|
بدايات الغربة /15
محمد علي الشبيبي
الحوار المتمدن-العدد: 2044 - 2007 / 9 / 20 - 05:01
المحور:
سيرة ذاتية
في نهاية صيف 1979 ومع بداية الموسم الدراسي إزدادت أعدادنا، وأصبحنا بحدود تسعة عوائل إضافة الى مجموعة من الشباب العزاب، ويعتبر هذا التجمع كبير في مدينة صغيرة مثل سعيدة بحيث كانت مناطق سكننا متجاورة. والجميع وصل الى المدينة بعد أن حصلوا على عقود عمل عن طريق الوزارات المعنية. كان معظم المتعاقدين يعملون في التدريس المتوسط والثانوي بينما كنا خمسة مهندسين من مختلف الأختصاصات (المهندس المعماري طارق عباس وهو أول المتواجدين في المدينة، المهندس المعماري عبد الأمير حمندي، والمهندس الكهربائي أمين، المهندس الميكانيكي غني، المهندس الكهربائي ناظم والمهندس المدني كاتب السطور) . وحصل البعض على عمل في مدينة البيض (كالشهيد سعد مزهر رمضان العادلي، شاكر جابر الملقب بكاوة وخريج كلية الزراعة رعد والدكتور كاظم) وتبعد عن سعيدة بحدود 250كلم، وآخرون حصلوا على عمل في المشرية وعين الصفرة (كطبيب السنان صباح عبد الهادي ودكتور آخر للأسف لا أتذكر أسمه) وبشار (أذكر منهم الصديق الصيدلي صباح يعقوب وزوجته الطبيبة هيفاء، وحسن الكربلائي وآخرون أعتذر عن تذكر أسمائهم) وهي مدن صحراوية تبعد عن سعيدة (300 و 500)كلم، وتعتبر سعيدة أقرب المدن (الحضارية) لها أو كما يسميها الجزائريون بوبة الصحراء. وأصبح لنا رفاق وأصدقاء من أطباء ومهندسين واساتذة موزعين بين هذه المدن المترامية المسافات. وحصل كثير من العراقيين على عقود عمل في كل أنحاء الجزائر وانتشر العراقيون من أساتذة ثانوية وجامعات بمختلف الأختصاصات، وأطباء ومهندسين في كل أنحاء الجزائر، وكانت حصة الغرب الجزائري وعاصمته وهران ليست قليلة من هذه التعيينات. نجح البعض في الحصول على عقود للتعليم الثانوي والمتوسط بالرغم من عدم تناسب أختصاصاتهم، فحاجة البلد كانت تتطلب المزيد من الأساتذة في التعليم، وعلى سبيل المثال أذكر أن أحدهم حصل على عقد للتعليم المتوسط وهو خريج معهد الفنون الجميلة قسم التمثيل، وكلف بتدريس مادة الفيزياء! وهي بعيدة جداً عن أختصاصه ومعلوماته فيها تساوي الصفر. وفي أحد الأيام زارني للبيت وطلب مساعدته في شرح مادة الفيزياء ليتهيأ بتدريسها لطلبته! وهكذا كنت أسبوعيا أدرسه وأبذل قصارى جهدي لشرح المادة كي يستوعبها ويكون قادرا على إيصالها لطلبته!. كان لابد لمنظمة الحزب المركزية في الجزائر من العمل لتشكيل تنظيماتها في جميع المدن الجزائرية وتنظيم أرتباط جميع الرفاق والأصدقاء وقيادة العمل الحزبي. ويتطلب هذا عملا متواصلا ومتأنيا مع الحذر لبناء تشكيلات تنظيمية منضبطة وجيدة بعيدة عن الأختراقات. فالهجرة الكبيرة من العراق وبطريقة غير منظمة التي صاحبت تراجعنا العشوائي، والأشاعات المسيئة التي يتناقلها البعض عن الآخرين والطعن والتشكيك