كأنه اختيار ، كأنه مجرد سؤال على المرء أن يختار أحد جوابيه ، فلا يوجد جوابٌ ثالث ، ولا مجال لأحد أن يختار جواباً ثالثاً من عنده ، كما لا مجال له سوى أن يختار جواباً منهما ، وعلى الأخص ، لا مجال له أن يختار كليهما ! أعود وأقول ، كأنه محتم عليه أن يختار جواباً ، وجوابه يجب أن يكون أحدهما ، جواباً واحداً فقط من جوابين ..
السؤال هو : هل تختار الماضي أم المستقبل ؟
وهذا السؤال مطروح في حالتنا علينا العرب .. كأفراد وكأمة .. رغم أن كون العرب أمة حقاً ، أمر بحد ذاته ما زال ، بل راح يغدو أكثر فأكثر ، سؤالاً مشروعاً ، بالنسبة لعدد يتزايد من العرب أنفسهم ! ذلك أن العرب اليوم ، ككيان ، كيانُ موزع على دول كثيرة ، أطلق عليها صفة إقليمية ، مختلفة لحد التنافر أحياناً ، ومتباعدة تفصل بين بعضها قارات ، راحت كلٌّ منها تأخذ ، مع الأيام ، شكل أمةٍ لوحدها ، فيقال ولو بخجلٍ ، الأمة المصرية ، والأمة الكويتية ... ويأخذ سكانها ، شكل شعب . فيردد يومياً ، دون أي خجل ، الشعب السوري ، والشعب الجزائري ، والشعب الفلسطيني ، وإذا كان تعبير الشعب اللبناني ، واحداً من أوهى هذه التعابير ، لدرجة أنه ، مرة ، خلال نقاش حاد كنت أؤكد به أن الجريدة ..... لا أحد يقرها من الشعب اللبناني ، فإذ بمحاوري يقاطعني بسؤاله : ( وهل تظن أن هناك شعب في لبنان ! ) فإن في تعبير الشعب الفلسطيني مفارقة أشد قسوة بما لا يقارن ، لأنه في إقرار العرب بوجود شعب فلسطيني بحد ذاته ، فقد وقعنا بإشكالٍ قومي لم نجد له أي نوعٍ من الحلول ، سوى التظاهر بأنه غير موجود ، وهو: كيف يعتبر العرب أنهم شعب واحد ، وفي ذات الوقت يخالفون مزعماً إسرائيلياً ، يعتبر من أهم المزاعم الصهيونية التي تأسست عليها فكرة قيام دولة إسرائيل ( ولو أن أغلب الإسرائيليين الآن ما عادوا يأتون على ذكره ، فقد تخطوا مرحلة التأسيس بأشواط ) بأنه لا يوجد شعب فلسطيني !! ولكن هذا موضوع شائك آخر .
أعود للسؤال وأقول إن العرب منذ بداية طورهم الجديد ، وبجهل أعترف به بالتورايخ وبكثير من التفاصيل والوقائع ، أستطيع تحديد هذه البداية ، بالفترة الأخيرة للحكم العثماني لبلادهم ، أي منذ بداية تململهم من سلطة الأتراك عليهم في نهايات القرن التاسع عشر و مطالع القرن العشرين ، ثم بثورتهم الكبرى ، بقيادة الشريف حسين . ولأسباب أظنها حقيقية ، مبررة ، موجبة ، اختار العرب ، كأفراد و كأمة ، على كافة الأصعدة ، الفكرية و السياسية والاجتماعية ، جميع صنوف وألوان واحتمالات الأجوبة على السؤال المذكور ، وكأن ذلك الشرط المسبق ، بأن الجواب يجب أن يكون أحد الخيارين ، ولا مجال لثالث ، لم يكن وارداً ، إن لم يكن مرفوضاً . لا بل أن الجواب الذي لم يختاروه ، دون مشاركة أو مواربة أو تعليل ، والذي ربما كان يعتبر ، انتقاؤه لوحده ، خيانة ، ألا هو : المستقبل .
