أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - هاتف جنابي - الخروج من المعتقل بكفالة المنفى(2)















المزيد.....


الخروج من المعتقل بكفالة المنفى(2)


هاتف جنابي

الحوار المتمدن-العدد: 2042 - 2007 / 9 / 18 - 10:05
المحور: سيرة ذاتية
    


ليس لأحد القدرة على الاحتفاظ حتى النهاية بطفولته مثل الشاعر، فهو الوحيد الذي يتمثلها ويستحضرها بفتوة بالغة. أنا صنيعها في المقام الأول، وثمرة انتكاستها في المقام الثاني. تشظت طفولتي إلى رحيل، قلق، خوف، معاناة، مسئولية مبكرة عن العائلة، عدم استقرار وفقدانات مكانية متكررة، جعلتني لا أشعر بالانتماء لمدينة عراقية بحد ذاتها. تجمّعَ انتمائي في موشور يَشي بطقسية كلية. تحول مفهوم المكان لديّ من أبنية وشوارع ووجوه وطبيعة، أي من سيماء مستقرة ذات ملامح محددة إلى شيء انسيابي خاضع لمزاج الذاكرة والبصر والهمّ العام، ولأحداث وشخصيات ذات أثر ما. أصبح المكان ذا طبيعة وأفق ميتافيزيقين أكثر منه كشوارع ومبان ٍومعالم أخرى. فيه من السيولة والامتداد أكثر من نقيضها من الصفات والمسمّيات. هناك مكان بُلهَ فضاء مفرح وآخر محزن. مكان يبعث الذكريات وينشط الذاكرة والمخيلة ويُحَفز على الإبداع وآخر يمسخه أو يركله أقصى ما يمكن. المكان شأنه يقارب حالة المرأة. واحدة تجلب الكدر والنحس وأخرى البهجة. وشأنه كذلك شأن الوجوه: وجه لا ترتاح إليه وآخر تستأنس به. ألم يقلْ الشاعرُ في ذم الثقلاء:
"وثقيلٍ أشدّ من ثِقَلِ الموتِ، ومن شدةِ العذاب الأليمِ
لو عصتْ رَبَّها الجحيمُ لما كان سواهُ عقوبةً للجحيمِ"

عموما، سارت الأمور على الوجه الآتي: القرية- مدينة النجف- بغداد- البصرة(الزبير على التحديد)- الكويت - كركوك- تركيا- بلغاريا- رومانيا- يوغسلافيا- المجر – جيكوسلوفاكيا فبولندا(مدينة وودج حيث معهد اللغة البولندية – وارسو حيث الجامعة) – الجزائر(تيزي-وزو التي درّسْتُ فيها الأدب العربي والدراما، بما في ذلك "جبل البلوى" الذي يكتنف المدينة بالأحضان)– بولندا- هامبورغ لتطبيق ما تعلمته نظريا من اللغة الألمانية في بولندا ولم يبق منه شيء- بلجيكا بدعوة من بينالي الشعر العالمي – باريس – لندن- كوبنهاغن – مالمو- وارسو - برلين- عمّان - الولايات المتحدة الأميركية(نيويورك - بيترسبورغ – إنديانا ومن ثم بلومنغتن الرائعة – شيكاغو- بلومنغتن) – وارسو- تونس- طرابلس للتعرف على خطيبتي وزوجتي الحالية البغدادية الأصل – وارسو- تشيكيا بدعوات شعرية- ليتوانيا للمشاركة بمهرجانها الشعري الدولي- النيبال ممثلا لنادي القلم – سراييفو للمشاركة بمهرجانها الشعري العالمي- دمشق للمشاركة بمهرجان المدى الثقافي الثالث– كردستان العراق- وارسو- أمستردام – روتردام – وارسو – زاخو – زاخو(خارجا من العراق وداخلا له بمحض الصدفة من نفس المنفذ الحدودي الذي غادرت منه العراق ذات يوم)- وارسو- فيجاك - لابوبِي في جنوب فرنسا التي توفي فيها شيخ السوريالية أندريه برتون- يابلونا: حدود الغابة(استعادة بعض ملامح الطفولة القروية/السكن جوار الغابة).