بصلابة مواقفهم في داخل الوطن، كل هذه يتطلب التأني والدراسة والتدقيق والتحري الموضوعي لمعرفة حقيقة مواقف البعض ومايشاع عنهم. ولما كان عملي محصورا في منطقة الغرب الجزائري وهي منطقة واسعة ومدنها متباعدة، يمكنني الجزم أن الوضع التنظيمي كان بعيدا عن أي أختراق وكان أختيار الرفاق موفقا، ولكن هذا لايعني أن اختيارات الرفاق لم تسبب حساسية أو غضب البعض لعدم أختيارهم لهذا الموقع أو ذاك وقد أنعكس هذا وترك أثره السلبي على نشاط بعض التنظيمات الحزبية والديمقراطية، وعمق من الصراعات الشخصية وغير المبدئية تركت آثارها لفترة طويلة. بعد بضعة أسابيع من أستقراري في المدينة كلفت من الحزب بالاتصال بالمتواجدين وتثبيت مواقفهم، وطبيعة علاقتهم بالحزب قبل وصولهم للجزائر، ولم تواجهني صعوبات في ذلك بسبب قلة عددنا ومعرفتي السابقة لبعضهم. كان عددنا في المدينة مازال قليلا ومع بداية تموز 1979 وصلت مجموعة من العوائل والشباب للعمل، وأستقر جميعهم في شقق متجاورة وموزعة على أحياء المدينة الصغيرة. كان الجميع متحمسا للألتفاف حول الحزب لتشكيل تنظيماته وتجمعاته وتجاوب جميع الأصدقاء مع الحزب دون تحفظ على الأقل في مدينتنا سعيدة. فالمجاميع التي وصلتنا في صيف 1979 كانت قد أنتظمت في علاقات حزبية أثناء فترة البحث عن عمل مما سهل تنظيم العلاقة معهم. وكان بعضهم من خريجي الدول الأشتراكية ممن أنهوا دراستهم حديثاً ولم يتمكنوا من العودة للوطن بسبب الهجمة الشرسة من قبل البعث الحاكم، وأضعافهم من الهاربين من بطش النظام الدكتاتوري، وآخرون ممن أنهوا دراستهم في الدول الغربية. ومع بداية العام الدراسي وتمكن الجميع تقريبا من الحصول على عقود عمل وأستقرارهم في المدن التي نسبوا اليها، نجحت منظمة الحزب المركزية وبجهود تثمن عليها (بأشراف الرفيق كاظم حبيب) من جمع الرفاق والأصدقاء الموزعين في المدن الجزائرية وتشكيل التنظيمات الحزبية في المدن وهيكلتها بما يسهل متابعتها والتواصل معها. وهكذا ومع بداية العام الدراسي 79/80 أستقر تقريبا عملنا التنظيمي في منطقتنا (الغرب الجزائري) والتي تقع مدينتنا سعيدة من ضمنها. وأصبحت لجميع الهيئات الحزبية برامجها للعمل بما ينسجم وأهداف الحزب وسياسته العامة والتطورات الجديدة، آخذين بنظر الأعتبار الظروف السياسية للبلد المضيف وعدم التدخل في شؤونه السياسية. ركزنا في برامج الهيئات على تطوير أمكانيات الرفاق الثقافية ونجحنا في تجميع عدد لابأس به من المؤلفات الأدبية والماركسية وأنشاء مكتبات غنية تزود رفاقنا بالمصادر الضرورية، وقد ساعدنا في ذلك المركز الثقافي السوفياتي (السابق) من خلال الأستعارة (الدائمة!). وساهم رفاقنا والأصدقاء بشرف وفخر بما قدموه من إلتزامات مالية للحزب ورفده برفاق وحتى أصدقاء شجعان ساهموا في حركة الأنصار وبعضهم أستشهد في ربوع جبال كردستان، وآخرون تعرض للأعتقال أثناء