هل هو جلد الذات أم صحوة الضمير ؟ حين تقدم قيادات وكوادر من حزب البعث في العراق قبل وفاتهم على أدانة الحزب والسلطة والتنصل من الممارسات والأفكار والاعتذار من الشعب العراقي وقواه السياسية الوطنية ؟
هل هو موقف ينبع من الضمير أم تراجع عن وحل الخطايا بحق الشعب ؟
هل يعني هذا أن القيادات لم تزل يختلط عندها مفهوم الوصول الى السلطة بغض النظر عن طرق الوصول وتعارضها مع القيم والمبادئ التي يطرحها البعث ، أو أن هناك تشابكاً بين الحقيقة والدجل السياسي وبين الواقع والوهم ؟
هل كان في مخيلة فؤاد الركابي وهو أمين سر القيادة القطرية والوزير الشاب الذي تمنحه الثورة والجمهورية الفتية بعد سقوط الملكية ثقتها ومكانته بين القوى السياسية الوطنية في العراق في أن يكون أول المرتدين على فكر حزب البعث ؟ هل كان يدرك أن تراجعه عن فكر البعث وتشخيصه للأخطاء والخلل سيكلفه ما تبقى له من حياته بل وحتى سمعته ؟ هل كان فؤاد الركابي يعاني من أزمة ضمير حين يعترف بتفاهة الفكر والأفكار التي كان يدافع عنها ويعلن تراجعه عن الاعتقاد والأيمان بها ؟ ويستمر في اعترافاته وهو سجين من أنه كان يشعر بالخطأ الفادح والضرر الذي ألحقه بشعب العراق ، وكان أيضاً يشعر بثقل المسؤولية جراء ما جلبه لشعبه وأهله من ويلات ودمار ، ومقدار الوزر الذي يحمله بين ثنايا قلبه وضميره تجاه ما أرتكبه بحق الجمهورية الفتية التي أريد لها أن تكون التجربة الديمقراطية الرائدة وبحق الزعيم العراقي الوطني عبد الكريم قاسم .
ومضى الرجل الى حتفه بيد رفاقه الذين ذبحوه لكونه أكتشف الخطوط البشعة التي تنتشر بين تجاعيد الوجه البعثي البشع ، مضى الرجل بعد أن تخلص من عقدة حزبه وأنتهى مع نهاية علاقته بهذا الحزب أبداً نهاية أشبه ما تكون بالمأساة .
كانت الاعترافات التي سجلها بعض لفؤاد الركابي تدلل على مقدار الهوة التي تفصله عن حقيقة كون البعث فكراً ريادياً وحقيقياً ويصلح للعراق أو للأمة العربية !! كانت الاعترافات التي سجلها فؤاد الركابي محاولة جريئة وشجاعة كونه كان يشغل مركز أمين سر القطر لحزب البعث بعد قيام الجمهورية ، وأول من يسجل هذا التراجع في وقفة ضميرية بميزان الخطأ والصحيح .
وبعد فؤاد الركابي كان ثمة أشخاص آخرين سجلوا تراجـعاً ضميرياً قبل أن يرحلوا الى ربهم ، لعلهم كانوا يريدون أن يلاقوا ربهم بأقل نسبة من الخطايا والأخطاء بحق شعبهم وبلدهم أو لعلهم أرادوا أن تبقى ذاكرة العراقيين عنهم غير ذاكرة العراقيين عمن أرتكب الجرائم والخطايا بأسم البعث بحق هذا الشعب وبقي مصرا عليها ، ولكن أبرز هذه الأسماء القيادية كان ( السيد هاني الفكيكي ) والذي صار عضواً في القيادة القطرية للبعث ، وبقي الفكيكي مستمراً في عضوية القيادة زمناً ليس بالقصير ، حتى داهمته نوبة الضمير فهزته ، وتقدم ليقدم اعترافاته ضمن كتاب من تأليفه أسماه ( أوكار الهزيمة ) سجل فيه تراجعه ونقده ليس لأفكار البعث ، بل لمجمل تكوين ونشأة ومسيرة هذا الحزب وممارساته المخالفة لأبسط حقوق الإنسان ، وأستمر الفكيكي في الاعتراف بما أرتكبه مع مجموعة رفاقة من خطايا بحق شعب العراق ، ومدى حجم الجرائم التي أرتكبها البعثيين ومقدار الجرائم والأخطاء التي سجلها رفاقه بحق الحركة الوطنية العراقية ، إضافة الى تسجيله بجرأة النتائج التي آلت الى هذا الوضع الكارثي حين كان الطاغية يجز رقاب أهل العراق بأسم حزب البعث .