نقاط السيطرة: الريف/الغابة. من بين معارفي وجوها وأشياء وأصنافا، ضمن حدود المرئي، في الوقت الراهن: الخنازير البرية، طيورُ الدرّاج، بعضُ الغزلان والثعالب والأرانب البرية، أنواع شتى من الطيور المهاجرة، قطط، كلاب أليفة وسائبة، كتب عديدة بعضها يحمل آثار الحريق، بالإضافة إلى بعض رجال الشرطة والعمال الطارئين والعيونُ المستغربة، وعدسات مخفية لرصد الغرباء(خصوصا من خارج أوروبا). ضمن النطاق ذاته ثمت زمنٌ ينضج ألمحه من خلال الفتيات اللواتي أخذن يبلغن على عجل، بنظراتهنّ المتلهفة المتسائلة عن هذا الغريب – الأليف: مَنْ يكون يا ترى؟ يأتين مرارا يقرعن جرس البيت متسائلات عن ابني (آدم) ذي السنوات العشر! حياة تمر على عجل: البعض يهرم متوسلا بطفولته حالما بنتفة منها، والآخر يشبّ ويود اللحاق بالكبار على عجل.
ثمّت مفاصل ينبغي عليّ التوقف عندها. في العام 1963 أثناء الإطاحة بحزب البعث الذي حكم عقب انقلاب دموي لمدة تسعة شهور ومجيء الأخوين عارف للسلطة تباعا، أذكر وأرى جيدا أننا شلة من المراهقين وبعض الكبار في السن قد تجمهرنا في شوارع المدينة بدافع الفضول. كنتُ أرقب الوضع من الرصيف المقابل لمقر الحزب الرئيس في المدينة، فلاحظت هروب أعضائه على عجل متسللين عبر السطح إلى المقبرة الواقعة خلفه بعد مرابطة مُصَفّحة أمامه. دخلنا المقر فوجدنا مسامير ضخمة مثبتة في الجدران ومراوح منزوعة الرياش وشعورا متناثرة ودماء تغطي الجدران. أخذ بعدها مباشرة صباغ الأحذية العجوز الإيراني الأصل(دردر) يقهقه عاليا بفم مخلوع الأسنان، مشرع كمغارة عتيقة مهجورة، مرددا: "الحمد لله، لقد انعتقتُ من مراقبة الناس لصالح هؤلاء الشياطين المَرَدة، الحمدُ لله، نجّينا يا رب من كل مكروه"! كان (دردر) يصبغ الأحذية أمام إحدى أشهر مقاهي المدينة الكائنة مقابل المقر المذكور. بعد رحيل عارف بفترة بحادث، كنا نسمع من كان يُردّدُ بحق عبد السلام عارف "صَعَدْ لحَمْ ونزل فَحمْ"، إشارة بينة الدلالة لسقوط طائرة عارف واحتراقها، كما كان يُروى، من جهة، وبغرض إغاظة القوميين والشماتة بهم من جهة ثانية. عالم عجيب غريب وردود افعال قد تأتيك من جميع الأطراف، بلا استثناء، خادعة ومضللة، منتقمة وقاسية، وبعد وقت تشرع بمساءلة نفسك ومحيطك: أهذا نابع من ثقافتنا أم من قسوة واقعنا أم من سوء تركيبة تلك الأطراف؟
في اليوم التالي دخلتُ مسجدا قريبا من بيتنا وليس بعيدا عن مستشفى النجف العام ومحلة (الفيترجية)، كانت تدور حوله إشاعاتٌ وحكايات غريبة، عثرتُ على بعضها في كتيب أصفر الصفحات لايكترث به أحد، اقتنيته في العاصمة الجزائر أواسط الثمانينيات لمعرفة ما قد ينتظر الآثمين من أمثالي وكان بعنوان "أهوال يوم القيامة". هذه اللقطات انطبعت في مخيلتي وشكلت هاجسا وكابوسا حقيقيين حاضرين في حياتي، أتضح فيما بعد أنها مقدمة لعذابات عراقية لاحقة متوالية ومتصاعدة في عنفها. وسببا في هروب موجات متلاحقة من المثقفين إلى الخارج – موجة السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات وماتلاها حتى بعد الإطاحة بالنظام السابق وأيامنا الراهنة المريبة. كل ذلك جعلني أخاف من عقاب الآخرة ومن السلطة والشرطة. كلما رأيتُ شرطيا انتابتني قشعريرة مربكة مصحوبة بتعرّق، يعقبها إسهالٌ أحيانا. الشرطي بوليس قابع فينا. ما الذي يجعل، يا ترى، حياتنا تزداد صعوبة وقسوة كل لحظة، ما الذي يزيدها تخلفا؟ هناك مثل عراقي قديم يقول: "يسْقيني الماءَ بأجنحةِ الذباب".