نزوله من كردستان لداخل الوطن. هؤلاء الرافاق الذين قرروا ترك وظائفهم والتخلي عن عقودهم مع المؤسسات الجزائرية وحياة الأستقرار التي وفرتها ظروف الجزائر للتطوع والألتحاق بحركة الأنصار دفاعا عن المباديء والأهداف التي آمنوا بها غير آبهين بالمصاعب التي ستواجههم. بالرغم من قلة عدد الرفاق في مدينة سعيدة، حيث لم يتجاوز عددنا 25 في أحسن الأحوال، فقد التحق رفيقان ورفيقة بحركة الأنصار أستجابة لسياسة الحزب في مد حركة الأنصار في كردستان بالمتطوعين. وقد أثبت رفاقنا أخلاصهم وشجاعتهم في الألتزام بسياسة الحزب وكان أول الملتحقين الرفيق شاكر جابر (كاوة)، فمنذ حصوله على عقد عمل في مدينة البيض صيف 1979 كان يطالب الحزب بإصرار ويؤكد رغبته في الألتحاق بحركة الأنصار، الى أن تقرر التحاقه صيف 1980 ولأسباب أمنية لم نقم حفلة توديع لرفيقنا وأقتصر توديعه بلقائه معي حتى أن مرجعه الحزبي الرفيق الشهيد سعد لم يبلغ بالتحاقه بحركة الأنصار. وقد أثبت جدارته في العمل الأنصاري بالرغم مما عاناه من مرض جلدي بسبب أضطراره أحيانا الأختفاء بين الحقول والمستنقعات وتعرض جلده للحساسية والألتهابات. أما الرفيق الثاني هو الشهيد سعد مزهر رمضان العادلي* من مواليد 1952 النجف ومن سكنة الكاظم، ومنذ وصوله للبيض صيف 1979 وبعد أول أتصال معه أبلغني برغبته الجادة للمساهمة بحركة الأنصار وتقديم خدماته وخبرته المتواضعة للحركة، لأنه عمل أثناء خدمته في الجيش كملازم إحتياط. وعاتبني عندما عرف أن الحزب أختار أولا رفيقه شاكر جابر (كاوة) ليلتحق بحركة الأنصار، وأكد مجددا أصراره ورغبته بالألتحاق. والغي ألتحاقه مرتين بسبب مصاعب الوصول والأنتقال بين المناطق الحدودية العراقية، وأدى هذا الإلغاء مصاعب له في تجديد عقده بعد إلغائه وحصوله على سكن، وهذا مادفعني أن أوفر له السكن معي في شقتي تثمينا لموقفه وأخلاقه ونزاهته، وقد عاش في بيتي مع عائلتي الصغيرة كأخ ورفيق لسنة دراسية كاملة. بسبب أصرار الرفيق ومصداقيته وحبه للحزب، قررت منظمة الجزائر أختياره للدراسة الحزبية بدل التطوع لحركة الأنصار وعرضت عليه الفكرة ووافق عليها متحمسا وعلق مازحا معي: (سوف أذهب للدراسة الحزبية وأعود كادرا حزبياً لأشرف عليك وأجر أذاناتك كما تفعل معنا). وفي صيف 1982 وكنت خارج الجزائر بُلغ الرفيق بموعد سفره مع مجموعة من الرفاق أختيروا من أنحاء مختلفة من الجزائر للدراسة الحزبية. وقد أخبرني الرفيق برسالته الوحيدة لي أن الجميع أبلغوا بالألتحاق بالدراسة الحزبية وأن التوجيهات حول دراستهم يتم أستلامها من منظمة الحزب في سورية. للأسف تعرض الرفيق لخطأ وخدعة خسيسة غير مسؤولة ، فبعد أتصالهم بمنظمة الشام وتسليم الرسالة التي بعثتها معهم منظمة الجزائر أبلغتهم منظمة الشام أن وجهتهم الألتحاق بحركة الأنصار وليس الدراسة كما جاء في الرسالة!. وقد أثار هذا القرار من منظمة