إلاّ أن المستقبل كان دائماً جزءاً من خيارهم ، جزءاً ملحقاً بجوابهم . كانوا يريدون المستقبل ، دون قطع عرى الماضي ، يريدون المستقبل موصولاً مع الماضي ، مرتبطاً به ، امتدادا له ، يريدون مستقبلهم مبنياً على ماضيهم ، ماضيهم التليد ، ماضيهم العظيم ، ماضيهم الخالد ، الذي يستطيعون أن يتميزوا به ، كبقية الأمم ، عن بقية الأمم ، والذي ، بعرفهم ، يحتوي على كل أسباب النهضة ، و .. المستقبل . حيث أن الماضي هو ما يشكل هويتهم ، بلى هو هويتهم ذاتها ، الماضي هو ... هم أنفسهم . وذلك أسوة بغيرهم من الشعوب التي كانت تجد في ماضيها البعيد ( ايطاليا واليابان ) والقريب ( فرنسا وبريطانيا ) الأساس الذي بنت عليه وجودها ، وما يمكن تسميته أيضاً ، سيادتها . أما ( ألمانيا ) فقد اضطرتها الحاجة إلى ماض ، أن تجعل ، على نحو ما ، من ( الإمبراطورية الرومانية ) ماضيها . إضافة إلى ذلك تلك النظرة المزدرية التي ينظر بها العرب إلى أمم ليس لها ماض ، رغم حاضرها العظيم أو شبه العظيم ، مثل ( الولايات المتحدة الأمريكية واستراليا ) ، باعتبارها أمماً لقيطة . وبالمقابل فإن أمة مثل ( تركيا ) تخلى قادتها عن ماض قريب مجيد ، بل ثاروا عليه ، كما تخلوا عمّا يمكن اعتباره أساساً في حضارتهم ، كالدين ، والثقافة ، التي تم محوها فعلياُ ، بتغيير الحروف المعتمدة في كتابة اللغة التركية ، وكل ما يربطهم بمحيطهم القديم ، فقد اعتبرهم العرب خونة لتاريخهم ، خونةً لهويتاهم ، وشككوا دائماً ، بجدوى محاولتهم . الأمر الذي يجدون بما هي عليه تركيا اليوم ، من حيرة واضطراب ، الدليل على خطأ الخيار التركي ، وبالتالي ، على صوابهم ، وذلك بغض النظر عما هم عليه أنفسهم .
وقد توفر للعرب في هذا الماضي ، كما ذكرت ، كل أسباب التعلق به ، وخاصة عند مقارنته بحاضرهم . وهكذا وبطيف كبير ، وجد هذا الماضي دعاته بينهم ، فمن الذين رؤوا فيه المثل الذي يجب أن يستعاد بحرفيته ، أي النقطة التي يجب العودة لها والبقاء فيها ، رغم سذاجة مثل هذه الرؤية واستحالتها ، إلى الذين رؤوا به النقطة التي يجب العودة لها للانطلاق منها . وذلك بالقيام بعملية انتقائية معقدة ، تقوم على الأخذ بما في هذا الماضي من علامات مضيئة ، وفي ذات الوقت ، ترك ما هو معتم ومظلم . أي الأخذ بما يفيد ، وترك ما يضر . و لزمن طويل ظلت هذه النظرة غالبة ، إن لم أقل أنها مازالت غالبة لليوم ، وبالفعل هي كذلك ، وكأن الماضي مخزن أو رف قابل لأن ننتقي منه ما نريد ونترك ما تريد ، أو كأنه ليس كُلاًّ واحداً بل أجزاء قابلة للتفكيك وصالحة لنأخذ منها ما يحلو لنا ، ثم نركب هذه الأجزاء كما نشاء أو نطعّم بها ما نقوم بتركيبه من شكل جديد ، أو كأن تلك العلامات المضيئة يمكن انتشالها من محيط مظلم ، ما كانت لتضيء لولا ظلامه . الأمر الذي ثبت مع الأيام ، فشله . لا بل ثبت ، أنه في ظروف ، إن لم أقل دائماً ، كتلك الظروف التي مرت على العرب ، عندما تمد يدك لتنتقي أفضل ما في الصندوق ، فإن أول ما يخرج لك ، أول ما يعلق على يدك ، ليس أفضله ، بل أسوؤه ! أي أنه بدل أن نأخذ من ماضينا ما نريده من أسباب النشوء والنهضة ، طلع لنا منه ، أول ما طلع ، ما كنا نعرفه ولا نعرفه من أسباب التدهور والانحلال ، ربما لأن هذه الأسباب هي الأقرب لنا ، زمناً وواقعاً ، أو ربما لأنها هي الأقوى ، ألم تتغلب في هذا الماضي ، على كل ما عداها .