كانت تجربة النجف الدينية تشكل عائقا أمامي لمباركة التيارات السلفية، وحينما برزتْ لي المشاهدُ المروعة للأفعال الآنفة المشينة شعرتُ بأنني منقذفٌ في الجهة الأخرى المعاكسة للتيارات القومية المغالية. أصبح من المستحيل إقناعي بصحة الشعارات القومية والدينية المطروحة بعنف في تلك الفترة الحالكة. كانت تلك الشعاراتُ تقطر دما. لكنْ لماذا ماتزال تقطر أشلاءً ودما الآن؟ لماذا لا يتم الاكتفاء بنحر العراقي؟ لماذا تُنحر روحهُ يعني ثقافته المادية والروحية؟
على أية حال، لمْ يبقَ أمامي، سوى العزلة أو مواساة النفس بالاستماع إلى فصيل ضخم من المثقفين المحسوبين على اليسار العراقي المهيمنين آنذاك على الحركة الثقافية إلى أن فقدوها داخل العراق بفعل حماقة وسذاجة قادتهم من جهة والحملة الشعواء من التنكيل والملاحقة التي طالتهم ومؤيديهم أواخر السبعينيات من جهة أخرى. فكانت تلكم الخديعة الكبرى!
كانت علاقتي بالتيار العراقي المتنور محاولة للبحث عن أمل، وهي التي عجلت بهروبي شبه العلني في العام 1976. وربما بفضلها(من المؤكد بفضلها) لم تزهق روحي مبكرا.
إذن، لقد حُسمَ مصيري تماما. لم تدمْ علاقتي الفعلية بتلك الحركة أكثر من حدود مطلع الثمانينيات، لأنني اكتشفت عدم صلاحيتي التامة لأن أكون مؤدلجا أو تابعا ولو عن طريق الخطأ لأي طرف كان. عليّ صيانة نفسي من الزلل والتمسك باستقلاليتي الفكرية التامة إلى أبعد الحدود والمحافظة على ما فضلَ من ريشي أولا، وتطوير أدواتي الكتابية والعقلية ثانيا، والمحافظة على ماتبقى من الوطن وانتمائي الثقافي والحضاري ثالثا، ومواصلة الانفتاح على الآخر رابعا.
كان ثمت وعي أو طموح قد يكون غير واقعي يتملكني: قد يكون بإمكاني أن أشكل حلقة نافعة حداثوية الروح والجسد ما بين التراث العربي والإنساني، بدون تقليد أحد أو تقليعة موسمية. هذا الإحساس جعلني أحاذر إلى حد ما من الوقوع في مطبات ومقالب الالتفات إلى الماضي بدون روح نقدية شكاكة، ومن الجري وراء التقليعات السريعة البراقة المنتشرة في سوق الثقافة العربية التي وصلت متأخرة إلى حد ما، وهي في الغالب الأعم ذات مرجعية أجنبية أخذ يهجرها أهلها. هذا الإحساس الذي أصبح بمرور الوقت إحدى سمات شخصيتي الأدبية، الثقافية والفكرية، جعل من الصعب خداعي شعريا وفنيا وفكريا، على أن رجحان كفة الحداثة هو المهيمن في تصوري ورؤيتي للعالم ولنفسي. الإيمان الحقيقي بالأشياء يجعل الكدّ المتواصل من أجلها أمرا طبيعيا وتلقائيا.