الشام غضب رفاقه وقاطعوا المنظمة، أما رفيقنا الشهيد ورغم تأثره لعدم مصداقية منظمة الشام وتلاعبها بمصيرهم، لأنه يعتقد (كما كتب ذلك في رسالته لي) أن مقاعدهم الدراسية سرقت من قبل المتنفذين في منظمة الشام ومنحت للمقربين، ورغم قناعته بعدم نظافة قرار منظمة الشام قرر الألتزام والألتحاق بالأنصار، وكتب الشهيد لي في رسالته الوحيدة (سأثبت لهم من أكون). وفي أول محاولة له للدخول مع مجموعة من الرفاق كان من ضمنهم الرفيق سلمان جبو تعرضوا لكمين وأستشهد سلمان وعادوا للقامشلي. ولم تنهار معنويات الرفيق وزإداد إصرارا على الألتحاق بحركة الأنصار وعاود الكرة مرة ثانية ونجح بالوصول لقواعد الحزب في كردستان. وأستشهد أثناء قيامه ومجموعة من الرفاق بعملية أنصارية، حيث تعرضوا لكمين غادر وجبان من الشوفينين الأكراد التابعين للأتحاد الوطني الكردستاني أستشهد على أثره الرفيق. أما رفيقتنا (أكرام) فقد التحقت بحركة الأنصار بعد أنتقالها للجزائر العاصمة، وللأسف سمعنا بخبر أعتقالها عند تنفيذها مهمة حزبية اثناء توجهها للداخل!. كانت الجزائر تجمعا كبيراً للمثقفين الديمقراطيين ومن ضمنهم الشيوعيين، وكان المثقفون من الأدباء والكتاب وخريجي الجامعات والمعاهد ومن حاملي الشهادات العليا ومن ذوي الخبرات والأختصاصات المتنوعة وحتى النادرة. وحاول الحزب الأستفادة من هذه القدرات الأدبية والثقافية ألتي أجبرها ألنظام الدكتاتوري على العيش في المنافي لتشكيل رابطة الكتاب والصحفيين والفنانين الديمقراطيين العراقيين بالتعاون والتنسيق مع منظمات الحزب في دول المنافي، وعقدت الرابطة مؤتمرها التأسيسي الأول في بيروت عام 1980. ورغم كثرة المثقفين وخاصة الأدباء من حزبيين وأصدقائهم في الجزائر وغيرها من دول المهجر، لم تتمكن الرابطة في أنجاز المهمات ألتي من أجلها تأسست وأصبحت ضحية صراعات أنانية وشخصية أنعكست على مجمل نشاطاتها حتى تلاشى نشاطها بمرور الزمن ولم تنجح حتى في عقد مؤتمراتها الدورية. كما أن الهيئات الحزبية ورفاقها من أدباء وكتاب لم يتمكنوا من لعب دور ريادي في تطوير عمل الرابطة لأن معظم رفاقها الذين كلفوا بهذه الأدوار وقعوا في شراك الصراعات الشخصية والمواقف الأنانية، أضافة الى التباعد بين أعضاء الرابطة وتواجدهم في مدن ودول متباعدة مما حدّ من نشاطاتها. بفضل تعاقدنا وحصولنا على عمل توفرت لنا ظروفا لابأس بها من الحياة الكريمة في الجزائر بعيدا عن شبح البطالة الرهيب الذي عانى منه الآلاف من العراقيين بما فيهم رفاقنا وأصدقائنا في دول المهجر. وكانت أحد أهم الروافد المالية للحزب ولحركة الأنصار الألتزامات المالية التي تلتزم بها الهيئات الحزبية في بداية كل عام وحسب نسبة الراتب الشهري للرفيق تصل الى الألتزام بدفع (20 -60)% من الرواتب المحوَلة سنويا وبالعملة الصعبة لتشمل أشتراكات وتبرعات وثمن أدبيات. وحتى أصدقاء