كاظم حبيب
(Kadhim Habib)
الحوار المتمدن-العدد: 627 - 2003 / 10 / 20 - 03:05
المحور:
الادارة و الاقتصاد
أصدر الحاكم المدني لقوات الاحتلال, السيد باول بريمر, القرار رقم 39 في 19 أيلول/سبتمبر 2003 الخاص بالاستثمار الأجنبي في العراق, لأغراض التنفيذ الفوري والمباشر, باعتباره المسؤول الأول عن الاقتصاد والنشاط الاقتصادي والمالي في العراق. ونص هذا القرار على مجموعة من الأحكام التي تستوجب النقاش.
وابتداءاً نشير إلى إن القرار الجديد بشأن الاستثمار الأجنبي ابتعد تماماً عن الأسلوب الديمقراطي المنشود للعراق الجديد, وهي بداية سيئة. فهو قرار ملزم صادر عن سلطة احتلال لم يطرح للمناقشة على الاقتصاديين العراقيين أو على المهتمين بالشؤون الاقتصادية وعلى المجتمع لمعرفة رأيهم بهذا الصدد, باعتباره قراراً يمس حاضر ومستقبل التطور الاقتصادي والاجتماعي في العراق ويرتبط بمستوى حياة ومعيشة السكان أيضاً. وفي أعقاب صدور هذا القرار عن الحاكم المدني أدلى كل من وزير المالية ووزير التخطيط بتصريحات حول هذه القرارات دون الإشارة إلى مصدر القرار, وكأن المجلس الانتقالي أو الحكومة المؤقتة هما اللذان أصدرا هذا القرار. وبعد مرور يوم واحد اضطر رئيس مجلس الحكم لشهر أيلول/سبتمبر إلى القول بأن هذا القرار ليس نهائياً, وكأن الرجل أو المجلس قادران على تغيير ما أصبح واقعاً. ويبدو لي بوضوح أن هذا القرار باطل ولا يمتلك الشرعية ولا يجوز تنفيذه كما ورد في الأصل وعلينا خوض النضال لتعديله. فسلطة الاحتلال تمتلك حق تسيير الأمور العامة وإعادة البناء, وليس من حقها تحديد وجهة سير البلاد, فهذه الوجهة يقررها الدستور العراقي ومجلس النواب المنتخب والحكومة الشرعية القادمة والمجتمع العراقي ذاته. والقرار في جوهره يعبر عن النظرة اللبرالية الجديدة للمحافظين الجدد في الولايات المتحدة التي تنسجم تمام الانسجام مع سياسات العولمة الاقتصادية الأمريكية وليس مع العولمة بطبيعتها الموضوعية ومع حالة البلدان النامية التي تمر بظروف معقدة مثل ظروف العراق من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية, إضافة إلى الأوضاع السياسية والأمنية المتدهورة في العراق. كما أن صدور هذا القرار وبهذه الصورة الفردية لا يختلف كثيراً عن أساليب إصدار القرارات في الفترة السابقة التي كانت لا تأخذ بنظر الاعتبار إرادة ومصالح المجتمع ورأيه بنظر الاعتبار. ويفترض في هذه الفترة وضع آلية خاصة تساهم في مناقشة مثل هذه المسائل بين الحاكم المدني ومجلس الحكم والحكومة المؤقتة وبدعوة اقتصاديين معروفين قبل صدورها وتحولها إلى قرارات.
وقبل صدور هذا القرار كان السيد بريمر صريحاً وواضحاً في موقفه من الاقتصاد العراقي حين قال بأن من حق مجلس الحكم الانتقالي أن يبدي رأيه بالشأن الاقتصادي العراقي, ولكن القرار النهائي يبقى له. ومن هذا المنطلق أيضاً عمد إلى منح العديد من الشركات الأمريكية القريبة من نائب رئيس جمهورية الولايات المتحدة, كما تشير إلى ذلك الصحافة الأمريكية المعتبرة, العديد من العقود الاقتصادية في إطار إعادة إعمار العراق دون العودة إلى مجلس الحكم الانتقالي ودون طرح تلك المشاريع في المناقصة الدولية كما هو معهود دولياً في مثل هذه الحالات. ولم نتفق مع السيد بريمر في ما ذهب إليه وكتبنا بهذا الشأن أكثر من مقال ناقشناه فيه, إذ اعتبرنا ذلك إجحافاً بحق مجلس الحكم وبحق الشعب العراقي وتصرفاً غير حكيم يذكر الشعب بأوقات عصيبة يتمنى أن تكون قد مرت دون رجعة.
