبط. إن من يتأمل تلك العلاقة سيبكي على ذلك الزمن، ويدرك ان في تبادل السلطة المرير ثمة قوة جديدة تفحلت ومدت ظلها لتمسح عن الناس ذاكرتهم، وتلك الايام الأولى التي تشكلت وسمحت لهم بترميم حياتهم، بنحو يصعب استعادته من جديد.
#محمد_عطوان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أحزاب تلتحف الذاكرة
-
خمسميل صورة مُصغرة من حكومة وطنية منتخبة
المزيد.....
-
بدولار واحد فقط.. قرية إيطالية تُغري الأمريكيين المستائين من
...
-
عوامل مغرية شجعت هؤلاء الأمريكيين على الانتقال إلى أوروبا بش
...
-
فُقد بالإمارات.. إسرائيل تعلن العثور على جثة المواطن الإسرائ
...
-
واتسآب يطلق خاصية تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص
-
بعد العثور على جثته.. إسرائيل تندد بمقتل إسرائيلي في الإمارا
...
-
إسرائيل تعلن العثور على جثة الحاخام المختفي في الإمارات
-
هكذا يحوّل الاحتلال القدس إلى بيئة طاردة للفلسطينيين
-
هآرتس: كاهانا مسيحهم ونتنياهو حماره
-
-مخدرات-.. تفاصيل جديدة بشأن مهاجم السفارة الإسرائيلية في ال
...
-
كيف تحوّلت تايوان إلى وجهة تستقطب عشاق تجارب المغامرات؟
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|