الحزب المقربين كانوا يحددون التزاماتهم السنوية في التبرع للحزب بالعملة الصعبة في بداية كل برنامج سنوي (البرنامج السنوي يبدأ مع بداية كل عام دراسي)، وكان الجميع رفاقا وأصدقاء يلتزم بتنفيذ هذه التعهدات في بداية النصف الأول من البرنامج، إلا نادرا مايحصل تخلف أو تهرب من الدفع. ولوحظ بعد أكثر من أربعة سنوات من العمل في الجزائر ومع تعقد أوضاعنا، وأنهاء بعض العقود وعدم تجديدها أوحتى بأصدار القرارات من قبل سلطات الأمن الجزائري وطلب المغادرة خلال ساعات، بدء الحماس في المساهمة المالية يضعف. وفي أعتقادي أن الحزب فشل في أستثمار هذه الموارد التي كان يوفرها رفاقه العاملين في الجزائر وليبيا، وهي موارد ليست بالقليلة، فقد تجاوزت مالية منظمة الحزب في الغرب الجزائري وحده أكثر من 200 الف دولار سنويا. تحسن الوضع المالي لمعظم رفاقنا وقدمنا الأعانات (كدين) لبعض الرفاق والأصدقاء الذين فشلوا في الحصول على عقود عمل لحين حصولهم على عمل وأيفاء ديونهم. وهذا ماحدث في مدينتنا حيث قدمنا المساعدة لأحدى العوائل (عائلة محمد الرهك) التي وصلتنا من العاصمة الجزائرية وتحمل معها رسالة توصية من المنظمة المركزية يطلبون فيها توفير السكن وتقديم المساعدة المالية للعائلة والأهتمام بها لحين حصول رب الأسرة على عمل. وأرتبطت هذه العائلة برفاقنا في المدينة وقدمنا لها السكن المجاني ومصرف شهري وبعلم المركز لآكثر من ثمانية أشهر، وألتحقت الزوجة (أم أشواق) فقط بأحدى الخلايا الحزبية، لكننا تفاجأنا، بعد أكثر من ثمانية أشهر، من طلب المركز بقطع العلاقة برب العائلة وحتى طرده، لأن معلومات وصلتهم عن تعاونه مع السلطات الأمنية العراقية عندما كان في الداخل! مما أضطرنا الى الطلب من رب العائلة مغادرة الجزائر، ووفرنا بطاقات الطائرة لكل العائلة للسفر الى بيروت. وفي بيروت وبعد فترة من أقامته أعتقل من قبل أحدى المنظمات الفلسطينية بتهمة العمالة للسلطات العراقية ( هذا ماسمعته من زوجته بعد سنتين) وبعد أطلاق سراحه وعودته للبيت، خرج من البيت بعد دقائق من عودته ولم يعد وأختفت آثاره وتعتقد زوجته بتصفيته من قبل المنظمات الفلسطينية وربما من قبل النظام البعثي بعد أنكشاف علاقاته وعدم الجدوى من بقائه على قيد الحياة. أضافة الى النشاطات التي يقتضيها العمل الحزبي، كانت لنا نشاطاتنا ذات الطابع الأجتماعي والوطني، الهدف منها تقوية أواصر الصداقة والعلاقات الأجتماعية والتثقيف بسياسة الحزب في مختلف المجالات، ومن هذه النشاطات الأحتفالات بذكرى التأسيس، وثورة تموز، وأقامة الندوات الأدبية، والسفرات الجماعية ذات الطابع الترفيهي. وقد ساد الأنسجام والعلاقات الطيبة والنقية بين جميع الرفاق والأصدقاء في سعيدة، وهذا لايعني عدم وجود منغصات تنم عن الأنانية وحب الذات في محاولات فاشلة لتسميم الأجواء بين الرفاق والأصدقاء وتشويه العلاقات بعيدا