كلنا يعرف بأن النظام الدكتاتوري قد تسبب بخراب واسع النطاق وعميق للاقتصاد العراقي يصعب تقديره وحسابه كما لا يمكن تجاوزه إلا بعد مرور ربع قرن من السنين. إذ أن الخراب لم يشمل الجوانب الاقتصادية والمالية والديون المتراكمة بذمة المجتمع، بل شمل الخراب بالأساس الجوانب البشرية والاجتماعية والإنسانية، وهي التي تحتاج إلى ثلاثة أجيال تقريبا للخلاص النسبي من تركتها الثقيلة، وهي عملية لا تحتاج إلى زمن فحسب، بل إلى جهود مضنية علمية وعملية، نفسية وتربوية صبورة ودؤوبة. ولكي نتعرف على مدى وأهمية الحاجة إلى وضع وتنفيذ عملية تنمية اقتصادية وبشرية، يفترض أن نتعرف بشكل مكثف على العواقب التي ترتبت عن السياسات التي مارسها النظام خلال العقود المنصرمة.
1. بدأ النظام بالتوسع الكبير في دور ومجالات نشاط قطاع الدولة الاقتصادي، خاصة بعد تأميم النفط الخام وزيادة الموارد البشرية المالية. ولم يكن الهدف خدمة مصالح المجتمع، بل تركيز القوة الاقتصادية بيد النخبة الحاكمة, وبالتالي فرض هيمنتها للتحكم الكامل بالمجتمع, ومنه فئات البرجوازية الوطنية, من خلال فسح مجال محدود لنشاطها ودورها في العملية الاقتصادية. وبالتالي أصبحت الدولة البعثية المالك الأول والأكبر للثروة ورؤوس الأموال والمتحكم بتوزيع العمل والإنتاج والدخل في البلاد.
2. التوجه الجامح صوب عسكرة الاقتصاد الوطني من اجل خلق ذهنية عسكرية عدوانية وتوفير القوة العسكرية الكافية لتأمين مستلزمات تحقيق الأطماع. ولهذا الغرض صرف النظام خلال الفترة 1976-1990 وحدها أكثر من 253 مليار دولار أمريكي على مختلف الأغراض العسكرية والتصنيع العسكري، ومنها الأسلحة التقليدية وأسلحة الدمار الشامل. وارتفع معدل الصرف السنوي على الأغراض العسكرية عن الموارد المالية المتأتية من إنتاج وتصدير النفط الخام، مما أدى إلى نشوء ونمو المديونية الخارجية وخاصة للأقطار العربية النفطية في المنطقة والتي بلغت الآن أكثر من 130 مليار دولار بعد أن كان احتياطي العراق يقارب 32 مليار دولار أمريكي.
3. انتهاج سبيل التنمية الانفجارية منذ نهاية عام 1974 وبعد التأميم مباشرة. وهذا النهج الفوضوي ضرب عرض الحائط بسياسة البرمجة وتخلى عن إعداد دراسات بصدد الجدوى الاقتصادية والاجتماعية للمشاريع المقترحة, وتراجع عن التخطيط القطاعي والإقليمي في توزيع المشاريع الاقتصادية، كما أثار الفوضى في نشاط الشركات الأجنبية وخلق فجوة كبيرة بين القدرة على التنفيذ الفعلي وبين العدد الكبير من المشاريع التي تم التعاقد على تنفيذها. مما أدى إلى ارتفاع كبير في تكاليف تلك المشاريع، إضافة إلى سياسة البذخ المفرط في إقامة المشاريع. وكانت الخسائر المالية فادحة جدا والتنفيذ كان بطيئاً جدا.
4. وكانت سياسة البلاد النفطية لا تنسجم مع حاجات وضرورات التنمية الوطنية، ولكنها كانت تتجاوب مع سياسات نظام البعث في الهيمنة على الاقتصاد والمجتمع وتنفيذ مشاريعه العسكرية وشراء تأييد وذمم الكثير من دول العالم والشركات التي كانت تتسابق للحصول على مشاريع اقتصادية تحقق لها أرباحا مضاعفة, إضافة إلى عدد مهم من الشخصيات العربية والأجنبية. وكانت خسارة الشعب كبيرة في ثروته النفطية وبالموارد المالية المتأتية منها.