وهكذا فإن تلك العلامات المميزة في ماضينا العظيم ، تعمل على نحو عكسي ، أي بدل أن تشكل ما يدفعنا إلى الأمام ، راحت تشكل ما يشدنا القهقرى إلى الماضي . وصارت حجة دامغة ضد كل من يدعوا لتجاوز هذا الماضي ، وبدل أن تضيء لنا طريق المستقبل وتدفعنا إليه ، راحت تشدنا إليها وإلى زمنها . وصار أولئك الموتى العظيمون يجروننا ، ليس إلى الحياة ، كيف لنا أن نتوقع منهم ذلك ، بل إلى الموت الذي يرتعون فيه ، إلى تلك المزارات الخضراء أو السوداء المذهبة والقبور الرخامية التي يريدون الخروج منها ، ووضعنا فيها بدلا عنهم في أقرب فرصة . لأنه صحيح ، فلقد رأينا ذلك مراراً ، بل عشناه كأسوأ كوابيسنا ، مثل تلك الأسطورة عن الأرستقراطية الأوروبية ، التي يرمز لها بالنبيل المجري دراكيولا ، الذي حكم عليه بلعنة أن يبقى حياً إلى الأبد ، ولكنه لا يستطيع أن يقتات إلاّ على دماء الأحياء ، أولئك الذين ما أن يقعوا ضحية له ، حتى يصيروا من تابعيه ، إن لم أقل عابديه .
السؤال ، إذن ، هو هو : هل العرب مستعدون للتخلي عن الماضي من أجل المستقبل ؟ السؤال ... هو هو : ما هو خيارنا الأول والأخير نحن العرب ، الماضي أم المستقبل ؟ هل نفضل ، هل نريد أن ننتمي لأمة لها ماض وليس لها مستقبل ؟ أم إلى أمة أدارت ظهرها لماضيها ومضت إلى مستقبلها لا تلوي على شيء ؟ السؤال ، إذن ، هو هو ، وأحسب أن الأمور كانت ومازالت ، وهي فيما صارت عليه اليوم أقسى بألف وأربعمائة مرة عما كانت عليه البارحة ، لا تترك لنا مجالاً ، للمضي على أكثر من طريق واحد ، للعب على أكثر من حبل واحد . وهي تتطلب منا ، تأمرنا ، أن نحدد دون تردد ، فلقد ترددنا كفاية ، ودون تذاكي ، فلقد تذاكينا أكثر من اللازم ، خيارنا .
أما الحاضر ، الذي يبدو وكأنني لم أعره أي اهتمام ، فهو ربما الأشد خطورة ، لأنه بالذات لحظة هذا الخيار المصيري الذي علينا القيام به ، الآن .
ثم ، وبالعودة للعنوان ، نعم أعتقد ، ضمن هذه الأوضاع ، وبمواجهة كل تلك الصعوبات التي يصل بعضها إلى درجة الاستحالة ، أنه ليس من المحتم أن يكون للعرب مستقبل ، حتى وإن عملوا لأجله ، فما بالك بأنه من المحتم أن يكون لهم مستقبلٌ رغماً عنهم . هذا إذا استبعدت من تفكيري ، أنه من الممكن أن يقدم لهم الآخرون ، الآخرون الذين يملكون عدداً وأنواعاً كثيرة من المستقبلات ! مستقبلاً ما ، أو شيئاً آخر من هذا القبيل .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ اللاذقية