لم يكن قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1483 في 20/5/2003 الذي اعتبر العراق دولة محتلة من جانب قوات التحالف الأمريكي-البريطاني بناء على مقترح الدولتين قراراً صائباً وخالفته في حينه, كما خالفته الكثير من القوى السياسية العراقية. ومع ذلك لم يكن هذا القرار يشكل نهاية التاريخ, إذ أن في مقدور الشعب العراقي الخلاص من هذا الاحتلال. إلا أنه كان يعبر عن تطلع الولايات المتحدة في الحصول على وجود عسكري ثابت في العراق, مثل إقامة قواعد عسكرية فيه, لضمان "مصالحها الحيوية" في المنطقة بأسرها, والتي ترفضها الكثير من القوى السياسية ومجموع الشعب العراقي. وبفعل الكثير من العوامل تشعر الإدارة الأمريكية ثقل المهمة في العراق التي اعتبرتها في حينها سهلة أو صورت لهم وكأنها نزهة لا غير واستقبال بالزهور والرياحين.
واليوم تزداد الضغوط السياسية والاقتصادية والعسكرية على الإدارة الأمريكية, سواء تلك المنطلقة من العراق أم من المنطقة ومن مختلف القوى على الصعيد الدولي. وتجد كل تلك الضغوط صداها المباشر في أروقة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي. وتتركز الحوارات الراهنة في مجلس الأمن الدولي على النقاط الجوهرية التالية:
- الموقف من الوجود الأمريكي – البريطاني في العراق وفترة هذا الوجود وتاريخ إنهاء الاحتلال وانسحاب قوات الاحتلال.
- وضع جدول زمني مقترن بمهمات محددة تستغرق فترة الانتقال حيث يتم فيها إعداد الدستور وقانون الانتخابات العامة وإجراء تلك الانتخابات بإشراف الأمم المتحدة وانتخاب الحكومة الجديدة التي تتمتع بالشرعية الفعلية.
- تغيير الموقف من مجلس الحكم الانتقالي والحكومة المؤقتة العراقية ومنحهما الصلاحيات اللازمة لإنجاز مهمات فترة الانتقال التي تتضمن, إضافة إلى ما أشير إليه, تحقيق استتباب الأمن والاستقرار في البلاد وإنجاز إعادة العمل بمشاريع البنية التحتية المعطلة وزيادة فرص العمل للعاطلين والرقابة على إيرادات ومصروفات الحكومة المؤقتة.
- عدم انفراد الولايات المتحدة الأمريكية بالسلطة الفعلية في العراق ورغبة البلدان الأخرى المشاركة في إنجاز مهمات فترة الانتقال من جانب الأمم المتحدة, وبالتالي إيقاف محاولات الإدارة الأمريكية في السيطرة على العقود والاتفاقيات الاقتصادية مع العراق, وخاصة موضوع النفط الخام والامتيازات الجدولة ومحاولات الخصخصة من جانب الحاكم المدني الأمريكي الممثل لسلطة الاحتلال.
وتحت مجموعة كبيرة من الضغوط التي تجلت في خطب عدد كبير من الدول في الاجتماع العام للهيئة الدولية أجبرت الإدارة الأمريكية على تقديم بعض التنازلات السياسية المهمة, ولكنها لا ترتقي إلى مستوى مطالب بعض الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي, وخاصة فرنسا وروسيا, إلا أنها ستقبل بها. وستحاول الإدارة الأمريكية الموازنة بين الضغوط المختلفة ورغبة المحافظين واللبراليين الجدد الذين يتمركزون في البنتاغون وفي مجلس الأمن القومي والمحيطين مباشرة بالرئيس الأمريكي, وخاصة مطلبهم في إبقاء الدور المركزي والرئيسي والحاسم في العراق خلال الفترة القادمة بيد الولايات المتحدة الأمريكية, رغم الموافقة على دور محور جديد للأمم المتحدة يشمل الجوانب السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية في آن واحد.
ويزداد تأثر الإدارة الأمريكية بالضغوط المتعاظمة نتيجة عوامل داخلية بالدرجة الأولى وخاصة قرب انتخابات الرئاسة والموقف الذي يزداد ضعفاً للرئيس الأمريكي إزاء منافسيه من الديمقراطيين وانخفاض شعبيته وشعبية زميله رئيس وزراء بريطانيا. وتزداد أهمية النظر إلى تلك الضغوط من خلال تطوير اللوحة التي وضعتها في مقال كتبته قبل عدة شهور حول هذا الموضوع.