5. وتسببت كثرة الموارد المالية والسيولة النقدية إلى نشوء نزعة استهلاكية شديدة في المجتمع في فترة معينة كانت لا تنسجم مع واقع المجتمع، والى بروز عملية نهب وسلب لقطاع الدولة من الباطن، وخاصة من جانب القيادات الحزبية والعاملين في أجهزة الدولة والتصنيع العسكري والمتعاملين مع الشركات الأجنبية للاستيراد العسكري وتوقيع العقود التجارية بشأنها وأصحاب المقاولات. ونمت وتوسعت فئة جديدة من المقاولين والعقاريين وكبار موظفي الدولة من مدنيين وعسكريين التي اغتنت على حساب المجتمع، وخاصة عائلة النظام وحاشيته والراقصين على دفه.
6. وفي الوقت الذي مارس النظام هذه السياسة في الحقل الاقتصادي، عمد إلى مصادرة كاملة للحقوق والحريات الديمقراطية، وبدأ بعملية غسل أدمغة التلاميذ والطلبة والشباب من خلال مقاعد الدراسة والمعامل والمؤسسات الحكومية وأجهزة الدولة وأجهزة الإعلام السمعية والبصرية. وكانت التربية عسكرية شوفينية معادية للديمقراطية وللشعوب الأخرى واستعلائية ولأي فكر آخر غير فكر حزب البعث الصدامي. كما نظم المجازر ضد الشيوعيين والديمقراطيين من العرب والكرد وبقية القوميات، وكذلك إزاء القوى الإسلامية السياسية المعتدلة. وبالتالي هيأ الأجواء السياسية والاقتصادية والعسكرية للبدء بتنفيذ أطماعه التوسعية في المنطقة وبتأييد غير محدود من جانب الدول الغربية وسكوت مطبق من جانب الدول الشرقية وتجهيز مستمر له بالأسلحة والمعدات العسكرية.
7. استطاع النظام عبر التربية الفكرية والسياسية أن يخلق استعداد في القوات المسلحة, بعد أن غيب عنها العناصر الديمقراطية والتقدمية والمخالفة لوجهات نظر البعث، وبعد أن هيأ الإمكانيات العسكرية الضرورية، وبعد أن وجه ضربة قاسية للحركة التحررية الكردية المسلحة وللقوى السياسية الأخرى في البلاد والإجهاز على تحالفه السياسي المؤقت مع الحزب الشيوعي بحملة اعتقالات وتعذيب وقتل بشعة ومتواصلة, بدأ النظام حربه العدوانية التوسعية ضد إيران التي دامت قرابة 8 سنوات كلفت الشعب العراقي ما يقرب من نصف مليون قتيل وعدد مماثل من الجرحى والمعوقين، وكان بين هؤلاء القتلى نسبة مهمة من الفنيين والمهنيين والمتخصصين والحرفيين والمثقفين والمزارعين الجيدين ممن تراوحت أعمارهم بين 18-55 عاما. أما الخسارة الثانية التي لحقت بالاقتصاد الوطني فتجلت في تدمير عشرات المشاريع الاقتصادية الإنتاجية والخدمية، ومنها مشاريع البنية التحتية، التي كلفت حزينة الدولة موارد مالية كبيرة جدا ترتبت عليها ديون إضافية خارجية ما تزال بذمة العراق. كما خسر العراق أكثر من مليون انساب هجروا قسرا إلى إيران بحجة كونهم من اصل إيراني، وهم من الأكراد الفيلية ومن عرب الوسط والجنوب، وهم من سكان العراق الأصليين، إضافة إلى أولئك الذين قرروا الهجرة هربا من بطش النظام وحربه الدموية. وما أن انتهت حرب الخليج الأولى حتى قام بغزو الكويت واحتلالها وتسبب في نشوب حرب الخليج الثانية التي دامت 42 يوما ولكنها أجهزت على القسم الأعظم من مشاريع العراق الاقتصادية والبيئة التحتية والجسور والمدارس والجوامع والكنائس، كما راح ضحيتها أكثر من 200 ألف إنسان، إضافة إلى عشرات الآلاف من القتلى الذين سقطوا في الانتفاضة الشعبية لعام 1991 أو قتلوا بعد اعتقالهم، وهم الذين دفنوا في مقابر جماعية. وينبغي أن نذكر بأن النظام نظم في نهاية الحرب العراقية- الإيرانية مجازر الأنفال التي ذهب ضحيتها 182 ألف إنسان من بنات وأبناء شعب كردستان. وعلينا أن نتذكر بأن الحروب والأسلحة وسياسات النظام قد ساهمت كثيراً بتلويث البيئة, كما لحق دمار واسع بالطبيعة, وخاصة في كردستان العراق ومنطقة الأهوار والجنوب عموماً.