النقطة اللاحقة الجديرة بالتوقف عندها ولو سريعا تتعلق بمقبرة النجف الهائلة التي كنتُ أتردد عليها كثيرا بحيث شكلتْ أحدَ أهم الأماكن الموحية الحية التي أغنتْ حياتي الأدبية، حتى أنها أثّرَتْ على مزاجي اللاحق ورؤيتي للكون ولمصير بني البشر. لقد اكتشفتُ بأن الإنسان مصيدة للمبالغة في كل شيء وأنه ربما يكون الكائنَ الوحيد الذي ينصب الفخاخ لنفسه ويتباهى بذلك. كنتُ أزورها متأملا ومتوقفا عند أضرحة الأطفال والفتية ذكورا وإناثا، باكيا مرتلا بعض الأشعار من التي كنتُ أحفظها أو مما ألّفْتُهُ للتو في المقبرة.
قبل سنة شرعتُ بكتابة قصيدة مركبة بعنوان "أنثروبولوجيا العائلة"هي في واقع الحال نص طويل مركب، تصلح عليه تسمية: ضفاف وحقول، أو حفريات الذاكرة، جاء فيها:
"كنا جميعا ننصب الفخاخ
للحيوان والطيور
ننصب الفخاخ للحياة".
ثمت تلقائية بعلاقتنا بالطبيعة والمحيط أو البيئة، لكنها تفتقد إلى الوعي بأهميتها بفعل انغماسنا في مهب حياة قاسية للغاية، ناهيك عن انعدام اكتراثنا بالبيئة التي تحيطنا.
شكلتْ جامعةُ بغدادَ نقطة مفصلية أخرى في بلورة مصيري، ليس كمدرس للغة العربية في مدينة كركوك وحسب، إنما في غلبة الخيار الشعري والكتابي في حياتي. قُبِلتُ في قسم اللغة العربية بسبب غلق باب القبول لقسم اللغة الإنجليزية، وقد شجعني على ذلك الأستاذ علي عباس علوان الذي كان جالسا خلف طاولة استلام الطلبات آنذاك(درّسَنا فيما بعد مادة العروض). كان أبي قد رفض تقدمي للدراسة في أكاديمية الفنون الجميلة، بسبب تصور مضحك لدى العامة بأن طلابها وطالباتها من النوع الخفيف: الطالبات ساقطات والطلاب مخنثون! وبناء على فكرة الفحولة المفتعلة الشاخصة في العقل العربي، أخذني والدي إلى الكلية العسكرية لتقديم أوراقي، فرفضوني، ومنها إلى كلية الشرطة فلم يكُ حظي أوفرَ. كنتُ مستسلما على مضض كخروف مساق للذبح. أشاع عدم قبولي روحَ الفرح في داخلي: لسقوط ذرائع أبي دفعة واحدة بفعل عوامل خارجية، ولانعتاق روحي وعقلي ومستقبلي.
كانت دورتي في جامعة بغداد محظوظة، بأن درّسَها كلّ من الشاعرة نازك الملائكة والشاعرة عاتكة الخزرجي والأساتذة: مهدي المخزومي وعلي جواد الطاهر وإبراهيم السامرائي وعناد غزوان وفاضل السامرائي وعلي عباس علوان وعبد علي الجسماني وسواهم.