عن المبادئ التي تربينا عليها. ولحسن الحظ أن مثل هذه النفوس أصبحت مكشوفة ومعزولة أجتماعيا في سعيدة بعد أنكشاف ماتتمتع به من قدرات في الكذب والتشويه والمزايدة وحب الذات والأنانية. وقد أثبتت الأيام التالية زيف مثل هؤلاء الأدعياء فنراهم في أيامنا هذه يسيرون في طريق آخر معادي دشنوه في حضور مؤتمرات المغتربين في بغداد أيام الطاغية صدام حسين، أو المساهمة لنشر السموم الأعلامية من خلال الظهور على بعض الفضائيات المشبوهة أو الكتابة في المواقع البعثية، ويصفون العمليات الأرهابية بالمقاومة. بينما كانوا يتطرفون في طروحاتهم ويأخذون على البعض أقدامهم على الزواج وأعتبروا ذلك تهرباً من المساهمة في حرب ألأنصار في كردستان. كان الوضع السياسي في الجزائر حساساً، فمنذ بداية الثمانينات بدأت السلطات الجزائرية بالتراجع عن الخط الذي بدأه الراحل هواري بومدين، وأخذت تمارس الضغط على القوى الديمقراطية الجزائرية وأبعادها عن بعض المراكز الأدارية والمهنية ومحاصرتها ، وفسح المجال أكثر فأكثر للقوى الأسلامية المتخلفة والتي مارست ضغوطها على الحركة الديمقراطية بشتى الطرق كحرق المكتبات والكتب والأعتداء على العناصر الديمقراطية واليسارية (الجزائرية) في الجامعات. ورغم كل هذه الضغوطات فقد كان نشاط القوى الديمقراطية الجزائرية وكفاحها بطرق شتى لمقاومة الضغوطات ومحاولة تحجيم نشاطاها. فكانت النشاطات الأدبية والفكرية التي تقام في سعيدة وبمشاركة فعالة للقوى الديمقراطية والحضور الجماهيري الجيد، دليل على حيويتها وأصرارها في الوقوف بوجه المد المتخلف، الذي سمحت به قيادة حزب جبهة التحرير. لقد ساهم رفاقنا وأصدقؤنا في جميع هذه النشاطات، وكنا حذرين في طرح أفكارنا أو كشف هوياتنا السياسية وخاصة في الندوات السياسية. وكانت القوى الديمقراطية الجزائرية على معرفة جيدة وواعية لما يجري في العراق من أنتهاكات، ومن خلال ندواتهم الجماهيرية في سعيدة فضحوا بالأرقام الأنتهاكات والحملة الشرسة من قبل سلطة البعث على القوى الديمقراطية العراقية. وقد أثار هذا غضب المتعاقدين البعثيين فحاولوا أتهامنا بالتحريض وأننا نقف وراء هذه الندوات، وقد كان موقف الشباب الديمقراطي الجزائري في سعيدة موقفا مشرفا أمام الأمن الجزائري ونفوا عنا التهمة وباءت محاولات البعثيين بالأيقاع بيننا وبين سلطات المدينة بالفشل. ومن خلال هذه النشاطات أرتبطنا بعلاقات صداقة وودية مع الرفاق الجزائريين، والذين أبدوا مساندتهم وتضامنهم مع شعبنا، وتبادلنا معهم أدبيات الحزب وبحذر شديد. في تموز 1980 وبعد مايقارب سنة ونصف من مغادرتي الوطن وصلت أبنة خالتي بعد أن تمت خطوبتها لي أثناء وجودي في الجزائر، وكانت برفقة شقيقتي أمل والراحل خالي مهدي والطفلين عمار أبن أخي الراحل همام وحيدر أبن خالي مهدي. سافرت بصحبة مدير مكتبنا الهندسي الحاج بالمحي الى العاصمة الجزائرية