8. ومع بداية احتلال الكويت صدر قرار مجلس الأمن الدولي ( 1990) بفرض الحصار الاقتصادي الدولي على العراق. ولعب هذا الحصار, الذي دام حتى تحرير العراق من النظام واحتلاله, دوراً أساسياً في إعاقة البناء وإقامة مشاريع اقتصادية جديدة وفي زيادة عدد العاطلين حيث وصلن النسبة إلى أكثر من 65 % من القوى القادرة على العمل، وخاصة في الوسط والجنوب، وفي تردي الأحوال المعيشية للغالبية العظمى من السكان. وذا كانت هذه العملية قد أعاقت نظام صدام حسين من التوسع العسكري وإعادة بناء قواته العسكرية على ما كانت عليه قبل ذاك، فأنها لم تمنعه من توجيه موارد مالية غير قليلة صوب إعادة بناء ترسانته وصناعته العسكرية والصرف البذخي على أتباعه وعلى القوات الخاصة والحرس الجمهوري. ولم ينفع برنامج النفط مقابل الغذاء في صيانة حياة المواطنات والمواطنين، إذ تسبب الحصار وسياسة النظام في موت ما يزيد عن 600 ألف طفل عراقي وعدد كبير من المرضى وكبار السن, واستمرار الخراب الاقتصادي والفقر والجوع. وخلال فترة الحروب المتلاحقة اشتدت الدكتاتورية واتسعت أعمال القسوة والتعذيب والقتل في أوساط الشعب. ثم جاءت حرب الخليج الثالثة لتنهي ما تبقى من نشاط ومنشآت اقتصادية في مناطق الوسط والجنوب ولتزيد من حجم البطالة، خاصة بعد أن حلت وسرّحت قوات الجيش والشرطة والحرس الجمهوري..الخ. فكل هؤلاء دخلوا في خانة العاطلين عن العمل, ومنهم اليوم من يقوم بعلمليات التخريب والقتل الإجرامي، إضافة إلى توقف الوزارات عن العمل، وبالتالي تقدر البطالة عن العمل في الوسط والجنوب إلى حدود 75% من القوى القادرة عن العمل وبحدود 60-65 % بالنسبة إلى العراق كله. كما أن تصدير النفط ما يزال واطئا جدا. وينبغي أن نشير إلى أن الهجرة من العراق ما تزال مستمرة وبشكل ملموس، في حين أن العودة إلى العراق ضعيفة جداً بعد أن عاش من عاد حالة الفوضى السائدة في العراق واحتمال الموت في كل لحظة!
هذا هو الواقع الاقتصادي الذي عاش فيه الشعب العراقي في ظل النظام الدكتاتوري. وبعد الحرب تدهور الوضع الاقتصادي أكثر من السابق نتيجة الدمار الذي تسببت به والخسائر البشرية والفوضى التي أعقبت الحرب. وعلينا أن نتذكر باستمرار الحقيقة التالية: أن الاقتصاد الوطني العراقي لم يكن اقتصاداً مخططاً وموجهاً, كما يدعي السيد بريمر, بل كان اقتصاداً فوضوياً عفوياً مهيمناً عليه من شخص واحد وبعمل وفق إرادة هذا الشخص ورغباته. وهو أمر لم يعد سراً على أحد. ولذلك فالادعاء بغير ذلك خطأ فادحاً ويقود إلى استنتاجات خاطئة.