مخطط يشير إلى واقع الضغوط المتزايدة على الإدارة الأمريكية بصدد الأوضاع في العراق
(المدخلات – المخرجات)
وفي الوقت الذي تشتد الأزمة الاقتصادية في الولايات المتحدة وتتسع البطالة وترتفع مديونية الدولة إلى أرقام خيالية لم تشهدها من قبل ويشتد احتجاج الناس على سياسة بوش الداخلية, تتسع في الوقت نفسه حملة الديمقراطيين ضد سياسة بوش في العراق باتجاهات أربعة جوهرية وهي: أ) الفشل في العثور على أسلحة دمار شامل في العراق حتى الآن, رغم إنتاج النظام العراقي لها قبل ذاك؛ ب) عدم وجود خطة واضحة لدى الإدارة الأمريكية حول الوضع الملموس في العراق وارتفاع عدد الضحايا من جرحى وقتلى في صفوف قوات الاحتلال؛ ج) تزايد المصروفات المالية على القوات العسكرية حتى بلغت 4 مليارات دولار أمريكي شهرياً والطلب بزيادتها لعام 2004؛ د) الكشف المحرم قانوناً للجاسوسة الأمريكية من قبل مسؤولين في البيت الأبيض, وفق اتهامات نشرت في الصحف الأمريكية.
كما أن الضغوط الدولية القادمة من فرنسا وروسيا وألمانيا والعديد من الدول الأخرى باتجاهين مختلفتين أحدهما يطمح في تشديد مشكلات الولايات المتحدة الأمريكية في العراق لكي لا تنفرد في مواقفها الدولية وضرورة تعاونها مع بقية الدول الصناعية السبع الكبار, والثاني يطمح إلى مشاركة هذه الدول في الحصول على مكاسب في العراق والمنطقة ورفض هيمنة الولايات المتحدة على الثروة النفطية في الشرق الأوسط وعلى أسواقها وعلى العقود الاقتصادية التي يمكن عقدها في العراق والمنطقة. أي رفض القبول بالأمر الواقع الذي رغبت وما تزال تسعى الإدارة الأمريكية إلى فرضه على الدول الأخرى. وتلعب الصراعات بين دول المنطقة دورها الملموس في هذه الفترة وخشية العديد منها في أن تكون موضوع النشاط العسكري الأمريكي في المنطقة وخاصة إيران وسوريا, إضافة إلى الإشكاليات الجديدة مع المملكة العربية السعودية واتجاهاتها الدينية المتطرفة على الصعيدين الرسمي والشعبي, إضافة إلى قادة الوهابيين السعوديين المتطرفين (القاعدة) للنشاط الإرهابي على الصعيد العالمي. ولا يمكن عزل الصراعات الجارية في العراق عن عوامل الضغط المتزايدة على الإدارة الأمريكية في المرحلة الراهنة وقبل انتخابات الرئاسة بفترة قصيرة.
ومع ذلك, وفي الممارسة العملية, ستبقى الولايات المتحدة الأمريكية تلعب دوراً أساسياً في مواجهة تطورات الوضع الراهن في العراق وستبقى تحاول رفض منح الأمم المتحدة دوراً رئيسياً, ولكنها لا تمانع في أن يكون لها دوراً "محورياً غامضاً نسبياً. إلا أن حسم الموقف لصالح مجلس الحكم الانتقالي والحكومة المؤقتة يرتبط بشكل خاص بدور المجلس ذاته ومدى قدرته على كسب تأييد الأحزاب والكتل السياسية الأخرى غير الممثلة في المجلس والحكومة من جهة, وكسب جماهير الشعب الواسعة التي يمكنها حسم الموقف لصالحها من خلال التأييد الذي يمكن أن تقدمه لهما خلال الفترة القادمة من جهة أخرى. ويعتمد هذا على الممارسات الفعلية في السياسة اليومية للمجلس والحكومة.
إن صدور قرار دولي جديد عن مجلس الأمن بشأن الوضع في العراق ومنح الأمم المتحدة دوراً محورياً أكبر وأكثر رصانة وفاعلية في الأحداث الجارية يمكنه, رغم كل شيء, أن يساهم في توفير أجواء سياسية أفضل على الصعد المختلفة تقود إلى ما يلي:
أولاً: توفير إمكانيات أفضل وأشمل لمشاركة دولية واسعة وفعالة في تنفيذ عملية إعادة إعمار البنية التحتية وتنشيط عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية والحصول على معارف وخبرات إضافية لإنجاز فترة الانتقال, وضمان الحصول على مساعدات دولية أكبر من انفراد الولايات المتحدة بالعراق.
ثانياً: ضمان تعاون دولي وداخلي لمواجهة نشاطات القوى المخربة وتأمين مستلزمات صيانة الأمن وحماية السكان وممتلكاتهم وتوفير ظروف أفضل لعملية إعادة الإعمار وتنشيط الحياة السياسية.