أَ أُطْلِقتْ عبثا على دورتِنا تسميةُ"كلية التربية الملغاة"، أم ترانا كنا قطرة في بحر ممارسة الإلغاء والمحو المبرمجة الشاملة؟ كنا آخر مجموعة تتخرج من كلية ذات تاريخ علمي وأدبي رفيع، كونها تشكل امتدادا للكلية التي تخرج منها السياب والبياتي ونازك الملائكة وسعدي يوسف وزملاؤهم الآخرون. صدرَ قانونُ إلغائها والشروع بتأسيس كلية جديدة بديلة تحمل نفس الإسم ليُقبل فيها منتسبو حزب السلطة فقط. عُرفِتْ كليةُ التربية الملغاة، حتى بعد نقل كلية الآداب مكانها، بأنها منتدى أدبي – ثقافي يَؤمّه الشعراءُ والكتاب من كل مكان. كانت (قاعة ساطع الحصري) ملتقى للمحاضرات والندوات والمهرجانات الشعرية والفنية الطلابية وذات الطابع القطري والعربي، وفيها ساهمتُ أكثرَ من مرة في مهرجانات الجامعة الشعرية. هناك تعرفت على عديد من الشعراء والنقاد وتعرفوا عليّ. كان عدد الشعراء من المشاركين معنا يربو على الثلاثين، لم يبق منهم سوى حفنة مشردة طموحة تمارس الكتابة شعرا ونثرا، تنشر هنا وهناك، لكنها حفنة قاربتْ بطموحها فضاءات عربية وأجنبية.
بعد انتهاء مهرجان الجامعة الشعري في العام 1970 جمع الناقد ماجد السامرائي كل ما قرأته ونشره في جريدة الصحافة التي كان يُصدرها قسمُ الصحافة والإعلام في جامعة بغداد. وماجد هو الذي وقف موقفا مشرفا آنذاك لمتابعة مصير ديوانيّ الشعريين في وزراة الإعلام(في أواخر الستينيات ومطلع السبعينيات كنا نلتقي في الجامعة في الوزيرية، وكان أحيانا يشكو لي بهمس عن مصيره كقومي متنور من تقدم التيار المتطرف في حزب البعث، ولا أدري إلامَ آل مصيره فيما بعد؟!). كان ذلك أول نشر لي، انقطعتُ عنه، وعاودته بطلب من الشعراء: مصطفى جمال الدين ومحمد حسين الأعرجي وهاشم الطالقاني الذين نشروا لي قصيدة "العزف على الجمجمة" (1973) في مجلة "الرابطة الأدبية" الشهرية الصادرة آنذاك في النجف(كانوا في هيئة تحريرها)، ورأس تحريرها الشاعر الراحل مصطفى جمال الدين. جرى الاحتفاء بالقصيدة بطريقة ملفتة أغرتني بمواصلة الكتابة والنشر. لكن البعض أشاع بأنني ربما أكون قد سرقتها !!
بعد التخرج مقرونا بالعام 1972 والأحداث المأساوية المتلاحقة التي أعقبته كنتُ أسوة بالآخرين أتطلع إلى مصيري ومستقبل جيلي بأمل مشوب بالتخوف الذي تلبس فيما بعد أقنعة وأدوات القنوط والخوف. بعد فترة وجيزة، أخذ معظمُ أفراد جيلي والجيل اللاحق يدفعون ضريبة التصحر الفكري والطموحات الفردية للسلطة وحزبها الفريد، ساعدهم في ذلك سوء تقدير أحزاب المعارضة، بأفكارها الشمولية وأساليبها ذات الطابع القبلي من جهة، ولامبالاة عالم الحرب الباردة من جهة أخرى.