واستناداً إلى هذا الواقع يفترض الإجابة عن السؤال التالي: ما هي المهمات التي تواجه المجتمع في الحقل الاقتصادي في أعقاب سقوط النظام؟
تتوزع الإجابة عن هذا السؤال على المدى القصير أو فترة الانتقال أولا، وعلى المدى الطويل بعد تشكيل المؤسسات الدستورية الديمقراطية وانتخاب حكومة شرعية من قبل المجلس النيابي الوطني، ومن ثم إنهاء الاحتلال السياسي والعسكري والهيمنة على السياسة الاقتصادية للعراق ثانيا. وسأحاول فيما يلي تبيان وجهة نظري حول المهمات الاقتصادية الآنية وترك المهمة الأخرى لدراسة أخرى أكثر تفصيلا واعتمادا على معطيات ومؤشرات أكثر حداثة. وفي ضوء هذه الإجابة سنقارن بينها وبين القرار الذي اتخذه السيد بريمر بشان الاستثمار الأجنبي في العراق.
يمكن بلورة المهمات الاقتصادية الآنية في النقاط التالية:
• إعادة إعمار وإقامة مشاريع إنتاج الطاقة الكهربائية وشبكة الماء الصالح للاستعمال وشبكة البريد والبرق والهاتف والهاتف الجوال والحاسبة الألكترونية والإنترنيت والتوسع بها وضمان وصولها إلى السكان والمشاريع الاقتصادية وحمايتها.
• التوسع بمصافي النفط لتأمين مختلف المحروقات، وكذلك محطات توفير الغاز, وإصلاح السكك الحديد وبقية وسائط النقل الضرورية للسكان والسلع.
• إعادة إعمار المشاريع الصناعية الإنتاجية، سواء بتوفير الأدوات الاحتياطية لها أم موادها الأولية للبدء أو مواصلة الإنتاج لتوفير السلع الضرورية للسكان.
• تنظيم نشاط البنك المركزي والبنوك المختصة وفسح المجال أمام تأسيس بنوك خاصة شريطة آن تتوفر لها مستلزمات العمل المصرفي المسؤول.
• فتح الاعتماد المصرفي للنشاط التجاري أستيراداً وتصديراً.
• تجديد وتوسيع مشاريع أنتاج وتصدير النفط الخام وفق الاتفاقيات المعقودة سابقا أو توقيع عقود جديدة وفق المواصفات الدولية، على أن توضع سياسة نفطية جديدة بعد تشكيل المؤسسات الدستورية والحكومة المنتخبة.
• تنشيط شركات التأمين والسماح بعمل شركات التأمين وإعادة نشاط شركات التأمين الأجنبية في العراق.
• تأمين الحد الممكن من الدعم المالي والعيني للفلاحين للقيام بنشاطهم الفلاحي, إضافة إلى إعادة بناء والعمل بمشاريع التخزين والتبريد القائمة لضمان عدم تلف المحاصيل الزراعية والمواد الغذائية.
• الاهتمام بتأمين مستلزمات ومحفزات جذب رؤوس الأموال الأجنبية لاستثمارها في الاقتصاد العراقي شريطة تحديد الأسس والمعايير التي تنسجم مع الواقع العراقي الراهن ومع أهداف إعادة إعمار العراق وعملية التنمية دون إلحاق الضرر بمشاريع القطاع الحكومي والقطاعين الخاص والمختلط.
إن تحقيق هذه المهمات يتوجب الأخذ بنظر الاعتبار با يلي:
الأخذ بمبدأ اقتصاد السوق الحر من جهة,وضمان الاستفادة القصوى من إمكانيات قطاع الدولة من جهة ثانية, وضمان ممارسة سياسة اقتصادية اجتماعية تأخذ بنظر الاعتبار الأوضاع المعيشية والدخلية للجماهير الواسعة وانتشار العوز والفقر والحرمان وتفاقم الفجوة بين الفقراء والأغنياء. أي يفترض الأخذ بموضوعة اقتصاد السوق الحر الاجتماعي الذي يمكن أن ينسجم مرحلياً مع الواقع الاجتماعي في العراق في أعقاب الخلاص من نظام الاستبداد والجوع والحرب والموت. أي الاهتمام بسياسة الدعم لأسعار سلع وخدمات حيوية لأوسع أوساط الجماهير وسياسة الأجور وتحديد ساعات العمل والضمان الصحي وعند الشيخوخة وراتب التقاعد ...الخ, بهدف تجنب تفاقم التناقضات الاجتماعية واشتداد الصراعات السياسية وفض النزاعات بالطرق السلمية ووفق آليات ديمقراطية مجربة.