ثالثاً: نشوء ضمانة أكبر للتعجيل بإنجاز مهمات مرحلة الانتقال وإقامة المؤسسات الدستورية العراقية في ضوء دستور ديمقراطي اتحادي وعلماني حديث وتشكيل حكومة وطنية شرعية, وبالتالي, التعجيل باستعادة العراق لاستقلاله وسيادته الوطنية الذي أكد عليه القرار رقم 1483 بشكل خاص.
رابعاً: توفير ضمانة أكبر في امتناع الولايات المتحدة الأمريكية عن عقد اتفاقيات منفردة مع العراق في مجال النفط الخام, وإبقاء هذه القضية بيد الحكومة العراقية, وخاصة بعد الانتهاء من فترة الانتقال. إضافة إلى تأمين مشاركة دولية أوسع لتنفيذ مشاريع التنمية الوطنية وفق المواصفات الدولية المناسبة وعلى أساس إعلان المناقصات الدولية للحصول على أفضل الشروط والمواصفات.
خامساً: لجم الاندفاع الشديد لصقور الإدارة الأمريكية من المحافظين واللبراليين الجدد المحيطين بالرئيس الأمريكي والساعين إلى تنفيذ أيديولوجية اللبرالية الجديدة على الصعيد العالمي وفق السياسات التي رسمت في إطار سياسات العولمة الأمريكية الجارية.
سادساً: تحقيق أول نجاح مهم للأمم المتحدة في الصراع الدائر بين الغالبية العظمى من الدول من جهة, والولايات المتحدة الأمريكية من جهة أخرى, بشأن دور الأمم المتحدة ومحاولة الإدارة الأمريكية إلغاء هذا الدور أو تهميشه لصالح الولايات المتحدة الأمريكية ومحاولة الحد من الاندفاع الأمريكي في التهيئة لشن حروب وقائية جديدة ضد عدو محتمل. وفي هذا انتصار للعقل والحكمة على الصعيد الدولي وللقوى المناهضة للحروب والمناضلة في سبيل الأمن والسلام في العالم ومعالجة المشكلات الدولية بالطرق السلمية.
سابعاً: ومن المكن أن يساهم زيادة دور الأمم المتحدة في العراق وتوسيع دور وصلاحيات مجلس الحكم الانتقالي والحكومة المؤقتة في تخفيف المواقف الراهنة للدول العربية إزاء مجلس الحكم الانتقالي ويسهم أيضاً في التأثير على نسبة مناسبة من الجماهير العربية لصالح الشعب العراقي بدلاً من المواقف المتوترة الراهنة وغير المعقولة وغير المنطقية والتحول صوب علاقات إنسانية منشودة.
ثامناً التخفيف من احتكاك القوات الأمريكية ذات السلوكية المتغطرسة, كما يصفها سكان العراق, بالجماهير الواسعة وعودة الغالبية منها إلى مواقعها خارج المدن, لحساب زيادة دور القوى المسلحة العراقية الجديدة والأمم المتحدة في مواجهة القوى التخريبية والإرهابية.
إن مشاركة الأمم المتحدة في العراق يفترض أن يصدر به قرار عن مجلس الأمن الدولي يختلف تماماً عن القرارين السابقين بهذا الخصوص, ولكنه سوف لن يحرم الولايات المتحدة من أن تلعب دورها البارز في العراق في المرحلة الراهنة والانتقالية. إلا أنه سوف يخفف من التناقضات الصراعات السياسية الراهنة بين الدول الأعضاء الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي ويسمح بتعجيل وتحسين المواقف بشكل عام.
ومن الأمور المهمة جداً والتي سيتابعها العالم كله هو الموقف الذي ستمارسه الأمم المتحدة في العراق, هل ستتحول إلى واجهة للولايات المتحدة, كما يحاول البعض تصوير الأمر بهذه الصورة منذ الآن, بسبب فقدان التوازن في القوى السياسية والعسكرية والاقتصادية على الصعيد الدولي لصالح الولايات المتحدة, أم أنها ستتخذ مواقف مستقلة ومتميزة لصالح الشعب العراقي وتعجيل فترة الانتقال واستعادة
العراق لاستقلاله وسيادته مع الحفاظ على ثروته الوطنية وحق الشعب في رسم مستقبله السياسي الديمقراطي الحر.