لأستقبال خطيبتي ومرافقيها. كان وصولهم من غير عراقيل في المطار الجزائري، حيث تزامنت سفرتهم مع ما أثارته السلطات العراقية من مشكلة مع الطلبة الجزائريين الدارسين في العراق من خلال مضايقتهم وأبتزازهم والضغط عليهم لتبعيثهم والتعاون معها أمنيا ضد زملائهم، ورفض الطلبة الجزائريون الشرفاء تعامل السلطات الأمنية معهم، وقد أجبرت البعض منهم على ترك دراسته والعودة للجزائر ، وقد سبب هذا السلوك من السلطات العراقية نحو جاليتها من الطلبة الجزائريين ردة فعل جزائرية بعرقلة دخول العراقيين القادمين من العراق للجزائر وحتى القادمين من الدول الأخرى، وأجبرت الكثيرين من العراقيين العودة للعراق على نفس الطائرة. حمدت حسن الحظ على وصول عائلتي ونجاحهم في الحصول على تأشيرة الدخول دون مشاكل. في يوم وصول عائلتي كنت مرتبطا بموعد أجتماع حزبي في مدينة وهران ، وكان علي العودة الى وهران (تبعد عن العاصمة بحدود 400كلم) دون تأخير لحضور الأجتماع، لذلك خططت لحجز سفرتنا الى وهران بالطائرة ربحا للوقت لحضور أجتماع لجنتنا الحزبية (لجنة الغرب الجزائري) في وهران. كانت سفرة الأهل متعبة، فمنذ الثانية صباحا أستيقضوا بعد نوم قلق ليتهيأوا للسفر من كربلاء متوجهين الى مطار بغداد، وهاهم في العاصمة الجزائرية وعليهم الأنتقال معي الى وهران بالطائرة مجددا. وكان الضجر والأعياء ظاهراً على تصرفات الأهل وخاصة الراحل خالي، وكنت أسمعه من حين لآخر يحدث شقيقتي بصوت خجول وخافت وبدهشة: هاي وين محمد ساكن؟ ماخذنا بالطيارة لغير مدينة، ومنها بالباص لمدينته! وكأنما ساكن في بلد آخر! كنت أقدر ضجر خالي فهم لم يناموا جيدا يوم سفرهم، ويحسون الآن بالأعياء وبحاجة للراحة والأسترخاء لآ التنقل بهم من مدينة لأخرى. في وهران توجهت الى بيت أحد رفاقنا (ع) حيث الأجتماع المقرر، وبعد أستراحة قصيرة في بيت رفيقنا المضيف أسترخصت من عائلتي المنهكة من السفر ودخلت مع رفاقي للمشاركة في الأجتماع. ولم يسع الوقت لأنهاء مهمات الأجتماع في نفس اليوم، لذلك كانت تتمة الأجتماع في صباح اليوم الثاني!. كنت أحس بالحرج أمام عائلتي لتركي أياهم أكثر من ستة ساعات وهم جالسين لوحدهم في بيت لم يسبق لهم معرفة صاحبه، ولا يعرفون مبررا لتركهم كل هذا الوقت بعد هذا العناء من السفر الشاق! ولا يمكنني أن أتخيل نفسي كيف تقبلت حينها هذا الوضع، هل يعقل أن أترك خطيبتي وبقية عائلتي بعد سفر وأنتظار أستغرق أكثر من 14 ساعة متنقلين فيها بين كربلاء-بغداد-الجزائر-وهران ومن ثم الى سعيدة لأشارك في أجتماع حزبي، وكأننا في هذا الأجتماع سيتقرر مصير النظام العراقي وأن ذلك لايتم إلآ بمساهمتي! وهل يصدق أن لايبادر أحداً من رفاقي لمنحي أجازة وأعفائي من المشاركة في الأجتماع لأصطحاب ضيوفي لمدينتي كي يرتاحوا! نعم بهذا الصدق والأندفاع والأرتباط كنا نفكر حينها وبطريقة ميكانيكية، ندوس فيها