إن القرار الفردي الصادر عن الحاكم المدني لقوات التحالف لن يكون الأخير وستتبعه قرارات أخرى تهدف إلى فتح الأبواب مشرعة أمام الاستثمارات الأجنبية في كل القطاعات الاقتصادية العراقية, سواء الإنتاجية منها أم الخدمية. وإذا كان قرار حق الاستثمار الأجنبي الخاص إلى حد 100% قد شمل تأسيس البنوك الجديدة وربما شركات التأمين وإعادة التأمين والمشاريع الصناعية والزراعية ومشروعات البنية التحتية وبقية الخدمات, فأن قرار 50% قد شمل البنوك القائمة حالياً. كما شمل القرار إعفاءات جمركية لهذا العام وتخفيض التعريفة الجمركية على جميع الاستيرادات إلى 5% فقط مع منح الكثير من الميزات لصالح رأس المال الأجنبي ومعاملته كما يعامل رأس المال المحلي. ويبدو لي أن القرار القادم ستشمل النفط الخام وبقية الثروات الأولية وبيع جميع مشاريع قطاع الدولة دون استثناء وبأسعار خيالية لصالح المستثمر الأجنبي, خاصة الأمريكي, بفعل وجود السيد بريمر في بغداد, وهو الممثل الملتزم بقوة باتجاه المحافظين الجدد واللبرالية الجديدة, وهو ما تجلى في مقالاته وآخر تصريحاته.
ورغم صدور تصريحات عن رئيس مجلس الحكم الانتقالي بأن هذه القرارات ليست نهائية بسبب الصدمة التي سببتها تلك الإجراءات في الشارع العراقي ولدى الاقتصاديين, فأن هذه التصريحات لا ترتقي إلى مستوى قرار بريمير القاضي بتنفيذ نص القرار مباشرة باعتباره قانوناً ملزماً. وقيل بأن السيد وزير المالية هو الذي صرح بذلك دون غيره, وهذا غير صحيح, إذ أن السيد وزير التخطيط قد نشر خطابه الذي قدم فيما بعد في دبي في جريدة النهضة البغدادية, والذي أكد فيه على ذات النقاط التي أوردها وزير المالية. أي أن المجلس والحكومة كانا متفقان مع السيد بريمر بشأن هذه الإجراءات, وإلا كيف يمكن تفسير إعلانها من وزيرين في الحكومة المؤقتة!
نحن ندرك مجموعة من الحقائق الجوهرية للمرحلة التي نعيش فيها ومنها بالنسبة للعراق ما يلي:
1. ليس هناك ما يقف بوجه ممارسة سياسة اقتصاد السوق الحر التي تنسجم مع واقع المرحلة والحاجة. ولكن هذا لا يعني نقل وممارسة السياسات الاقتصادية للولايات المتحدة في العراق, الذي خرج لتوه من نظام استبدادي وعدة حروب وحصار اقتصادي مديد وفقر مريع وجوع عتيق. نعم, فالعراق بحاجة اليوم إلى بناء العلاقات الإنتاجية الرأسمالية على أنقاض العلاقات الإنتاجية شبه الإقطاعية, ولكن وفق الظروف الملموسة للبلاد لا وفق رغبات الرأسماليين الأمريكيين وسياساتهم العولمية الجارية. فالصيغة الأخيرة تخلق المزيد من المشاكل وتعقد المسيرة الراهنة, لأنها تتجاوز حتى على "برنامج التثبيت الاقتصادي والتكيف الهيكلي" الذي يطرحه كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي على البلدان النامية للأخذ به بغض النظر عن المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي يخلقها لتلك المجتمعات.
2. وأن العراق بحاجة إلى المزيد من التوظيفات الرأسمالية في مختلف فروع الاقتصاد الوطني على أن تخضع للمناقشة والحوار وتشخيص أسبقية المشاريع. ولهذا كان من الواجب الدعوة إلى لقاء اقتصادي لمجموعة واسعة من الاقتصاديين وأصحاب رؤوس الأموال العراقيين في الداخل والخارج لمناقشة ورقة عمل بهذا الصدد. والمقترح ما يزال قائماً ومطلوباً.
3. وأن العراق بحاجة إلى تنشيط القطاع الخاص المحلي ودفعه لاستثمار رؤوس أمواله في النشاط الاقتصادي الإنتاجي والخدمي وفي مختلف فروع الاقتصاد الوطني وفي مناطق ومحافظات العراق المختلفة.