كانت اعترافات هاني الفكيكي جديرة بالدراسة والتدقيق ، فالرجل يريد أن يجلد ذاته ويشخص الأخطاء التي أرتكبها وسجلها التاريخ العراقي بحقه ، وأستمر يعترف بشكل صادق وصريح وجريء من أجل أن يجعل ضميره في الميزان ، ومع أن اعترافاته هذه جاءت بعد أزاحته من قيادة البعث ، الا أنها تسجل صفحة من صفحات صحوة الضمير وعودة الإحساس بالحرص الوطني الى روحه الذابلة والمتشابكة القضايا ، حيث تعج بالخطايا والآثام والتي لم يكن الفكيكي متأكداً في يوم ما أنه سيتخلص منها ، لكنه سطرها بعده بكتاب متداول بأيدي أهل العراق يحكي فيه قصة الهزيمة التي ألبسوها لشعب العراق وحكاية الوهم البعثي الذي فجع العراق به ، وأبقاه مرجعاً لمن يريد الاستفادة من تجربته في التراجع الضميري عما يسيء الى شعب العراق .
ويأتي بعد هاني الفكيكي ( طالب شبيب ) وهو من أعضاء القيادة القطرية أيضاً ، ومن الوزراء ومن الذين تبوئوا المناصب العليا في دولة البعث ، وبعد أن هوى الى قاع الشعب وركنته الأيام وأمام كثرة الخطايا والبلايا التي أمتحن بها العراق من فكر الحزب الذي أراد به ميشيل عفلق أن يحقق حلمه في تسلط الحزب على كل الأقطار العربية تحت شعار الأمة الواحدة التي عمل البعث في الأمعان بتفريقها وشرذمتها والرسالة الخالدة التي لم يستطع أحد أن يفك لغز خلودها ، سجل طالب شبيب صحوة الضمير هذه بعد أن أخذته السنين وهده الزمن وعافته السلطة ، فسجل حقائق أريد لها أن تغيب ، وحقائق أخرى كانت غائبة فعمل على صحوها ، وربما كانت صحوة الضمير لدى طالب شبيب أشد من سابقية مثلما صورها الكاتب الدكتور علي كريم سعيد الذي قام بتسجيل اعترافاته في كتابه ( عراق 8 شباط 1963 من حوار المفاهيم الى حوار الدم – مراجعات في ذاكرة طالب شبيب ) والتي يقول فيها ( لا نستطيع كعراقيين أن نعتذر عن ذنوبنا أو عيوبنا أمام أنفسنا والآخرين لأنه منحنا الفرصة وختمها بقوله لقد بلغت من العمر ما يجعلني عاجزا عن الكذب أو الخيانة ... ) وقد أنساق الرجل وراء صحوة الضمير فأعاد التوازن الى نفسه وحلل بصدقية الذي يريد أن يتخلص من خطاياه وذنوبه ويصحو ضميره حتى رحل عام 1977 تاركاً خلفه تراجعانه العديدة عن خطايا ارتكبت بحق العراق وبحق قواه الوطنية ، وعن جرائم يندى لها الجبين فارتكبت بحق شخصيات وطنية في العراق .