أخذت حياتي منذ العام 1973 تتواصل باعتباري شاعرا يعيش على الضفاف، متمردا ومستهزئا بكل ما هو مؤسساتي، ركنته الظروفُ عند حافات الشعر والحياة، منذورا لعدم الاستقرار والنسيان أو التناسي الذي لم أكترث له كثيرا. إيمانا منّي في حينها بجودة البضاعة أولا وأخيرا، لا بتسويقها. كم مرة تناهى إلى سمعي أو عبر آخرين أوفياء يعرفونني عن قرب: "منْ يكون هذا الشاعر الصعلوك الذي يتنطع بالشعر والتمرد؟"، ومرة أراد بعضُ الشعراء المأجورين في الكلية أنْ يُجْهزَوا عليّ، بعد الانتهاء من قراءة قصيدة "متمردة"!، لكن الشاعر المرحوم عزيز السماوي أنقذني من مصير مجهول حقا، إذ قام بتخليصي منهم وإيصالي إلى منطقة أحد الباصات القريبة من الجامعة ونصحني بالتغيب لثلاثة أيام على الأقل حتى تتقادم القضية، عملتها أسبوعا! كان من بين الشعراء المشتركين الجميلين الواعدين فعلا آنذاك في المهرجان، كل من عبد الإله الياسري(الآن في كندا) وحسن المرواني(الذي قرأ قصيدة غزلية أصبحت فيما بعد مشهورة حيث غناها كاظم الساهر) وخلدون جاويد(ربما في الدانمارك) وناهدة محمد علي ويحيى صاحب وسواهم. وكان من بين الشعراء في الدورة التي سبقتنا كل من حميد الخاقاني وشوقي عبد الأمير ومحمد حسين الأعرجي، وقبلهما بقليل كل من يحيى السماوي ومحمد علي الخفاجي وآخرون. كلنا ضمن هذه المجموعة بدأنا ممارسة الشعر من الكتابة وفقا لأوزانه المعهودة وعموده الشعري. بالنسبة لي تركته نهائيا بعد أربع سنوات من الشروع بالكتابة. كانت تجمعنا هموم مجايلة مشتركة وتفصلنا مسألة الحداثة والنظر إلى الأيدولوجيا. كنتُ ومازلتُ أعتقد بأن الأيديولوجيا "المؤدلجة" خطيرة على فكرها ومنتسبيها وهي"هجّامة بيوت وأعراض". الغريب أن معظم زميلاتي وزملائي إما رحل إلى العالم الآخر أو تغرّب أو تبعّثَ قسرا. على من عاد منهم بعد سقوط النظام لابد وأنه يشعر بغربة طاحنة ماكرة! كلنا كنّا ومازلنا أسرى أوهام وأحلام نبيلة وطوباوية، يمكن حصرها بجملة مفيدة: " صرعى سراب أحلام غير منجزة".

ما يثير الشفقة والضحك معا هو ذلك التصور الذي كان ومايزال مهيمنا على عقلية المثقف العربي وملخصه: طالما أن نتاجك غير معروف للملأ فأنت لاشيء! أو على أقل تقدير بتقييم ابتساري فيع بعض الغمز: مَنْ يكون هذا؟! وهذا التصور – الموقف المرتجل هو نتيجة لما ينغل في البطانة العربية من روحية فردية تسلطية استعلائية النزعة وساديتها في آن واحد. في أحد أفلام الواقعية الإيطالية الجميلة: ورد مايلي: تقول النملةُ للحجر: أعطني وقتا وسأقضمك! هذا القول- الإصرار – الفعل الحشريّ غلّف حياتي من ألفها إلى يائها ومنحني إصرارا ومناعة لاحدود لهما.
كان عليّ، جراء كل ما اقترفته طبيعتي، أن أدفع ضريبة قاسية من التعتيم بشقيه: الرسمي، والشللي. لم أكنْ أؤمن بفكرة الانضواء تحت الراية الشللية ولا المؤسساتية، الشيء الذي جعل اختلاطي يتشكل خارج المنابر والصفحات الثقافية، فنشأتُ شاعرا خارجَ أعراف التجمعات الأدبية وجو المداهنات والمجاملات المتبادلة عادة في مثل هذه الأوساط والحالات. كنتُ أمرّ على بغداد في أوقات العطل، قادما من كركوك، وأنا في طريقي إلى عائلتي.