إن توسيع وتحسين دور الأمم المتحدة في العراق على أهميته, إضافة إلى دور الولايات المتحدة الأمريكية, سيبقى بعيداً عن تحقيق النجاح المنشود ما لم يجر التعاون المتين والتنسيق الكامل وإعطاء الدور الأول والمركزي للقوى السياسية العراقية والشعب العراقي ومجلس الحكم الانتقالي والحكومة المؤقتة في مواجهة قوى التخريب, سواء أكانت من الفلول المنظمة للنظام المنهار, أم من قوى الإسلام السياسي المتطرفة مثل القاعدة وأنصار الإسلام وبعض القوى القومية المتطرفة التي تشكل اليوم تحالفاً سياسياً تخريبياً ضد الشعب وقواه السياسية الوطنية. فتجارب القوى السياسية العراقية والشعب العراقي كبيرة من جهة, وهو صاحب المصلحة الحقيقية سواء في مواجهة التخريب أم عملية إعمار العراق من جهة ثانية. ولهذا لا بد من أخذ ذلك بنظر الاعتبار في مناقشات مجلس الأمن الدولي حالياً. ومن هنا تنشأ الحاجة إلى ما يلي:
1. النقل المستمر والسريع نسبياً للسلطة من أيدي سلطة الاحتلال إلى أيدي مجلس الحكم الانتقالي والحكومة المؤقتة.
2. تسليم مجلس الحكم والحكومة مسؤولية قيادة النضال ضد القوى المخربة وحماية الأمن والاستقرار في البلاد, على أن تلعب قوات الأمم المتحدة دوراً كبيراً في مساندة جهود السلطة العراقية وتقليص مستمر ومتزايد لدور القوات الأمريكية والبريطانية.
3. تسليم المسؤولية المالية والرقابة على الإيرادات والمصروفات بيد مجلس الحكم الانتقالي والحكومة المؤقتة مع تأمين رقابة إضافية مؤقتة من جانب الأمم المتحدة على الجانب المالي.
4. إنجاز وضع الدستور العراقي الدائم من جانب مجلس الحكم الانتقالي بتشكيله لجنة متخصصة تجد الدعم المباشر من جانب فريق من خبراء الأمم المتحدة, إضافة إلى وضع قانون للانتخابات العامة المباشرة وإجراء تلك الانتخابات تحت إشراف ورقابة الأمم المتحدة.
5. التسليم النهائي للسلطة إلى الحكومة الجديدة المنتخبة من جانب الشعب وخروج جميع القوات الأجنبية من العراق واستعادة العراق لاستقلاله وسيادته الوطنية.
وخلال الأيام الأخيرة طرح الدكتور أحمد الجلبي, الرئيس الدوري لمجلس الحكم الانتقالي, بصفته الشخصية مقترحاً يدعو إلى إقامة قواعد عسكرية أمريكية في العراق على غرار القواعد العسكرية البريطانية وفق معاهدة 1930 في فترة الحكم الملكي. وهو ينطلق في ذلك من خشيته وقوع انقلابات عسكرية أو مدنية أو حصول تهديد من جانب الدول المجاورة للعراق لاستقلال وسيادة العراق ووحدة أراضيه. ومع قناعتي بوجود مثل هذه الاحتمالات وضرورة أخذ الاحتياط اللازم بشأنها لمنع وقوعها, أختلف تماماً مع هذا الرأي, كما أنه سيجد المقاومة الشديدة من جانب الغالبية العظمى في مجلس الحكم الانتقالي والحكومة المؤقتة ومن جانب كل الشعب العراقي. وأرى بأن الطريق السليم لضمان أمن واستقرار العراق يكمن في الدور الذي يفترض أن يناط بالأمم المتحدة في صيانة أمن وسلام المنطقة بأسرها ومنع التدخل المتبادل في الشؤون الداخلية للدول المختلفة وعقد اتفاقية تمنع مثل هذا التدخل بين دول المنطقة. كما يمكن أن تضمن الأمم المتحدة احترام الحكومات العراقية المتعاقبة للدستور الفيدرالي الديمقراطي العراقي وممارسة الحريات الديمقراطية ولائحة حقوق الإنسان والمواثيق الدولية بهذا الصدد, إضافة إلى رفض الاعتراف بأي تغيير للسلطة عبر الانقلابات العسكرية والمدنية, أي الالتزام بالتعددية السياسية والتداول الديمقراطي البرلماني للسلطة واحترام حقوق القوميات والأقليات القومية واحترام الأديان والمذاهب المختلفة, من خلال إصدار قرار عن مجلس الأمن الدولي بهذا الشأن. إنها الضمانة الأكثر جدوى والأقرب إلى المعقول من المطالبة المشينة باحتلال غير مباشر للعراق من خلال منح الولايات المتحدة قواعد عسكرية في العراق تشكل لثماً كبيراً لاستقلال وسيادة العراق.
برلين في 3/10/2003 كاظم حبيب