وتجيء رسالة أو لنقل وصية البعثي نزار حمدون الذي شغل لفترة طويلة ممثل العراق الدائم في الأمم المتحدة ووكيل وزير الخارجية في العراق ، ليقدم اعترافاته قبل وفاته على شكل رسالة يعتذر فيها لشعب العراق عما سجله مع سلطة الطاغية من خطايا ويحذر الشعب العراقي والقوى الوطنية من خطر هذا الأفعى الذي ألتهم البعث وكاد أن يلتهم العراق .
وبالرغم من أن صحوة الضمير التي اعترت حمدون بعد أن اكتشف رحيله مصابا بمرض السرطان ، وأنه ملاقي ربه لامحال ، لم يكن له الخيار سوى الاعتراف بالذنوب أمام شعبه ووطنه برسالة سجلها بخطه وسلمها للصحافة في واشـنطن حيث مات فيها وتم نقله الى العراق ، في حين بقيت كلماته تدلل على مدى الازدواجية والمعاناة الشديدة في الضمير الذي تعانيه قيادة البعث .
وبقي العديد من قيادة البعث يعيش كبت الضمير حين يكون متردداً أو خائفاً من موقف الاعتراف ، أو منح الضمير أجازة أمام ولوغ البعض في جرائم لم يصح منها ، ولم تنتابهم وخزة الضمير بالنظر لموت ضمائرهم أو وجدوا أن طريقهم مسدود ، وأن خطاياهم كبيرة لدرجة أنهم شخصياً لم يستطيعوا أن يصدقوا أن الجماهير العراقية ستتقبل صحوتهم وتراجعهم واعترافهم واعتذارهم أمام الكم الهائل من الجرائم والخطايا التي ارتكبت بحق شعب العراق .
وبقي العديد في دوامة الخطايا والذنوب متحملين ما أرتكبوه بحق شعبهم ووطنهم ، يتحملون ما صار اليه العراق وما آل اليه الحال ، وبشكل واضح وصريح ما حققوه من مأساة لشعب العراق لم يسجلها التاريخ لأي حزب أو مجموعة أو جماعة أو تنظيم من قبل في تاريخ العراق البعيد أو المعاصر .
لقد صحى العراق بالوقت الذي لم يزل العديد من القياديين البعثيين في غير حالة الصحو والمراجعة الضميرية ، صحا العراق ولم يزل البعض نيام مخدرين فوق شعارات ذابلة ومستلة من بين أوهام وأحلام لاتمت للواقع بشيء ، وعملت على جرجرت شعب بأكمله الى هزائم عسكرية وسياسية متلاحقة و الى تناحر سياسي حاد وتفرق وطني من الصعب أن يستعيد لحمته وتقاربه ، وتشر ذم اجتماعي وتخـلف اقتصادي وتبعثر لقدرات وثروات العراق ، والى مستنقع لوث الوطن بوحل الاحتلال في زمنهم وبقدرتهم وبإرادتهم وبأفعالهم وبعملهم في تمزيق القوى الوطنية في العراق ، كما ، الفترة الزمنية التي أظهرت فشل تجربة البعث وعدم صحة التخيلات التي رسمها على أساس أنها أهداف رئيسية في العمل السياسي فقد أثبت التاريخ والفعل العراقي عدم قدرة هذا الفكر على العطاء بقدر ما أثبت قدرته على الأخذ والاستيلاء والاستحواذ فقط ، كما أن الفكر أبرز لنا حالات مرضية وظواهر وهمية ، ولم يكن صدام حسين الا ظاهرة من ظواهر البعث ونتيجة من نتائج الشعارات الوهمية ، ولم يكن صدام حسين الا ظاهرة من ظواهر البعث التي أريد لها أن تكون تجربتها في العراق وليداً مشوهاً عليلاً وناقص الأهلية ، ولم يكن البعث بعيداً او يستطيع أن يلغي ما يتحمله من قسط الفجـيعة التاريخية والوطنية في العراق ، مما سيجعل التاريخ يسجل هذه المحنة والكارثة التي حققها في العراق ، كتجربة جديرة بالانتباه أمام أنظار العرب والعالم .