ذات جلسة في اتحاد الأدباء العراقيين مع شلة من الشعراء، أنقذني الشاعرُ عبد الرحمن طهمازي من أحد مخبري الاتحاد المتربصين بزملائهم المغايرين، بتأويل، لصالحي، لقصيدتي"الحرب-الحلقة المفقودة" المنشورة للتو في مجلة "الموقف الأدبي" السورية في حينها(1974). بعدها لم أدخلْ مقرّ الاتحاد سوى مرتين: الأولى بهدف تقديم قصيدتي"أشعار الأقاليم الجديدة" لنشرها في مجلة" الأديب المعاصر"- مجلة الاتحاد، فنشرت، والثانية في 1976 للتحدث مع الشاعر شفيق الكمالي رئيسه آنذاك وهاشم الطعان اللذين وجدتهما جالسين وبالقرب منهما الناقد فاضل ثامر. استلموا أوراقي للنظر فيها وتقرير ما إذا كنتُ أصلح لعضوية الاتحاد الذي قبلتُ فيه في العام 1977 أثناء غيابي خارج العراق. بعدها لم أدخلْ مقرَّ الاتحاد ولم أعدْ لبغداد سوى مرتين كذلك، كان آخرها في شهر آب 1976.
وبما أنني لم أعدْ إلى العراق مطلقا، فقد تم على مايبدو طردي من الاتحاد أواخر السبعينات، ربما مع عدد لابأس به من الزملاء الهاربين. على أنني لم أندمْ أبدا على ذلك، فلكل شيء ضريبته. خاصة وأنني قُبلتُ بناءً على مجموعة، لا غير، من النصوص المنشورة في الصحف والمجلات العراقية والعربية، لأن ديواني المعلن عنه في الصحافة لم يُنشر أبدا.
(يتبع)



#هاتف_جنابي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الخروج من المعتقل بكفالة المنفى (1)
- مقدمة في المنفى والمهجر
- الأكتاف المبللة
- حوار مع -الحوار المتمدن-
- العملية الإبداعية الحلقة الأخيرة
- العملية الإبداعية بين استبداد العقل وازدواجية المثقف العربي ...
- الكاتب البولندي ريشارد كابوشتشينسكي نموذجا للكتابة عن أثمان ...
- أنثروبولوجيا العائلة
- الأسئلة وحواشيها
- أحلام وأباطيل أخرى
- العملية الإبداعية بين استبداد العقل وازدواجية المثقف العربي2
- فضاءات-وصايا- انبعاث
- ملاحظات أولية في المعرفة والعلم والعمل
- قصيدة البياض في طور النقاهة
- العملية الإبداعية بين استبداد العقل وازدواجية المثقف العربي
- أبقار إسرائيلية في لبنان
- هل إسرائيل بحاجة إلى -حماس- و-حزب الله-؟


المزيد.....




- جراح قديمة وطاقة جديدة في عاصمة الثورة السورية
- غيراسيموف: قلة التدريب بسبب العقوبات الأمريكية وراء انهيار ا ...
- دوجاريك: إسرائيل لا تزال ترفض توصيل المساعدات إلى شمال غزة
- أكثر من مليون قتيل وجريح.. الأركان الروسية تحصي خسائر كييف خ ...
- حزمة مساعدات عسكرية أمريكية لأوكرانيا بأكثر من مليار دولار ب ...
- زاخاروفا تعلق على إمكانية رفع -هيئة تحرير الشام- من قائمة ال ...
- شاهد.. شركة فضاء يابانية تلغي رحلة قمر صناعي بعد دقائق من ال ...
- مقتل شخصين على الأقل إثر اصطدام طائرة بمبنى شحن في هاواي
- نتنياهو يمثل أمام المحكمة من جديد بتهم فساد
- صحة غزة تعلن حصيلة جديدة لضحايا الحرب الإسرائيلية على القطاع ...


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - هاتف جنابي - الخروج من المعتقل بكفالة المنفى(2)