4. وأن العراق بحاجة ماسة إلى الاستثمارات الأجنبية, بما فيها العربية, شريطة أن تتحدد الأسس والمعايير لنشاط هذا القطاع, وهذا لا يعني الحد من نشاطها بقدر تأمين رؤية واضحة عن نشاطها الواسع المحتمل.
5. إن الحالة الاقتصادية الراهنة في العراق تفترض بالضرورة دوراً ونشاطاً معيناً لقطاع الدولة إلى جانب القطاعين الخاص والمختلط المحليين, خاصة وأن الدولة مالكة للثروة الأولية وممولة جيدة في المستقبل القريب, وبعد أن تزول الأزمة الراهنة.
6. ندرك بأن العراق في هذه المرحلة سيبقى بحاجة كبيرة إلى استثمارات كبيرة وجديدة من جانب قطاع الدولة لتطوير اقتصاد النفط الخام وبقية مشاريع الموارد الأولية وكذلك المشروعات ذات الأهمية الاستهلاكية الكبيرة للجماهير الكادحة والفقيرة. ولسنا نشك في أهمية وضرورة تحديد مجالات نشاط قطاع الدولة لكي لا يغرق في مشاريع صغيرة وتفصيلية غير ضرورية من جهة, أو ينافس القطاع الخاص المحلي دون مبرر من جهة ثانية.
7. أن الانفتاح الفعلي على الاستثمارات الأجنبية يفترض في هذه المرحلة أن لا يعني السماح بغزو اقتصادي أجنبي يهدف إلى الهيمنة الكاملة والفعلية على الاقتصاد العراقي وحرمان المستثمر المحلي, الحكومي والخاص والمختلط, من القدرة على التوظيف بسبب قوة القدرة التنافسية لدى المستثمر الأجنبي.
8. ولا بد للمشرع العراقي أن يضع في مقابل فتح الأبواب أمام رؤوس الأموال الأجنبية واتساع قاعدة ونشاط القطاع الخاص برنامجاً اجتماعياً مهماً يحمي من خلاله مصالح العمال والفلاحين والفئات الكادحة وصغار المنتجين والعاملين في مختلف أجهزة الدولة. وأن تكون هناك نقابات عمالية قوية قادرة على الدفاع عن مصالح المنتجين للخيرات المادية في البلاد, إضافة إلى وضع نظام ديمقراطي متقدم وآلية للتفاوض الديمقراطي السلمي من أجل فض النزاعات التي تنشا بين أصحاب رؤوس الأموال والعمال والمستخدمين في مختلف فروع الاقتصاد الوطني وفي أجهزة الدولة.
إن القرار الصادر عن السيد بريمر لا يمثل مصالح الشعب العراقي, بل يجسد مطالب ومصالح الدول الصناعية الرأسمالية الكبرى, وبشكل خاص الولايات المتحدة الأمريكية في الوقت الحاضر. إن السماح بتأسيس المؤسسات الاقتصادية والبنوك بنسبة 100 % يفسح المجال واسعاً أمام الرأسمال الأجنبي في الوقت الحاضر للتحكم الفعلي بالاقتصاد العراقي ولا يسمح بتنشيط رؤوس الأموال المحلية أو نقل المعارف والخبر من خلال العمل المشترك. كما أن المشاركة ب 50% في البنوك القائمة وغيرها هي الأخرى غير ملائمة, إذ من المفضل أن يكون السقف المناسب لهذه المرحلة 49% ليبقى للطرف العراقي إمكانية المساومة الإيجابية لصالح الاقتصاد العراقي. ويفترض أن يتم التفاوض حول نسب الضرائب والجمارك التي تفرض على الاستيرادات, إذ أن القبول بها بسبب نقص الإنتاج حالياً سيعيق عملياً تطور الإنتاج المحلي خلال سنة أو سنتين ويكون من الصعب التراجع عن مكاسب لا مبرر لها قدمت للرأسمال الأجنبي. وكذلك موضوع التعامل المتماثل مع الرأسمال الأجنبي والمحلي, في حين نجد اللوحة مختلفة في كثير من البلدان الرأسمالية المتقدمة.