على كل مشاعرنا الأنسانية من أجل قضيتنا ومبادئنا. بعد عدة أيام من وصول عائلتي الى سعيدة تحركت من أجل أجراء عقد الزواج المدني على أبنة خالتي. كان الأمر يتطلب صورة قيد لكلينا وهذا مالم أكن افكر وأحسب حسابه. وعندما أتصلت بالأهل في كربلاء وطلبت منهم توفير صورة القيد، ومحاولاتهم للحصول على قيد نفوس لي ولزوجتي المقبلة، أخبروني باستحالة ذلك لأن عيون وآذان الأجهزة الأمنية تراقبهم وتتصيد أخباري. ولم تفلح جهودي في أجراء العقد إلآ بعد أن تعرفت زوجتي على السيدة رحمة زوجة السيد عبد الكريم أحد القضاة في سعيدة. ودعتنا لزيارتهم في البيت وشرحت للسيد عبد الكريم مشكلتنا وأسباب عرقلة ذلك ورفض القضاة أجراء العقد. فأبدى أستعداده لأجراء العقد بعد أن عرف أننا عراقيون وكشف لنا حبه للعراق وشعبه وفضل العراق عليه حيث درس وتخرج من كلية الحقوق في بغداد عام 1964. وحدد لنا موعدا قريبا وهكذا بفضل هذا الحاكم النبيل أجرينا عقد الزواج، وأصبحت عائلة القاضي عبد الكريم من الأصدقاء المقربين.
يـتـبـع
* سبق وأن نشرت في أيار عام 2006 مقالا عن الشهيد سعد (أبو ليلى) تطرقت الى ملابسات سفرته، ونشر المقال في عدة مواقع (موقع الناس، البيت العراقي، الحوار المتمدن، موقع الطريق، صوت العراق وكتابات) يمكن مراجعته لمعرفة ملابسات الخطأ.
#محمد_علي_الشبيبي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بدايات الغربة /14
-
بدايات الغربة /13
-
بدايات الغربة /12
-
ملاحظات حول كتاب الاستاذ سالم عبيد النعمان (الحزب الشيوعي أل
...
-
ملاحظات حول كتاب الاستاذ سالم عبيد النعمان (الحزب الشيوعي أل
...
-
ملاحظات حول كتاب الاستاذ سالم عبيد النعمان (الحزب الشيوعي أل
...
-
بدايات الغربة/11
-
بدايات الغربة /10
-
بدايات الغربة /9
-
جوعان يعلجله بعلج (علكة) وعريان لابس قندرة (حذاء)
-
أن كنتم لاتستحوا قولوا ماتشاؤا الى حكومتنا ونوابنا أسود المن
...
-
بدايات الغربة/8
-
بدايات الغربة/7
-
بدايات الغربة/6
-
بدايات الغربة 5
-
بدايات الغربة/4
-
بدايات الغربة 3
-
بدايات الغربة/2
-
بدايات الغربة/1
-
وقفة على القبر
المزيد.....
-
ماذا يعني إصدار مذكرات توقيف من الجنائية الدولية بحق نتانياه
...
-
هولندا: سنعتقل نتنياهو وغالانت
-
مصدر: مرتزقة فرنسيون أطلقوا النار على المدنيين في مدينة سيلي
...
-
مكتب نتنياهو يعلق على مذكرتي اعتقاله وغالانت
-
متى يكون الصداع علامة على مشكلة صحية خطيرة؟
-
الأسباب الأكثر شيوعا لعقم الرجال
-
-القسام- تعلن الإجهاز على 15 جنديا إسرائيليا في بيت لاهيا من
...
-
كأس -بيلي جين كينغ- للتنس: سيدات إيطاليا يحرزن اللقب
-
شاهد.. متهم يحطم جدار غرفة التحقيق ويحاول الهرب من الشرطة
-
-أصبح من التاريخ-.. مغردون يتفاعلون مع مقتل مؤرخ إسرائيلي بج
...
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|