إن من الأخطاء الفادحة التي ارتكبت خلال العقود المنصرمة والتي انتهت بتنميات فاشلة في أغلب البلدان النامية, في ما عدا عدداً من النمور الآسيوية المعروفة للجميع وذات المشاكل الكبيرة, سواء تلك التي سارت على النمط السوفييتي أو النمط الرأسمالي المتقدم, إذ أن كلا النموذجين كانا غير ملائمين لهذه البلدان, بسبب الواقع الاقتصادي والاجتماعي وطبيعة علاقات الإنتاج السائدة فيها ومستوى الوعي السياسي للجماهير الواسعة وللحكومات أيضاً. لا شك في أن العلاقات الرأسمالية ما تزال تمتلك مقومات تطورها في البلدان النامية, ومنها العرق, شريطة أن تؤخذ الأوضاع الملموسة والقوانين الاقتصادية الموضوعية بنظر الاعتبار بعيداً عن النظريات العامة واقترباً شديداً من الواقع والإمكانيات والحاجة الفعلية.
وتقع على مجلس الحكم الانتقالي مسؤولية تشكيل لجنة اقتصادية موسعة تلتقي فيها مجموعة من الاقتصاديين من مختلف الاختصاصات والاهتمامات ووجهات النظر للحوار المتحضر في ما بينها بهدف الوصول إلى الصيغة المناسبة للعراق في المرحلة الراهنة, ولا يجوز أن يكون السيد بريمر هو الخبير بكل شيء وهو الذي يضع القرارات الاقتصادية بالتعاون مع عدد محدود جداً من الاقتصاديين ممن يمكن أن يقول بعضهم نعم لما يقول!
إن المتضرر المباشر من الإجراءات الجديدة ستكون البرجوازية الصناعية بشكل خاص والبرجوازية الوطنية بصورة عامة, إضافة على البرجوازية الصغيرة العاملة في الصناعات الصغيرة والإنتاج الحرفي. وستتضرر بنية الطبقة العاملة في الاقتصاد العراقي من خلال قلة الاستثمارات التي ستوجه للتنمية الصناعية, وكذلك الزراعية في مقابل توسع نسبي في القطاعات الخدمية وقطاع التجارة والخدمات المصرفية. مع احتمال وارد في توسع العاملين في حقل إنتاج وتصدير النفط الخام. ويبدو لي ضرورياً البدء بحوار فعال مع اتحاد الصناعات العراقي وغرفة التجارة لدراسة الإجراءات الأخيرة ومدى الأضرار التي يمكن أن تلحق بالقطاع الصناعي العراقي في الفترة القادمة إن نفذت الإجراءات التي أصدرها السيد بريمر. إن إجراءات الخصخصة في الاقتصاد العراقي عموماً ينبغي أن تخضع للنقاش الجدي والبناء لصالح تجاوز سلبيات الماضي, مع الانتباه بعدم ارتكاب أخطاء جديدة, ولكنها من نوع آخر. إن تحالفاً اجتماعياً يفترض أن ينشأ في المرحلة الراهنة يجمع في صفوفه فئات العمال والفلاحين والبرجوازية الصغيرة الحرفية والبرجوازية الوطنية إلى جانب المثقفين والطلبة لتكون على استعداد لدفع العلمية الوطنية إلى أمام والمشاركة في حل المعضلات التي تواجه العراق في هذه المرحلة الحرجة من تاريخه.
وعلينا أن نؤكد بأن المغريات والمحفزات مهما كانت عالية وسخية, فأنها ستكون عاجزة عن جذب المستثمرين الأجانب لتوظيف رؤوس أموالهم في العراق ما دامت الأوضاع الأمنية متردية والاستقرار غائباً, في حين ستكون الصورة معاكسة لو توفر الأمن والاستقرار في البلاد. فخروج المنظمات الدولية وموظفو الأمم المتحدة من العراق بنسبة عالية لن تكون مشجعة بأي حال أصحاب رؤوس الأموال لزيارة العراق والتوظيف فيه. ولكن لا يمكن نفي احتمال زيادة عدد الشركات الأمريكية التي يمكن أن تدخل العراق لتوظيف رؤوس أموالها وإدارة المزيد من أعمال إعادة الإعمار, إذ يمكن أن توفر القوات الأمريكية الحماية الأمنية المباشرة لها, وهو أمر له دلالته أيضاً.
برلين في 27/9/2003 كاظم حبيب
#كاظم_حبيب (هاشتاغ)
Kadhim_Habib#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